ثانيا:
أننا في إبان تكوين التجربة لا نضع علاقة العلية بين كل سابق وكل لاحق كيفما اتفق، ولكنا نسمي «عللا» بعض أشياء معينة، ونسمي «معلولات» أشياء أخرى معينة، ولا نجد من أنفسنا القدرة على عكس هاتين التسميتين: فلم هذا إلا أن يكون مفهوم العلية متحققا في الطائفة الأولى، ومفهوم المعلولية متحققا في الطائفة الثانية.
ثالثا:
محال أن يفلح إنسان في تصور أحداث تحدث بدون علة: فالمصادفة نفي للقانون وليست نفيا للعلية؛ إذ إنها لا تعني أن الأحداث تخرج من العدم، بل تعني فقط أن الأحداث تحدث بفعل علل غير مطردة ولا منسقة فيما بينها. وليست المعجزة نفيا للعلية، ولكنها معلولة لإرادة الخالق التي تقف فعل قانون طبيعي لغرض روحي أعلى. والحرية هي نفسها علة الاختيار والتنفيذ. وأخيرا القدر إما أن يتصور قدرا إلهيا فيرجع إلى العلة الإلهية، أو يتصور قوة عمياء فيكون قوة وعلة على كل حال. وإذن فقد كان مل واهما حين اعتقد أن العلة غير المطردة ليست علة، والحقيقة أنها رباط بين شيئين تكررا أو لم يتكررا. كما أنهم جميعا كانوا واهمين حين اعتقدوا أنهم يفسرون القوانين الطبيعية بالتداعي والعادة، بينما لا يفسر التداعي بغير اطراد الظواهر، فهو معلول لا علة، والمسألة باقية: ما علة اطراد الظواهر؟
رابعا :
وهؤلاء الفلاسفة يعترفون بالعلية مرغمين؛ إذ يستخدمونها دون أن يشعروا، فيدلون على أن الطبع يعود حتما مهما يبذل من جهد في التطبع: إنهم يفسرون معنى العلة بتكرار التجربة، وهذا يعني أن التكرار علة توجد فينا توقع اللاحق بعد إدراك السابق، فيفسرون العلة بالعلية. وهذا كنط يقر بأننا نحس أنفسنا منفعلين في الإحساس، وأنه يلزم عن ذلك أن نعتقد بأشياء خارجة، فيطبق مبدأ العلية، وهو القائل الملح في القول «إن العلة مقولة جوفاء لا يجوز استخدامها إلا في داخل الفكر.» وهذا مل رأى أن العلم مؤلف من قوانين تجمع بين سوابق بعينها ولواحق بعينها، فاتخذ من طرائقه الأربع المعروفة وسائل لفصل «السابق الضروري» كما يقول، من بين سائر السوابق ووضعه موضع العلة، فأقر بوجوب التفرقة بين محضر التلازم أو التقدم وبين العلية، واضطر إلى أن يصف بالضروري السابق المتوقف عليه اللاحق، فوصل إلى هذه النتيجة العجيبة وهي أن لا رباط ضروري بين اللواحق والسوابق، وهذا ما يريده المذهب الحسي. ولكن هناك سوابق ضرورية، وهذا ما يقتضيه العلم وتشهد به التجربة، فهذه السوابق غير ضرورية وضرورية في نفس الوقت! فهل من شواهد أبلغ من هذه على أن المبادئ الأولية مقارنة للعقل، وأنها إن أنكرت بالقول لا تنكر بالفكر، وأن منكريها مناقضون أنفسهم حتما، وأن أهون الرد عليهم بيان هذا التناقض؟
وبعد تفنيد إنكار المفكرين وتفسيراتهم المتهافتة نعود إلى سؤالنا: كيف نحصل على معنى العلة؟ فنقول: إن التجربة الظاهرة في حد ذاتها لا تبين مباشرة إلا عن تعاقب الظواهر، ولا تؤدي إلينا التبعية العلية، فإن هذه التبعية أمر غير محسوس محجوب عن الحواس. وفي هذا نتفق مع الحسيين، ثم نفترق عنهم للفور فنقرر أن العقل هو الذي يدرك معنى العلة حالما تتأدى إليه مدركات الحواس: ذلك بأنه يرى أشياء (جواهر وأعراضا) تظهر للوجود بعد أن لم تكن موجودة، فيحكم بأن ما يوجد بعد أن لم يكن موجودا إنما يقبل الوجود من غيره لا من نفسه. وهكذا يدرك معنى العلة في ضوء معنى الوجود ، من حيث إنه يدرك ابتداء أن ما يحدث فلا بد له من علة تحدثه.
وليس علمنا بالعلة مقصورا على هذا الاستدلال الجاف: فإن التجربة الباطنة تمدنا بشعور قوي بها كلما أظهرتنا على أفعال تصدر عنها وتقر فينا، كالتعقل والتخيل والإرادة، وأفعال أخرى تصدر عنا وتتعدى إلى غيرنا، كاللمس والتحريك والضرب والقطع، وطائفة ثالثة من الأفعال تصدر عن غيرنا وتتعدى إلينا. وفي كل هذا نشعر بأنفسنا فاعلين ومنفعلين، نعلم، ليس فقط أن المعلول يحدث (بعد) الفعل، بل أيضا وبخاصة أنه يحدث (عن) الفعل، وأنه متصور ومطلوب قبل الفعل، بينما التوقع الناشئ التداعي يعني مجرد انتظار اللاحق بعد إدراك السابق. ولذا كان الفعل والمفعول فعلنا ومفعولنا، وكنا مسئولين عنهما بإقرار من ضميرنا، والحسيون في جملتنا، إلا أن يتحدوا الضمائر جميعا فيدعوا أن شعر المعري أو شعر المتنبي ليس لأحد، وأن أقوالهم هم، ملفوظة ومكتوبة، في العلية وغيرها من المسائل، ليست ولا لأحد! وهذه هي فعلا النتيجة المحتومة لمذهبهم إن كانوا صادقين.
ولهذا المذهب وجه آخر: فقد اتخذ وسيلة لتأييد ركنين دينيين: الركن الأول أن الله لما كان الموجود بذاته فهو الفاعل الأوحد، وليست المخلوقات بفاعلة. والركن الثاني: إمكان المعجزات، على حين أن الترابط الضروري بين المسببات والأسباب يقضي على هذا الإمكان. وقد استغل الغزالي هذين المعنيين ضد الفلاسفة؛ قال: «إن استمرار العادة (بالأسباب والمسببات) مرة بعد أخرى يرسخ في أذهاننا جريانها على وفق العادة الماضية، وإن «من جعل مجاري العادات لازمة لزوما ضروريا أحال جميع المعجزات.» «والاقتران بين ما يعتقد في العادة سببا ما يعتقد مسببا ليس ضروريا عندنا، بل كل شيئين ليس هذا ذاك ولا ذاك هذا، ولا إثبات أحدهما متضمن لإثبات الآخر، ولا من ضرورة عدم أحدهما عدم الآخر:
30
ناپیژندل شوی مخ