العرب البدو في مصر
العرب البدو في مصر
العرب البدو في مصر
العرب البدو في مصر
تأليف
عبد المجيد لطفي
العرب البدو في مصر
وضعت هذا التقرير ورفعته لجهة الاقتضا في أواخر سنة 1904، وقد طلب مني بعض وجوه العرب أن أمكنهم من اقتنائه، وما زال بعضهم يكرر الطلب بين حين وآخر، حتى لم أجد مندوحة من إجابة طلبهم فطبعت منه عددا محدودا أهديه لخواصهم ولمن يجب أن يهدى إليهم، وها هو بنصه:
المقدمة
تبدي الحكومة في هذه السنين الأخيرة اهتماما خاصا بأمر امتيازات العرب في مصر، بحيث يخيل لمن ينظرون للظواهر - سواء كانوا من العرب أو خلافهم - أنها ترمي إلى غرض إلغاء هذه الامتيازات، وإن كانت في الحقيقة بريئة من هذه التهمة؛ لأنه يبعد على حكومة رشيدة أن تقصد مصادرة الحقوق المكتسبة مهما عظمت هذه الحقوق والفوائد التي تعود عليها من إلغائها. وإنما حقيقة الحال التي يستنتجها المدقق من نفس عمل الحكومة في هذه المسألة الخطيرة هي كونها تبغي حصر امتيازات العرب في دائرة محدودة بحيث لا ينتفع بها غير أصحاب الحق فيها، ولا حرج عليها في هذا القصد؛ فخير الناس من يوفي الناس حقهم، ويستوفي حقه منهم، إلا أن درجة الاهتمام الذي تبديه يدل على أن تلك الامتيازات بالغة في نظرها مبلغا أعظم من قيمتها بكثير، ويزيد على ذلك أنها لم توفق إلى طريقة توصل إلى هذا المقصد العادل بالكيفية التي تبغيها. فمع كونها تريد أن يقبل العرب على العمل بما تضع لهم من القواعد وهم سكوت، لا نسمع من أحدهم لاغية يكون منها أقل تشويش على الدوائر التي يوكل إليها أمر تنفيذ تلك القواعد أو التي سنتها، فإن أمنيتها هذه لم تتحقق لخلوها من عمال من العرب لهم من الخبرة بأخلاق قومهم وعوائدهم ما يستطيعون به التوفيق بينها وبين مقاصد الحكومة، وهذه هي علة ظهور عملها لدى عامتهم بمظهر يخالف نيتها؛ ولذلك عنيت بوضع تقرير يلم بأطراف هذه المسألة من سائر وجوهها، وما أقدمت على هذا الأمر المهم إلا انقيادا لعوامل الإخلاص للحكومة، والشفقة على قوم تربطني بهم لحمة الجنسية؛ فيؤلمني كل ضير يصيبهم، ويسرني كل خير يصيبونه، وقد رتبته كما يأتي: (1) أخلاق العرب الاجتماعية أو النظامية
لما كانت أخلاق العرب الاجتماعية هي علة وجود الامتيازات التي نحن بصددها، كان من الواجب أن نأتي عليها هنا دون غيرها لعلاقتها بالموضوع، ولأن بيانها يجلي جملة حقائق غامضة على الأفهام.
فطرت هذه الأمة من أيام نشأتها الأولى على حب الحرية المطلقة خلقا اكتسبته بعزة النفس لا يهون عليها ولو هلكت دونه، ويشهد تاريخها أنها لم تصبر على حكم ملك مستبد أو حاكم غشوم حتى أدى ذلك بكل عشيرة لأن تقوم بنفسها قرنا لغيرها، وإن كانت تنقاد لكبيرها فإنما كان ذلك انقياد ألفة وتعاون لا انقياد خضوع واستكانة، وما كان لهؤلاء الكبراء أن يسوسوا أبناء عشيرتهم بغير مبادئ الإخاء والمساواة حتى مع أنفسهم. ومما يشاهد فيهم إلى الآن أن الحاكم الذي يأخذهم بالرفق ولين الجانب يستخدمهم في صعاب الأمور، ويجد منهم إقبالا على أداء ما يكلفهم به، بخلاف الحاكم الجاف الطبع فإنه لا يظفر منهم بطائل.
تمسكوا بهذا الخلق في كل أدوار جاهليتهم، فلما أراد الله أن يذيقهم نعيم الحضارة أرسل لهم شريعة زادت بها حريتهم رسوخا. قضت هذه الشريعة بأن يكون أمر الأمة بيدها تعين رئيسها برأيها، ولم تجعله ملكا ينال بالإرث، فأخذوا بأسباب الحضارة، وارتقوا فيها عن كل أمة سبقتهم في التمدن، ولم يذوقوا مع هذه الحلاوة مر إذلال النفس. وما زال هذا شأنهم حتى صارت الخلافة ملكا لما اختلطت الأمة بغيرها من الأمم التي ألفت الخضوع للملوك، فتخلق سكان الحواضر بما يناسب مقامهم من أخلاق الانقياد للنظام الذي تقتضيه الحضارة، وبقي البدو على عهدهم ببساطة العيش تنسيهم لذة الحرية وتمتع النفس بعزتها كل مشقة في عيش البداوة، ويستغنون فيما تدعو إليه ضرورة الاجتماع من نظام المحاكمات بعادات بسيطة تقوم مقام النظامات المدنية المتعددة. فإذا اقترف جان إثما أو أخل متعهد بتعهده رفع المتظلم أمره لرجال ينصبون للقضاء، وينقطعون له، فتجرى المحاكمة بأبسط الطرق على نظام سهل يؤدي إلى نتائج صحيحة مؤسسة على دلائل ينقطع معها كل ريب، وفيما عدا ذلك من المسائل التي تهم المجموع يقررون أمورهم فيها على طريقة الشورى. ولما كانت القفار على سعتها وطيب هوائها ليس فيها من النبات ما يقوم بغذاء أنعامهم فضلا عن طعامهم، كانوا مضطرين لنزول السهول الخصبة لما يوجد فيها من وفرة الزرع حيث يأكلون ويرعون أنعامهم، فينزلون بكل أرض يجدون إليها طريقا فإن طاب لهم المقام فيها أقاموا وإلا ارتحلوا. وقد يقيم أحدهم في المكان الواحد عشرات السنين، ويعظم كسبه فيه من الزراعة فتخضع نفسه لنعيم الراحة، وتصعب عليه العودة إلى البداوة. وعلى هذا الناموس الطبيعي دخل كثير من العرب من تلقاء أنفسهم أو بدواع اضطرارية في عداد الأهالي الأصليين، ونسوا كونهم عربا، وجهلوا أصولهم. والقريب العهد بالدخول في هذا الدور، وهم الذين لم يمض عليهم أكثر من مائة سنة، لا يزال معروفا أصلهم العربي عندهم وعند غيرهم من الأهالي وإن كانوا قد أصبحوا وإياهم سواء في كل شيء من العادات والمعاملات.
وإن العرب ليقبلون على استيطان البلد الآمن الذي يغلب على حكومته سلطان العدل ما دامت لا تصادر عوائدهم، ولا تمتهن حقوقهم. والدليل على ذلك حالهم في مصر؛ فإن عددهم في سنة 1897 قد ظهرت فيه زيادة عن عددهم في سنة 1882 تساوي ضعفه مرة ونصفا تقريبا، وهي نسبة لم توجد قط بين تعداد وسابقه، ولم تحصل هذه الزيادة الخارقة إلا في المدة التي اشتد فيها ساعد القانون، وعظم احترام الحكومة له وشغفها بإجراء العدل بين الرعية. وليست هذه الزيادة مما تصح نسبته للتناسل، بل قدرها ونقص عدد الرحل وزيادة المقيمين بعزبهم والمقيمين مع الأهالي يدل على أن الرحل الذين أحصاهم التعداد السابق قد استوطنوا وجاء غيرهم واستوطن. وها هو بيان تقابلي من الإحصاءين:
سنة 1882
سنة 1897
عدد
عدد
21313
240880
مقيمون مع الأهالي
127020
290075
مقيمون بعزبهم
98196
72472
رحل بخيامهم
246529
603427 (2) أصل الامتيازات وماهيتها وما بنيت عليه
كان العرب إلى عهد ساكن الجنة محمد علي باشا رحلا إلا قليلا منهم، وكانوا دائما يغزون البلاد القريبة من الحواجر، ولم تكن يومئذ حكومة ترد غاراتهم عن الأهالي الضعفاء. ومع أنهم كانوا أقوى عنصر في القطر تخشى الحكومة بأسه وتتباعد عن مناوأته، فلم يكن لهم مطمع في منصب الحكم لأن أخلاقهم الاجتماعية أبعدتهم عن التفكير في شيء من هذا القبيل، ولعل ذلك من الأسباب التي كانت تحمل كل واحد يئول إليه أمر البلاد على محاسنتهم والتغاضي عن سيئاتهم.
فلما آل أمر البلاد إلى الحاج محمد علي باشا وجد فيها العرب وذاك شأنهم، والمماليك وهؤلاء - مع كونهم أقل عددا من العرب وأضعف جندا - كانت لهم الكلمة النافذة؛ حيث كانوا يعتبرون البلاد ملكهم، وكانوا مستأثرين بالسلطة فيها، فكان في حاجة للتغافل عن العرب حتى يريح باله من خصومه، فلما تم له ذلك وجه نظره نحو المسألة الثانية.
رأى أن ترك العرب على حالتهم لا يرجى معه أمن للأهالي، ولا راحة للحكومة، وأنه لو كف عدوانهم بالقوة يحمله ذلك ما لا قبل له به إلى ما شاء الله، فدبر سياسة توطينهم ودعاهم للإقامة في البلاد على الرحب والسعة، وأقطعهم أراضي واسعة ليشتغلوا بتعميرها واستثمارها. فتطيروا مما دعاهم إليه مخافة احتمال ما لم يألفوه من النظامات، ولم يلبوا دعوته حتى ضمن لهم الامتياز عن عامة الأهالي بإعفائهم من كل نظام تنكره طباعهم وبذلك أعفوا مما يأتي:
أولا:
السخرة.
ثانيا:
الخدمة العسكرية النظامية.
ثالثا:
النظامات الصحية.
ثم كانت الحكومة تستثنيهم عدا ذلك من تنفيذ كل نظام يجمعون على معارضته لمخالفته لعوائدهم
1
كما عملت الحكومة الحاضرة في مسألة قيد مولوديهم ومتوفيهم وتلقيح الجدري لأطفالهم. ويستخلص من ذلك أنهم لا يتقيدون في استيطانهم بنظام غير نظام المحاكمة على الجرائم، والمداعاة بالحقوق، ووضع وتحصيل الأموال الأميرية (بل أعفتهم منها زمنا في بعض الجهات)، والقيام بما تعهدوا به مقابل ما ذكر، كما سيأتي البيان. وكان لهم عدا تلك الامتيازات الصريحة (بأنفتهم وقوة شكيمتهم) أن لا يضرب رجال الحكومة أحدا منهم أو يهينه بقول أو إشارة.
والباحث في علة هذه الامتيازات يراها مبنية على مطالب النفوس الشريفة التي تأبى الضيم وقد انقادت لطلبها بحكم الطبع والعادة على ما بيناه من أخلاقهم الاجتماعية، وليس فيها شيء من مقاصد الطمع في حق الغير أو الهرب من قصاص الجرائم. ولو كان في نفسهم شيء من ذلك لطلبوا امتيازا في المحاكمات الجنائية والمخاصمات المدنية، ولو طلبوه يومئذ لأجيبوا له، ولأصبحت الحكومة الحاضرة تشكو من جرائه ما تشكوه من جراء امتيازات الأجانب. ولكنهم ما زالوا يتقدمون إلى المحاكم الأهلية مدعين أو مدعى عليهم، وما زال الآثم منهم يقاد إلى المحاكم الجنائية ويقضى عليه بما يقضى به على غيره من العقوبات، وتنفذ عليهم أشد الأحكام، وما نفروا من هذا النظام، ولا قالوا عنه كلمة سوء، ولا شكوا للحكومة منه مهما كانت كيفياته التي تكيف بها. ذلك لأنه ليس من أخلاقهم كراهة العدالة مهما بلغت الشدة في إجرائها ما دام مبدأ عدم إذلال النفس الحرة محترما أما النفس الجارمة فلا يؤلمهم أخذها بجرمها، وليس بصحيح ما يقال من كون اللصوصية خلقا شائعا في العرب حيث لم يقم برهان على هذا القول، ولو أحصي المجرمون منهم لما زادت نسبتهم إليهم عن نسبة المجرمين من كل أمة إليها.
منح الحاج محمد علي باشا للعرب نعمة الاستيطان، وميزهم بما سبق بيانه، وتعهدوا له بما يأتي:
أولا:
إنجاد الحكومة في وقت الحرب بالتجريدات التي تطلبها، بحيث تقدم لهم حاجتهم من الأسلحة والذخائر والمؤن والخيول ودواب الحمل، وتجري عليهم مرتبات محدودة؛ لأنهم في هذه الحالة أسوة بجنودها الذين في خدمتها، فيلزمها تجهيزهم بكل ما يلزم للجندي في ساحة الحرب.
2
ثانيا:
خفر حواجر الجبال ودروبها وتأمين طرقها بدون أي مقابل أو مرتب.
وقصدت الحكومة بسياستها أن تحصل من العرب على هاتين المزيتين، وأن تدرك منهم النتيجة الطبيعية للتوطن؛ إذ ينشغل كل منهم بخدمة أرضه عن الترحل، ويستلذ الإقامة لما ينال من الكسب من الزراعة ويجد من الراحة، وتتنوع أخلاقه فينسى مع الزمن، ومخالطة الأهالي وما يترتب عليها من دواعي المصاهرة ونحوها. تلك الطباع التي تفرق بينه وبينهم، وأن تكفي الأهالي شر غزواتهم دون أن تتكلف شيئا، فضلا عن انتفاعها بقوتهم في محاربة أعدائها، بل كثيرا ما كانت تغري بعضهم ببعض فيقتتلون لمصلحتها كلما اقتضت الحال ذلك.
وقد أخلص العرب النية للرجل وأعقابه، فكانوا خداما أمناء يلبون دعاءهم، ويشدون أزرهم يوم الكريهة، ولا يزال بعض من أفرادهم الذين شهدوا مع إبراهيم باشا حروب الشام والوهابيين على قيد الحياة يذكرون دماء إخوانهم وآبائهم التي أريقت في سبيل تأييد العرش الخديوي، أو توسيع ملكه، وكثير من الذين شهدوا مع خلفائه وقائع السودان والحبشة وما وراءها يحفظون مثل هذه الذكرى.
تلك هي الامتيازات، وهذا ما تحمله العرب نظيرها؛ ولذلك تراها عزيزة عليهم. (3) قيمة الامتيازات في الزمن الماضي والوقت الحاضر
كانت امتيازات العرب التي ذكرناها ظاهرة في الزمن الماضي بمظهرها الفخيم، وكان للأهالي والحكومة الماضية الحق في أن يحسدوهم عليها، أما الأهالي فلأنهم كانوا يحملون أثقال المظالم ويسامون أنواع الخسف والحيف، فتارة يساقون أفواجا مسخرين للأعمال العمومية أو لمصالح الكبراء وهم ينظرون مجاوريهم العرب نظيفي الأيدي مطلقي السراح من هذا الأسر، وتارة يكبون على وجوههم ويوجعون بل يقتلون ضربا بالسياط لا فرق بين وجيه وحقير والعربي لا يمس خاطره بكلمة ولو كان صعلوكا، وطورا يقاسون غير ذلك من وجوه الخسف التي لا تحصى.
وأما تلك الحكومة فكانت تحسد العرب على شممهم؛ لأنهم لم يخفضوا لها جناح الذل، ولم يؤدوا لها أكثر من الحق، وفضلا عن حفظهم كرامتهم من جورها كانوا يحمون منها كل من يلجأ إليهم من الأهالي المستضعفين، الذي كانوا يأوون إلى نجوع العرب وعزبهم، ويقيمون في جوارهم أو في خدمتهم آمنين.
تلك قيمة امتيازات العرب في الزمن الماضي، وهي قيمة غالية تستحق أن تشترى بالنفوس التي ضحيت في سبيلها. أما الآن وقد رفعت عن الأهالي كل المظالم التي كان العرب يمتازون عليهم بالمعافاة منها، وأصبحوا وإياهم سواء في التمتع بالراحة إلا من خفر الجسور في وقت الفيضان وهذا يوشك أن يلغى نظامه الإجباري، وخففت مصاعب الخدمة العسكرية النظامية، وسهلت طرق التخلص منها بأوجه المعافاة المدونة في القانون أو بالبدل النقدي اليسير حتى كادت تكون اختيارية محضة، فقد ضعف شأن تلك الامتيازات إلى ما لا يكاد يحس؛ إذ انحصرت في المعافاة من الخدمة العسكرية، ومن خفر جسور النيل زمن الفيضان، وكلاهما يسير جدا؛ فالخدمة العسكرية لا يبلغ من يلحق بها ومن يدفع البدل النقدي اثنين في الألف من ذكور الأهالي،
3
وخفارة النيل لو قسمت على ذكورهم القادرين على العمل - أي الذين من سن 15 إلى 50 - لما خص الواحد أكثر من نصف يوم في السنة.
4
فإعفاء العرب من هذين النظامين يقدر طبعا بهذه النسبة، أي أن الحكومة تعفي اثنين في الألف من ذكورهم من الخدمة العسكرية أو دفع البدل، فلو وزعنا بدلية الاثنين على الألف لخص الواحد أربعة قروش، وتعفي القادرين على العمل من اشتغال الواحد منهم نحو نصف يوم في السنة في خفر النيل، وأجرة نصف اليوم على الأكثر قرشان. جملة ذلك ستة قروش. هذه هي قيمة امتياز العرب الآن، وهي لا تستحق من الحكومة هذا الاهتمام الكبير الذي جعل الأمر في أعين العرب كبيرا لهذا الحد، فليتها تطرح الاهتمام به ظهريا حتى يراه أصحابه بقيمته الحقيقية.
بقي معنا أمر النظامات الصحية وليس فيها شيء من الضرر حتى يعد الإعفاء منها مزية، بل فيها من الفوائد المادية لمن تنفذ عليهم ما يوجب الشكر للحكومة، ولكن العرب لا يزالون يعدون استثناءهم منها نعمة كبرى عليهم. (4) الفوائد التي نتجت من توطن العرب
تحققت آمال الحكومة في سياسة توطن العرب إلا من الوجهة التي لم تلتفت إليها، وهي توثيق الرابطة بينهم وبينها، وإقناعهم بحسن قصدها في كل نظام تشرعه لهم؛ فإنها لم تعمل ما يؤدي إلى هذه النتيجة، وأما في ما عدا ذلك فقد حصلت على النتائج الآتية: (1)
الفائدة الأدبية بزيادة كمية عظيمة في عدد سكان القطر، حيث بلغ عدد العرب في سنة 1897: 601427 نسمة. (2)
نتيجة عمل هذا العدد في الزراعة وتأثيره في نمو الثروة العمومية، ولا يخفى ما تستفيده التجارة ومصالح الحكومة ذات الإيراد من هذا العدد العظيم، ويزيد على ذلك اختصاصهم بتربية الخيل والإبل والغنم. وحيث إن جميع العرب - إلا المستأهلين منهم في المدن - محصور عملهم في الزراعة، فلأجل تقدير مساحة الأراضي التي يزرعونها، سواء كانت ملكهم أو ملك غيرهم، ينظر لعدد ذكورهم الذين في السن اللائق للعمل؛ أي من 15-50، وأصحاب هذا السن على ما في نتائج التعداد الأخير يبلغون 50 في المائة أو 153330 بعد استبعاد المستأهلين بالمدن. وحيث إن المائة فدان يكفي لزراعتها بالتقدير المعتدل خمسة عشر عاملا فذاك العدد يقوم بزراعة 102022 فدانا، أو عبارة عن 20 في المائة من زمام القطر المنزرع، مع أن العرب لا يتجاوزون 6 في المائة من سكانه. (3)
تأمين الأهالي من غزواتهم التي كانوا مهددين بها دائما. (4)
قيامهم بما تعهدوا به من خفر الحواجر ودروب الجبال وتأمين طرقها بلا مقابل (إلى سنة 1897 التي أشارت فيها نظارة الداخلية باستغنائها عن قيامهم بهذا العمل، وقد استصوبت الرجوع إليه في مديرية الفيوم بشكل محسن وهو كونها تدفع أجور الخفر من طرفها) وقيامهم بمساعدتها في الحروب الماضية وفي رد بعضهم غارات البعض. (5)
تنويع أخلاقهم بمخالطة الأهالي حتى صار كثير منهم أميل إلى الحضارة منه إلى البداوة، وقد وصلت أفكارهم لدرجة تسمح بقبول بعض النظامات وخصوصا إذا كان وضعها يسمح لهم بأن يتخذوا طريقا وسطا لا يضر بمصلحتهم ولا يلجئهم لمصادرة رغائب الحكومة، وأول شيء شاهدته من هذا القبيل سلوكهم في تنفيذ لائحة الخفر الصادرة في سنة 96، فإنهم لما رأوا الحكومة راغبة في تنظيم خفر عزبهم مع اجتناب ما يخالف عاداتهم، حيث أعفت خفراءهم مما لا يألفون من النظامات المفروضة على خفر الأهالي كلبس الجلابية الزرقاء واللبدة والشريط ونحو ذلك، اتخذوا طريقة تسمية أشخاص من رجالهم للخفر تنفيذا للنظام الرسمي بحيث يأخذون الأجرة صورة ويعيدونها لأربابها فيدفعونها في وقت الاستحقاق للمحصلين، وبذلك أتموا رغبة الحكومة من نحو إيجاد الخفر النظامي دون أن يتكلفوا سوى الخمسة في المائة المقررة نظير مصاريف التحصيل، ولتيسر هذه الواسطة لهم لم يعارضوا في هذا النظام، وانفرد عربان القليوبية والشرقية بالمعارضة دون سواهم، وكان انفرادهم أكبر مسوغ لرفض معارضتهم. (5) المزايا الضائعة على العرب لاشتغالهم عنها بالامتيازات
حددنا في الفصل الثالث قيمة امتيازات العرب تحديدا كافيا، ونأتي هنا على بيان ما أضاعوه في سبيلها من المزايا ومن المقابلة بينها وبين حاضر تلك الامتيازات. يرى أن هؤلاء القوم يغبنون أنفسهم غبنا فاحشا، وأنه كان الأولى بهم أن يضربوا بامتيازهم عرض الحائط، ويوجهوا التفاتهم والمساعي التي يبذلونها لحفظه في تحصيل المزايا التي ضيعوها؛ لأنها هي أساس العز والسؤدد.
وتقريبا لتمثيل هذه المزايا للفكر بقيمتها الحقيقية يلاحظ أن العرب يساوون الطائفة القبطية في عدد الأنفس
5
وكان يجب أن يحصلوا منها بقدر ما حصلته هذه الطائفة النشيطة بالتفاتها للتعليم، وحرصها على إنماء عدد المتعلمين من أفرادها. فالضائع على العرب من كل مزية من المزايا التي نذكرها يساوي الحاصل منها لدى الأقباط، وها هو بيان ما أضاعه العرب: (1)
نصيبهم من وظائف الحكومة؛ فإن كل الموظفين منهم لا يتجاوزون عقد أصابع اليدين. (2)
نصيبهم في الوظائف النيابية؛ فلم يكن منهم أحد في مجالس المديريات، أو الجمعية العمومية، أو مجلس شورى القوانين. (3)
التجارة والصناعة؛ لأنه لا يشتغل بهما أحد منهم. (4)
المهن الشريفة؛ فليس منهم إلا طبيب واحد، وهو الدكتور محمد أفندي صالح، وهو من قبيلة جهينة، ومحام واحد، هو أخو هذا الطبيب، وكلاهما أتم دروسه سنة 1903، وليس منهم مهندس، ولا مقاول، ولا صاحب جريدة سياسية ولا علمية، ولا غير ذلك. (5)
أمر التعليم؛ فإنه مهمل عندهم كلية، ولا يوجد من أبنائهم في مدارس الحكومة إلا القليل، ولهم في غير مدارس الحكومة مائة تلميذ تقريبا. (6)
جانب عظيم جدا من حظهم في امتلاك الأطيان شغفا بتلك الامتيازات؛ لأن أكثرهم أبى أن يقبل الأطيان التي أعطتها له الحكومة أو أن يستثمرها مخافة أن يتقيد بالإقامة فيصبح يوما ما غير قادر على تركها إذا نكثت الحكومة بعهودها، مع أنهم كانوا أمكن من غيرهم في الانتفاع بخير الزراعة؛ لأن يد الظلم التي كانت متسلطة على الأهالي كانت عاجزة عن الوصول إليهم.
أفلا يكون العرب في مصر أرفع مقاما وأعز شأنا وأنفذ كلمة وأكثر أموالا وأقوى عصبية مما هم عليه الآن إذا أخذوا قسطهم من هذه المزايا الحقيقية، سواء بقيت لهم تلك الامتيازات الوهمية أو زالت عنهم؟ إنه لكذلك. فلعلهم يفقهون. (6) ما هي النقطة المهمة التي أهملتها الحكومة من سياستها في توطين العرب؟
هي التعليم؛ لأنها اقتصرت على كونها أقطعت العرب الأراضي الزراعية، ولم تفكر مطلقا في نشر التعليم بينهم، فلم تدعهم إليه، ولم ترغبهم فيه بأي وسيلة، فاستمرت معارفهم منحطة إلى هذا العهد، ولا يزالون بعيدين عن درجة المعرفة التي تقربهم من الحكومة، وتمكنهم من تمييز النافع من الضار من نظاماتها، فنتج عن إهمال هذا الركن المهم نتيجتان سيئتان: الأولى: تضييعهم لكثير من المزايا التي كان يمكنهم إدراكها لو تعلموا، ولا يخفى ما كانت تستفيده الحكومة من وراء ذلك، والثانية: بقاء مظنة السوء عندهم بالحكومة حتى إنها كلما سنت نظاما له علاقة بهم تطيروا منه، وتخوفوا الضرر ولو كان في الحقيقة خيرا لهم. ولا شك أن هذه الهفوة نتجت عن عدم خبرة الحكومة الماضية بضروب السياسة المبنية على الحقائق العلمية والنواميس العمرانية، أما الحكومة الحاضرة المولودة في مهد العلم، والقائمة على دعائم المدنية، فيرجى منها أن تستدرك ما فات سالفتها. (7) بيان ما يلزم الحكومة الحاضرة عمله الآن استدراكا لما فات الحكومة الماضية
أقرب الوسائل الموصلة إلى هذه الغاية هي التي اتبعتها الحكومة في ترقية معارف الأهالي حتى عرفوا فوائد التعليم، وأصبحوا يتهافتون عليه بعد أن كانوا يفرون منه فرار الصيد من القانص. فيحسن بها أن ترقي - مع مراعاة الكفاءة - بضعة الأشخاص الموظفين فيها من العرب إلى أكبر الوظائف التي يحسنون القيام بها، بحيث تختار لهم في الابتداء الأعمال التي لها علاقة بمصالح العرب، كوظائف الإدارة والكتابة في الأقاليم، وخصوصا التي يكثر فيها هذا الجنس كالبحيرة والشرقية والفيوم، وفي إدارة القرعة بنظارة الحربية، وفي قسم الإدارة بنظارة الداخلية، إلى أن يوجد فيهم اللائقون لوظائف النيابة والقضاء وغيرها. وتحصي تلاميذهم بالمدارس الأميرية وغيرها وهم قليلون الآن، وتترقب تتميم كل منهم للدروس التي تؤهله للخدمة فتستخدمه. وبارتقاء هؤلاء الموظفين إلى المراكز التي تظهر لقومهم فضائل التعليم بأجلى مظاهرها وتمكنهم من بث أفكارهم الإصلاحية فيهم تغري جميع أعيانهم والمتوسطين منهم على تعليم أبنائهم. ولا بد أن تساعد - من جهة أخرى - على تقوية هذا التيار في ابتداء استيلائه على أفكار القوم بتسهيل وسائط التحصيل على الراغبين؛ فإما أن تنشئ لهم مدرستين مخصوصتين؛ في الوجه البحري واحدة وفي الوجه القبلي واحدة، وهذا أمر لا بد منه على ما أرى، ولو تكونا قاصرتين على التعليم الابتدائي، ويكون التعليم فيهما مجانا أو بمصاريف قليلة ما أمكن. ولا محل للاعتراض على الحكومة في هذه الرعاية الخصوصية لفريق من رعاياها دون غيره؛ لأن لديها أكبر عذر لذلك، وهو انحطاط معارف هذا الفريق لدرجة تضر بمصلحة البلاد، وبأن غيره تمتع دونه بنصيبه من تسهيلات الحكومة للتعليم فيما سبق. ولعمري أي وجه يجده المعارض لتأييد معارضته إذا كان هذا الفريق العظيم من الأمة سائدا عليه الجهل بالكيفية التي فصلناها! ومع ذلك فإن خافت الحكومة هذا الاعتراض - على ضعفه - فإنها لا تعدم واسطة لتنشيط من ترى فيه قابلية وعزما للإقدام على هذا الأمر بالوسائط الأدبية وبعض الوسائط المادية. والحكومة بهذه السياسة تخدم نفسها، وتخدم البلاد، وتخدم هؤلاء القوم بإخراج أفكارهم من ظلمات الجهل، وتجذب قلوبهم النافرة إليها، وتزيل الشكوك والريب التي تخامر أفكارهم من جهتها، وتستفيد من الموظفين الذين ترقيهم من أبنائهم معاونتها، بما هم عليه من الخبرة بأخلاق بني جنسهم، في وضع القوانين التي لها علاقة بامتيازاتهم وضعا تألفه أفهامهم، ولا تنفر منه طباعهم، ويكون ضامنا للوصول إلى مقاصدها بالطريقة التي تجنح إليها؛ حيث يوجد في نفسهم حينئذ استعداد لقبولها لما يعرفون أن لهم رجالا يشتركون في وضع تلك القوانين، ويحافظون على مصلحتهم في وضعها، ويستأنسون بذلك فلا يوجد ثمت نفور منها. وإذا حفظ كرسيان من كراسي الأعضاء الدائمين في مجلس الشورى لاثنين من أعيان العرب كان لذلك تأثير حسن جدا؛ إذ يعظم اطمئنان عامتهم بمشاركة أعيانهم للحكومة في أمورهم.
فلو وجهت الحكومة التفاتها لهذه السياسة لفعلت في أخلاق العرب وآدابهم وعوائدهم في عشرة أعوام ما لم تعمله السياسة الماضية في قرن من الزمان. وإني لمعتقد أنه لا يمضي عشرون عاما تهتم الحكومة في خلالها بتعليم العرب إلا ويخفت صوت معارضتهم للنظامات، ويزول نفورهم منها، ويحل محله صوت الدعاء لها، والمطالبة بها.
ومن الضروري أن تستفتح هذه السياسة بتعديل الخطة التي سلكتها معهم في تنفيذ قانون القرعة الجديد بكيفية توصلها لقصدها الحقيقي دون أن تقلق راحتهم، وسنشرحها في محل آخر من هذه المذكرة. (8) ملاحظات على الطرق التي سلكتها الحكومة في وضع وتنفيذ النظامات على العرب
أسوأ هذه الطرق ما بني على الطفرة ولم تراع فيه مبادئ التدرج، ولم يتحر فيه إحكام الوضع؛ لأنه يجلب الضرر، ولا يؤدي للغرض، ولم يقع شيء من هذا القبيل إلا في عهد الاستبداد والفوضى؛ ولذلك نضرب عنه صفحا.
ومع ذلك فإن الحكومة في عهد الخديو الأول «إسماعيل باشا» قد اجتهدت في العمل بمبادئ محمد علي، وحافظت عليها، ولم تتعرض لامتيازات العرب بشيء مطلقا.
ومن عهد الخديو توفيق باشا إلى الآن نهجت الحكومة سياسة جديدة يراعى فيها التدرج في الأمور، فصارت تضع قوانينها ولا تدون - فيما يلزم استثناء العرب منه - حكم الاستثناء، فإن عارضوا أوقفت تنفيذه عليهم، وذيلت القانون بأمر الاستثناء، أو تركته على حاله واكتفت بتعطيل تنفيذه عليهم.
وأول ما نحفظه من ذلك قانون الخفر الذي صدر في 1 نوفمبر سنة 84 وعارض العرب في تنفيذ أحكامه عليهم فألحقت الحكومة به أمرا عالي ا بتاريخ 11 فبراير سنة 85 متضمنا أحكاما خاصة بهم ملائمة لعوائدهم. ثم قانون القرعة الأول الصادر في 26 مارس سنة 85 حيث جعلته خلوا من بيان حق الاستثناء المخول للعرب من الخدمة العسكرية، وشرعت في تنفيذه، فاجتمع أعيان العرب لديها مجمعين على معارضته، فأجيب طلبهم، وصدر أمر عال بتاريخ 13 مايو سنة 1885 باستثنائهم. ثم لائحة المواليد والوفيات الصادر بها الأمر العالي الرقيم 9 يونيه سنة 1891 فقد رأت الحكومة عدم مناسبة الظروف لتنفيذها على العرب ، فعطلت تنفيذها عليهم للآن، وكذلك قانون تطعيم الجدري.
ولما اشتغلت الحكومة بوضع قانون القرعة الجديد كان احترامها للقانون قد عظم كثيرا، وارتقت فيها قوة التشريع لدرجة عالية، فلم تجر في وضعه على ما كان يحصل قبل عشرين سنة مثلا، بل برهنت على احترامها للحق المكتسب وأثبتت حسن القصد فيما شرعت بمبادرتها بالاعتراف بذلك الحق في القانون من وقت وضعه.
ولكونها تحققت أن بعض الأهالي يتخلصون من نظام القرعة بإقامتهم بين العربان، وأن أغلب هؤلاء المتشتتين يدعون الأعرابية كلما نبه إليهم أحد المأمورين، أضافت إلى هذا القانون التعليمات المناسبة لحصر هذا الامتياز في أهله دون سواهم.
وقد قلنا في صدر هذه المذكرة إنه لا محل للاعتراض عليها في هذا القصد الحسن، وإنما نقول إن غرضها يمكن التوصل إليه بطريقة أسهل بكثير مما اتبعت، ونلاحظ على هذه الطريقة ثلاث ملاحظات: الأولى تشريعية محضة، الثانية تطبيقية، والثالثة إدارية.
أما الملاحظة التشريعية فمن وجهين: الأول: كونها جعلت مجلس القرعة محلا للفصل في دعاوى الأعرابية دون أن تدخل في هيئته أحدا من العرب. والثاني: كونها أغفلت ذكر معافاة السودانيين المنسوبين إلى العرب، واعتبرت ذلك كافيا لإسقاط معافاتهم، وجرت عليه فعلا مع سبق صدور قرار رسمي من مجلس النظار بإعفائهم، وصدر به منشور للمديريات في 18 يوليه سنة 93 وموجودة صورة بأيدي عمد القبائل.
وأما الملاحظة التطبيقية فكونها تحكم بسقوط معافاة شبان العرب الذين لا يحضرون للاقتراع، أو لا يقدمون طلب المعافاة قبل اليوم المحدد له عملا بنص المادتين 48 و76 من القانون. والأوجه القانونية في هذه الملاحظة هي:
أن النص في القانون الجديد على معافاة العرب لا يعتبر نصا مكسبا لهذا الامتياز، وإنما هو في الحقيقة اعتراف بوجوده فقط.
وحيث إن العرب اكتسبوه من قبل غير مقرون بهذا الشرط فلا يصح إدخاله الآن. وإنه بفرض جواز تطبيق نص المادة 48 على العرب كان يجب أن توضع استمارة القرعة نمرة 16 بكيفية تسمح للطالب بتقديمها لمجلس القرعة، لا أن توضع وضعا يرغم الطالب على تسليمها للمديرية، وتركها إليها لتعمل اللازم فيها ، وترسلها من عندها لمجلس القرعة، ثم من جهة أخرى يؤاخذ هو على الزمن الذي يمضي في تداول الاستمارة بين المديرية والداخلية والدفتر خانة، ويؤبى عليه اعتبار تقديمها للمديرية كتقديمها لمجلس القرعة، وليس من سبيل للتوفيق بين ذلك الشرط وهذا الوضع.
هذا عن نص المادة 48. وأما المادة 76 فلم ينص القانون ولو ضمنا على أن مخالفتها (من العرب أو الأهالي) تسقط حق المعافاة؛ لأن هذه المادة تقضي فقط على نفر القرعة بوجوب حضوره أو حضور من ينوب عنه لسحب قرعته إذا تخلف لعذر قانوني.
وأما الملاحظة الإدارية فعلى الطريقة التي اختارتها لمنع انتفاع غير العرب بامتيازهم؛ لأنها تكلفهم أمورا لم يتعودوها، وطرقا لم يألفوها، وفيها مشغولية كبرى على فروع الحكومة. ولا بد أن يأتي وقت قريب ترى فيه قضايا العرب متراكمة بمجالس القرعة إلى حد يفوق التصور حتى يعجز المجلس عن إنجازها، وتضطر الحكومة لتشكيل مجالس جديدة للمساعدة في نظر هذه المسائل. ولا يقال إن هذه الصعوبة في السنة الأولى فقط، بناء على كون عملية التسنين تنتهي فيها؛ لأن عملية التسنين سهلة. والصعوبة إنما هي في تحقيق دعوى الأعرابية، وخصوصا إذا لم تتبع طرق التسهيل التي تقررت بالاتفاق بين نظارتي الحربية والداخلية، واعتبر التحقيق أمرا لازما في كل مسألة كما هو جار الآن. وفي كل سنة تعمل تحقيقات عن الشبان الذين يبلغون فيها السن، وإن كان عددهم سيقل عن السنة الأولى كثيرا إلا أنه عدد جسيم يحدث مشغوليات كثيرة جدا، فإذا أرادت الحكومة أن ترتاح هي وفروعها من مكابدة هذه الأعمال الجسيمة، وتريح العرب من تحمل هذه المشاق، وتريح خواطر عمد ومشايخ البلاد، فتبدل هذه المشغولية الدائمة بعملية تجريها وتجددها كل عشرين سنة مرة، وهي عمل إحصاء خاص بالعربان بحيث يكون إحصاء دقيقا توضع له الضوابط الكافية لمنع دخول الأهالي فيه، وتحرر بموجبه دفاتر للعرب القاطنين في كل بلد، وتحفظ نسخة منه عند عمدتها، ومثلها بالمديرية وعند عمدة كل قبيلة، وتعتبر هذه الدفاتر حدا فاصلا بين الأهالي والعرب. ولو قررت الحكومة إعطاء شهادة في الحال لكل ذكر يرد اسمه في دفاتر الإحصاء بطريقة إلزامية، وقدرت على كل شهادة عشرة قروش رسما لتحصل من ذلك مبلغ يكفي لتسديد ما تنفقه على هذا العمل وزيادة.
6
فهذه الأمور موجبة لارتياب العرب في نوايا الحكومة نحوهم مع أن الغرض المقصود يمكن الوصول إليه بالطريقة التي بيناها. (9) بيان ما تناله الحكومة من العرب إذا ألغيت الامتيازات
معلوم أن الحكومة لا تقدم على إلغاء هذا الامتياز لأنها بذلك تنتهك حرمة القانون بعد أن اتخذته شعارا لها. ومع ذلك فقد يمر بخواطر بعض الناس من قبيل التمني إلغاء هذه الامتيازات ويرون ذلك ممكنا، وتتمثل في مخيلاتهم فوائد جسام تنالها الحكومة من إلغائه، والحقيقة على غير ما يوهمون، والفوائد التي تنال إنما هي التي نقدرها هنا.
فالعرب المقيمون مع الأهالي بالبلاد ليسوا متمتعين بشيء من الامتياز، وإنما عدوا أنفسهم مع بني جنسهم حفظا لشرف النسب فقط.
والمنتفع بالامتياز هم العرب الرحل، والمقيمون بعزبهم أو بلادهم المخصوصة، وعدد الذكور من هؤلاء على ما في التعداد الأخير هو:
147456
مقيمون بعزب ونواح مخصوصة
36296
رحل
183752
فإذا ألغي الامتياز لا يصيب الرحل من إلغائه شيء طبعا. وأما المقيمون بعزبهم وبلادهم المخصوصة، وهم الذين ينحصر تأثير إلغائه فيهم، فإذا رضوا كلهم بذلك وأقاموا عليه بلغ من يلحق منهم بالخدمة أو يدفع البدل النقدي بنسبة من يدخل في هذين النوعين من الأهالي، أي باعتبار 1,925 في الألف، 282 نفرا. وهذا فرض بعيد إذ لا بد حتما أن يتحول كل الذين لا ملك لهم رحلا، وذوو الأملاك لا بد أن يبلغ عدد من يعفى منهم ومن أولادهم للشياخة أضعاف من يعفى لهذا السبب من الأهالي؛ نظرا لكثرة عدد مشايخ العزب بالنسبة لعدد مشايخ البلاد. ولهذه الملاحظات لا ينتظر أن تنال الحكومة منهم أكثر من مائة نفر في السنة.
هذه هي الفائدة، ويزيد عليها ما يخص هذا الفريق من عملية حفظ النيل، وقد سبق تقديرها بنصف يوم في السنة للذكور القادرين على العمل، والذين من هذا السن لا يتجاوزون نصف العدد كما هو ظاهر في نتائج التعداد. فإذا لاحظنا ما يقترن بتلك الحركة من انزعاج عامة العرب واندفاعهم إلى المهاجرة، وقدرنا ما تخسره البلاد ومصالح الحكومة ذات الإيراد بمهاجرتهم لفاق قدر تلك الفائدة كثيرا، بل لما كان بجانبه قيمة تذكر.
الخاتمة
هذا ما عندي من الملحوظات في ذلك الموضوع الخطير، وقد أبديتها بكل إخلاص واعتدال، وتحريت فيها كل ما يمكن من الدقة، وعسى أن يكون لها حظ من استحسان ولاة الأمور.
تحريرا بالزقازيق في نوفمبر سنة 1904
عبد المجيد لطفي
من قبيلة خويلد
ناپیژندل شوی مخ