في الحقيقة لم يكن يعرف كيف يتحدث إلى الفتى. شاهده وهو يأتي بحركات بيديه ويتمتم في المطبخ. كان ستيفي يحوم حول الطاولة مثل حيوان هائج في قفص. لما بادره السيد فيرلوك قائلا: «أليس من الأفضل أن تأوي إلى الفراش الآن؟» لم يبد أي تأثر بسؤاله؛ ولما أقلع السيد فيرلوك عن التفكير المتحجر في سلوك صهره، عبر غرفة المعيشة مضجرا وصندوق النقود في يده. كان سبب التعب العام الذي شعر به أثناء صعوده الدرج عقليا بحتا، وانزعج من طابعه الذي لا يمكن تفسيره. تمنى ألا يكون مريضا بأي مرض. وقف على البسطة المظلمة كي يتفقد حواسه. لكنه سمع صوت شخير خافت ومستمر اخترق الظلام وتعارض مع صفائه. أتى الصوت من غرفة حماته. فكر في نفسه، شخص آخر ينبغي الاعتناء به؛ ولما بدرت هذه الفكرة إلى ذهنه تابع سيره إلى غرفة النوم.
كان النعاس قد غلب السيدة فيرلوك والمصباح (لم يكن يوجد مصباح غازي في الطابق العلوي) متقد لأقصى حد فوق الطاولة بجانب السرير. سقط شعاع المصباح مكونا ظلا فوق الوسادة البيضاء الغاطسة بفعل وزن رأسها وهي مغمضة العينين وشعرها الأسود مضفور في عدة ضفائر من أجل النوم. أيقظها صوت يهمس باسمها في أذنيها ورأت زوجها يقف عند رأسها. «ويني! ويني!»
في البداية لم تتقلب، وظلت مستلقية في هدوء تام وهي تنظر إلى صندوق النقود في يد السيد فيرلوك. ولكن لما فهمت أن أخاها «لا يكف عن اللعب في كل مكان بالطابق السفلي» نهضت في حركة مفاجئة وجلست على حافة السرير. تلمست السجادة بقدميها الحافيتين بحثا عن النعل وهي تنظر إلى أعلى إلى وجه زوجها.
شرح السيد فيرلوك متذمرا: «لا أعرف كيف أسيطر عليه. ليس مقبولا على الإطلاق أن يترك وحده في الطابق السفلي مع المصابيح.»
لم تقل شيئا، وعبرت الغرفة مسرعة، وأغلق الباب خلف ردائها الأبيض.
وضع السيد فيرلوك صندوق النقود فوق المنضدة بجانب السرير، وبدأ في خلع ثيابه بأن رمى معطفه على كرسي بعيد. ثم خلع سترته وصدريته. أخذ يسير في أنحاء الغرفة وهو يرتدي الجورب في قدميه، وظل يروح ويجيء - بجسده الضخم والقلق ينخر فيه وهو يضع يديه على حلقه - أمام المرآة الطويلة في باب خزانة ثياب زوجته. ثم بعدما أنزل الحزام من فوق كتفيه، رفع ستارة التهوية بقوة وأسند جبهته على زجاج النافذة البارد، طبقة رقيقة من الزجاج امتدت بينه وبين بشاعة تراكم بارد، ومظلم، ومبلل، وطيني كريه من الطوب والألواح والحجارة، أشياء غير محببة في ذاتها ويأنفها الإنسان.
شعر السيد فيرلوك بالعدائية الكامنة في كل شيء خارج الأبواب وبشدة تقارب كربا جسديا حقيقيا. لا توجد مهنة تخذل الرجل أكثر من مهنة عميل سري لدى الشرطة. إنها أشبه بسقوط حصانك من تحتك ميتا فجأة وسط سهل غير مأهول وليس فيه ماء. خطر التشبيه على عقل السيد فيرلوك لأنه كان سابقا قد امتطى عديدا من خيول الجيش، وكان لديه الآن إحساس بأنه على وشك السقوط. كان المستقبل أسود مثل زجاج النافذة التي أسند عليها جبهته. وفجأة، لاح وجه السيد فلاديمير، الحليق والذكي، متوهجا ببريق بشرته الوردية وكأنه ختم وردي، منطبع على الظلمة القاتلة.
كانت هذه الرؤيا المضيئة والمشوهة مروعة ماديا حتى إن السيد فيرلوك جفل مبتعدا عن النافذة، تاركا ستارة التهوية تسقط محدثة صوتا قويا. ووسط ارتباكه وذهوله لخشيته من أن يرى المزيد من تلك الرؤى، أبصر زوجته تعود إلى الغرفة وتدخل إلى الفراش في سكينة وهدوء جعلاه يشعر ببؤس وبأنه وحيد في هذا العالم. أعربت السيدة فيرلوك عن دهشتها لرؤيته مستيقظا حتى هذا الوقت.
تمتم وهو يمرر يديه فوق جبهته المتعرقة: «أشعر أنني لست على ما يرام.» «هل تشعر بدوار؟» «أجل. لست على ما يرام على الإطلاق.»
بهدوء الزوجة المحنكة، أعربت السيدة فيرلوك عن رأيها واثقة في السبب، واقترحت العلاجات المعتادة؛ لكن زوجها، الواقف وسط الغرفة وكأن قدمه غاصت فيها، هز رأسه المنكس حزنا.
ناپیژندل شوی مخ