ولكن الطمأنينة شيء وتنازع الوجهاء على السيطرة شيء آخر، فهذا التنازع صراع دائم لا طمأنينة فيه لأحد من كبار الملاك ولا من كبار العمال والولاة، وإذا كان مداره على التزايد في إعطاء الدولة وابتزاز المال من المحتاجين إليه، فهو قلق دائم لصاحب الأرض وزارعها والمأجور عليها، ومن تقوم سيادته على التنكيل بنظرائه، والعدوان على من هم دونه من الصغار والمستضعفين.
ولم تكن ضريبة الأرض أو ضريبة الرءوس كل ما تطلبه الدولة من رعاياها المصريين، بل كانت هناك ضرائب كثيرة على المقتنيات جميعا بين ثابتة ومتنقلة، وقد أحصى منها ميلن
Milne
في تاريخه لمصر في ظل الحكم الروماني أنواعا شتى، كضريبة الإصلاح والترميم التي تجبى لإقامة الجسور وتسليك الجداول وتنظيف الأحواض، وضريبة البيوت والمساكن الخاصة والعامة، وضريبة الحيوانات كالخيل والجمال والحمير، وضريبة الصناعات والمتاجر، وضريبة عامة تسمى ضريبة إنتاج ... وكلها على اختلاط حسابها وحساب وحساب مواعيدها والمراجع التي تتولى تقديرها وتحصيلها كانت مصدرا دائما للشكاية والقلق والنزاع بين الشعب والموظفين، وبين الإدارة المحلية والإدارة العامة وبين خزانة مصر وخزانة الدولة الرومانية.
واقترنت هذه الحالة في القرن السادس بتدهور العملة الرومانية، واختفاء العملة جملة من الاسواق المصرية! وقد فسر المؤرخ ميلن هذه الأزمة بالخوف من تقلبات التجارة، واكتفاء أصحاب الزراعات بلوازمهم من غلات أرضهم ومما يحصلون عليه مقايضة ومبادلة على تلك الغلات، وقد يكون بعضها راجعا إلى عادة الكنز والادخار، تهريبا للمال من أعين الحكومة، وحيطة للمستقبل المجهول.
وبين هذه الأزمات والشكايات يسمع القوم عن نظام الفاتحين في البلاد المجاورة، ويعلمون أنه يقصر الضرائب على ضريبة الرءوس للذميين، وضريبة العشر للمسلمين، ولم يكن هناك خراج يتقاضاه الفاتحون من الفريقين مستقلا عن الضريبتين؛ لأن نظام الخراج إنما استعير من الدولة الفارسية، وصحفت الكلمة من كلمة «خلاج أو خارج» الآرامية التي دخلت في تعبيرات الفرس؛ لأنهم كانوا يستعيرون الكتابة بالحروف الآرامية، فلما شرعت الدواوين الإسلامية في تطبيق نظام الخراج والتوفيق بينه وبين ضريبة الذميين وبين عشور الزكاة، كان قد مضى وقت غير قصير على أوائل أيام الفتوح.
وكان الأمل في الخلاص من شبكة الضرائب الرومانية سببا آخر من أسباب الرغبة في الخلاص من حكمها كله، بما اشتمل عليه من ضروب الإرهاق والسيطرة الجائرة على الأرواح والأموال.
وقد خلق المؤرخون كعادتهم مشكلة متشعبة من الأقاويل والتقديرات حول نظام الضرائب في العصر الإسلامي الأول، وتساءلوا هل كانت ضرائب رءوس؟ هل كانت غنائم فيء؟ هل كانت خراجا على الأرض؟ هل كان تحصيلها على طريقة الدواوين الرومانية أو على طريقة جديدة لم تكن معروفة في تلك الدواوين؟
وإنما يخلق المؤرخون مشكلاتهم لأنفسهم؛ لأنهم يطلبون النصوص والأوراق دائما، ولا يطالبون أنفسهم بتقدير الموقف كما ينبغي أن يكون، ثم يستعينون عليه بنصوصهم وأوراقهم على هذا التقدير!
وينبغي أن يقدر المؤرخون شيئا واحدا لا شك فيه، وهو أن انتقال نظام الضرائب بين ليلة ونهار من الحساب الروماني إلى الحساب الإسلامي هو المستحيل؛ لأن إشراف القائمين على الدواوين التي يجري فيها الحساب باللغة اليونانية غير ميسور، وقد يتعسر إشرافهم عليها بأية لغة من اللغات في سنوات الانتقال من نظام إلى نظام.
ناپیژندل شوی مخ