سمعت الهمهمة الخبيثة الصادرة من الإرهابي العجوز عديم الأسنان. «هل تعرف التسمية التي يمكنني أن أطلقها على طبيعة الظروف الاقتصادية الحالية؟ يمكنني أن أطلق عليها اسم آكلة لحوم البشر. هكذا هي! إنهم يغذون جشعهم بلحوم الشعوب المرتعبة ودمائها الدافئة، ولا شيء غير ذلك.»
تلقف ستيفي العبارات المرعبة وسمع وهو يبلع ريقه، وعلى الفور، وكأنما ابتلع سما سريع المفعول، خر جالسا على عتبة باب المطبخ.
لم يظهر ميكايليس ما يدل على أنه سمع أي شيء. بدت شفتاه وكأن التصاقهما لم ينفك قط؛ ولم تهتز وجنتاه المكتنزتان اهتزازة واحدة. نظر بعينين مضطربتين إلى قبعته الدائرية الصلبة، ووضعها فوق رأسه الدائري. بدا وكأن جسده المستدير والسمين يطفو على ارتفاع منخفض بين الكراسي تحت كوع كارل يوندت المدبب. رفع الإرهابي العجوز يده التي تشبه المخالب مترددا، فأمال متبخترا قبعته المكسيكية السوداء التي غطت تجاويف وبروزات وجهه المنهك. مشى متباطئا وهو يضرب الأرض بعصاه مع كل خطوة. كان إخراجه من المنزل مسألة صعبة، إذ كان يتوقف، بين الفينة والأخرى، وكأنه يفكر في أمر ما، ولا يبدي استعدادا للحركة مرة أخرى حتى يدفعه ميكايليس إلى الأمام. أمسك صاحب الإفراج المشروط ذراعه بعناية أخوية؛ وخلفهما، تثاءب أوسيبون القوي، وهو يضع يده في جيوبه، تثاؤبا غامضا. منحته قبعة زرقاء، ذات قمة من جلد لامع، استقرت على نحو جيد فوق شعيراته الشقراء، مظهر بحار نرويجي سئم من العالم بعد مرح صاخب. رافق السيد فيرلوك ضيوفه في طريقهم إلى خارج المبنى حاسر الرأس، ومعطفه الثقيل مفتوح الأزرار، وعيناه تنظران إلى الأرض.
أغلق الباب خلفهم بقوة منضبطة، وأدار المفتاح، وأغلق بالمزلاج. لم يكن راضيا عن أصدقائه. ففي ضوء فلسفة السيد فلاديمير عن إلقاء القنابل، بدوا بلا جدوى على الإطلاق. كان دور السيد فيرلوك في السياسات الثورية هو المراقبة؛ ومن ثم لم يستطع أن يتخذ مبادرة الفعل دفعة واحدة، سواء في بيته أو في التجمعات الأكبر. كان عليه أن يتوخى الحذر. متأثرا بسخط رجل تجاوز الأربعين، مهددا فيما هو الأعز عليه - راحته وأمنه - سأل نفسه بازدراء ما الذي كان يمكن أن يتوقعه من مجموعة مثل كارل يوندت وميكايليس وأوسيبون.
انتوى السيد فيرلوك أن يطفئ مصباح الغاز المتقد في وسط المتجر، لكنه توقف إذ انحدر في هاوية التفكير في الأخلاق. ببصيرة نابعة من حالة مزاجية مشابهة، أعلن حكمه. جماعة كسولة؛ كارل يوندت هذا، كان رجلا تعهدته امرأة عجوز، امرأة كان قد أغراها منذ سنوات وأبعدها عن صديق، وبعد ذلك حاول أكثر من مرة أن يتخلص منها. لحسن حظ يوندت أن تلك المرأة ما برحت الإتيان إليه بين الفينة والأخرى، وإلا لما وجد أحدا يساعده على الخروج من الحافلة بجانب سياج جرين بارك، حيث كان هذا الشبح يبدأ جولة رياضة المشي في كل صباح يكون فيه الجو معتدلا. عندما ماتت تلك الحيزبون العجوز، كان من الممكن أن يختفي ذلك الشبح المتعجرف أيضا، عندها كانت ستصبح نهاية كارل يوندت متقد الحماس. كذلك تثبطت الروح المعنوية لدى السيد فيرلوك بتفاؤل ميكايليس، الذي احتوته السيدة العجوز الثرية التي كانت قد أخذت على عاتقها في الفترة الأخيرة أن ترسله إلى بيت لها في الريف. كان بوسع السجين السابق أن يتجول في الأزقة الظليلة لأيام في خمول حلو وشاعري. أما أوسيبون، فكان ذلك المتسول واثقا من أنه لن ينقصه شيء طالما أنه توجد في العالم فتيات ساذجات معهن دفاتر مدخرات بنكية. واستوعب السيد فيرلوك، الذي يتفق في مزاجه مع رفاقه، فروقا دقيقة في عقله حول قوة اختلافات غير مهمة. استوعبها بقناعة تامة لأن غريزة الاحترام الفطري كانت قوية بداخله ولم يتغلب عليها إلا بغضه لجميع أنواع العمل المعروفة، وهي نقيصة مزاجية تقاسمها مع نسبة كبيرة من الإصلاحيين الثوريين من وضع اجتماعي معين. فمن الواضح أن المرء لا يثور على مزايا ذلك الوضع والفرص التي يوفرها، وإنما على الثمن الذي يجب دفعه مقابل ذلك على هيئة أخلاق مقبولة وضبط للنفس وكد. غالبا ما يكون أكثر الثوريين أعداء الانضباط والكدح. يوجد أناس أيضا لديهم إحساس بأن ثمن العدالة يبدو باهظا للغاية ولا يخلو من القبح والقمع والقلق والمهانة والابتزاز وعدم التسامح. أولئك هم المتعصبون. النسبة الباقية من المتمردين على المجتمع يسوقهم التكبر؛ وهو أصل كل الأوهام سواء النبيلة أو الحقيرة؛ وهو رفيق الشعراء والمصلحين والدجالين والقادة الملهمين والمخربين.
هوى السيد فيرلوك لمدة دقيقة كاملة في هاوية التأمل، ولكنه لم يصل إلى عمق تلك الأفكار المجردة. ربما لم يكن قادرا على ذلك. لم يكن لديه الوقت على أية حال. خرج من تلك الهاوية بطريقة مؤلمة لما تذكر فجأة السيد فلاديمير، وهو رفيق آخر من رفاقه، والذي تمكن، بحكم التقارب المعنوي الكبير، من الحكم على الأمور حكما صحيحا. اعتبره خطيرا. تسلل شيء من الحسد إلى أفكاره. كان التسكع حسنا لهؤلاء الرجال، الذين لم يعرفوا السيد فلاديمير، وكان لديهم نساء يلجئون إليهن؛ أما هو فكان لديه امرأة يعولها ...
عند هذه المرحلة، وبترابط بسيط بين الأفكار، واجهت السيد فيرلوك ضرورة أن يأوي إلى الفراش في وقت ما في ذلك المساء. فلماذا لا يخلد إلى النوم الآن وفورا؟ خرجت من صدره تنهيدة. لم تكن تلك الضرورة عادة ممتعة له كما ينبغي أن تكون لرجل في عمره ومزاجه. خشي من شيطان الأرق؛ إذ شعر بأنه يختص به لنفسه اليوم. رفع ذراعه، وأطفأ مصباح الغاز المتوهج فوق رأسه.
دخل بصيص نور من خلال باب غرفة المعيشة إلى جزء من المتجر خلف منضدة البيع. أتاح هذا البصيص للسيد فيرلوك أن يتأكد من نظرة واحدة من عدد العملات الفضية في الصندوق. كانت بضع عملات فحسب؛ ولأول مرة منذ افتتح متجره أجرى معاينة لقيمته التجارية. لم تكن هذه المعاينة إيجابية. فلم يكن قد دخل مجال التجارة من أجل أسباب تجارية. لقد دخل في هذا الدرب الغريب من الأعمال نتيجة ميل غريزي تجاه المعاملات المشبوهة التي يسهل فيها كسب الأموال. علاوة على ذلك، لم تبعده هذه الأعمال عن عالمه، العالم الذي تراقبه الشرطة. على النقيض من ذلك، منحه هذا المتجر موقفا معروفا ومعلنا في ذلك العالم، ولما كانت للسيد فيرلوك علاقات غير معروفة جعلته معروفا لدى الشرطة ولكن من دون أن يأبه لذلك، فقد منحه هذا ميزة واضحة في هذا الوضع. ولكن المتجر في حد ذاته لم يكن وسيلة كافية لكسب الرزق.
أخرج صندوق النقود من الدرج، واستدار كي يغادر المتجر، وعندئذ أدرك أن ستيفي كان لا يزال في الطابق السفلي.
ماذا يفعل هناك بحق السماء؟ تساءل السيد فيرلوك بينه وبين نفسه. ما معنى هذه التصرفات الغريبة؟ نظر بارتياب إلى صهره، ولكنه لم يسأله عن شيء. اقتصر تواصل السيد فيرلوك مع ستيفي على التمتمة المعتادة في الصباح بعد الإفطار، بأن يطلب «حذاءه» وحتى هذا كان عموما طلبا أو أمرا مباشرا أكثر من كونه تواصلا. أدرك السيد فيرلوك ببعض الدهشة أنه لم يعرف حقا ماذا يقول لستيفي. وقف ساكنا في وسط غرفة المعيشة ونظر إلى المطبخ في صمت. كذلك لم يعرف ما الذي قد يحدث لو تلفظ بأي شيء. وبدا هذا للسيد فيرلوك غريبا جدا في ضوء الحقيقة التي أدركها فجأة وهي أنه كان يجب أن ينهض بأعباء هذا الفتى أيضا. وحتى ذلك الحين، لم يكن قد فكر لحظة في ذلك الجانب من وجود ستيفي.
ناپیژندل شوی مخ