وتابعه المشاءون جميعا، أم إلى مبدأ الذاتية كما يرتئي المحدثون محتجين بأنه أبسط، وأن البسيط متقدم على المركب، وبأنه موجب وأن الموجب متقدم على السالب؟ ونلاحظ أولا أن مبدأ عدم التناقض هو عين مبدأ الذاتية؛ فإننا إذا قلنا: «ما هو موجود فهو موجود» عنينا أن «ما هو موجود فليس يمكن ألا يكون موجودا». ونلاحظ ثانيا أن الأولوية تعود إلى مبدأ الذاتية إذا نظرنا إلى المبادئ من جهة ما هي قضايا تترتب تبعا للبساطة أو التركيب وللإيجاب أو السلب، وتعود إلى مبدأ عدم التناقض إذا نظرنا إلى المبادئ من جهة ما هي مبادئ: ذلك بأن المبادئ الأخرى تتبرهن به وهو لا يتبرهن بغيره، فمن ينكر الذاتية يقال له: إن هذا الإنكار يعني الوجود واللاوجود في آن واحد، كما ذكرنا آنفا، وإن هذا تناقض، ومن ينكر مبدأ العلية يقال له: إن هذا يعني أن ما يظهر للوجود فهو يوجد ذاته، وإن هذا تناقض، ومن يشك في مبدأ عدم التناقض ويفترض أنه قد يكون كاذبا، يعلم أن الكذب غير الصدق، فيسلم بالمبدأ الذي يدعي أنه يشك فيه. وديكارت الذي يريدنا على أن نبدأ بالشك في المبادئ، ولو إلى أجل، فاته أنه إذا كان ممكنا أن شيئا بعينه يوجد ولا يوجد في نفس الآن ومن نفس الجهة، فقد صار ممكنا التفكير وعدم الوجود. يضاف إلى هذه الميزة ميزة أخرى هي أنه إذا كان سالبا فهو موجب أيضا بالإيجاب الذي يلزم عن السلب : ذلك أنه يسلب اللاوجود عن الوجود من حيث إنه يقول: «ليس الوجود لاوجودا.» فينفي النفي. ونفي النفي إثبات، أي إن سلب قضية ما يستتبع إيجاب القضية المناقضة لها. فمبدأ عدم التناقض يعطينا الصيغة الكلية لليقين سواء بالنسبة للأحكام السالبة وللأحكام الموجبة؛ فهو أعم المبادئ ومن ثمة أولها.
ولكن الفلاسفة الحسيين لا يحفلون بالتناقض، وهم يفسرون المبادئ بحيث تفيد في تنظيم المعرفة دون أن يقروا لها بكلية ولا ضرورة. إنها في نظرهم مجموعات تجارب يقوى اعتقادنا بها كلما ازداد التكرار. فمبدأ الذاتية ينشأ من أن الطبيعة لم تعرض علينا شيئا أبيض وأسود أو حارا وباردا في مكان واحد وزمان واحد. وما مبدأ العلية إلا تعميم ما نشاهده من علاقات بين الجزئيات، كالعلاقة بين النار والحرق أو بين اللسع والألم أو بين الغيم والمطر، فينشأ في الذهن ميل للاعتقاد بأن نفس السوابق يتبعها دائما نفس اللواحق. هكذا يلخص ستوارت مل الرأي الحسي.
غير أن هربرت سبنسر، وهو حسي كذلك، يأخذ على رجال المذهب قولهم: إن المعاني والمبادئ تتكون بالتجربة الفردية. ويلاحظ أنها لازمة لهذه التجربة نفسها، فيجب أن تسبقها في الذهن. وأنه لو صح قولهم لكان الفرس مثلا يقبل عين التربية التي يقبلها الإنسان ما دام كلاهما «لوحا مصقولا» في أول التجربة. ثم يعرض سبنسر نظرية جديدة، وهي أن تأثير الطبيعة في الإنسان تأثيرا متصلا قد كيف دماغه ولاءم بين الظواهر الوجدانية والظواهر الطبيعية، فتكونت المعاني والمبادئ الأولى شيئا فشيئا كما تكونت بالتطور أعضاء النبات والحيوان، وتوارثها النوع الإنساني جيلا فجيلا. ولما كان الناس قد عاشوا في بيئة متشابهة فقد تولدت نفس المعاني والمبادئ عندهم جميعا، وهذا أصل كليتها. ولما كان الذهن قد تكيف هذا التكيف الخاص فقد صار عاجزا عن تصور نقائضها؛ وهذا أصل ضررتها، فهي أولية بالنسبة لكل واحد واحد من بني الإنسان، فتنظم بها التجربة الفردية، ولكنها مكتسبة بالنسبة للنوع الإنساني في جملته.
لقد وهم سبنسر كما وهم زملاؤه في الحسية، وليست نظريته بأفضل من نظريتهم، والاثنتان تلتقيان: في حسبان المبادئ الأولى تتكون بالتدرج سواء في الفرد أو في النوع، ولكنها ليست مركبة حتى تكتسب جزءا جزءا وتورث جزءا جزءا، بل الظاهر لأول وهلة أنها بسيطة بينة بذاتها كما أوضحنا، فإما أن تدرك بداهة أي دفعة واحدة، وإما أن لا تدرك أصلا، وتبعا لهذا يسقط القول بأن الاعتقاد بها يقوى بتزايد التداعي؛ فإن الطفل يراعيها في تفكيره، وإذا حاولنا أن نغلطه فيها فإنه لا يغلط. ثم إن المبادئ ضرورية لتنظيم التجربة، أي للربط بين ظواهرها بهذه المبادئ بإقرار الحسيين جميعا، وهم يدعون أنها مستفادة من التجربة، فيقعون في دور لا مخرج لهم منه. كيف يمكن للأفراد في بدء تجربتهم، وكيف أمكن لأوائل الناس أن يفكروا بدونها ثم يكتسبوها للتفكير بوساطتها؟ إن الصعوبة واحدة في الحالتين، ولا يفيدنا شيئا أن نرجع القهقرى إلى نشأة الإنسان.
أما التصوريون فيعترفون بضرورة المبادئ وكليتها، ولكنهم يجعلونها قوانين ذاتية للفكر، طبقا لمذهبهم، فلا يصلون بينها وبين الوجود. يقول ليبنتز: «المبادئ الكلية تدخل في أفكارنا، وهي روحها ورباطها، وهي ضرورية لها ضرورة العضلات والأوتار للمشي ولو أننا لا نفكر فيها. مثلها في النفس مثل عروق غير مرئية في الرخام على هيئة هرقل أو أبولون. وكما أنه لكي تظهر هذه الهيئة للعيان يلزم أن يسقط النحات أجزاء الرخام التي تحجبها، فكذلك لكي ندرك بالفعل المبادئ الأولى يتعين أن تبرزها التجربة، فالتجربة لا تعطينا بل تكشف عنها فقط.» ويوغل كنط في التصورية إلى أبعد من هذا الحد؛ فإنه يعتبر معنى الوجود نفسه صورة من الصور الذاتية للفكر، فيعتبر المبادئ مجرد قوانين منطقية، ويعرف مبدأ عدم التناقض مثلا هكذا: «المحمول المنافي لموضوعه لا يمكن أن يوافق هذا الموضوع»، أو «ما من موضوع يمكن أن يحصل على محمول ينافيه»، بدل التعريف بالوجود واللاوجود كما أوردناه.
رأي ليبنتز يكاد يكون الحق من جهة اشتراك العقل والتجربة في إدراك المبادئ لولا أن المبادئ عنده غريزية في النفس وأن التجربة ذاتية، لا موضوعية. أي إنها جملة الصور الجزئية التي تظهر في الذهن ، لا جملة الموجودات المدركة بالحواس، وأن التطابق بين قوانين الفكر وقوانين الأشياء سببه سبق التناسق من لدن الله؛ إذ لا تفاعل بين المونادات، بل تقابل بين حوادثها، ويبقى الفكر محصورا في نفسه. بيد أن ليبنتز يعتقد بموضوعية الأحكام بحيث يكون الحق والباطل في العقل حقا وباطلا في الوجود أيضا، بينما يرى كنط أن الوجود خارج متناول الفكر فلا يجوز الحديث عنه والحكم عليه، وأن كل ما يجوز للفكر هو أن يعرف نفسه وحسب، وبذلك يرد كنط الوجود العيني إلى الوجود الذهني على ما بينهما من تعارض: فالوجود العيني موجود بالفعل أو ممكن الوجود، والوجود الذهني موجود في الذهن فقط، غير موجود في الخارج ولا ممكن الوجود؛ فإما أن العقل يعقل المبادئ إذ يطبقها، وحينئذ فلا حاجة لجعلها سابقة على التجربة، وإما أنه لا يعقلها، وحينئذ فلا يسوغ له تطبيقها. وقد نقول إن المبادئ غريزية، لكن بمعنى أنها تعلم بغاية السهولة والسرعة حالما تعلم حدودها، مثل علمنا بأن الكل أعظم من الجزء، أو أن الجزء أصغر من الكل، تو علمنا بالطرفين. فبدقيق العبارة الغريزي في العقل ليس المبادئ، بل الملكة التي يدرك بها العقل المبادئ ويطبقها على الوجود، أما حدودها فمستفادة من التجربة ظاهرة أو باطنة.
الفصل الرابع
أقسام الوجود
(1) تعدادها
بعد لواحق الوجود ومبادئه تأتي بضعة أمور عامة على أعظم جانب من الأهمية لذاتها ولما يترتب عليها من أثر في سائر المسائل الفلسفية. ونحن نحصرها في خمسة أقسام، هي: الفعل والقوة، الجوهر والعرض، الماهية والوجود، العلة والمعلول، الغاية والوسيلة.
ناپیژندل شوی مخ