على أن الأمر الذي أود أن أؤكده، في هذه الدراسة، بوضوح قاطع، هو أنه لم يحدث حتى الآن ما يدعو أمريكا إلى تغيير هذه الاستراتيجية الأساسية. فهناك كثيرون، في وطننا العربي، على استعداد للاعتراف بأن الخط السياسي العام لأمريكا كان يسير في هذا الاتجاه، ولكنهم يعتقدون أن هذا الخط قد تغير في السنوات الأخيرة. وسبب هذا التغير، في رأي هؤلاء، هو تبني بعض الدول العربية خطا معتدلا، مما جعل أمريكا تشعر لأول مرة بإمكان حفظ مصالحها في المنطقة العربية عن طريق العرب أنفسهم، دون الحاجة إلى الاستعانة بإسرائيل وحدها، أو بإسرائيل قبل غيرها.
وفي رأيي أن هذا الاتجاه مخطئ في أساسه، وأن الخط العام للسياسة الأمريكية في الشرق الأوسط، الذي يتخذ من إسرائيل الركيزة الكبرى لهذه السياسة، ما زال قائما، بالرغم من مظاهر هذا التغير السطحية التي يفسرها البعض خطأ بأنها تحول جوهري.
أما الأسباب التي أستند إليها في هذا الرأي الذي أدافع عنه فهي:
أولا:
إن إسرائيل تنتمي حضاريا إلى الغرب؛ فهي قطعة من حضارة الغرب أقحمت بالقوة على أرض عربية. وكل باحث في الحضارة الغربية يجعل من «العبرانية-المسيحية» أو من عقيدة «العهد القديم والعهد الجديد»، أصلا أساسيا من أصول هذه الحضارة. وعلى الرغم من كل التقلبات التي مرت بها علاقة الأقليات اليهودية بالمجتمعات الغربية التي تعيش بينها، فإن رواد الصهيونية، وأهم الوافدين إلى إسرائيل، وأبرز زعماء الدولة الجديدة، كانوا ينتمون في صميمهم إلى الحضارة الغربية، وكانوا غرباء، عقليا ونفسيا وثقافيا، عن المنطقة التي أصبحوا يعيشون فيها.
ثانيا:
إن النظام الذي تطبقه إسرائيل في بلادها يتفق أساسا مع النظم الغربية؛ فإسرائيل دولة رأسمالية ذات أهداف توسعية، ومهما قيل من وجود تجارب ذات لون «اشتراكي» في الظاهر، كالكيبوتز وغيرها، أو عن المنظمات العمالية الضخمة، كالهستدروت، فإن هذه التنظيمات تدين أساسا بالأيديولوجية الغربية الرأسمالية، وتدافع عن مصالحها بكل قوة، وأحزاب الأغلبية فيها تسير وفقا لبرامج تنظر إلى إسرائيل على أنها جزء لا يتجزأ من المعسكر الغربي الرأسمالي، بل على أنها عضو شديد التطرف في هذا المعسكر.
ثالثا:
إن إسرائيل، بنظامها الغربي الليبرالي، هي النظام الوحيد المستقر في المنطقة. وليس المقصود بالاستقرار هنا - كما يفهمه بعض العرب - أن تكون هناك حكومة واحدة تظل متربعة على كرسي الحكم وتتقن فن الإمساك بزمام البلاد والحيلولة دون وصول أي منافس إلى السلطة، بل إن المقصود به هو أن إسرائيل، شأنها شأن معظم الدول الغربية المتقدمة، قد اهتدت منذ وقت طويل إلى الصيغة التي تجعل انتقال الحكم من جماعة سياسية إلى أخرى يتم بطريقة سليمة منظمة بدون انقلابات أو إراقة دماء، أي أنها اهتدت إلى الصيغة التي عجزت جميع الدول العربية عن الاهتداء إليها حتى الآن، وهي أن يتغير الحاكم بهدوء عندما تتخلى عنه الإرادة الشعبية، ويترك مكانه لغيره مغادرا قصر الحكومة سائرا على قدميه إلى بيته، لا محمولا إلى قبره أو منقولا في عربة سجن أو - إذا كان سعيد الحظ - مشحونا على طائرة حربية تقله إلى خارج البلاد.
وهكذا فإن إسرائيل من وجهة نظر المصالح الأمريكية، هي وحدها المضمونة. ومن الواضح أنه لم يحدث، طوال الأعوام الثلاثين الماضية، أي شيء يدعو أمريكا إلى إعادة النظر في العوامل التي تدفعها إلى الاعتماد الكامل على إسرائيل.
ناپیژندل شوی مخ