64

عميل سري

العميل السري: حكاية بسيطة

ژانرونه

تمتم ستيفي: «فقير! فقير!» وهو يدفع يده أعمق إلى داخل جيوبه بتعاطف مرتجف. لم يستطع أن يتفوه بكلمة؛ لأن إحساسه بكل الآلام والبؤس، ورغبته في إسعاد الحصان وسائق العربة، كان قد بلغ حد توق غريب إلى أن يأخذهما معه إلى الفراش. ولكنه كان يعلم أن هذا مستحيل. لأن ستيفي لم يكن مجنونا. يمكن القول، إن جاز التعبير، إنه كان توقا رمزيا؛ وفي الوقت نفسه كان واضحا جدا، لأنه كان نابعا من تجربة، والتجربة هي مصدر الحكمة. لهذا عندما كان طفلا، كان ينكمش في زاوية مظلمة، خائفا وتعيسا وحزينا وبائسا، يحيط بروحه حزن سوداوي، وكانت أخته ويني تأتي إليه، وتحمله إلى السرير معها، وكأنها تحمله إلى جنة سلام وعزاء. وعلى الرغم من أن ذاكرة ستيفي كان يمكن أن تنسى الحقائق المجردة، مثل اسمه وعنوانه، إلا أنه كان لديه ذاكرة لا تخونه فيما يتعلق بالأحاسيس. كان العلاج الأمثل له هو أخذه إلى السرير بتعاطف، ولم يكن يعيب هذا العلاج سوى صعوبة تطبيقه على نطاق واسع. ولما نظر إلى سائق العربة، أدرك حاله على الفور لأنه كان عاقلا.

واصل سائق العربة استعداداته على مهل كما لو أن ستيفي لم يكن موجودا. تحرك وكأنه سيصعد على المقصورة، ولكنه بدافع خفي توقف في اللحظة الأخيرة، ربما لمجرد الاشمئزاز من قيادة العربة. بدلا من ذلك اقترب من شريكه في شقائه الذي كان واقفا بلا حراك، وانحنى ليمسك اللجام، ثم رفع الرأس الكبير المرهق حتى وصل إلى مستوى كتفه بجهد من ذراعه الأيمن وكأنه أمر صعب يتطلب قوة.

همس بصوت خافت: «هيا.»

سار بالعربة مبتعدا، وهو يعرج. لم يخل هذا الرحيل من بعض القسوة؛ إذ كان الحصى المتناثر على الطريق يئن تحت العجلات التي كانت تدور ببطء، وأخذ فخذا الحصان الهزيلتان تتحركان بتأن زاهد بعيدا عن الضوء إلى ظلام الساحة المفتوحة المتاخمة لبعض الأسقف المدببة والنوافذ الخافتة الضوء لملاجئ الفقراء الصغيرة. ظل الحصى يئن من بطء سير العجلات عليه طوال المسيرة. بين مصابيح بوابة المؤسسة الخيرية، عاود الموكب البطيء الظهور تحت الإضاءة للحظة، الرجل القصير السمين يعرج بهمة، رافعا رأس الحصان بقبضته، والحيوان النحيف يمشي في وقار متصلب وبائس، والمقصورة المنخفضة فوق العجلات تتدحرج تدحرجا هزليا مع شيء من التمايل. انعطفت العربة جهة اليسار. كانت توجد حانة في نهاية الشارع، على بعد خمسين ياردة من البوابة.

ترك ستيفي وحده بجانب عمود الإنارة الخاص بالمؤسسة الخيرية، ويداه مدسوستان بعمق في جيوبه، يحملق بعبوس أبله. في قعر جيوبه قبضتان غاضبتان، ضمت يداه الضعيفتان العاجزتان بشدة في هيئة قبضتين غاضبتين. في مواجهة أي شيء كان يؤثر تأثيرا مباشرا أو غير مباشر في خوفه المرضي من الألم، كان الأمر ينتهي بستيفي إلى أن يصير عدوانيا. تعاظم السخط الحانق في صدره الضعيف إلى حد الانفجار، وجعله يغضي عينيه المفتوحتين. لم يكن ستيفي حكيما للغاية في إدراك ضعفه، ولم يكن حكيما بما يكفي لكبح جماح عواطفه. اتخذت رقته في محبة الجميع وجهين لا ينفصم أحدهما عن الآخر، ومتصلين مثل وجهي عملة واحدة. فمعاناة التعاطف المفرط كان يعقبها ألم نابع من غضب بريء لكنه لا يرحم. وإذ كانت هاتان الحالتان تعبران عن ذاتيهما ظاهريا بنفس علامات الانفعال الجسدي العقيم، كانت أخته ويني تهدئ من روعه من دون أن تستوعب طبيعتها المزدوجة. لم تكن السيدة فيرلوك تضيع أي قدر من هذه الحياة العابرة في البحث عن معلومات جوهرية. هذا نوع من التدبير يتسم بجميع مظاهر الحكمة وبعض مزاياها. من الواضح أنه قد يكون من الجيد ألا يعرف المرء أكثر مما ينبغي. ووجهة النظر تلك تتفق مع سمة الخمول الجسدي.

في تلك الأمسية التي يمكن أن يقال إن والدة السيدة فيرلوك بمفارقتها لولديها فيها للأبد قد فارقت هذه الحياة أيضا، لم تستطلع ويني فيرلوك حالة أخيها النفسية. بالطبع كان الفتى البائس منفعلا. بعدما طمأنت المرأة العجوز مجددا على عتبة الباب بأنها ستعرف كيف تحمي ستيفي من خطر أن يضل طريقه لفترة طويلة في رحلاته للبر بأمه، أمسكت ذراع أخيها كي يغادرا. لم يتمتم ستيفي في نفسه حتى، ولكن بفضل الشعور الخاص بالتفاني الأخوي الذي نما لديها في طفولتها المبكرة، شعرت أن الفتى كان بالفعل منفعلا جدا. عندما تمسكت بذراعه بقوة، متظاهرة بأنها تتكئ عليها، فكرت في بعض الكلمات التي تناسب الموقف. «الآن، يا ستيفي، يجب أن تعتني بي جيدا عند تقاطعات الشوارع، وأن تصعد إلى الحافلة أولا، مثل أخ بار.»

استقبل ستيفي هذه المناشدة بالحماية النابعة من الرجولة بطاعته المعتادة. أرضى هذا غروره. رفع رأسه ودفع صدره إلى الأمام.

أجاب بتلعثم مدغم خشن يجمع بين خجل الطفل وحزم الرجل: «لا تقلقي يا ويني. يجب ألا تقلقي! لا بأس بالحافلة.» تقدم بلا خوف والمرأة ممسكة بذراعه، ولكن شفته السفلية كانت متدلية. ومع ذلك، على رصيف الطريق القذر والواسع، الذي كان افتقاره إلى جميع مرافق الحياة مفضوحا بسخافة بفعل إسراف جنوني في أضواء مصابيح الغاز، كان التشابه بينهما واضحا لدرجة أذهلت المارة العابرين في الشارع.

أمام أبواب الحانة على الناصية، حيث بلغ انتشار ضوء مصابيح الغاز ذروة شر متيقن، كانت عربة أجرة بأربع عجلات، واقفة بجانب الرصيف بلا أحد على المقصورة، تبدو وكأنها نبذت على حافة الطريق جراء خراب مستعص فيها. تعرفت السيدة فيرلوك العربة. كان مظهرها يبعث على الأسى الشديد، ببؤس بشع تام وغرابة تفاصيل مروعة، كما لو كانت عربة الموت نفسها، حتى إن السيدة فيرلوك صاحت، بذلك الميل من امرأة لإبداء الشفقة على حصان (عندما لا تكون جالسة خلفه)، بنبرة غير واضحة: «حيوان بائس!»

توقف ستيفي فجأة، وهز أخته هزة ملفتة للانتباه.

ناپیژندل شوی مخ