فمن جهة الوجود ليس وصفه بالحقيقة فضولا، فقد وجد فلاسفة أنكروا هذه الحقيقة التي تعني أن لكل موجود ماهية متسقة ثابتة، واستبدلوا الصيرورة المستمرة التي تعني أن كل موجود فهو متلقى أضداد تصطرع فيه، وتتوافق، وتعود إلى الاصطراع، دون أن يقر لها قرار، حتى قال هرقليطس: «إن كل موجود فهو موجود وغير موجود.» فيمتنع وصفه بصفات ثابتة، ونضطر إلى تعليق الحكم عليه والعدول عن العلم. وبمثل هذا قال هجل، وقال برجسون، وقديما كشف أرسطو عن غلط هذا المذهب، فنبه على أن الأضداد لا توجد في الموجود معا أي كلها بالفعل، فلا يتفق لموجود ما أن يكون أبيض وأسود في آن واحد ومن جهة واحدة، وإنما يوجد ضد بالفعل وضد بالقوة، فيكون الموجود حاصلا على الأول، وقابلا للثاني، كما نبه على أن الأشياء لا تتغير من كل وجه، بل تتغير العوارض ويبقى الجوهر، وإنما يتناول العلم الجوهر لا العوارض. ثم إن القول بالوجود واللاوجود في آن واحد يلزم عنه في الحقيقة أن الأشياء ساكنة لا أنها متحركة؛ إذ لا يبقى هناك شيء تتحول إليه ما دامت جميع المحمولات حاصلة لجميع الموضوعات.
18
ومن جهة المعرفة يحد الحق إجمالا بأنه المطابقة بين المعرفة والأشياء على أن هذه المطابقة تختلف، فقد تكون مطابقة المعرفة للأشياء متى كانت الأشياء أصولا وأشبهتها المعرفة، وقد تكون مطابقة الأشياء للمعرفة متى كانت المعرفة أصلا وأشبهتها الأشياء المكونة عنها، سواء في ذلك الأشياء الطبيعية والمصنوعات الإنسانية، فإن المصنوعات توصف بالحقيقة حين تجيء شبيهة بتصور العقل وصنع الفن. لكن النسبة بين عقلنا والأشياء الطبيعية نسبة عرضية، على حين أن النسبة بين عقل الصانع الإنساني ومصنوعاته نسبة جوهرية أو بالذات من حيث إن وجود هذه المصنوعات متعلق بالعقل. فإذا قلنا إن الموجودات الطبيعية حقة من جراء حصولها على ماهياتها أو مطابقتها لمعانينا، لم يعتبر هذا القول تفسيرا نهائيا لحقيقتها؛ إذ إن الأشياء لم تصنع أنفسها وتتلبس بماهياتها، وليس الإنسان مقياسها، وإنما هو قابل لصورها وحسب، فلا بد أن نرجعها إلى عقل أعلى هو قانونها وخالقها كما أن العقل الإنساني قانون مصنوعاته وموجدها. ومن هذه الوجهة العليا نقول إن الحق موجود حقيقة في العقل فقط: موجود أولا في العقل الإلهي مصدر الحق، وثانيا في العقل الإنساني صورته، وبينهما الأشياء صورة علم الله ومصدر علم الإنسان، فتلحقها الحقية من الناحيتين: من ناحية العلم الإلهي؛ وهذه نسبة ذاتية، ومن ناحية العلم الإنساني المكون عنها بالتجربة والاستدلال؛ وهذه نسبة عرضية إن وجدت لم تزد عليها شيئا، وإن عدمت لم تنقص منها شيئا. وبذا يتضح قولنا: إن كل موجود فهو حق، أو إن الحق مساوق للوجود، فإن كل موجود فهو مطابق للعقل الإلهي، وكل موجود له ماهيته، وكل موجود فهو كفء لأن يولد الحق في كل عقل حالما يعلم. (4) الخير
الصفة الثالثة هي الخير. وقد تناقل الفلاسفة تعريفا للخير أورده أرسطو في مفتتح كتاب «الأخلاق النيقوماخية»، ناسبا إياه إلى بعض القدماء دون تخصيص، قال: «الخير هو المقصود من الكل». وهذه ترجمة حرية نقرؤها في «تهذيب الأخلاق» لابن مسكويه (طبعة القاهرة ص90)، بينما نقرأ في «النجاة» لابن سينا: «الخير بالجملة هو ما يتشوقه كل شيء ويتم به وجوده» (ص229). وليس هذا تعريفا بمعنى الكلمة، أي حدا علميا، وإنما هو رسم يدل على الخير بقصد القاصد إليه، لا بخاصية جوهريته فيه. أجل ليس بعد المعاني والمبادئ الأولى معان ومبادئ أبين منها تفيد في بيانها، فلا يبقى إلا أن تبين بآثارها كما تبين العلة الخفية بمعلولاتها، والخير من المعاني الأولى، وأثره تحريك النزوع، فيرسم بهذا التحريك. ولا معنى لدعوى منكري الماهيات من حسيين وتصوريين أن ليس للأشياء خيرية بالذات مقصودة بالذات، وإنما نحن نسمي الشيء المقصود خيرا لكونه مقصودا منا، أي إن النزوع الإنساني إلى شيء ما هو الذي يضفي عليه الخيرية: لا معنى لهذه الدعوى من حيث إن المقصود لا يقصد إن لم تكن له خيرية، أو أن القاصد لا يقصد إلا ما ترى فيه خيرا حقيقيا أو مظنونا.
وهذا الرسم يفضي بنا إلى حد إذا لاحظنا أن القاصد إنما يقصد إلى شيء بسبب كمال في هذا الشيء مفقود عند القاصد ومطلوب منه «ليتم به وجوده» كما يقول ابن سينا. فالخير كمال في الوجود، أو هو الموجود باعتباره أساسا لنسبة ملائمة بينه وبين النزوع، وهذه النسبة ذهنية صرف لأن ميل القاصد لا يغير من المقصود شيئا، بينما الكمال خاصية للموجود، فبالكمال يحد الخير. وهنا يجب الاحتراز من بعض المزالق، فقد يقال: إن من الناس من يقصدون إلى الشر، فلا يعرف الخير بالمقصودية. والجواب أنهم يقصدون إلى الشر لا باعتباره شرا، بل باعتباره خيرا. فإراداتهم قاصدة بالذات إلى الخير، لكن قد يكون كذلك في الظن فقط لا في حقيقة الشيء، فتقع الإرادة على الشر عرضا.
وقد يظن أن تعريف الخير بالمقصودية لا يتفق مع قولنا «الكل» أو «كل شيء»؛ لأن القصد لا يحدث إلا بعد إدراك، فهذا التعريف يقصر الخير على الموجودات المدركة. والجواب أن هذا التعريف يشمل أيضا الموجودات عادمة الإدراك؛ فإن لها هي أيضا نسبة إلى أفعال معينة نراها تفعلها، وإلى أشياء معينة نراها تتوجه إليها، وفي الحالين النتيجة خير لها أي كمال يتم به وجودها، وتحقيق للنظم العام، وإذا كانت لا تدركه ولا تتوجه إليه بالإرادة، هذا دليل على أنها موجهة من مدرك أعلى ركب فيها هذا النزوع الطبيعي، لا على أنها خارجة عن الخيرية الكلية؛ فالقصد وما يفترضه من إدراك متوافران ههنا على هذا الوجه.
وقد يظن أن إطلاق التعريف على «الكل» من شأنه أن يحصر الخير في الله وحده وينفيه عن سائر الموجودات؛ لأن الله وحده غاية الكل، ويلوح أن ابن مسكويه إنما ردد هذا المعنى حيث قال: «الخير الذي يقصده الكل هو طبيعة تقصد ولها ذات، وهو الخير العام للناس من حيث هم ناس، فهم أجمعهم مشتركون فيها.» والجواب أن هذا التأويل سائغ من جهة أن الله هو الخير بالذات وعلة الخير في الموجودات، وأن النزوع إلى أي خير جزئي هو من ثمة نزوع إلى الخير الأعظم، بحيث يكون هناك خير واحد ينزع إليه الكل. بيد أن هذا التأويل لا يستلزم سلب الخيرية عن المخلوقات، وليس موضوع التعريف خيرا معينا، بل هو الخير إجمالا أو بالجملة كما يقول ابن سينا.
ومما تقدم يتضح أن الخير والوجود متساوقان، أعني أن كل خير موجود وكل موجود خير، وتزداد هذه القضية اتضاحا بملاحظة الأدلة الآتية. الدليل الأول: أن كل موجود فهو كامل نوعا من الكمال؛ لأنه منظم في نفسه حاصل على ماهية متسقة العناصر قابلة للوجود، لذا هو يجب أول ما يجب وجوده الخاص، فيعمل على نمائه ويحميه من كل عدوان، فكل موجود بمجرد كونه موجودا هو موضوع محبة من ذاته لذاته، أي إنه خير. الدليل الثاني: أن كل موجود فله إلى آخرين نسبة مطردة طبيعية بها يلتئم النظام العام، وهذه النسبة غاية له وغاية للآخرين، والغاية خير، كما أن تحقيق النظام خير. الدليل الثالث: أن كل موجود فهو فاعل، وهو إنما يفعل ويحقق النسبة التي يقوم عليها خيره والنظام، لا اتفاقا ولا قسرا من خارج، بل بميل طبيعي باطن فيبين عن قوى فاعلية يؤثر بها في غيره إلى جانب قوى انفعالية تتأثر من الغير، وهذه القوى بما يلحقها من انفعالات أو يصدر عنها من أفعال هي خير من حيث إنها وسائل لتحقيق خيره وخير الموجودات المتصلة به. فجملة القول: أن الخير والموجود متحدان ذاتا، غير أن الخير يزيد على معنى الموجود نسبة ملائمة بين الخير والنزوع؛ تلك الملائمة التي أساسها كمال الموجود. لذا يجيء ترتيب الخير بعد الحق الذي لا يزيد على الموجود شيئا.
وينقسم الخير إلى مأثور لأجل ذاته، ومأثور لأجل غيره، ولذيذ: فالمأثور لأجل ذاته قد يكون غاية قصوى أو يتخذ واسطة ووسيلة إلى غاية أبعد منه، وهو مأثور لأجل ذاته على كل حال؛ لأنه يختم حركة النزوع. والمأثور لأجل غيره هو الذي يختم حركة النزوع نسبيا، أي باعتباره نافعا ومفيدا في سبيل خير آخر. واللذة هي الرضا والاطمئنان عند الحصول على خير مقصود، أو هي الشعور بالموافقة والملائمة بين قوانا وموضوعاتها. ولما كان الخير مساوقا للموجود، فإنه يطلق على أقسامه كما يطلق الموجود على أقسامه، أي بطريق التناسب والتقديم والتأخير، لا بطريق التواطؤ الذي يصدق بالسواء. فالخير يصدق أولا على المأثور لأجل ذاته لأن له في ذاته ما لأجله يؤثر، ويصدق ثانيا على اللذيذ لأن ليس له من سبب القصد إلا اللذة، وقد يكون ضارا وغير جدير بالإيثار، ويصدق ثالثا على النافع أو المفيد لأن ليس له في ذاته ما لأجله يؤثر، بل إنما يؤثر كوسيلة إلى خير آخر، كتعاطي الدواء الكريه لأجل الصحة.
هذه القسمة هي باعتبار مفهوم الخير، أما باعتبار اتحاده ذاتا مع الموجود فإنه ينقسم إلى المقولات العشر التي تستوعب كل الموجودات، وينقسم أيضا إلى خير طبيعي وخير خلقي، وأيضا إلى خيرات النفس وهي العلوم والفضائل، وخيرات البدن من صحة وجمال، وخيرات خارجية وهي الأهل والمال والجاه، وإلى غير ذلك تبعا للوجهة الملحوظة. (5) الشر
ناپیژندل شوی مخ