صاحت في ذهول مصدوم: «لأي سبب تريدين فعل ذلك؟»
لا بد أن الصدمة كانت شديدة لدرجة جعلتها تحيد عن ذلك القبول المتحفظ وغير الفضولي للحقائق الذي كان مصدر قوتها ومنجاتها في الحياة. «ألم يتوفر لك ما يكفي من سبل الراحة هنا؟»
كانت قد انغمست في تلك الأسئلة، ولكن في اللحظة التالية حافظت على ثبات سلوكها بأن عادت إلى نفض الغبار، بينما جلست المرأة العجوز مرتعبة وصامتة مرتدية قبعتها البيضاء وشعرها المستعار الأسود الباهت.
انتهت ويني من نفض الغبار عن الكرسي، ومررت منفضة الغبار على الأريكة المصنوعة من خشب الماهوجني وشعر الخيل التي يحب السيد فيرلوك أن يرتاح عليها وهو يرتدي قبعته ومعطفه. كانت عازمة على العمل، ولكنها سمحت لنفسها حينئذ بأن تطرح سؤالا آخر. «كيف استطعت بحق الرب أن تجدي تلك الدار يا أمي؟»
كان مبدأ السيدة فيرلوك هو التجاهل، ولكن لم يكن ثمة ضير من هذا الفضول، بما أنه لن يؤثر في حقيقة الأمور. لم يصبها الفضول إلا بشأن الوسائل. رحبت المرأة العجوز بالسؤال بلهفة إذ كان يطرح شيئا يمكن التحدث عنه بقدر كبير من الصدق.
منحت ابنتها إجابة مستفيضة تزخر بالأسماء وثرية بالتعليقات الجانبية عن نوائب الزمان التي ظهرت آثارها في تغير ملامح البشر. كانت الأسماء في المقام الأول عبارة عن أصحاب حانات مرخصين «أصدقاء والدك البائس يا عزيزتي.» أسهبت في الإطراء على لطف واحد من صانعي البيرة الكبار وعلى كرمه، وعلى بارونيت وأحد أعضاء البرلمان، ورئيس مجلس محافظي المؤسسة الخيرية. عبرت عن نفسها بتلك الحرارة؛ لأن سكرتيره الخاص سمح لها بموعد لإجراء مقابلة «إنه رجل شديد التهذيب، وكل ملابسه سوداء، وله صوت رقيق وحزين، لكنه رفيع وهادئ جدا. كان يبدو وكأنه طيف يا عزيزتي.»
أطالت ويني عملية نفض الغبار إلى أن انتهت القصة، وخرجت من غرفة المعيشة إلى المطبخ (الذي تنزل إليه درجتين) بطريقتها المعتادة ومن دون أدنى تعليق.
ذرفت والدة السيدة فيرلوك بعض الدموع علامة على ابتهاجها للطف ابنتها في هذه المسألة المروعة، ثم ألمحت إلى ذكائها فيما يتعلق بأثاث المنزل لأنه كان ملكها في الأساس؛ ولكنها كانت تتمنى في بعض الأوقات أن لو لم يكن كذلك. إن البطولة أمر حسن جدا، ولكن ثمة ظروف ربما يكون عندها التخلص من بعض الطاولات والكراسي والأسرة النحاسية، وما إلى ذلك، أمرا ضخما وله عواقب وخيمة وكارثية. طلبت بعض الأثاث لنفسها ، لأن المؤسسة الخيرية التي ضمتها إلى كنفها الرحيم بعد كثير من الإلحاح لم تكن توفر للمشمولين برعايتها سوى أرضية خشبية وجدران مغطاة بورق رخيص. مرت طيبة قلبها، التي قادتها إلى اختيار أقل الأغراض قيمة وأكثرها تداعيا، دون ملاحظة من ويني لأن فلسفة الأخيرة كانت تتمثل في تجاهل باطن الحقائق؛ وافترضت أن أمها قد أخذت أفضل ما يناسبها. أما السيد فيرلوك، فقد عزله تأمله الشديد عزلا تاما، مثل سور صيني، عن ظواهر هذا العالم المليء بالجهد الذي لا طائل منه وبالمظاهر الوهمية.
بعدما حددت اختياراتها، بات التخلص من الباقي مسألة محيرة بطريقة ما. بالطبع كانت ستتركه في شارع بريت. ولكن كان لديها ولدان. تأمنت لويني سبل العيش الكريم بزواجها العقلاني من ذلك الزوج الرائع، السيد فيرلوك. أما ستيفي فكان معدما، كما كان غريب الأطوار بعض الشيء. كان لا بد من النظر في موقفه قبل مزاعم عدالة القانون وحتى قبل دعوات الإجحاف. لن تكون حيازة الأثاث إعالة بأي حال من الأحوال. ينبغي لهذا الصبي البائس أن يحصل عليه. ولكن إعطاءه له سيكون بمثابة عبث مع وضعه القائم على التبعية الكاملة. كان استحقاقا كانت تخشى إضعافه. علاوة إلى ذلك، قد تتسبب مشاعر السيد فيرلوك في أن تجعله لا يطيق أن يعترف بالفضل لصهره على الكراسي التي كان يجلس عليها. في تجربتها الطويلة مع المستأجرين، كانت والدة السيدة فيرلوك قد كونت فكرة سيئة عن الطبيعة البشرية وأخرجت من رأسها فكرة وجود جانب طيب لها. ماذا لو قرر السيد فيرلوك فجأة أن يأمر ستيفي بأن يأخذ عصيه التي يحبها ويخرجها من المكان؟ من ناحية أخرى، فإن التقسيم، مهما أجري بعناية فقد يعطي مبررا للإساءة إلى ويني. كلا، يجب أن يبقى ستيفي معدما ومحتاجا إلى من يعوله. وعندما حانت لحظة مغادرتها لشارع بريت، قالت لابنتها: «لا حاجة إلى الانتظار حتى يحين أجلي، أليس كذلك؟ كل شيء أتركه هنا هو ملك لك الآن بالكامل يا عزيزتي.»
استمرت ويني، وهي واقفة صامتة خلف أمها، وقبعتها فوق رأسها، في ترتيب طوق عباءة المرأة العجوز. حملت حقيبة يدها ومظلة بوجه خال من التعبير. كان الوقت قد حان لإنفاق مبلغ قدره ثلاثة شلنات وستة بنسات على ما قد يفترض أن يكون آخر سيارة أجرة تستقلها والدة السيدة فيرلوك في حياتها. وخرجوا إلى باب المتجر.
ناپیژندل شوی مخ