هذا الذي تحسه الحواس ويعقله العقل، يتأيد ويتضح إلى أبعد حد بالولوج إلى «الأنا» الذي هو الجوهر المدرك بالوجدان: فليس من ينكر أننا نضيف ظواهرنا الوجدانية إلى ذات ثابتة هي «الأنا» حتى في الحالات المسماة بأمراض الشخصية. فالتغيرات النفسية تبدو لنا لا كأنها مطلق ظواهر بل على أنها ظواهرنا نحن تتعاقب مع بقاء شخصيتنا، فندرك الأنا تارة حاسا وطورا عاقلا أو مريدا أو منفعلا أو متخيلا أو متذكرا. فاعجب للظاهريين يدعون أنهم لا يقرون إلا بالتجربة ثم يكابرون في شهادة الوجدان هذه: لم تكون شهادته أقل صدقا في إدراك بقاء الشخصية منها في إدراك تعاقب الظواهر؟ إن الشواهد على بقاء الشخصية كثيرة واضحة كل الوضوح: فالعادة، سواء أكانت جسمية أم ذهنية، تكتسب بتكرار الفعل، ولا يفيد التكرار إلا إذا حدث في ذات بعينها، والذكر والتذكر يدلان على أن هناك ذاتا بعينها تستعيد الماضي وتصل بينه وبين الحاضر، وإلى الذكر والتذكر يرجع تداعي الصور الذي يعولون عليه أكبر التعويل، كما يرجع الشعور بالتبعية. إن الظاهرية عبارة عن إلغاء الحياة الوجدانية؛ فإن هذه الحياة قائمة على الثبات والاستقرار، ولولاهما لما أمكن أن توجد ظواهر متنوعة متغيرة.
ولنا على الظاهريين شاهد من أنفسهم: فقد حاروا في تفسير «الوهم والجوهر» كما يقولون، فتساءل ديفيد هيوم: إذا كانت الإحساسات والأفكار منفصلة مستقلة، فكيف يمكن أن يوجد بينها مبدأ ارتباط؟ ثم قال: إن هذه مسألة مستعصية على فهمه. وقال ستوارت مل: إن سلسلة الظواهر الباطنة تعرف ذاتها ماضية ومستقبلة، فنضطر للاعتقاد بأن النفس أو الأنا شيء آخر غير السلسلة، فنقع في تناقض. فهم ينكرون الجواهر ويجوهرون الظواهر، فيجتمع لهم جواهر كثيرة لأنهم لم يريدوا أن يعتقدوا بجواهر قليلة! (4) الماهية والوجود
الموجود الحادث أو المخلوق، كما أنه مركب من فعل وقوة، ومن جوهر وعرض، فهو مركب من ماهية ووجود. وهذا التركيب الأخير أعمق وأدق على التصور. وله تاريخ إن تتبعناه وقفنا على منشأ النظرية المقصودة به، ومراحل تكوينها، ووجوه إنكارها، فاتضحت أكثر من اتضاحها بالتفسير والتدليل، أو جاء التفسير والتدليل في سياق العرض التاريخي فكانا أقرب تناولا. نقول إذن:
لعل أفلاطون أول من التفت إلى النسبة بين الوجود والماهية، دون أن يبين المسألة لذاتها، ودون أن يتبين ما يستتبعه. ذلك بأن الجسميات عنده «مشاركات» في المثل، فوجودها ليس لها بذاتها، وإلا لكانت دائمة ثابتة كالمثل، من حيث إن الماهيات بمعزل عن الزمان والتغير، والمثل أنفسها إن اعتبرناها موجودات مطلقة بناء على بعض النصوص، كان وجودها لها بذاتها غير متمايز من ماهياتها تمايز وجود الجسميات من المثل؛ وإن جعلناها مصنوعة من مثل الخير بناء على نصوص أخرى، رجع حكمها إلى حكم الجسميات فوجد فيها ذلك التمايز لأن وجودها منحة من مثال الخير وتحقيق لماهياتها. والآلهة المنوعون من الإله الصانع للكون، وجودهم متمايز من ماهيتهم كذلك؛ لأنه وجود ممنوح، وفي الإله الصانع للكون الوجود ذاتي للماهية. هذه الحالات مستخلصة اجتهادا من مواقف أفلاطون، وهي تعود إلى اثنتين: حالة الموجود بذاته، وليس فيه تمايز بين وجوده وماهيته، وحالة المصنوع، وفيه ذلك التمايز.
بيد أن أفلاطون لم يلتفت إلى نتيجة بالغة الأهمية، وهي أنه إذا كان الثبات الدائم موجودا بذاته، فيتعين أن تكون المادة المتغيرة موجودة بغيرها، وهو يعتبرها موجودة بذاتها منذ الأزل، ويعتبر علامة تبعيتها للإله الصانع أنه نظمها بعد اضطراب وفوضى، لا أنه خلقها أيضا. واليونان على العموم لم يعرفوا فكرة الخلق، فالإله الصانع لا يمنح مطلق الوجود، بل يطبع في المادة الموجودة بذاتها أشباها أو أشباحا للمثل.
وقد تقدمت المسألة مدى فسيحا بفضل أرسطو؛ إذ كان أول من وضعها وضعا صريحا، وأول من ميز بين الوجود والماهية، ولكن في الذهن وفي المنهج العلمي فقط، ثم انساق إلى عين النتائج لاتفاقه مع أستاذه في غيبة فكرة الخلق وفيما تستتبعه هذه الغيبة من إثبات أزلية العالم. فمن الناحية التمييز بين الماهية والوجود، يجعل منهما مطلبين مختلفين للعلم: مطلب ما؛ أي: ما الشيء الذي هو موضوع العلم، ومطلب هل؛ أي: هل الموضوع موجود؟ ويعلن أن الوجود لا يدخل في تعريف الماهية، وأننا ندرك ما الإنسان أو ما المثلث، دون حاجة إلى إدراك وجودهما بالفعل. وينبه على أن العلم بوجود الموضوع يجب أن يقدم على تعريف الموضوع، أي على العلم بماهيته إذ كان الموضوع غير موجود، كالغول أو العنقاء، لم يبق هناك من معنى لتعريفه، أو جاء التعريف منصبا على الاسم فقط كما نعينه تعيينا عرفيا، لا على شيء موجود أو ممكن الوجود. هذا إذن تمييز حاسم،
16
بيد أنه لا يعدد الوجهة المنطقية.
فإذا ما قبلنا على الوجهة الميتافيزيقية أو الوجودية، ألفينا أرسطو يوحد بين الماهية والوجود في وجود جميع مراتب الموجودات، وهذه المراتب عنده ثلاث: المرتبة العليا تشمل الآلهة محركي الأفلاك، وهؤلاء عقول مفارقة للمادة أي أرواح بسيطة بريئة من كل تركيب، فهم موجودون بذواتهم أزلا أبدا، فلا تمايز فيهم بين ماهيتهم ووجودهم. والمرتبة التالية تضم الأفلاك، وهذه مركبة من نفس ناطقة ومن الجرم الذي نراه: النفس الناطقة روحية، وحكمها حكم المحركين، وجرم الفلك عنصر واحد هو الأثير لا يكون ولا يفسد، فهو ثابت، أزلا أبدا، وإذن فالأفلاك موجودة بذاتها، فلا تمايز فيها بين ماهية ووجود.
هل نجد هذا التمايز في المرتبة الأخيرة المحتوية على الأجسام الكائنة الفاسدة تحت فلك القمر، وهي مركبة من صورة ومادة وأعراض، ومنحلة من هذا التركيب بعد وقت، فيبدو أن الوجود فيها متمايز من الماهية؟ لكن لا، فإنها كانت موجودة بأنواعها منذ الأزل، لم يخلق هذه الأنواع خالق ولم يصنعها صانع، بل يتكون أفرادها بتأثير الحركات السماوية والأرضية: المادة غير متكونة ولا مندثرة، وإذن فهي موجودة بذاتها، والصورة «مطوية في قوة المادة» متى ظهرت كانت منبع وجود، وكان اتحادها بالمادة اتحاد فعل بقوة، وكانت هذه الأجسام كأنها موجودة بذاتها من جراء أن العنصرين المركبة منهما موجودان بذاتهما، فلا تمايز فيها بين ماهية ووجود، على حين أنه يمكن إثبات هذا التمايز تبعا لفلسفة أفلاطون بالرغم من قيام المادة بذاتها، وذلك لوجود الصور عن المثل، أو عن صنع الإله الصانع طبقا للمثل، وقد أبطل أرسطو وجود المثل فأبطل تبعية الأجسام التي تحت فلك القمر، أو هو لم يدع لها سوى تبعية للحركات السماوية والأرضية تخرج بها من القوة إلى الفعل، أو تتطور بها.
ناپیژندل شوی مخ