ولا يعني هذا عدم قيام كثير من الحكومات في أثناء هذه الزوابع، وإنما هذه الحكومات نفسها هي التي تقوض دعائم الدولة، ويوجب الغاصبون، أو يختارون، أزمنة الاضطرابات هذه دائما، فيجيزون، تحت ستار من الذعر العام، قوانين هدامة لم يكن الشعب ليقبل بها رابط الجأش، ويعد اختيار الوقت من أصح الدلائل في تمييز عمل المشترع من عمل الطاغية.
إذن، أي الشعوب أصلح موضوع للاشتراع؟ ذلك الذي ارتبط برابطة الأصل أو المصلحة أو العهد فلم يحمل نير القوانين الحقيقي بعد، وذلك الذي لم يكن لديه من العادات والخرافات ما هو متأصل كثيرا، وذلك الذي لا يخاف أن يرهق بغزو مفاجئ، فيستطيع، من غير تدخل في منازعات جيرانه، أن يقاوم بمفرده كل واحد منهم، أو أن يستعين بأحدهم على دحر الآخر، وذلك الذي يمكن أن يعرف كل عضو فيه من قبل الجميع فلا يلزم فيه بتحميل الإنسان ما لا طاقة له به، وذلك الذي يستطيع أن يستغني عن الشعوب الأخرى استغناءها عنه،
1
وذلك الذي ليس غنيا ولا فقيرا فيمكنه أن يكفي نفسه بنفسه، وأخيرا ذلك الذي يجمع بين ثبات الشعب القديم ودعة الشعب الحديث، والذي يجعل عمل الاشتراع شاقا هو ما يجب أن يبنى أقل مما يجب أن يهدم، والذي يجعل النجاح أمرا نادرا جدا هو تعذر اجتماع البساطة الطبيعية واحتياجات المجتمع، والحق أن من الصعوبة أن توجد هذه الشروط متحدة، ومن ثم كانت قلة الدول ذات النظم الصالحة.
ولا يزال يوجد في أوربة بلد قادر على تقبل الاشتراع، وذلك البلد هو جزيرة قورسقة، وما استطاع به هذا الشعب الباسل أن يسترد حريته ويدافع عنها من شجاعة وثبات يستحق أن يعلمه رجل حكيم معه كيف يحافظ على ما فاز به، ولدي من الشعور ما أبصر به كون هذه الجزيرة الصغيرة ستدهش أوربة ذات يوم.
الفصل التاسع
طرق الاشتراع المختلفة
إذا بحث عن الشيء الذي يقوم عليه أعظم خير للجميع، والذي يجب أن يكون غاية كل طريق اشتراعي، وجد أنه يرد إلى أمرين أصليين: الحرية والمساواة؛ الحرية لأن كل تبعية خاصة تعني القوة التي أخذت من هيئة الدولة بمقدارها، والمساواة لأن الحرية لا يمكن أن تكون من غيرها.
وكنت قد عرفت الحرية المدنية، وأما المساواة فلا ينبغي أن يعرف بهذه الكلمة كون درجات السلطة والغنى واحدة لدى الجميع على الإطلاق، وإنما السلطة في كونها دون كل طغيان، وفي كونها لا تمارس إلا من حيث المرتبة والقوانين، وإنما الغنى في عدم وجود مواطن يكون من اليسر ما يشتري معه آخر، وفي عدم وجود أحد يكون من الفقر ما يضطر معه إلى بيع
1
ناپیژندل شوی مخ