فاقتتلوا به ثلاثة أيام وولى الروم منهزمين، ثم التقى بسلطيس فاقتتلوا تسعة عشر يوما، وانهزم الروم فدخلوا الإسكندرية وتحصنوا فيها، واستأسدت العرب عند ذلك، فلجت بالقتال على أهل الإسكندرية فقاتلوهم قتالا شديدا، وكان الروم يخرجون من الأبواب في كل يوم يقاتلون، وكان يقتل من الفريقين في كل يوم خلق كثير، ففي يوم من الأيام اشتد القتال حتى اقتحم العرب حصن الإسكندرية، فقاتلوهم في الحصن قتالا شديدا، ثم خاشت عليهم الروم حتى أخرجوهم من الحصن، واستأسروا عمرو بن العاص ومسلمة بن مخلد ووردان مولى عمرو ورجلا آخر، ولم يدر الروم من هم! فقال لهم البطريق: إنكم صرتم في أيدينا أسارى، فعرفونا ما الذي تريدون منا؟ فقال له عمرو: إما أن تدخلوا في ديننا وإما أن تعطونا الجزية، وإما ألا نزال نقاتلكم إما أن تفنونا بالقتل وإما أن نفنيكم! فقال واحد من الروم للبطريق: أتوهم أن هذا أمير القوم فاضرب عنقه، ففطن لكلامهم وردان وكان يحسن الرومية، فحدث وردان لعمرو حديثا شديدا، وكلمه وقال له: ما لك وللكلام؟ ما في المعسكر أدنى منك ولا أقل، فاترك غيرك يتكلم! فقال البطريق في نفسه: لو كان هذا أميرهم لم يتهيأ لهذا أن يكلمه، فقال مسلمة بن مخلد: إن أميرنا كان قد عزم أن ينصرف عنكم ويترك حربكم، وبهذا كتب إليه أمير المؤمنين، غير أنه أراد أن يوجه إليكم بعشرة قواد من أصحابه من وجوههم، ممن لهم الرأي السديد، حتى تتوافقوا أنتم وهم على شيء تتراضون بينكم وبينهم أيضا وننصرف عنكم، فإن أحببتم ذلك فأطلقوا سبيلنا حتى نذهب إلى أميرنا ونعلمه ما صنعتم بنا من الجميل حتى يوجه إليكم بالعشرة القواد، فينقطع الأمر بيننا وبينكم على ما تحبون، وننصرف عنكم! فتوهم البطريق أن هذا كلام حق، فخلاهم رجاء أن يأتوا بالعشرة القواد فيقتلهم ويتمكن من العرب ...»
ثم قال ابن البطريق: «إن عمرو بن العاص كتب إلى الخليفة يصف له فتح الإسكندرية، فقال: إني فتحت مدينة لا أقدر أصف ما فيها، غير أني أصبت فيها أربعة آلاف بنية، بأربعة آلاف حمام، وأربعين ألف يهودي عليهم الجزية، وأربعمائة ملهى للملوك، واثني عشر ألف بقال يبيعون البقل الأخضر وما يتلوه من البقولات! وإني فتحتها عنوة بغير عقد ولا عهد ... وإن المسلمين طلبوا قسمتها ... فكتب إليه عمر بن الخطاب يقبح رأيه ويأمره ألا يتجاوزها ولا يقسمها، ويتركها ليكون خراجها للمسلمين قوة على عدوهم .» •••
قال: «فأقرها عمرو وأحصى أهلها، فرض عليهم الخراج، وكانت مصر فتحت صلحا كلها بفريضة دينارين كل رجل لا يزاد على أحد جزية رأسه أكثر من ذلك، إلا أنه لا يلزم مقدار ما يتوسع فيه من الأرض والزرع، إلا الإسكندرية، فإنهم كانوا يؤدون الخراج والجزية على قدر ما يرى واليهم؛ لأن الإسكندرية فتحت عنوة بغير عهد، ولم يكن لهم صلح ولا ذمة ... وفتحت الإسكندرية يوم الجمعة مستهل المحرم سنة عشرين للهجرة، وعشرين للملك هرقل.»
وهذه الروايات لسعيد بن البطريق أحجى أن تقارب التاريخ الصحيح؛ لأن صاحبها كان أقرب المؤرخين إلى مراجع الأخبار جميعا من رومانية وقبطية وعربية، ولكنها لم تخل من عيب التاريخ في هذه الفترة، وهو تخلل الوقائع والرويات بالمنازع والأهواء، بحيث يظهر لون المؤرخ من كلامه، وإن لم ينسب هذا الكلام إلى شخص معلوم، وقد ترك ابن البطريق متسعا لدعواه أو متسعا لهواه، كغيره من المؤرخين، فكان «روماني المذهب» في اختيار الأخبار التي توافق منزعه، وأولها أن الرومان لم يرتبطوا بعهد ولا عقد عند سقوط الإسكندرية، وإن سقوط بابليون كان خديعة من الحاكم اليعقوبي، ولم يكن ضعفا اضطرت إليه الحامية بعد اليأس من المدد، وكان تعليله لخديعة الحاكم اليعقوبي الوطني أسخف من تعليلات غيره، فإنهم زعموا أن الحاكم الوطني - وهو المقوقس - قد استبقى عنده ضرائب القطر كله أيام استيلاء الفرس على مصر، فلم يرسلها إلى القسطنطينية، ولم يكن في نيته أن يرسلها، وقد يكون هذا السبب معقولا بعض الشيء؛ لأن إرسال الضرائب إلى القسطنطينية مع سيرة الفرس على البلاد لم يكن بالميسور وإن أراده المقوقس، وموضع السخف من القصة أن نتصور المقوقس عاجزا في هذه الحالة عن الاعتذار باغتصاب الفرس لكل ما أصابوه من الغلات والخيرات وأموال الخراج! فإذا أغضينا بنظرنا عن هذا السخف، فما عدا ذلك سهل مستساغ! وأما الذي لا يستساغ فهو امتناع المقوقس عن إرسال الضرائب؛ لأن الفرس يحاصرون القسطنطينية! إذ الواقع أن الطريق بين مصر والقسطنطينية لم تكن مقفلة من جانب البحر، ولم يكن الرومان ينقطعون عن طلب الأزواد والأمداد من إفريقية، وقد استطاع هرقل مع حصار القسطنطينية من الناحية الآسيوية أن يتركها وينقض على بلاد فارس وراء البحر الأسود، فلم يكن من العسير أن تصل ضرائب مصر إلى القسطنطينية في فترة الحصار، إلا أن يكون المقوقس قد أعلن قطع الصلة بالإمبراطور ووضع يده على أموال البلد جهرة مع وجود الحامية الرومانية فيها، وعلى هذا لا تبقى للرومان ثقة به وهو معهم في داخل حصن بابليون، ولا ينتظرون منه أن يخدعهم ويتفق مع عمرو بن العاص من ورائهم حتى يتخوفوه ولا يأمنوه.
كذلك يروي ابن البطريق تلك القصة التي رويت عن عمرو وغلامه وردان في أثناء حصار الإسكندرية، كما رويت في حرب فلسطين، وهي كما يرى أدنى إلى الخرافة منها إلى التاريخ.
ولا تنحصر الخلافات حول المقوقس فيما تقدم، بل يقول آخرون - كما قال امبلينو - إنها مشتقة من «كوكيوت» اسم عملة يونانية؛ لأن المقوقس كان يلي أمر الخراج، ولا يستبعد «بتلر» أن يكون اللفظ مصحفا على لسان المصريين من القوقاس؛ لأن هرقل نقل فيرس من القوقاس إلى الديار المصرية.
ولكن المقوقس عرف بهذا اللقب في الحجاز قبل فتح مصر بأكثر من عشر سنين، وكتب إليه النبي - عليه السلام - رسالة بهذا اللقب جاءه الجواب عنها مع هدايا المقوقس التي لا جدال فيها، فما تأويل ذلك عند بتلر وأتباعه في التحقيق والتصديق والتكذيب؟ تأويل ذلك يسير على طرف اللسان، وهو خطأ المؤرخين العرب في رواية الخبر بعد الفتح الإسلامي بسنين!
إلا أن خبر الرسالة النبوية وجوابها من وراء كل شك وكل تردد وتأويل، فلا شك في كتابة النبي - عليه السلام - إلى عظيم القبط في مصر، ولا في جواب عظيم القبط عن كتابه، وقد وصلت السيدة مارية وأختها مع الجواب، وعرف الرسول الذي جاء مع الهدية، والبيت الذي نزلت فيه بالحجاز، ثم ولد للنبي - عليه السلام - ابنه إبراهيم من مارية القبطية، وتواترت التواريخ بمولده ووفاته حوالي الثانية من عمره، وتواتر كذلك بكسوف الشمس يوم وفاته، وقول النبي - عليه السلام: إن الشمس لم تكسف لموته، وجاوز الأمر أخبار التاريخ إلى تحقيقات الحساب الفلكي، فأثبت العالم الكبير محمود الفلكي باشا أن هذا الكسوف حدث في المدينة المنورة «الساعة الثانية والدقيقة الثلاثين بعد نصف الليل من اليوم السابع والعشرين من شهر يناير سنة 632 ميلادية»، ويطابق هذا التاريخ تقدير مؤرخي المسلمين عن وقت ولادة إبراهيم ووقت قدوم أمه السيدة مارية إلى الحجاز.
فليس المهم إذن تصريف اسم المقوقس باليونانية أو الحبشية أو القبطية، وإنما المهم أن هناك عظيما في مصر كان يملك من أمر شعبها ما لم يملكه عاهل القسطنطينية؛ ولذلك كتب النبي إليه ولم يكتف بالكتابة إلى العاهل في عاصمة الدولة الكبرى، وقد وصل الكتاب إلى صاحبه المقصود بدليل واضح بسيط، وهو وصول الجواب عنه، فإذا كانت منزلة هذا الرجل حقيقة مقررة لا خلاف عليها، وكان اسم المقوقس دليلا على هذه المنزلة لا يتأتى اختراعه لمن يجهله - فلماذا نلغيه ونبطله، أو نشك فيه وننفيه؟!
إن خروج المؤرخ بتلر أو غيره من ورطة وقعوا فيها، لا تكفي لتغيير مجرى الحوادث والروايات، وعلى بتلر وغيره أن يخرجوا من الورطة التي دخلوا فيها كما يشاءون، ولكن على غير حساب التاريخ. ومهما يكن من أخطاء المؤرخين الأوائل، فهي لا تكفي للإسعاف من كل ورطة والإجالة عليها في كل تأويل. •••
ناپیژندل شوی مخ