57

عميل سري

العميل السري: حكاية بسيطة

ژانرونه

في طريق خروجه، لاحظ المفوض المساعد بينه وبين نفسه أن مرتادي المكان قد فقدوا في اعتيادهم على تلك الأكلات المغشوشة كل خصائصهم الوطنية والخاصة. وكان هذا غريبا؛ لأن المطعم الإيطالي هو مؤسسة بريطانية بطريقة غريبة. لكن هؤلاء الأشخاص تجردوا من جنسيتهم مثل الأطباق الموضوعة أمامهم بحالة من الاحترام الذي لم يكن يحمل طابعا معينا. كذلك بطريقة ما لم تحمل شخصياتهم أي طابع معين، سواء كان مهنيا أو اجتماعيا أو عرقيا. بدا الأمر وكأنهم خلقوا من أجل المطعم الإيطالي ، هذا إن لم يكن المطعم الإيطالي قد أنشئ من أجلهم بالصدفة. لكن هذه الفرضية الأخيرة كانت مستبعدة؛ لأنه لا يمكن للمرء أن يضعهم في أي مكان خارج تلك المؤسسات الخاصة. فلم يكن المرء يلتقي بهؤلاء الأشخاص الغامضين في أي مكان آخر. استحال عليه أن يكون فكرة دقيقة عن أعمالهم التي يمتهنونها نهارا وعن الأماكن التي يأوون إليها ليلا. وكان هو نفسه قد أصبح في موضع غير موضعه. ما كان لأحد أن يخمن مهنته. وفيما يتعلق بذهابه إلى النوم، كان ثمة شك حتى في عقله هو. ليس فيما يخص مكان إقامته نفسه بالتأكيد، ولكن كان الأمر يتعلق إلى حد كبير بالوقت الذي سيعود فيه إلى هناك. استحوذ عليه شعور ممتع بالاستقلالية عندما سمع صوت الأبواب الزجاجية وهي تتأرجح خلف ظهره بنوع من الجلجلة المختلة المرتبكة. تقدم في الحال إلى كتلة ضخمة من الطين الموحل والجص الرطب المرصع بالمصابيح، والمغلف بسواد ليل لندن الرطب الذي تغمره قطرات الماء.

لم يكن شارع بريت ببعيد جدا. كان يتفرع ويضيق من جانب فسحة مفتوحة مثلثة الشكل محاطة بمنازل مظلمة وغامضة، ومنشآت تجارية صغيرة يهجرها أصحابها في الليل. لم يكن يوجد سوى متجر فاكهة على الناصية، يصدر وهجا ساطعا من الضوء والألوان. وراءه كانت العتمة مخيمة، ويخلو الشارع إلا من قلة من الناس اختفوا بعد خطوة لما تجاوزوا أكوام البرتقال والليمون التي يسطع عليها الضوء. لم يكن ثمة صدى لوقع أقدام. لن يسمع صوتها مجددا. باهتمام، ومن بعيد، راقب رئيس إدارة الجرائم الخاصة المغامر هؤلاء المارة وهم يختفون. شعر بفرح، وكأنه تعرض لكمين وحيدا تماما في غابة على بعد آلاف الأميال من المكاتب الإدارية والمحبرات الرسمية. يبدو أن هذا الفرح وتشتت الأفكار قبل مهمة على قدر من الأهمية يثبت أن هذا العالم في نهاية الأمر ليس شأنا ذا بال. إذ لم تكن التركيبة النفسية للمفوض المساعد تميل إلى التهور.

ظهر شرطي الدورية وهو يمر بجدية وحيوية أمام أكوام البرتقال والليمون البراقة، ودخل شارع بريت دون إسراع . ظل المفوض المساعد متواريا عن الأنظار، يترقب عودته، وكأنه فرد من الفئة الإجرامية. ولكن بدا أن هذا الشرطي قد انضم إلى قوة الشرطة التابع لها ولن يعود أبدا. لم يعد مطلقا؛ لا بد أنه خرج إلى الطرف الآخر في شارع بريت.

بعد أن توصل المفوض المساعد إلى هذا الاستنتاج، دخل بدوره إلى الشارع، ووجد عربة كبيرة لنقل البضائع تجرها خيول متوقفة أمام النوافذ الزجاجية المضيئة بإضاءة خافتة لمطعم رخيص يقدم الطعام لأصحاب العربات التي تجرها الخيول. كان الرجل يجدد نشاطه بالداخل، وكانت الخيول خافضة رءوسها الكبيرة إلى الأرض، وتتناول غذاءها بثبات من أكياس العلف المثبتة إلى رءوسها. وهناك على الجانب الآخر من الشارع، توهم أنه رأى بقعة أخرى من ضوء خافت ينبعث من واجهة متجر السيد فيرلوك، المعلقة عليها صحف، وتمتلئ بأكوام غير محددة المعالم من صناديق مصنوعة من الورق المقوى وأشكال من الكتب. وقف المفوض المساعد يراقب واجهة المتجر من الناحية الأخرى للطريق. لا يمكن أن يكون ثمة خطأ على الإطلاق. إلى جانب النافذة الأمامية، المثقلة بظلال أشياء يتعذر وصفها، سمح الباب الموارب بانبعاث شعاع واضح وضعيف من مصباح غازي بالداخل إلى رصيف الشارع.

خلف المفوض المساعد، أصبحت العربة والخيول كتلة واحدة، بدت وكأنها شيء حي، وحش أسود مربع الظهر يسد نصف الشارع، بأصوات خطى مفاجئة لحدوات حديدية، وجلجلة قوية، وأنفاس ثقيلة تنفث الهواء. واجه الوهج الاحتفالي الصاخب المشئوم لحانة كبيرة وعامرة في الطرف الآخر من شارع بريت عبر طريق واسع. بدا أن هذا الحاجز من الأضواء المتوهجة، الذي تباين مع الظلال المتجمعة حول المسكن المتواضع الذي كان يضم سعادة السيد فيرلوك الأسرية، زاد من غموض الشارع، وجعله أكثر تجهما وكآبة وشؤما.

الفصل الثامن

بعد إلحاح متواصل من جانب والدة السيدة فيرلوك على العديد من أصحاب الحانات المرخصين (الذين كانوا يوما ما معارف زوجها الراحل المنكود) تحول اهتمامهم الفاتر إلى نوع من الحماس، وضمنت أخيرا قبولها في إحدى دور المسنين التي أسسها صاحب حانة ثري لإيواء الأرامل المعوزات المنتميات إلى المهنة.

كانت المرأة العجوز قد سعت بسرية وتصميم إلى هذه الغاية التي تراءت لها بفطنة نابعة من قلبها المهموم. كان ذلك عندما لم تستطع ابنتها ويني أن تمنع نفسها من أن تبدي للسيد فيرلوك ملاحظة عابرة هي أن «أمي أنفقت في الأسبوع الماضي نصف كرونة وخمسة شلنات كل يوم تقريبا على أجرة عربات الأجرة.» لكنها لم تصدر هذه الملاحظة عن كره أو ضيق من أمها. كانت ويني تحترم شيخوخة والدتها. ولكن كل ما في الأمر أنها اندهشت قليلا من هذا الهوس المفاجئ بالرغبة في التنقل. أما السيد فيرلوك، الذي كان عظيما، فقد تذمر بنفاد صبر من الملاحظة لأنها قطعت حبل أفكاره. كانت هذه الأفكار متكررة وعميقة وطويلة؛ إذ كانت تتعلق بأمر أهم من خمسة شلنات. لا ريب أنها كانت أهم، وبعيدا عن كل المقارنات، وأصعب، على نحو لا يقارن، في تناولها من جميع الجوانب بصفاء ذهن فلسفي.

بعد أن وصلت العجوز القوية إلى غرضها في سرية وذكاء، أفصحت عما في جعبتها للسيدة فيرلوك. شعرت في روحها بنشوة النصر وبخوف في قلبها. ارتجفت من داخلها لأنها شعرت بخشية وإكبار للطبيعة الهادئة والمتحفظة التي كانت تتسم بها ابنتها ويني، التي كان استياؤها رهيبا ويتخذ أشكالا متنوعة من الصمت المخيف. ولكنها لم تسمح لمخاوفها الداخلية أن تسلبها ميزة الهدوء المهيب البادي على مظهرها الخارجي بسبب ذقنها التي تراكمت فيها الدهون وضخامة جثتها وشلل ساقيها.

لم تتوقع السيدة فيرلوك الخبر الصادم، مما دفعها إلى قطع الأعمال المنزلية التي كانت عاكفة عليها، ولم تكن هذه عادتها عند مخاطبتها. كانت تنفض الغبار عن الأثاث في غرفة المعيشة خلف المتجر. وأدارت رأسها باتجاه أمها.

ناپیژندل شوی مخ