قال كبير المفتشين: «قابلت ذات مرة في غرفة المدخنين في فندق رجلا عجوزا كل معاطفه خيط عليها اسمه وعنوانه تحسبا للتعرض لحادث أو مرض مفاجئ. زعم أن عمره أربعة وثمانون عاما، ولكن مظهره لم يكن يدل على عمره. أخبرني إنه كان أيضا يخشى من فقدان ذاكرته فجأة، مثل الأشخاص الذين كان يقرأ عنهم في الصحف.»
فجأة قطع سؤال من المفوض المساعد، الذي أراد أن يعرف ما معنى 32 شارع بريت، تلك الذكريات. اختار كبير المفتشين، مدفوعا إلى أرض الواقع بحيل ملتوية، أن يسلك طريق المصارحة من دون تحفظ. إن كان يعتقد اعتقادا راسخا بأن معرفة أكثر مما يلزم من المعلومات لم يكن في صالح الإدارة، فإن حجب ما يعرف بحكمة، بقدر ما يسمح به ولاؤه، كان في صالح العمل. وإذا أراد المفوض المساعد أن يسيء إدارة هذه القضية، فلا يمكن بالطبع لشيء أن يمنعه. لكنه، من جانبه، لم يكن يرى الآن أي سبب لإظهار الهمة. ومن ثم أجاب بإيجاز: «إنه متجر يا سيدي.»
انتظر المفوض المساعد، ناظرا إلى خرقة القماش الأزرق، مزيدا من المعلومات. لما لم ينل ما كان يرنو إليه، بدأ في الحصول على تلك المعلومات بطرح سلسلة من الأسئلة بصبر جميل. ومن ثم سأل عن طبيعة تجارة السيد فيرلوك، وعن مظهره الشخصي، وفي النهاية سمع اسمه. في فترة تخللها الصمت، رفع المفوض المساعد عينيه، ولمح قدرا من النشاط على وجه كبير المفتشين. نظر كل منهما إلى الآخر في صمت.
قال الأخير: «بالطبع، لا تملك الإدارة سجلا عن ذلك الرجل.»
سأله المفوض المساعد، واضعا مرفقيه على المكتب وهو يرفع يديه المضمومتين أمام وجهه، وكأنه يتهيأ للصلاة، غير أن الخشوع لم يكن باديا في عينيه، سأل: «هل كان لدى أي ممن سبقوني أي علم بما أخبرتني به الآن؟» «كلا يا سيدي؛ بالتأكيد لا. ماذا كان يمكن أن تكون الغاية؟ لا يمكن مطلقا الإفصاح علنا عن رجال من نوعية ذلك الرجل لأي غرض نافع. كان يكفيني أن أعرف هويته، وأن أستفيد منه بطريقة يمكن استخدامها علنيا.» «وهل تعتقد أن ذلك النوع من المعلومات الخاصة يتوافق مع المنصب الرسمي الذي تشغله؟» «توافقا تاما يا سيدي. أظن أنها مناسبة تماما. لا أخفيك قولا يا سيدي أنها تشكل ما أنا عليه؛ وأنا ينظر إلي باعتباري رجلا على دراية بعمله. إنها شأن خاص بي. لمح لي صديق شخصي في الشرطة الفرنسية بأن ذاك الرجل كان جاسوسا لدى السفارة. صداقة خاصة، معلومات خاصة، استخدام خاص لتلك المعلومات؛ هكذا أنظر إلى المسألة.»
بعدما ذكر المفوض المساعد في نفسه ملاحظة مفادها أن الحالة الذهنية لكبير المفتشين الشهير بدت أنها تؤثر في شكل فكه السفلي، وكأن إحساسه القوي بتميزه المهني العالي استقر في ذلك الجزء من جسده، نبذ تلك الملاحظة في الوقت الراهن بأن قال بهدوء: «فهمت.» ثم، مسندا وجنته على يديه المضمومتين، قال: «حسن إذن، لنتحدث بسرية إذا وددت؛ منذ متى وأنت على اتصال خاص بذلك الجاسوس لدى السفارة؟»
ردا على هذا السؤال، أتت الإجابة السرية من كبير المفتشين، سرية لدرجة أنها لم تتألف من كلمات مسموعة: «منذ فترة طويلة، قبل حتى التفكير في أن تشغل منصبك هنا.»
كان الكلام العلني، إن جاز التعبير، أدق بكثير. «رأيته للمرة الأولى في حياتي منذ ما يزيد على سبعة أعوام، عندما كان اثنان من أصحاب السمو الإمبراطوري ومستشار إمبراطوري في زيارة هنا. أوكلت إلي مهمة اتخاذ جميع الترتيبات من أجل الاعتناء بهم. كان البارون ستوت فارتنهايم هو السفير وقتها. كان رجلا عجوزا وشديد العصبية. وفي إحدى الأمسيات، وقبل ثلاثة أيام من مأدبة جيلدهول، أرسل لي مرسالا بأنه يريد أن يقابلني للحظة. كنت في الطابق السفلي، وكانت العربات عند الباب كي تقل أصحاب السمو الإمبراطوري والمستشار إلى الأوبرا. صعدت على الفور. وجدت البارون يروح ويجيء في غرفة نومه في حالة يرثى لها من التوتر، وأخذ يعتصر يديه. أكد لي أن لديه ثقة كاملة في شرطتنا وفي قدراتي، ولكن كان معه هناك رجل كان قد قدم للتو من باريس بمعلومات يمكن الوثوق في صحتها تماما. أراد مني أن أسمع ما يقوله ذلك الرجل. أخذني على الفور إلى غرفة تغيير ملابس مجاورة، ورأيت فيها رجلا ضخم الجثة يرتدي معطفا ثقيلا ويجلس بمفرده على كرسي ويمسك قبعته وعصاه في يد واحدة. قال له البارون «تحدث يا صديقي» باللغة الفرنسية. لم تكن الإضاءة جيدة جدا في تلك الغرفة. تحدثت إليه لمدة خمس دقائق تقريبا. بالتأكيد قدم لي بعض الأخبار المفزعة جدا. ثم أخذني البارون جانبا بعصبية ليثني لي عليه، وعندما استدرت مرة أخرى اكتشفت أن الرجل كان قد اختفى وكأنه شبح. أظن أنه نهض وتسلل إلى الأسفل على سلم خلفي. لم يكن لدي وقت لألاحقه؛ إذ اضطررت إلى الإسراع خلف السفير على السلم الكبير، وأن أطمئن على أن الحفل قد بدأ بأمان في الأوبرا. ومع ذلك، تصرفت في تلك الليلة بناء على المعلومات التي بلغتني. سواء كانت صحيحة تمام الصحة أم لا، لكنها بدت خطيرة بما يكفي. ومن المرجح جدا أنها أنقذتنا من مشكلة بشعة في يوم الزيارة الإمبراطورية إلى المدينة.»
وتابع: «في وقت لاحق، بعد شهر أو نحو ذلك من ترقيتي إلى منصب كبير المفتشين، استرعى انتباهي رجل ضخم قوي البنية، ظننت أنني رأيته في مكان ما من قبل، يخرج مسرعا من متجر مجوهرات في شارع ستراند. مضيت خلفه، حيث إنه كان في طريقي صوب تشيرينج كروس، وهناك رأيت أحد مخبرينا السريين على الجانب الآخر من الطريق، وأومأت إليه بأن يأتي إلي، وأشرت له نحو الرجل، مع تعليمات بأن يراقب تحركاته لمدة يومين، وأن يبلغني بعدها. لم يمر عصر اليوم التالي إلا وقد أتاني رجلنا كي يخبرني بأن الرجل قد تزوج من ابنة صاحبة المنزل الذي يسكنه وعقد الزواج في مكتب أمين السجل في ذلك اليوم في الساعة الحادية عشرة والنصف صباحا، وأنه قد غادر معها إلى مدينة مارجيت لمدة أسبوع. كان رجلنا قد رأى الأمتعة وهي توضع في سيارة الأجرة. كانت توجد بعض ملصقات أمتعة قديمة من باريس على إحدى الحقائب. لسبب ما، لم أستطع أن أتوقف عن التفكير في هذا الشخص، وفي المرة التالية التي تعين علي فيها أن أذهب إلى باريس في مهمة عمل، تحدثت عنه مع صديقي ذاك في شرطة باريس. قال صديقي: «بناء على ما أخبرتني به، أظن أنه لا بد أنك تتحدث عن طفيلي معروف نوعا ما ومبعوث للجنة الثورية الحمراء. يقول إنه إنجليزي المولد. نعرف أنه عميل سري منذ بضع سنوات لإحدى السفارات الأجنبية في لندن.» أنعش هذا ذاكرتي تماما. إنه الشخص الذي رأيته يختفي والذي كان يجلس في غرفة تغيير الملابس عند البارون ستوت فارتنهايم. قلت لصديقي إنه محق تماما. تأكد لدي أن الشخص كان عميلا سريا. بعد ذلك، تكبد صديقي عناء أن يحضر لي السجل الكامل لهذا الرجل. ارتأيت أنه من الأفضل أن أعرف كل ما يمكنني معرفته؛ ولكنني لا أظن أنك تريد سماع قصته الآن يا سيدي، أليس كذلك؟»
هز المفوض المساعد رأسه موافقا. أغلق عينيه الغائرتين المرهقتين ببطء، ثم فتحهما بسرعة بنظرة منتعشة للغاية، وقال: «ما يهمني الآن فحسب هو معرفة قصة علاقاتك بتلك الشخصية المفيدة.»
ناپیژندل شوی مخ