وقد نزلت هذه الآية بالتاريخ الميلادي في سنة خمس عشرة بعد الستمائة، ولم تمض سبع سنوات حتى كانت النبوءة قد تمت وآذنت بما يليها، وهو وعد المؤمنين بالنصر وإنجاز الأمر الإلهي الذي دعاهم أن يسيروا في الأرض وينظروا عاقبة المشركين:
قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة الذين من قبل كان أكثرهم مشركين [الروم: 41].
فبلاد العرب لم تكن خلوا ممن يراقب الحوادث العالمية، ويوازن بين القوى، ويضع الخطوة في موضعها وفي أوانها، وأول ما كان من ذلك أن يخاطب النبي - عليه السلام - هرقل بعد انتصاره المنظور على الفرس، فلا يخاطبه في شأن مصر، ويؤثر عليه المقوقس بالخطاب، ولا تخفى دلالة ذلك على المقوقس أو على الرجل الذي هو في موضع المقوقس؛ لأنها تنبئه بالكثير من حقيقة صاحب الدعوة وأنه يعرف من يعنيه وما يعنيه.
فالموقف من أطرافه يوجد لنا المقوقس حيث يوجد، وبالصفة التي من أجلها قد اتجه إليه الخطاب.
إنه رجل يرتبط مصيره بمصير الأمة القبطية، ولا يطالب بعهد يلزم الرومان، ولا كان هذا العهد مطلوبا أو مستحقا لعناء الطلب، فالرومان أصحاب دولة تبقى أو تزول، فإن بقيت فلا معنى لمعاهدتها على فتح البلاد، وإن زالت فقد أغنى زوالها عن كل عهد، ولن يربطها العهد بشيء وراء البلد الذي خرجت منه، ولم تكن لتخرج منه إلا مكرهة على غير وفاق.
وهكذا كانت نهاية القتال بين العرب ودولة الرومان الشرقية في فلسطين، وقد عادت إلى القتال ما استطاعت أيام الخلفاء الراشدين وأيام الأمويين، وأيام العباسيين، والفاطميين.
وقد كانت مهمة المقوقس مهمة أمانة يؤديها على أحسنها لمصلحة بلده، ولو أراد أن يخون لما استطاع أن يخون؛ لأنه لم ينزل عن شيء كان في وسعه أن يتشبث به، ولم يترك شيئا كان في وسعه أن يبقيه لنفسه أو لقومه ، أو للرومان إن كان من همه أن يخدمهم بحال.
إن الذين كتبوا عن المقوقس وأثبتوا وجوده مجمعون على علاقته بتحصيل الخراج، وأنه كان يظهر مذهب الروم الملكيين ويبطن مذهب القبط اليعقوبيين، وعلاقته هذه بالخراج ترشحه دون غيره للاتفاق من الفاتحين على ضريبة الرءوس، فيجوز أن تكون علاقته بالخراج توكيلا عاما، أو تكون وكالة خاصة مقصورة على أرضه وثروته، فقد كان الخراج كما سنرى في باب الإدارة مقسوما إلى ثلاثة أقسام: قسم تحصلة المجالس البلدية، وقسم يحصله الملتزمون، وقسم يؤديه أصحاب الضياع الواسعة مباشرة بغير وسطاء، ولا شك أن المقوقس كان من هؤلاء، ولم يكن من الذين يؤدون ضرائبهم للمجالس البلدية، وربما كان هذا الذي عناه بعضهم بخوفه من تأخير الأموال المطلوبة منه إن كان لهذه المسألة أثر من الصحة، وأيا كان عمله في تحصيل الخراج فهو صاحب خبرة ترشحه للتعاقد على أعمال الضرائب والتحصيل.
أما مذهبه الديني فربما كان للسياسة دخل فيما يعلنه منه وما يخفيه، وفي زماننا هذا الأخير نرى بعض الأسر الكبيرة تخشى على مكانتها، فتعلن غير ما تبطن من أمر المذهب والعقيدة، ففي مصر طلب الفرنسيون من محمد علي الكبير أن يقنع الطائفة القبطية بالانتماء إلى الكنيسة الغربية، فدفعه المعلم غالي «مباشر الدواوين» بحيلة موقوتة تصرفه عن هذه الخطة، ريثما تهدأ وسائط الفرنسيين، وقال له: إنه هو وأسرته سيدينون بالكثلكة، فيتبعهم أبناء الطائفة بغير حاجة إلى الإكراه أو الإقناع! وفي لبنان حدث مثل ذلك بين الأمراء الشهابيين من المسلمين والمسيحيين، وبقيت الأسرة كلها على دينها إلى اليوم! وغير بعيد أن يكون المقوقس قد استبقى مكانته بمجاراة الدولة على مذهبها، فقنعت الدولة منه بذلك وحمدت هذا الحل السياسي؛ لأنه يعفيها من مشكلة الاحتيال على اختيار رجل غيره في مكانته، وليس الاختيار هنا بالميسور إذا كان مركز الرجل من مراكز الوجاهة الموروثة والحسب العريق، وكان خلفه لا يقدر على قيادة الشعب المصري طواعية، كما ينقاد لزعيم من ذوي بيوتاته المعروفين.
وحكم «الدور التاريخي» بعد كل فرض وتأويل هو إيجاد رجل بالصفة التي وصف بها المقوقس، واللقب الذي أطلق عليه: رجل ذو وجاهة لا تتوقف على بقاء دولة الرومان في البلد، ورجل يخاطب في أمر مصر بمعزل عن عاهل القسطنطينية، ويعرف من أعمال الخراج ما تتولاه الدواوين المصرية قبل أن يتولاها الفاتحون، ورجل ترضيه الدولة بالألقاب التي لم تتعود أن تخلعها على أبنائها، ولم يعهد في التاريخ أن دولة أجنبية منحتها أحدا غير الزعماء الوطنيين تعويضا لهم عن سيادة الحكم والسلطان.
ناپیژندل شوی مخ