قال بمزاح عفوي: «مصايد الأسماك لن تقتلني. أنا معتاد على العمل حتى وقت متأخر.» ولكن لما شعر بندم فوري، بدأ يتظاهر بمظهر رجل الدولة المتقلب المزاج، وكأنما يرتدي قفازا. «سوف يستوعب ذكاؤه المتقد أي قدر من العمل. لا أخشى سوى انفلات أعصابه. فتلك العصابة ذات الفكر الرجعي، وعلى رأسها المدعو تشيزمان البذيء والهمجي ذاك، تهينه كل ليلة.»
تمتم المفوض المساعد: «إذا كان سيصر على تفجير ثورة!»
استشاط تودلز الثوري غضبا أمام نظرة المفوض المساعد الهادئة والتأملية، واحتج قائلا: «لقد حان الوقت، وإنه الرجل الوحيد العظيم بما يكفي لهذا العمل.» في مكان ما على مسافة بعيدة في الردهة دق جرس باستعجال، وبيقظة متفانية أصغى الشاب بانتباه إلى الصوت. صاح همسا: «إنه مستعد للذهاب الآن.» واختطف قبعته، واختفى من الغرفة.
خرج المفوض المساعد من باب آخر بطريقة أقل مرونة. عبر الطريق العريض مرة أخرى، ومشى في الشارع الضيق، وعاود الدخول إلى مبنى إدارته مسرعا. ظل يمشي بهذه الخطى الحثيثة حتى وصل إلى باب غرفته الخاصة. وقبل أن يغلق الباب خلفه، وقعت عيناه على مكتبه. تصلب في مكانه للحظة، ثم سار إليه، ونظر إلى الأرضية من حوله، وجلس على كرسيه، ورن جرسا، وانتظر. «هل غادر كبير المفتشين هيت؟» «نعم يا سيدي. غادر منذ نصف ساعة.»
أومأ المفوض المساعد برأسه. وقال: «حسنا.» وبينما كان جالسا من دون حراك، وقبعته منحسرة عن جبهته، فكر في أن هذه هي صفاقة هيت اللعينة المعهودة للفوز بهدوء بالدليل المادي الوحيد. لكنه فكر في هذا من دون عدائية. سيسمح الموظفون الكبار وذوو القامات لأنفسهم بذلك. إن قطعة قماش المعطف المخيط عليها العنوان لم تكن بالتأكيد شيئا يمكن تركه. بعد أن طرد من عقله هذا المظهر من مظاهر عدم الثقة من جانب كبير المفتشين هيت، كتب ملاحظة إلى زوجته وأرسلها إليها، طالبا منها أن تبلغ اعتذاره إلى السيدة العظيمة التي ترعى ميكايليس، والتي كانا على موعد عشاء معها في تلك الأمسية.
ارتدى السترة القصيرة والقبعة المستديرة المنخفضة في تجويف في جدار الغرفة تغطيه ستارة، ويحتوي على حوض لغسل الأيدي وصف من المشاجب الخشبية ورف، مما أظهر على نحو عجيب طول وجهه الأسمر المتجهم. عاد إلى الغرفة ذات الإضاءة الكاملة وهو يبدو مثل صورة دون كيخوتي الهادئ المتأمل ذي العينين الغائرتين السوداوين المتحمستين والأسلوب الحريص. غادر مسرح عمله اليومي بسرعة وكأنه طيف خفي. كان نزوله إلى الشارع يشبه النزول إلى حوض سمك لزج فرغ منه الماء. أحاطت به رطوبة موحشة ضبابية. كانت جدران المنازل مبتلة، والطين يلمع في الطريق المعبد مثل الفوسفور، ولما خرج إلى شارع ستراند من شارع ضيق بجانب محطة تشيرينج كروس، اندمج في عبقرية المكان. ربما لم يكن سوى شخص أجنبي غريب آخر من الأشخاص الذين يمكن رؤيتهم في إحدى الأمسيات يحومون هناك حول الزوايا المظلمة.
وصل إلى حافة الرصيف ووقف منتظرا. كانت عيناه المتمرستان قد تبينتا وسط الحركات المربكة للأضواء والظلال المتدفقة في الطريق حنطورا يتقدم ببطء مقتربا. لم يشر إلى سائق الحنطور؛ ولكن عندما وصلت الدرجة المنزلقة بطول الرصيف إلى قدمه، ركب في العربة بمهارة أمام العجلة الكبيرة الآخذة في الدوران، وتحدث مفصحا عن وجهته من خلال نافذة صغيرة تشبه بابا خفيا قبل أن يدرك الرجل الذي ينظر أمامه بثبات على كرسيه أن راكبا بأجرة قد صعد إلى حنطوره.
لم تكن رحلة طويلة. انتهت بإشارة مفاجئة، في مكان غير محدد، بين عمودي إنارة أمام مبنى كبير للأقمشة، صف طويل من المحلات كانت أبوابها مغطاة بالفعل بألواح من الصاج المتعرج طوال الليل. عندما دفع عملة معدنية من النافذة الصغيرة، انزلقت الأجرة من يد السائق، مما خلف شعورا غريبا وغير مألوف في ذهنه. لكن حجم العملة المعدنية كان مرضيا عندما لمسها، وإذ لم يكن يعرف القراءة والكتابة، ظل مطمئنا، لا يكدره الخوف من أن يجد أنها تحولت إلى ورقة عديمة القيمة في جيبه. ولأنه لم يكن له علاقة بقضية الأجور بسبب طبيعة عمله، لم يفكر كثيرا في انعكاساتها. تكشفت فلسفته لما شد بحدة لجام حصانه ليحول اتجاهه.
في تلك الأثناء، كان المفوض المساعد يبلغ طلبه لنادل في مطعم إيطالي صغير عند الناصية، أحد تلك الفخاخ المنصوبة للجياع، مكان طويل وضيق، يصطاد زبائنه بمنظر المرايا والشراشف البيضاء؛ ليس فيه فسحة، ولكن له جوه الخاص، جو من فن الطبخ القائم على الغش الذي يستهزئ بالجنس البشري الذليل في أشد احتياجاته البائسة إلحاحا. في هذا الجو غير الأخلاقي، فكر المفوض المساعد في مغامرته، وبدا له أنه يفقد المزيد من هويته. تملكه شعور بالوحدة، وبحرية آثمة. ولكنه كان شعورا ممتعا إلى حد ما. بعدما دفع ثمن وجبته الصغيرة، ووقف منتظرا الباقي، رأى نفسه في لوح من الزجاج، وأذهله مظهره الغريب. تأمل صورته بنظرة حزينة وفضولية، ثم بإلهام مفاجئ رفع ياقة سترته. بدا له هذا التعديل جديرا بالثناء، وأكمله بفتل طرفي شاربه الأسود إلى الأعلى. سر بهذا التعديل المتقن في مظهره الشخصي الذي أحدثته هذه التغييرات الصغيرة. قال مفكرا: «هذا سيؤدي الغرض جدا.» «سأبتل قليلا، بعض الماء ...»
أدرك وجود النادل عند مرفقه ووجود كومة صغيرة من العملات المعدنية على حافة الطاولة أمامه. راقب النادل النقود بعين، أما عينه الأخرى فتتبعت فتاة طويلة، ليست شابة جدا، من ظهرها، وهي تمر وصولا إلى طاولة بعيدة في مكان بعيد عن الأنظار ومنعزل تماما. بدت زبونة معتادة.
ناپیژندل شوی مخ