ثناء على الكتاب
شكر وتقدير
مقدمة محرر السلسلة
تصدير
تمهيد
1 - المشهد الأول
2 - المشهد الثاني
3 - المشهد الثالث
4 - المشهد الرابع
5 - هل كانت هناك «عاصفة مثالية» من الكوارث؟
خاتمة
كلمة أخيرة بحثا عن دليل دامغ
الشخوص الدرامية
مصادر الصور والجداول
ملاحظات
المراجع
ثناء على الكتاب
شكر وتقدير
مقدمة محرر السلسلة
تصدير
تمهيد
1 - المشهد الأول
2 - المشهد الثاني
3 - المشهد الثالث
4 - المشهد الرابع
5 - هل كانت هناك «عاصفة مثالية» من الكوارث؟
خاتمة
كلمة أخيرة بحثا عن دليل دامغ
الشخوص الدرامية
مصادر الصور والجداول
ملاحظات
المراجع
1177ق.م.
1177ق.م.
عام انهيار
الحضارة
تأليف
إريك إتش كلاين
ترجمة
محمد حامد درويش
مراجعة
مصطفى محمد فؤاد
ثناء على الكتاب
هذا الكتاب الآسر يصف واحدة من أكثر العمليات إثارة وغموضا في تاريخ البشرية؛ وهي انهيار حضارات العصر البرونزي. يقودنا كلاين خلال الأحداث التي جرت منذ ثلاثة آلاف عام، ولكن ونحن نتبعه في هذه الرحلة القصيرة الباعثة على الفضول، تخطر ببالنا تساؤلات محيرة مستمرة: كيف يمكن لحضارات مزدهرة أن تختفي؟ وهل يمكن أن يحدث هذا مجددا لنا؟
إسرائيل فنكلشتاين، المؤلف المشارك لكتاب «إماطة اللثام عن الكتاب المقدس: رؤية جديدة لعلم الآثار حول إسرائيل القديمة وأصول نصوصها المقدسة»
كتاب «1177ق.م» يحكي لنا قصة واحد من أعظم ألغاز التاريخ ... [إنه] أفضل سرد حتى الآن لواحدة من نقاط التحول في التاريخ.
إيان موريس، مؤلف كتاب «لماذا يسود الغرب في الوقت الراهن؟»
القرن الثاني عشر قبل الميلاد هو إحدى الحقب الرئيسية في تاريخ العالم؛ فقد انهارت الإمبراطوريات والممالك التي كانت مسيطرة في غرب آسيا وشرق المتوسط في العصر البرونزي المتأخر.
مجلة «تشويس»
كلاين يستكشف مجموعة واسعة من المتغيرات التي يمكن أن تكون قد أدت إلى اختلال المجتمع في هذه الحقبة، ومنها الزلازل، والمجاعات، وموجات الجفاف، والحروب، وخاصة عمليات الغزو بواسطة «شعوب البحر».
مجلة «بابليشرز ويكلي»
عرض مفصل وسهل الاستيعاب ... يقدم للطلبة والشخص العادي المهتم بالآثار تصورا للصورة الثرية التي تبرز من النقاشات من بين الأطلال.
سكوت مكليمي، «إنسايد هاير إيد»
في هذا الكتاب الجديد الممتع، وضع إريك إتش كلاين لنفسه مهمة طموحة؛ وهي أنه يجب أن يثقف عامة القراء حول ثراء وقوة حضارات شرق المتوسط في العصر البرونزي، وليس ذلك فحسب، بل عليه بعد ذلك أن يجعل قراءه يهتمون بمعرفة أنه، في وقت ما حوالي عام 1200ق.م، جابهت هذه الإمبراطوريات، والممالك، والمدن مجموعة من الكوارث التي لم تتعاف منها مطلقا.
سوزان كريستول، مجلة «ذا ويكلي ستاندرد»
مثال رائع على المعرفة الأكاديمية المكتوبة لغير المختصين. يجمع كلاين بوضوح خيوط القصة المثيرة للاهتمام عن التفاعلات بين الإمبراطوريات الكبرى للعصر للبرونزي المتأخر ويقدم نظرية منطقية تفسر السبب في أنها تبدو وكأنها تبخرت بسرعة كبخار الماء في عصر يوم حار.
فريد رايس، مجلة «سان دييجو جويش وورلد»
يكشف عمل كلاين عن أوجه تشابه مخيفة بين الجغرافيا السياسية للسنوات الأولى من القرن الثاني عشر قبل الميلاد والقرن الحادي والعشرين الذي نحيا فيه اليوم. كتاب «1177ق.م: عام انهيار الحضارة» هو كتاب تاريخ، ولكنه يبدو كما لو كان رواية بوليسية جيدة. يجتذب كلاين القراء إلى حكايته، كاشفا عن مفاجآت خلال سرده لها. إنها حكاية مشوقة للغاية نظرا لكونها حقيقية، ولمطابقتها لمقتضى حال عالمنا المعاصر.
مارك لارداس، صحيفة «ذا ديلي نيوز» (جالفستون، تكساس)
لقد كتب كلاين واحدا من أكثر كتب هذا العام إثارة للاهتمام.
جونا ليندرينج، صحيفة «إن آر سي هاندلزبلات»
كتاب قيم للغاية للباحثين، ومع ذلك ... يسهل على عموم القراء فهمه.
ريتشارد جابرييل، مجلة «ميليتيري هيستوري كوارترلي»
من الواضح أن كلاين يملك زمام السجل النصي وقراءته له هي مصدر القوة الحقيقية للكتاب.
إيه برنارد ناب، مجلة «هيستوري توداي» [الكتاب] مكتوب بأسلوب مفعم بالحيوية وشيق.
مايكل مكجاها، دورية «ميدل إيست ميديا آند بوك ريفيوز»
كتاب «1177ق.م: عام انهيار الحضارة» هو تحليل متعمق لواحد من أعظم ألغاز التاريخ البشري ... أوصي بقراءته بشدة.
جيمس إيه كوكس، مؤسسة «ميدويست بوك ريفيو»
هذا العمل يدمج ببراعة الحالة الراهنة للبحث في إعادة تقييم مقبولة ... والأروع من ذلك هو الحبكة القائمة على أوجه التشابه بين المأزق الذي كانت فيه هذه المنطقة منذ ثلاثة آلاف سنة والذي هي فيه حاليا.
باربرا كيفولا، دورية «ذي أمريكان هيستوريكال ريفيو»
يوجد القليل جدا من الأعمال المنشورة التي تركز على الأحداث المضطربة التي وقعت في شرق المتوسط حوالي عام 1200ق.م ... يبرز كتاب كلاين «1177ق.م: عام انهيار الحضارة» وسط بقية الكتب بوصفه واحدا من أفضل الكتب وأغزرها تدقيقا من الناحية البحثية ... هذا الكتاب مقدم على هيئة رواية بوليسية ... الأمر المؤكد هو أنك ما إن تبدأ قراءته، فلن ترغب في أن تدعه من يدك حتى تنهيه.
مجلة «إينشانت أوريجينز»
قصة بوليسية آسرة تتضمن قرائن تتبعها وأدلة تحللها.
إس جي، مجلة «إينشانت إيجيبت»
إنه كتاب لا غنى عنه.
توماس إف برتونيو، مدونة «بروسلز جورنال»
عمل مكتوب بحرفية شديدة، ويتضمن حججا معقولة للغاية، وذو قيمة ممتازة، وسيحدد أولويات أطر العمل لدراسات العصر البرونزي المتأخر لفترة قادمة.
بيتر جزنز، مؤسسة «كلاسيكس فور أول» [عمل] مبهر ... يتجنب الملل الذي تشعر به مع الكثير من الكتاب الأكاديميين.
بروس بيريسفورد، مخرج أفلام
كتب إريك إتش كلاين عملا ذا قيمة بحثية عظيمة، ولكنه كتبه بطريقة لا تجعل غير المتخصص ... يفهمه فحسب، بل يستوعبه استيعابا تاما أيضا.
دون فينسنت، مؤسسة «أوبن هيستوري»
أهدي هذا الكتاب إلى جيمس دي مولي،
الذي أمضى في مناقشة القضايا المعروضة في هذا الكتاب،
وتقديمها لطلابه،
ما يقارب نصف القرن.
شكر وتقدير
كان لدي رغبة منذ وقت طويل في أن أكتب كتابا مثل هذا؛ لذلك، أولا وقبل أي شيء، أتوجه بخالص شكري لروب تيمبيو، الذي جعل هذا المشروع يبدأ ثم ساعد بهمة ونشاط في تعهد المؤلف مرورا به عبر المتاعب المتزايدة المعتادة وصولا إلى مرحلة الطباعة. كذلك أبدى صبرا هائلا في انتظار ظهور المؤلف النهائي، في وقت متأخر بعض الشيء عن الموعد النهائي المتوقع الأصلي. ومن دواعي سروري البالغ أن يقع الاختيار على الكتاب ليكون أول كتاب في السلسلة الجديدة؛ «نقاط تحول في التاريخ القديم» التي تنشرها دار نشر جامعة برينستون، تحت إشراف باري ستراوس وروب تيمبيو.
كما أنني مدين بالفضل لصندوق التسهيلات المالية الجامعية التابع لجامعة جورج واشنطن على صرف راتب صيفي لي، وكذلك للعديد من الأصدقاء والزملاء، ومنهم عساف ياسور-لانداو، وإسرائيل فنكلشتاين، وديفيد أوسيشكين، وماريو ليفيراني، وكيفن ماكاف، ورينهارد جنج، وسيمال بولاك، وشيرلي بن-دور إفيان، وسارة باركاك، وإيلين موريس، وجيفري بلومستر، الذين أجريت معهم محادثات مفيدة عن موضوعات ذات صلة بالكتاب. أود أيضا أن أتوجه بشكر خاص إلى كارول بيل، ورينهارد جنج، وكيفن ماكاف، وجانا ميناروفا، وجاريث روبرتس، وكيم شيلتون، ونيل سيلبرمان، وعساف ياسور-لانداو على إرسالهم لمواد علمية عند طلبي إياها منهم أو تقديمهم إجابات مفصلة عن أسئلة معينة؛ وراندي هيلم، ولويز هيتشكوك، وأماندا بوداني، وباري ستراوس، وجيم ويست، ومراجعين مجهولين على قراءة المؤلف بالكامل والتعليق عليه. أتوجه بالشكر أيضا إلى الجمعية الجغرافية الوطنية (ناشيونال جيوجرافيك)، ومعهد الدراسات الشرقية التابع لجامعة شيكاجو، ومتحف المتروبوليتان للفنون، وجمعية استكشاف مصر، على الإذن بعرض بعض الأشكال التي تظهر في هذا الكتاب.
الكثير من المادة المحتواة في هذا الكتاب تمثل معالجة محدثة ومبسطة لأبحاثي ومنشوراتي عن العلاقات الدولية أثناء العصر البرونزي المتأخر التي ظهرت على مدى العقدين الماضيين أو أكثر، بالإضافة بالطبع لأبحاث واستنتاجات الكثير من الباحثين الآخرين؛ لذا أتوجه أيضا بالشكر المقترن بالامتنان لمحرري وناشري الدوريات المتنوعة والأعمال المحررة التي ظهر فيها بعض مقالاتي ومنشوراتي السابقة ذات الصلة، على السماح لي بإعادة عرض تلك المادة في هذا الكتاب، على الرغم من أنها غالبا ما عدلت وحدثت. ومن بين هؤلاء أتوجه بشكر خاص إلى ديفيد دافيسون من دار نشر تيمبوس ريباراتوم/أركيوبريس، وكذلك جاك مينهارت ومجلة «أركيولوجي أوديسي»؛ وجيمس آر ماثيو ومجلة «إكسبيديشن»؛ وفيرجينيا ويب وحولية «آنيوال أوف ذا بريتش سكول آت أثنز»؛ ومارك كوهين ودار نشر سي دي إل؛ وتوم بالايما وكتاب «مينوس»؛ وروبير لافيني وسلسلة «إيجه»؛ وإد وايت ودار نشر ريكورديد بوكس/سلسلة «الباحث المعاصر»؛ وجاريت براون والجمعية الجغرافية الوطنية؛ وأنجيلوس تشانيوتيس ومارك تشافالاس، وآخرين. لقد بذلت كل ما في وسعي لكي أوثق بوضوح، داخل الحواشي وقائمة المراجع، المنشورات التي يمكن العثور فيها على مناقشاتي السابقة للبيانات المعروضة في هذا الكتاب. وأي صياغة أو اقتباس من أي نوع، سواء من منشوراتي السابقة أو من منشورات أي باحث آخر، غير منسوبة إلى مصدرها هي محض سهو غير مقصود وسوف تصحح في الطبعات المستقبلية، حسب الضرورة.
وأخيرا، ولكن بالتأكيد ليس آخرا، أود أن أشكر زوجتي، ديان، على الكثير من المحادثات المحفزة على التفكير حول جوانب متعلقة بمادة هذا الكتاب. فمن جملة من المساهمات الأخرى، أطلعتني على موضوعي تحليل الشبكات الاجتماعية ونظرية التعقيد، وأنشأت بعضا من الأشكال المستخدمة في الكتاب. أود أيضا أن أشكرها هي وأبنائي على صبرهم بينما كنت أعمل على هذا الكتاب. وكما هو الحال دائما، استفاد النص من التحرير المحكم والتعليقات النقدية لأبي، مارتن جيه كلاين.
خريطة حضارات العصر البرونزي المتأخر في إيجه وشرق المتوسط.
مقدمة محرر السلسلة
هذا الكتاب هو جزء من سلسلة تسمى «نقاط تحول في التاريخ القديم». كل كتاب في السلسلة يتناول حدثا مهما أو لحظة حاسمة في العالم القديم. هذه النقاط، التي دائما ما اتسمت بالاضطراب وكثيرا بدرامية وقائعها، كانت نقاطا اتخذ فيها التاريخ منحى جديدا. وهي لحظات ذات أهمية، سواء كانت ذات شهرة أو منسية. وينصب تركيزنا على أسبابها وكيفيتها، فضلا عن توقيتها الزمني. مؤلفو السلسلة هم علماء على دراية بكيفية سرد قصة؛ ورواة يمتلكون في جعبتهم أحدث الأبحاث.
تعكس سلسلة «نقاط تحول في التاريخ القديم» اتجاهات واسعة النطاق في دراسة العالم القديم. يدمج كل كتاب علم الآثار القديمة مع النصوص الكلاسيكية؛ أو بعبارة أخرى، يمزج بين الأدلة المادية والثقافة الأدبية. وتتناول الكتب حياة النخبة إلى جانب تناولها لحياة العامة من الناس. ولا تحصر السلسلة نفسها في تناول العالم اليوناني الروماني الذي يشكل، مع ذلك، صلبها بالتأكيد. فنحن نفحص، إلى جانب شعبي اليونان وروما الجارين، الشعوب غير اليونانية ولا الرومانية التي عاشت على أرض احتلها اليونان والرومان، وحضارات وشعوب العالم القديم الأوسع، في الشرق وكذلك الغرب .
يعد وقتنا الحالي وقتا رائعا لاستكشاف التاريخ القديم . فنحن اليوم، أكثر من أي وقت مضى، ندرك أن فهم الماضي القديم يعتبر أساسيا لفهمنا للحاضر، كما أنه أمر جذاب في حد ذاته.
كان لأحداث قليلة تأثير على تطور العالم القديم يفوق تأثير حدث انتهاء العصر البرونزي. كان ذلك هو الوقت الذي انهارت فيه الممالك ودويلات المدن العظيمة التي كانت موجودة فيما قبل التاريخ. وخلفت وراءها أبنية أثرية مذهلة كالأهرامات، وحكايات نتذكرها بصعوبة مثل الحكايات التي انتهى الأمر إلى إعادة صياغتها في هيئة قصة حرب طروادة البطولية. لأولئك الذين عاشوا فترة انتهاء العصر البرونزي، بدت الفاجعة وكأنها نهاية العالم. ومع ذلك فإن نهاية دول العصر البرونزي العظيمة الهائلة الحدود فتحت الباب على مصراعيه أمام ظهور عالم جديد على نطاق أكثر إنسانية، وهو عالم الألفية الأولى قبل الميلاد، العالم الذي ما زلنا نعيش فيه إلى يومنا هذا.
يبدأ كتاب «1177ق.م: عام انهيار الحضارة» بحدث غزو شعوب البحر لمصر سنة 1177 وينتقل من تلك النقطة إلى أماكن أخرى وسنوات سابقة. فيأخذنا إلى العصر البرونزي المتأخر في الأيام المجيدة للقرن الخامس عشر قبل الميلاد، ويستعرض مجموعة مختلفة من الحضارات من بلاد الرافدين إلى اليونان، ومن إسرائيل إلى الحيثيين. وبعد ذلك ينطلق عبر القرون إلى الطرائق، والشخصيات، والأحداث التي قوضت عالما. ثمة براعة في تحري الأدلة تظهر في سائر الكتاب. وتتسم التفاصيل المعروضة بالضخامة كما في التفاصيل الواردة عن خراب مدينة الميناء السورية أوغاريت حوالي 1190ق.م، وبالتعمق كما في ذكر تفصيلة تصوير جمجمة الملك توت عنخ آمون باستخدام الأشعة المقطعية والعدوى التي أصابته، بعد كسر ساقه، والتي من المحتمل أن تكون هي ما أدت إلى وفاته.
يستكشف إريك كلاين، بجرأة وذكاء وحس درامي، الأصداء ما بين العصر البرونزي المتأخر وزمننا، بدءا من أزمة اقتصادية وتغير مناخي إلى حرب في الشرق الأوسط. قد لا يكون عام 1177ق.م معروفا للكثير من الناس، لكنه يستحق أن يكون كذلك.
باري ستراوس
تصدير
إن اقتصاد اليونان في حالة يرثى لها. واجتاحت الثورات ليبيا، وسوريا، ومصر، مع وجود دخلاء ومحاربين أجانب يؤججون نيران الصراعات داخلها. وتركيا تخشى أن تتورط في تلك الصراعات، وكذلك إسرائيل. والأردن تعج باللاجئين. وإيران تبدي نزعة عدوانية، وتطلق التهديدات، بينما العراق يعيش حالة من الاضطراب. أليس هذا هو الحال في سنة 2013 ميلاديا؟ بلى، ولكنه كان أيضا الوضع في سنة 1177ق.م، منذ أكثر من ثلاثة آلاف عام مضت، عندما انهارت حضارات منطقة البحر المتوسط في العصر البرونزي الواحدة تلو الأخرى، مغيرة إلى الأبد مسار ومستقبل العالم الغربي. لقد كانت هذه لحظة محورية في التاريخ، مثلت للعالم القديم نقطة تحول.
استمر العصر البرونزي في منطقة إيجه، ومصر، والشرق الأدنى ما يقرب من ألفي عام، من سنة 3000ق.م تقريبا إلى بعيد سنة 1200ق.م وعندما حانت النهاية، بعد قرون من التطور الثقافي والتكنولوجي، انتهى الحال بغالبية عالم أقاليم البحر المتوسط المتحضر والدولي إلى نهاية مأساوية في مساحة شاسعة تمتد من اليونان وإيطاليا في الغرب إلى مصر، ومنطقة كنعان، وبلاد الرافدين في الشرق. وسرعان ما انهارت إمبراطوريات كبيرة وممالك صغيرة، كانت قد استغرقت قرونا لتتطور. وبنهايتها حلت فترة انتقالية، اعتبرها الباحثون فيما مضى أول عصر ظلام يمر به العالم. ومرت قرون قبل أن تظهر نهضة ثقافية جديدة في اليونان والمناطق المتضررة الأخرى، ممهدة الطريق لتطور المجتمع الغربي على الصورة التي نعرفه عليها في وقتنا الحاضر.
على الرغم من أن هذا الكتاب يعنى في المقام الأول بانهيار حضارات العصر البرونزي والعوامل التي أدت إلى ذلك الانهيار منذ أكثر من ثلاثة آلاف سنة مضت، فإنه قد يتضمن دروسا يمكن أن تستفيد منها مجتمعاتنا المعاصرة ذات الطابع العالمي والمتجاوزة للحدود الوطنية. قد يخال للبعض أنه لا يمكن أن تكون هناك مقارنة بين عالم العصر البرونزي المتأخر وثقافتنا الحالية المعتمدة على التكنولوجيا. ومع ذلك، فثمة ما يكفي من أوجه التشابه بين الاثنين - التي تشمل البعثات الدبلوماسية وحظر التبادل التجاري الاقتصادي؛ وعمليات الخطف والفدية، وعمليات القتل والاغتيالات الملكية؛ والأعراس الفخمة وحالات الطلاق غير السارة؛ والمؤامرات الدولية والتضليل العسكري المتعمد؛ والتغير المناخي والجفاف؛ وحتى تحطم سفينة أو اثنتين - ما يجعل من النظر بمزيد من التدقيق في أحداث، وأشخاص، وأماكن حقبة ما كانت موجودة منذ أكثر من ثلاثة آلاف عام؛ أمرا يزيد عن كونه مجرد عملية أكاديمية متعلقة بدراسة التاريخ القديم.
1
في الاقتصاد العالمي المعاصر، وفي عالم عصفت به مؤخرا الزلازل وأمواج تسونامي في اليابان وثورات «الربيع العربي» الديمقراطية في مصر، وتونس، وليبيا، وسوريا، واليمن، تتشابك ثروات واستثمارات الولايات المتحدة وأوروبا تشابكا لا انفصام له في إطار نظام عالمي يشمل أيضا شرق آسيا ودول الشرق الأوسط المنتجة للنفط؛ ومن ثم، فإن من المحتمل وجود الكثير من الدروس التي يمكن استخلاصها من فحص البقايا المتناثرة لحضارات كانت هي الأخرى متداخلة وانهارت منذ أكثر من ثلاثة آلاف عام.
إن مناقشة «انهيار الحضارات» وإجراء مقارنات بشأن بزوغ وأفول الإمبراطوريات ليست فكرة جديدة؛ فالباحثون يقومون بذلك منذ القرن الثامن عشر على الأقل، عندما كتب إدوارد جيبون عن سقوط الإمبراطورية الرومانية. وثمة مثال أحدث على ذلك هو كتاب جاريد دياموند «الانهيار».
2
غير أن هؤلاء المؤلفين كانوا يدرسون كيفية زوال إمبراطورية منفردة أو حضارة منفردة؛ كالرومان، والمايا، والمغول، وغيرهم. أما في هذا الكتاب، فنحن ندرس نظاما عالميا معولما يضم حضارات متعددة تتفاعل جميعها فيما بينها ويعتمد بعضها على بعض على الأقل جزئيا. لا يعرف إلا حالات قليلة في التاريخ من هذا النوع من الأنظمة العالمية المعولمة؛ والحالة التي كانت قائمة أثناء العصر البرونزي المتأخر والحالة القائمة في يومنا هذا هما من أوضح الأمثلة، وأوجه التشابه - قد تكون أوجه المقارنة عبارة أفضل - بينهما أحيانا ما تكون مثيرة للاهتمام.
على سبيل المثال لا الحصر، مؤخرا لاحظت كارول بيل، وهي باحثة أكاديمية بريطانية، أن «الأهمية الاستراتيجية للقصدير في العصر البرونزي المتأخر ... ربما لم تكن تختلف كثيرا عن أهمية النفط الخام في هذه الأيام.»
3
في ذلك الوقت، كان القصدير متاحا بكميات كبيرة فقط من مناجم معينة في منطقة بدخشان في أفغانستان وكان يتعين جلبه برا من هناك إلى مواقع في بلاد الرافدين (العراق الحالية) وشمال سوريا، ومن هناك كان يوزع إلى نقاط أبعد في الشمال، أو الجنوب، أو الغرب، بما في ذلك نقله عبر البحر إلى منطقة إيجه. تتابع بيل قائلة: «لا بد وأن أمر توفر ما يكفي من القصدير لإنتاج ... برونز ذي جودة تسمح باستخدامه في تصنيع الأسلحة قد شغل فكر الملك العظيم في مدينة حاتوسا [عاصمة الحيثيين] والفرعون في طيبة بنفس الطريقة التي يشغل بها أمر تزويد قائد السيارة الرياضية المتعددة الأغراض الأمريكي بالبنزين بتكلفة معقولة ذهن أي رئيس أمريكي هذه الأيام!»
4
بدأت سوزان شيرات، وهي عالمة آثار كانت تعمل في السابق في المتحف الأشمولي في أكسفورد وحاليا في جامعة شيفيلد، في تأييد مثل هذه المقارنة منذ عقد مضى. فكما أوردت، يوجد بعض «أوجه المقارنة المفيدة حقا» بين عالم سنة 1200ق.م وعالمنا اليوم، والتي تشمل ازديادا في الانقسام السياسي، والاجتماعي، والاقتصادي، بالإضافة إلى إجراء عمليات تبادل مباشر على «مستويات اجتماعية غير مسبوقة وعبر مسافات غير مسبوقة.» أوثق ملاحظاتها علاقة هي الملاحظة المتعلقة بأن الوضع في نهاية العصر البرونزي المتأخر يتشابه مع «اقتصادنا وثقافتنا العالميين اللذين يتسمان بأنهما يزدادان تجانسا ومع ذلك يتعذر التحكم فيهما، من ناحية أن ... التقلبات السياسية في جانب من العالم يمكن أن تؤثر تأثيرا جذريا على اقتصاد مناطق تبعد عنه آلاف الأميال.»
5
ذات مرة قال المؤرخ فرنان بروديل: «قصة العصر البرونزي يمكن بسهولة كتابتها على نحو درامي؛ فهي مليئة بعمليات الغزو، والحروب، والنهب، والكوارث السياسية والانهيارات الاقتصادية الطويلة الأمد، وهي تمثل «أول الصدامات بين الشعوب».» ويرى أيضا أنه يمكن كتابة تاريخ العصر البرونزي «ليس فقط على هيئة قصة بطولية تقوم على الدراما والعنف، وإنما على هيئة قصة تضم صلات أكثر ودا: تجارية، ودبلوماسية (حتى في هذا الوقت)، وفي المقام الأول ثقافية.»
6
لاقت اقتراحات بروديل آذانا مصغية، وها أنا هنا أقدم قصة (أو بالأحرى قصص) العصر البرونزي المتأخر على هيئة مسرحية من أربعة مشاهد، مع سرد مناسب واسترجاعات فنية ملائمة الغرض منها تقديم سياقات مناسبة لتقديم بعض الشخصيات الفاعلة الرئيسية، مثلما ظهرت لأول مرة على مسرح الأحداث العالمي ثم خرجت؛ من توداليا الحيثي وتوشراتا الميتاني إلى أمنحتب الثالث المصري وآشور أوباليط الآشوري (جرى توفير مسرد، تحت عنوان «الشخوص الدرامية» في نهاية الكتاب، لأولئك الذين يودون أن يتمكنوا من معرفة الأسماء والتواريخ).
ومع ذلك، فسردنا سيكون أيضا أشبه بقصة بوليسية، بما يحوي من تغيرات وتحولات غير متوقعة في الأحداث، وأدلة كاذبة، وخيوط مهمة. وأقتبس هنا من هيركيول بوارو، المحقق البلجيكي الأسطوري الذي أبدعته قريحة أجاثا كريستي، التي كانت هي نفسها متزوجة من عالم آثار،
7
قوله: إننا سنحتاج إلى استخدام «خلايا عقلنا الرمادية الصغيرة» حتى ننسج معا الخيوط الشتى للأدلة في نهاية سردنا للوقائع، في مسعانا للإجابة على السؤال المتعلق بالسبب وراء الانهيار الفجائي لنظام دولي مستقر بعد ازدهاره لقرون.
أيضا، بغية أن نستوعب حقا كنه ما انهار سنة 1177ق.م والسبب وراء كونها لحظة حاسمة للغاية في التاريخ القديم، يجب أن نبدأ من زمن أسبق، مثلما قد يود المرء أن يرجع إلى القرن الثامن عشر الميلادي ويبدأ من ذروة عصر التنوير، والثورة الصناعية، وتأسيس الولايات المتحدة، حتى يستوعب حقا المنشأ الذي أتى منه عالم اليوم الذي تسوده العولمة. ومع أن اهتمامي الرئيسي منصب على دراسة الأسباب المحتملة لانهيار حضارات العصر البرونزي في هذه المنطقة، فإنني أطرح أيضا السؤال حول ماهية ما خسره العالم في تلك اللحظة المحورية، عندما أخذت تنهار إمبراطوريات وممالك الألفية الثانية قبل الميلاد، وإلى أي مدى تراجعت الحضارة، في بعض الأماكن لقرون، في هذا الجزء من العالم، وتغيرت تماما بلا رجعة. كان حجم الكارثة هائلا؛ إذ كانت خسارة لن يرى العالم مثلها ثانية حتى انهيار الإمبراطورية الرومانية بعد ذلك بأكثر من ألف وخمسمائة سنة.
تمهيد
انهيار الحضارات: 1177ق.م
دخل المحاربون المشهد العالمي وتحركوا بسرعة، مخلفين في أعقابهم الموت والدمار. يشير الباحثون المعاصرون إليهم جملة بمسمى «شعوب البحر»، لكن المصريين الذين سجلوا هجومهم على مصر لم يستخدموا هذا المصطلح أبدا، محددين هويتهم عوضا عن ذلك باعتبارهم مجموعات منفصلة تعمل معا: الفلستيون، والتجيكر، والشيكليش، والشاردانا، والدانونا ، والويشيش؛ وهي أسماء أجنبية الوقع لأناس بملامح أجنبية.
1
بخلاف ما تخبرنا به السجلات المصرية، فنحن لا نعرف عن هؤلاء الناس سوى القليل. إننا لسنا متأكدين من المكان الذي جاءت منه شعوب البحر، ربما كان صقلية، وسردينيا، وإيطاليا، حسب إحدى الفرضيات، أو ربما منطقة إيجه أو غرب الأناضول، أو من المحتمل حتى أن يكونوا قد جاءوا من قبرص أو شرق المتوسط.
2
لم يتعرف أبدا على أي موقع قديم باعتباره مكان منشئهم أو مغادرتهم. إننا نعتقد أنهم كانوا يتنقلون باستمرار من موقع إلى آخر، آخذين في اجتياح البلاد والممالك أثناء مرورهم بها. وحسب النصوص المصرية، فإنهم أقاموا معسكرا في سوريا قبل الاستمرار بحذاء ساحل منطقة كنعان (التي تتضمن أجزاء من سوريا الحالية، ولبنان، وإسرائيل) وإلى دلتا نيل مصر.
كان العام هو عام 1177ق.م، وكان العام الثامن لحكم الفرعون رمسيس الثالث.
3
وحسب المصريين القدماء، وحسب أحدث الدلائل الأثرية، أتى بعض شعوب البحر عبر اليابسة، في حين أتى البعض الآخر عبر البحر.
4
لم يكن ثمة ملابس موحدة ولا أدوات عسكرية ملمعة. تصور الرسوم القديمة مجموعة منهم بلباس رأس ذي ريش، بينما كانت ترتدي مجموعة أخرى أغطية رأس من الجماجم؛ بل إن آخرين ارتدوا خوذات ذات قرون أو مضوا حاسري الرءوس. وكان لبعضهم لحيات قصيرة مدببة وارتدوا إزارا قصيرا، وكانوا إما عراة الصدر وإما مرتدين سترة؛ وكان آخرون حليقي الوجه وارتدوا ملابس أطول، تكاد تماثل التنانير. تشير هذه الملاحظات إلى أن شعوب البحر ضموا مجموعات متنوعة من مناطق جغرافية مختلفة وثقافات مختلفة. لقد جاءوا، متسلحين بسيوف برونزية حادة، ورماح خشبية ذات رءوس معدنية لامعة، وأقواس وسهام، في قوارب، ومركبات، وعربات تجرها الثيران، وعجلات حربية. وعلى الرغم من أنني اتخذت من عام 1177ق.م تاريخا محوريا، فإننا نعرف أن الغزاة جاءوا في موجات على مدى فترة طويلة من الزمن. وأحيانا كان المحاربون يأتون بمفردهم، وفي أحيان أخرى كانوا يصطحبون معهم عائلاتهم.
شكل 1: تصوير لشعوب البحر على هيئة أسرى في مدينة هابو (نقلا عن كتاب «مدينة هابو»، المجلد الأول، اللوح الجداري رقم 44؛ بإذن من معهد الدراسات الشرقية التابع لجامعة شيكاجو).
حسب نقوش رمسيس، لم يكن بوسع أي بلد مجابهة هذه الجماعات البشرية الغازية. كانت المقاومة غير مجدية. سقطت القوى العظمى في ذلك الوقت - الحيثيون، والميسينيون، والكنعانيون، والقبارصة، وآخرون - واحدة تلو الأخرى. فر بعض الناجين من المذابح؛ وتجمع آخرون في خرائب مدنهم التي كانت مجيدة يوما ما؛ بل إن آخرين انضموا إلى الغزاة، فكثروا أعدادهم وزادوا من التعقيدات الواضحة لتكوين حشد الغزاة. كانت كل مجموعة من شعوب البحر ترتحل، فيما يبدو، لأسباب متفردة لدى كل واحدة منها. ربما كان ما حفز البعض هو الرغبة في الغنائم أو العبيد؛ وربما أجبرت آخرين الضغوط الناجمة عن زيادة السكان على النزوح شرقا من أراضيهم في الغرب.
كتب رمسيس بإيجاز على جدران معبده الجنائزي في مدينة هابو، بالقرب من وادي الملوك:
أعدت البلاد الأجنبية مؤامرة في جزرها. وفجأة ودونما إنذار انتزعوا البلدان ودمروها في خضم المعارك الحامية الوطيس. ولم يستطع أي بلد أن يصمد في مواجهة جيوشهم، فاغتصبت البلدان بدءا من خاتي، وكودي، وكركميش، وأرزاوا، وألشية وما بعدها دفعة واحدة. [لقد أقاموا] معسكرهم في مكان واحد في عمورو، والتي قتلوا شعبها، وكان حال أرضها كحال أرض خربة لم يكن ثمة وجود لبشر عليها من قبل. كانوا آخذين في التقدم صوب مصر، بينما كانت النار معدة لهم. كان تحالفهم يتكون من الفلستيين، والتجيكر، والشيكليش، والدانونا، والويشيش، والتي كانت بلدانهم متحدة. لقد احتلوا بلدانا بقدر ما وصلت إليه أيديهم، وكانت قلوبهم واثقة وموقنة بالنصر.
5
نعرف هذه الأماكن التي ورد أنها اكتسحت على يد الغزاة؛ إذ كانت مشهورة في العصور القديمة. خاتي هي أرض الحيثيين، حيث يقع قلبها النابض على هضبة الأناضول (الاسم القديم لتركيا) الداخلية بالقرب من أنقرة الحالية وتمتد إمبراطوريتها من ساحل بحر إيجه في الغرب إلى أراضي شمال سوريا في الشرق. من المحتمل أن تقع كودي في جنوب شرق تركيا حاليا (ربما إقليم كيزواتنا القديم). كركميش هي موقع أثري معروف جرت فيه أول عملية تنقيب منذ قرن تقريبا بواسطة فريق من علماء الآثار كان يضم السير ليونارد وولي، الذي ربما يشتهر أكثر بعمليات التنقيب عن آثار النبي إبراهيم في «مدينة أور الكلدانيين» في العراق، وتي إي لورانس، الذي درس في جامعة أكسفورد ليكون عالم آثار في مجال الآثار اليونانية والرومانية قبل أن تحوله أعماله البطولية في الحرب العالمية الأولى في نهاية المطاف إلى «لورانس العرب» الذي جسدت هوليوود شخصيته. أرزاوا كانت أرضا معروفة لدى الحيثيين؛ إذ كانت تقع في متناول أيديهم في منطقة غرب الأناضول. ربما كانت ألشية هي ما نعرفه في يومنا هذا باسم جزيرة قبرص، وهي جزيرة غنية بالمعادن تشتهر بخام النحاس. كانت عمورو تقع على ساحل شمال سوريا. سنعاود الحديث عن كل هذه الأماكن، في الصفحات والقصص التالية.
المجموعات الست المنفصلة التي كونت شعوب البحر أثناء هذه الموجة من الغزو، وهي المجموعات الخمس التي ذكرها رمسيس أعلاه في نقش مدينة هابو بالإضافة إلى مجموعة سادسة، تسمى بالشاردانا، والمذكورة في نقش آخر ذي صلة، أكثر إبهاما من البلدان التي اجتيحت كما ورد. فلم تترك نقوشا خاصة بها ولذلك فالمصدر النصي الوحيد تقريبا الذي نستمد معرفتنا عنها منه هو النقوش المصرية.
6
يصعب أيضا رصد معظم هذه المجموعات في السجل الأثري، على الرغم من أن علماء الآثار والعلماء اللغويين ظلوا يبذلون محاولات شجاعة في هذا الإطار طوال شطر كبير من القرن الماضي، أولا بإجراء بعض الألعاب اللغوية، وبعد ذلك، في فترة أحدث عهدا، بتفحص الفخار والبقايا الأثرية الأخرى. فعلى سبيل المثال، كان الدانونا معروفين منذ زمن بعيد على أنهم الدانانيون الذين أتى هوميروس على ذكرهم، والذين كانوا يعيشون في منطقة إيجه في العصر البرونزي. وغالبا ما يفترض أن الشيكليش أتوا من جزيرة صقلية الحالية وأن الشاردانا أتوا من جزيرة سردينيا، استنادا إلى أوجه التشابه بين الحروف الساكنة في كل من الحالتين وإلى حقيقة أن رمسيس يشير إلى تلك «البلاد الأجنبية» بأنها تتآمر «في جزرها»؛ إذ وصف الشاردانا تحديدا في نقوش رمسيس بأنهم أتوا «من البحر».
7
ومع ذلك لا يقبل كل الباحثين هذه الاقتراحات، وتوجد مدرسة فكرية بكاملها تقترح أن شعبي الشيكليش والشاردانا لم يأتيا من غرب المتوسط، وإنما كانا من مناطق في شرق المتوسط وأنهما فرا فحسب إلى منطقتي صقلية وسردينيا، ومنحا اسميهما لهاتين المنطقتين، بعد هزيمتهم على يد المصريين. ثمة حقيقة تدعم هذا الاحتمال وهي أن الشاردانا معروفون بأنهم قاتلوا مع وكذلك ضد المصريين قبل ظهور شعوب البحر بوقت طويل. وتوجد حقيقة تتعارض مع هذا الاحتمال؛ وهي أن رمسيس الثالث أخبرنا في وقت لاحق أنه وطن الناجين من القوات المهاجمة في مصر ذاتها.
8
من بين كل المجموعات الأجنبية النشطة في هذه الساحة في ذلك الوقت، لم يحدد على نحو مؤكد سوى مجموعة واحدة فقط. فثمة قبول عام أن الفلستيين من شعوب البحر ليسوا سوى الفلسطينيين، الذين يحدد الكتاب المقدس أنهم أتوا من جزيرة كريت.
9
وعلى ما يبدو أن التحديد اللغوي كان واضحا للغاية، حتى إن جان-فرانسوا شامبليون، الذي فك الرموز الهيروغليفية المصرية، كان قد اقترح ذلك بالفعل قبل عام 1836، وتحديد هوية أنماط فخارية معينة، وعمارة، وبقايا مواد أخرى على أنها «فلسطينية» بدأ مبكرا منذ عام 1899، وذلك على يد علماء آثار الكتاب المقدس الذين كانوا يعملون في قرية تل الصافي التي حددت هويتها على أنها مدينة جت التوراتية.
10
وبينما لا نعرف بأي قدر من الدقة أصول الغزاة أو دوافعهم، فإننا نعرف الأشكال التي كانوا يبدون عليها؛ فيمكننا أن نرى أسماءهم ووجوههم محفورة على جدران معبد رمسيس الثالث الجنائزي في مدينة هابو. يزخر هذا الموقع الأثري القديم بكل من الرسوم وصفوف الكتابة الهيروغليفية المهيبة. تظهر دروع الغزاة وأسلحتهم وملابسهم وقواربهم وعرباتهم التي تجرها الثيران المحملة بالأغراض في الرسوم بوضوح تام، وبتفصيل كبير لدرجة أن الباحثين نشروا تحليلات للأفراد وحتى للقوارب المختلفة التي تظهر في المشاهد.
11
وتتسم صور بانورامية أخرى بأنها أغنى بالتفاصيل الحية. تظهر واحدة من هذه الصور البانورامية الغرباء والمصريين وهم يخوضون معركة بحرية تعج بالهرج والمرج؛ فبعضهم طافون رأسا على عقب ومن الواضح أنهم ميتون، بينما لا يزال آخرون يقاتلون بضراوة من قواربهم.
منذ عشرينيات القرن العشرين، أخذ علماء المصريات من معهد الدراسات الشرقية التابع لجامعة شيكاجو يدرسون نقوش ومشاهد مدينة هابو وينسخونها بدقة وحرص. كان المعهد ولا يزال واحدا من المراكز البحثية البارزة في العالم في دراسة الحضارات القديمة في مصر والشرق الأدنى. وقد أسسه جيمس هنري بريستد لدى عودته من رحلة ملحمية عبر الشرق الأدنى في عامي 1919 و1920، بخمسين ألف دولار كمبلغ مبدئي ممنوح من جون دي روكفلر الابن. وقام علماء الآثار التابعون لهذا المعهد بالتنقيب في كل أنحاء الشرق الأدنى، من إيران إلى مصر وما وراءهما.
شكل 2: معركة بحرية مع شعوب البحر في مدينة هابو (نقلا عن كتاب «مدينة هابو»، المجلد الأول، اللوح الجداري رقم 37؛ بإذن من معهد الدراسات الشرقية التابع لجامعة شيكاجو).
كتب الكثير عن بريستد ومشاريع المعهد التي بدأت تحت إشرافه، بما في ذلك عمليات التنقيب في مجدو (هرمجدون التوراتية) في إسرائيل، التي استمرت من عام 1925 حتى عام 1939.
12
وكان من أهم تلك المشاريع عمليات المسح الأثري للنقوش التي أجريت في مصر، والتي بذل علماء المصريات خلالها جهدا مضنيا في نسخ المشاهد والنصوص الهيروغليفية التي خلفها الفراعنة على معابدهم وقصورهم في كافة أنحاء مصر. إن نسخ النقوش الهيروغليفية المحفورة على الجدران الحجرية والآثار لهي مهمة شاقة للغاية؛ فهي عملية تتضمن ساعات طويلة من العمل، وعادة ما يجثم الناسخون على سلالم أو سقالات تحت الشمس الحارقة، وهم يحدقون في رموز بحالة متردية نقشت على بوابات، ومعابد، وأعمدة. حسبنا القول إن النتائج فائقة القيمة، لا سيما وأن نقوشا كثيرة قد تأثرت تأثرا بالغا جراء عوامل التعرية، أو ما يسببه السائحون من تلف، أو أسباب أخرى. ولو لم تكن تلك النقوش قد نسخت لكانت ستصبح في نهاية المطاف مبهمة بالنسبة للأجيال القادمة. وقد نشرت نتائج عمليات النسخ من مدينة هابو في سلسلة من المجلدات، ظهر أولها في عام 1930، مع ظهور المجلدات الأخرى التي كانت ذات صلة بها في الأربعينيات والخمسينيات من القرن العشرين.
على الرغم من أن المناقشات العلمية مستمرة بهذا الشأن، فإن معظم الخبراء يتفقون على أن المعارك البرية والبحرية المرسومة على جدران مدينة هابو يحتمل أنها جرت في وقت واحد تقريبا في دلتا مصر أو بالقرب منها. وثمة احتمال أنها تمثل معركة واحدة طويلة حدثت في البر وكذلك في البحر، وكان بعض الباحثين قد اقترحوا أن المعارك البرية وكذلك البحرية تمثل كمائن لقوات شعوب البحر، أخذهم فيها المصريون على حين غرة.
13
وعلى أي حال، ليست النتيجة النهائية محل شك؛ ففي مدينة هابو يصرح الفرعون المصري بوضوح تام قائلا:
إن أولئك الذين وصلوا إلى حدودي قد أفنيت نسلهم، وأفنيتهم هم أنفسهم إلى أبد الآبدين. والذين أتوا قدما من البحر، كانت النار الشاملة أمامهم عند مصبات النهر، بينما أحاط بهم طوق من الحراب على الشاطئ. لقد اقتيدوا، وحوصروا، وطرحوا على الشاطئ، وقتلوا، وتحولت جثثهم، التي وضعت رأسا على عقب، إلى أكوام. وكانت سفنهم وأغراضهم وكأنما أسقطت في الماء. لقد جعلت الممالك تخشى حتى ذكر اسم مصر؛ لأنهم عندما يذكرون اسمي في أرضهم، عندئذ يكتوون بنار الغيظ.
14
ثم يتابع رمسيس الحديث عما حدث، في وثيقة شهيرة معروفة باسم «بردية هاريس»، ومجددا يذكر أسماء أعدائه المهزومين:
هزمت أولئك الذين غزوا حدودي في بلادهم. لقد ذبحت الدانونا [الذين يعيشون] في الجزر، واستحال التجيكر والفلستيون رمادا. وصار الشاردانا والويشيش، سكان البحر، وكأن لا وجود لهم؛ إذ أخذوا أسرى دفعة واحدة، وجلبوا أسرى إلى مصر، مثل رمل الشاطئ. ووضعتهم في حصون مكبلين بأمري. وكانت طوائفهم عديدة تبلغ مئات الآلاف. ففرضت عليهم كلهم ضرائب، في الملبس والحبوب من المخازن وشون الحبوب سنويا.
15 •••
لم تكن هذه هي المرة الأولى التي يقاتل فيها المصريون قوة مشتركة من «شعوب البحر». فقبل ذلك بثلاثين سنة، في عام 1207ق.م، أثناء العام الخامس من حكم الفرعون مرنبتاح، كان تحالف مماثل من هذه المجموعات المبهمة قد هاجم مصر.
ربما كان أكثر ما يشتهر به مرنبتاح لدى الطلاب الدارسين للشرق الأدنى القديم هو أنه أول فرعون مصري يستخدم مصطلح «إسرائيل» في نقش يعود تاريخه إلى نفس هذا العام (1207ق.م). هذا النقش يتضمن أقدم ظهور لاسم «إسرائيل» خارج الكتاب المقدس. في النقش الفرعوني، يظهر الاسم - المكتوب برمز خاص لكي يشير إلى الشعب وليس المكان - في وصف موجز لحملة إلى منطقة كنعان، حيث كان يوجد الشعب الذي يدعوه «إسرائيل».
16
الجمل موجودة في سياق نقش طويل ليس معنيا بهذا الشعب وإنما هو معني بمعارك مرنبتاح الدائرة مع الليبيين، الذين كانوا موجودين على الحدود الغربية لأراضي مصر الأصلية. لقد كان الليبيون وشعوب البحر هم من شغلوا جل اهتمام مرنبتاح خلال هذا العام، وليس الإسرائيليين.
على سبيل المثال، في نص عثر عليه في موقع مدينة هليوبوليس القديمة، يرجع تاريخه إلى «العام الخامس، الشهر الثاني من الموسم الثالث (الشهر العاشر)»، يخبرنا النص أن «زعيم ليبيا الوغد أغار [مع] الشيكليش وكل بلد أجنبي، مساند له، لينتهك حدود مصر.»
17
تتكرر نفس الصياغة في نقش آخر، يعرف باسم «عمود القاهرة».
18
وفي نقش آخر أطول عثر عليه في الكرنك (مدينة الأقصر الحالية)، نحصل على تفصيلات إضافية عن هذه الموجة الأقدم من موجات توغل شعوب البحر. وترد هنا أسماء المجموعات الفردية: [بداية النصر الذي أحرزه صاحب الجلالة في أرض ليبيا] الأقوش، والترش، واللكا، والشاردانا، والشيكليش، الشماليون القادمون من كل البلاد. ... الموسم الثالث، يقول: زعيم ليبيا الوغد المرذول ... قد هاجم بلد التحنو برماته؛ الشاردانا، والشيكليش، والأقوش، واللكا، والترش، آخذا أفضل المحاربين والمقاتلين في بلده ...
قائمة الأسرى الذين نقلوا من بلاد ليبيا هذه والبلاد التي أحضرها معه ...
الشيردين، الشيكليش، الأقوش من بلاد البحر، الذين لم يكن لهم غلف:
الشيكليش 222 رجلا
يشكلون 250 يدا
الترش 742 رجلا
يشكلون 790 يدا
الشاردانا - [يشكلون] - [الأق] وش الذين لم يكن لهم غلف، القتلى، الذين حملت أيديهم، [بسبب] أنهم
لم يكن لهم [غلف] -
الشيكليش والترش الذين أتوا كأعداء من ليبيا -
الكيهيك، والليبيون، الذين سيقوا كأسرى أحياء 218 رجلا.
19
أمور عديدة واضحة في هذا النقش. أولا يوجد خمس مجموعات، لا ست، شكلت هذه الموجة الأقدم من موجات غزو شعوب البحر: الشاردانا (أو الشيردين)، والشيكليش، والأقوش، واللكا، والترش. كانت مجموعتا الشاردانا والشيكليش موجودتين في كل من هذا الغزو والغزو اللاحق أثناء زمن رمسيس الثالث، ولكن المجموعات الثلاث الأخرى مختلفة. ثانيا، الشاردانا، والشيكليش، والأقوش معرفون على نحو خاص على أنهم شعوب «من بلاد البحر»، بينما المجموعات الخمس موصوفة مجتمعة بأنها «الشماليون القادمون من كل البلاد». وهذا الوصف الأخير ليس مستغربا جدا، كون معظم البلاد التي كان مصريو المملكة الحديثة على اتصال بها (باستثناء النوبة وليبيا) تقع شمال مصر. إن تعريف الشاردانا والشيكليش بأنهما شعبان «من بلاد البحر» يعزز القول بأنهما مرتبطان بسردينيا وصقلية، على الترتيب.
قاد وصف الأقوش بأنهم شعب «من بلاد البحر» بعض الباحثين إلى القول بأنهم الآخيون الذين ذكرهم هوميروس، أي، الميسينيون المنتمون إلى البر الرئيسي ليونان العصر البرونزي، الذين ربما سيكونون من رأى رمسيس الثالث أنهم الدانونا في نقوشه التي تذكر شعوب البحر بعد ذلك بعقدين من الزمن. أما فيما يتعلق بالاسمين الأخيرين، يرى الباحثون عموما أن اللكا يشير إلى شعب من جنوب غرب تركيا، في المنطقة التي عرفت لاحقا أثناء الحقبة الكلاسيكية القديمة باسم ليكية. أما منشأ الترش، فغير متيقن ولكنهم قد يكون لهم صلة بالأتروسكانيين في إيطاليا.
20
لا تطلعنا النقوش سوى على نزر يسير من الأمور الأخرى، ولا تتضمن أكثر من فكرة عامة جدا عن المكان الذي دارت فيه المعركة أو المعارك. يقول مرنبتاح فقط إن النصر «أحرز في أرض ليبيا.» التي يعرفها أيضا بأنها «بلد التحنو». ومع ذلك يدعي مرنبتاح بوضوح تحقيق النصر؛ إذ إنه يعدد القتلى والأسرى من مقاتلي الأعداء، من كل من الرجال و«الأيدي». كان قطع أيدي قتلى الأعداء والعودة بها كإثبات، من أجل نيل التقدير والمكافأة، ممارسة شائعة في ذلك الوقت. وتم العثور للتو على دليل بشع على هذه الممارسة يرجع إلى عصر الهكسوس في مصر، قبل زمن مرنبتاح بنحو أربعمائة سنة، على هيئة ست عشرة يدا يمنى مدفونة في أربع حفر في قصر الهكسوس في مدينة أواريس في دلتا النيل.
21
على أي حال، لا نعرف إن كان كل المنتمين إلى شعوب البحر قد قتلوا أو أن بعضهم قد نجا، ولكن يمكننا على الأرجح افتراض نجاة بعضهم، حيث إن العديد من هذه المجموعات قد عاد في الغزو الثاني بعد ذلك بثلاثين سنة.
في عام 1177ق.م، وكما حدث في السابق في عام 1207ق.م، دان النصر للمصريين. وما كان لشعوب البحر أن تعود إلى مصر مرة ثالثة. تفاخر رمسيس بأن الأعداء «أسقطوا وقهروا في أماكنهم.» وكتب: «انتزعت قلوبهم؛ وتشتتت أرواحهم. وتناثرت أسلحتهم في البحر.»
22
ومع ذلك، فقد كان نصرا باهظ الثمن. فعلى الرغم من أن مصر تحت حكم رمسيس الثالث كانت القوة العظمى الوحيدة التي نجحت في مقاومة الهجوم الضاري لشعوب البحر، فإن المملكة المصرية الحديثة لم تعد أبدا إلى سابق عهدها بعد ذلك، ويعزى ذلك على الأرجح إلى المشكلات الأخرى التي واجهتها منطقة البحر المتوسط بأكملها أثناء هذه الفترة، كما سنرى لاحقا. خلال بقية الألفية الثانية قبل الميلاد، كان الفراعنة التالون راضين بحكم بلد تقلص نفوذه وسلطته كثيرا. وصارت مصر إمبراطورية غير ذات شأن؛ مجرد صورة باهتة لما كانت عليه فيما مضى. ولم ترتق مصر إلى ما يشبه هذه المكانة إلا في أيام الفرعون شيشنق، وهو ليبي أسس الأسرة الثانية والعشرين في حوالي سنة 945ق.م، والذي من المحتمل أن يكون هو من حدد الكتاب المقدس العبري هويته بوصفه الفرعون المدعو شيشاك.
23
بعيدا عن مصر، تراجعت واختفت تقريبا كل البلاد والقوى الأخرى التي كانت موجودة في الألفية الثانية قبل الميلاد في منطقة إيجه والشرق الأدنى - تلك البلاد والقوى التي كانت موجودة أثناء أزهى سنوات الفترة التي ندعوها الآن بالعصر البرونزي المتأخر - إما فورا أو في غضون أقل من قرن. في النهاية، كان الأمر كما لو أن الحضارة نفسها قد محيت في قسم كبير من هذه المنطقة. لقد اختفى كثير من منجزات القرون السابقة، إن لم يكن كلها، عبر مساحات شاسعة من الأراضي، من اليونان إلى بلاد الرافدين. وبدأت حقبة انتقالية جديدة: عصر كان له أن يستمر ما لا يقل عن قرن وربما ما يصل إلى ثلاثة قرون في بعض المناطق.
يبدو أنه ليس ثمة شك في أنه من المؤكد أن الرعب قد ساد في سائر البلاد في الأيام الأخيرة لهذه الممالك. يمكن رؤية مثال محدد لذلك على لوح طيني، منقوش عليه رسالة من ملك أوغاريت في شمال سوريا، موجهة إلى ملك جزيرة قبرص ذي المرتبة الأعلى:
أبي، الآن وصلت سفن العدو. إنهم يضرمون النار في مدني وأحاقوا الأذى بالبلد. ألا يعرف أبي أن كل رجال المشاة خاصتي و[مركباتي الحربية] متمركزون في خاتي، وأن كل سفني متمركزة في أرض اللكا؟ إنهم لم يعودوا بعد؛ لذا فالبلد ليس له حماية. فليكن أبي على علم بهذا الأمر. الآن سفن العدو السبع التي كانت آتية قد ألحقت بنا الكثير من الضرر. وإذا كانت سفن أخرى ستظهر، فأعلمني بطريقة ما، حتى أحاط علما.
24
يوجد خلاف بشأن ما إن كان من الممكن أن يكون اللوح قد وصل إلى الجهة المقصودة على جزيرة قبرص. اعتقد المنقبون الأصليون الذين عثروا على اللوح أنه من المحتمل أن الرسالة لم ترسل أبدا. ورد بالأساس أنه عثر عليه في قمين - بالإضافة إلى أكثر من سبعين لوحا آخر - حيث كان قد وضع على ما يبدو من أجل أن يقسى بالحرارة؛ كون تلك أفضل حالة يتجاوز بها الرحلة الشاقة إلى قبرص.
25
افترض هؤلاء المنقبون وباحثون آخرون في البداية أن سفن الأعداء كانت قد عادت ونهبت المدينة قبل أن يتسنى إرسال طلب المساعدة العاجل. هذه هي القصة التي تكررت منذئذ في الكتب الأكاديمية لجيل من الطلاب، ولكن الباحثين في وقتنا هذا بينوا أن اللوح لم يعثر عليه في قمين وأنه، كما سنرى، ربما كان نسخة من رسالة كانت قد أرسلت إلى قبرص على أي حال. •••
كان يوجد ميل من جانب الباحثين السابقين إلى أن ينسبوا أي دمار وقع في هذه الفترة إلى شعوب البحر.
26
ومع ذلك، قد يكون من قبيل الاجتراء أن يلقى بلائمة نهاية العصر البرونزي، في منطقتي إيجه وشرق المتوسط، برمتها عليهم. فذلك على الأرجح يمنح تلك الشعوب قدرا لا تستحقه من الأهمية؛ إذ إننا لا نملك أدلة واضحة، باستثناء النصوص والنقوش المصرية، التي تعطي انطباعات متضاربة. هل توجهت شعوب البحر إلى منطقة شرق المتوسط على هيئة جيش منظم نسبيا، مثل واحدة من الحملات الصليبية الأكثر انضباطا العازمة على الاستيلاء على الأرض المقدسة أثناء العصور الوسطى؟ هل كانت تلك الشعوب على هيئة مجموعة من المغيرين المنظمين تنظيما غير محكم أو ضعيفا، مثل الفايكينج الذين ظهروا في عصر لاحق؟ أم كانوا لاجئين يفرون هربا من كارثة وينشدون بلادا جديدة؟ بقدر ما نعلم، يمكن للحقيقة أن تتضمن مزيجا من كل شيء أو لا شيء مما سبق.
في الوقت الحالي تحتاج مجموعة ثرية من البيانات الجديدة، التي صارت متاحة في العقود القليلة الماضية، إلى أخذها في الاعتبار ضمن المعادلة.
27
فلم نعد متيقنين من أن كل المواقع التي يوجد دليل على تدميرها قد دمرت على يد شعوب البحر. يمكننا أن نستنتج من الأدلة الأثرية أن موقعا ما قد تعرض للتدمير، ولكننا لا نستطيع دوما أن نستنتج السبب أو الفاعل. علاوة على ذلك، فإن المواقع لم تدمر كلها على نحو متزامن، ولا حتى بالضرورة في خلال نفس العقد من الزمن. كما سنرى، يمتد الزوال المتصاعد لتلك المواقع على مدى عدة عقود وربما ما يصل إلى قرن من الزمن.
بالإضافة إلى ذلك، في حين أننا لا نعرف يقينا السبب، أو كل الأسباب، التي أدت إلى انهيار عالم العصر البرونزي في اليونان، ومصر، والشرق الأدنى، فإن حجم الأدلة المتوفرة حاليا يشير إلى أنه من المرجح أن شعوب البحر ليست الوحيدة التي تقع عليها اللائمة في ذلك. يبدو مرجحا الآن أن تلك الشعوب كانت الضحية بقدر ما كانت المعتدية في مسألة انهيار الحضارات.
28
تقترح إحدى الفرضيات أن تلك الشعوب أجبرت على الخروج من أوطانها جراء سلسلة من الأحداث المأساوية وارتحلت شرقا حيث صادفت ممالك وإمبراطوريات كانت بالفعل آخذة في الانحسار. من المحتمل جدا أيضا أن السبب تحديدا في قدرتها على مهاجمة الكثير من ممالك المنطقة والقضاء عليها في نهاية الأمر هو أن تلك الأنظمة الملكية كانت بالفعل آخذة في الانحسار وفي حالة ضعف. في هذا السياق، ربما يكون من الممكن اعتبار شعوب البحر ببساطة انتهازية، كما دعاها أحد الباحثين، وربما تكون قد استقرت في منطقة شرق المتوسط بطريقة أكثر سلمية مما كان مفترضا في السابق. سنتناول لاحقا هذه الاحتمالات بتفصيل أكبر.
ومع ذلك، فإن شعوب البحر، طوال عقود من البحث العلمي، كانت كبش فداء مناسب، بتحملها اللائمة على موقف ربما كان أكثر تعقيدا بكثير ولم تكن المتسببة فيه. إن الأمور الآن آخذة في التغير؛ إذ إن العديد من الباحثين قد أوضحوا مؤخرا أن «قصة» قيام شعوب البحر بموجة تدمير وحشي كارثية و/أو هجرتهم قد ابتدعها باحثون مثل جاستون ماسبيرو، عالم المصريات الفرنسي الشهير، منذ ستينيات وسبعينيات القرن التاسع عشر، وترسخت بحلول عام 1901. ومع ذلك، كانت نظرية مستندة فحسب على الأدلة النصية المتعلقة بالنقوش، قبل أن يتم فعليا التنقيب في أي من هذه المواقع المدمرة بوقت طويل. في الواقع، حتى هؤلاء الباحثون الذي حذوا حذو ماسبيرو كانوا منقسمين فيما يتعلق بالوجهة التي سلكتها شعوب البحر؛ إذ اعتقد البعض أن تلك الشعوب انتهى بها الحال في منطقة غرب المتوسط بعد هزيمتها على يد المصريين، ولم تبدأ من هناك.
29
وجهة نظرنا الراهنة، كما سنرى لاحقا، أنه من المحتمل جدا أن شعوب البحر كانت مسئولة عن بعض التدمير الذي جرى في نهاية العصر البرونزي المتأخر، ولكن من الأرجح أكثر أن سلسلة متصلة من الأحداث، البشرية والطبيعية - بما في ذلك التغير المناخي والجفاف، وكوارث زلزالية تعرف باسم العواصف الزلزالية، وحوادث تمرد داخلية، و«انهيار للنظم» - تجمعت لتشكل «عاصفة مثالية» وضعت حدا لهذا العصر. ومع ذلك، من أجل أن نستوعب جسامة الأحداث التي وقعت حوالي عام 1177ق.م، علينا أن نبدأ قبل ذلك بثلاثة قرون.
جدول 1: ملوك العصر البرونزي المتأخر في مصر والشرق الأدنى المذكورين في النص ، مرتبين حسب الدولة/المملكة والتسلسل الزمني.
القرن
مصري
حيثي
آشوري
بابلي
ميتاني
أوغاريتي
غير ذلك
الثامن عشر
حمورابي
زمري ليم (مملكة ماري)
السابع عشر
حاتوسيلي الأول
مورسيلي الأول
السادس عشر
سقنن رع
كامس
أحمس الأول
تحتمس الأول
تحتمس الثاني
خيان (الهكسوس)
أبوفيس (الهكسوس)
الخامس عشر
حتشبسوت
تحتمس الثالث
توداليا الأول/الثاني
شوشتاتار
كوكولي (أسوا)
الرابع عشر
أمنحتب الثالث
إخناتون
توت عنخ آمون
آي
سابيليوليوما الأول
مورسيلي الثاني
أداد نيراري الأول
آشور أوباليط
كوريجالزو الأول
كادشمان إنليل الأول
بورنا بورياش الثاني
كوريجالزو الثاني
شوتارنا الثاني
توشراتا
شاتيوازا
أميستمرو الأول
نيقمادو الثاني
نيقمبا
تارخندارادو (أرزاوا)
الثالث عشر
رمسيس الثاني
مرنبتاح
مورسيلي الثاني (استمر فيما بين القرنين)
مواتالي الثاني
حاتوسيلي الثالث
توداليا الرابع
سابيليوليوما الثاني
توكولتي نينورتا الأول
كشتيلياش
نيقمبا (استمر فيما بين القرنين)
أميستمرو الثاني
نيقمادو الثالث
أمورابي
شوشجاموا (عمورو)
الثاني عشر
رمسيس الثالث
سابيليوليوما الثاني (استمر فيما بين القرنين)
أمورابي (استمر فيما بين القرنين)
شوتروك ناخونته (عيلام)
جدول 2: المناطق المعاصرة وأسماؤها المحتملة في العصر البرونزي المتأخر.
المنطقة
الاسم القديم الأول
الاسم القديم الثاني
الاسم القديم الثالث
قبرص
ألشية
البر الرئيسي لليونان
تاناجا
أخياوا
خياوا
كريت
كفتيو
كفتور (كبتارو)
طروادة/ترواس
أسوا (؟)
إسي (؟)
ويلوسا
كنعان
با-كا-نا-نا
رتينو
مصر
مصرايم
الفصل الأول
المشهد الأول
عن الحرب والإنسان: القرن الخامس عشر قبل الميلاد
في حوالي عام 1477ق.م، في مدينة بيرو نفر في دلتا النيل في مصر السفلى، في موقع قريب للغاية من البحر المتوسط، أمر الفرعون تحتمس الثالث بإقامة قصر كبير، له رسوم وزخارف جصية دقيقة متقنة. واستؤجر حرفيون مينويون من جزيرة كريت البعيدة، التي تقع في أقصى الغرب في الجانب الآخر من «الأخضر الكبير» (كما كان البحر المتوسط يعرف لدى المصريين)؛ لصنع هذه الرسوم والزخارف الجصية. فرسموا صورا لم يرها أحد في مصر من قبل مطلقا - مشاهد غريبة لرجال يثبون فوق ثيران - واستعملوا الطلاء مع الجص بينما كان رطبا، بأسلوب الفريسكو، فأصبحت الألوان جزءا من الجدار نفسه. كانوا قد تعلموا هذا الأسلوب، والمشاهد التي رسموها، في كريت في منطقة إيجه. في ذلك الوقت لم تكن المناظر الفريدة التي أبدعت بهذه الطريقة رائجة في مصر وحدها بل أيضا في القصور على طول الساحل، من كنعان في الشمال إلى دلتا مصر، في بقاع تعرف الآن باسم كابري في إسرائيل، وألالاخ في تركيا، وقطنة في سوريا، والضبعة في مصر.
1
صارت مدينة بيرو نفر في الدلتا تعرف الآن باسمها المعاصر وهو منطقة تل الضبعة. وهو موقع كان الأثري النمساوي مانفريد بيتاك وفريقه ينقبون فيه منذ عام 1966. كانت المدينة قد عرفت أيضا في السابق باسم أواريس، عاصمة الهكسوس؛ الغزاة المكروهين لمصر الذين حكموا قسما كبيرا من البلاد من حوالي 1720 إلى 1550ق.م. تحولت أواريس إلى بيرو نفر، التي كانت مدينة مصرية لها قدرها، بعد أن استولى عليها الفرعون المصري كامس، جد تحتمس، حوالي 1550ق.م.
في الكشف عن المدينة التي كانت ثرية فيما مضى والتي كانت مطمورة تحت أمتار من الرمال والأنقاض، أعاد بيتاك، على مدى أربعة عقود، عاصمة الهكسوس إلى الحياة وكذلك المدينة المصرية العظيمة اللاحقة. واستعاد أيضا الرسوم الجصية التي أبدعها المينويون، أو ربما حرفيون محليون تدربوا على يد المينويين، والتي يرجع تاريخها إلى أوائل الأسرة الثامنة عشرة (حوالي 1450ق.م).
2
تشكل هذه الرسوم مثالا جيدا على العالم الدولي الذي بدأ في التضافر في منطقتي شرق المتوسط وإيجه بعد طرد الهكسوس من مصر. (1) نظرة سريعة على الهكسوس
غزا الهكسوس مصر للمرة الأولى في حوالي عام 1720ق.م قبل مائتي وخمسين سنة من زمن تحتمس الثالث. وبقوا قرابة مائتي سنة، حتى عام 1550ق.م وفي الوقت الذي اجتاح فيه الهكسوس البلاد، كانت مصر واحدة من القوى الراسخة في منطقة الشرق الأدنى القديمة. كان عمر أهرامات الجيزة قد بلغ بالفعل قرابة ألف عام بحلول تلك المرحلة، بعد أن بنيت أثناء حكم الأسرة الرابعة، في فترة المملكة القديمة. عرف مانيتون، الكاهن المصري الذي عاش وكتب أثناء الفترة الهلينستية اللاحقة في القرن الثالث قبل الميلاد، الهكسوس بأنهم «الملوك الرعاة» - وهي ترجمة خاطئة للعبارة المصرية
hekau khasut ، والتي تعني في الواقع «زعماء البلاد الأجنبية». وقد كانوا بالفعل أجانب؛ إذ كان الهكسوس ساميين ارتحلوا إلى مصر من منطقة كنعان (أي الدول الحالية: إسرائيل، ولبنان، وسوريا، والأردن). نرى رسوما تمثل هؤلاء الساميين في مصر منذ القرن التاسع عشر قبل الميلاد؛ ومن ذلك، مثلا، لوحة جدارية في داخل مقبرة مصرية في منطقة بني حسن، نرى فيها باعة وتجارا «آسيويين» يجلبون بضائعهم إلى البلاد.
3
أنهى غزو الهكسوس لمصر عهد المملكة الوسطى (حوالي 2134-1720ق.م). ومن المحتمل جدا أن نجاحهم في الغزو كان نتيجة لميزة لديهم في تكنولوجيا الأسلحة وقدرتهم على توجيه الضربة الأولى؛ لأنهم كانوا يمتلكون أقواسا مركبة يمكن أن تطلق سهاما إلى مسافات أبعد من الأقواس التقليدية لذلك الوقت. وكان لديهم أيضا عجلات حربية تجرها الخيول، لم ير لها مثيل من قبل في مصر.
بعد فتحهم العسكري، دانت السيطرة للهكسوس على مصر، التي حكموها بالأساس من عاصمتهم أواريس في دلتا النيل، أثناء ما يطلق عليه الفترة الانتقالية الثانية (الأسر من الخامسة عشرة إلى السابعة عشرة) لحوالي مائتي سنة، من 1720 إلى 1550ق.م
4
هذه الفترة من 3000 إلى 1200ق.م هي الفترة الوحيدة التي حكمت مصر فيها على يد أجانب.
شكل 1-1: «آسيويون» في منطقة بني حسن (نقلا عن نيوبيري 1893، اللوحان رقم 30 و31؛ بإذن من جمعية استكشاف مصر).
تسجل قصص ونقوش يرجع تاريخها إلى قرب نهاية هذه الفترة، حوالي 1550ق.م، بعضا من المعارك التي اندلعت بين المصريين والهكسوس. وبالتحديد، لدينا قصة تسجل خلافا بين حاكمين، والتي تعرف باسم «نزاع أبوفيس وسقنن رع». في هذه الحكاية، التي من المحتمل جدا أن تكون ملفقة، يشتكي ملك الهكسوس أبوفيس من أنه يبقى مستيقظا بالليل جراء الضوضاء الناجمة عن أفراس نهر يحتفظ بها، في بركة ماء، الملك المصري سقنن رع، الذي كان يحكم في نفس الفترة أماكن أخرى في مصر. الشكوى غير معقولة لأن عدة مئات من الأميال كانت تفصل البلاطين الملكيين؛ فواحد كان واقعا في مصر العليا أو صعيد مصر والآخر كان في مصر السفلى؛ لذا لم يكن من الممكن أن يكون ملك الهكسوس قد سمع أفراس النهر، مهما كان صوت خوارها عاليا.
5
ومع ذلك، فإن مومياء سقنن رع قد اكتشفت بواسطة علماء الآثار، وواضح من الجروح في رأسه، الناتجة عن فأس حربية، أنه مات ميتة عنيفة في معركة. هل كانت المعركة مع الهكسوس؟ لا نعرف يقينا؛ ومع ذلك، من المحتمل أن يكون أبوفيس وسقنن رع قد تقاتلا، سواء كان بسبب أفراس النهر أم لا.
لدينا أيضا نقش تركه لنا الفرعون كامس، آخر ملوك الأسرة السابعة عشرة في مصر. في ذلك الوقت، كان كامس يحكم من مقره في طيبة، في صعيد مصر. يقدم كامس تفصيلات بشأن المعركة المظفرة الأخيرة في مواجهة الهكسوس، الذين يشير إليهم بوصف «الآسيويين»، وكتب ما يلي في حوالي سنة 1550ق.م:
أبحرت شمالا في جبروتي لطرد الآسيويين ... وجيشي المغوار أمامي مثل شعلة نار ... ورماة السهام في أعلى صواري القتال ليدمروا مواقعهم ... أمضيت الليل في سفينتي، منشرح الصدر؛ وعندما أبلج الفجر انقضضت عليه كالصقر. وعندما جاء وقت الإفطار، كنت قد أطحت به بعد أن دمرت أسواره وذبحت قومه، وجعلت زوجته تنزل إلى ضفة النهر. وتصرف جيشي كالأسود عندما تنقض على الفريسة ... فأخذوا العبيد، والماشية، والدهن، والعسل ... وقسموا غنائمهم وقلوبهم فرحة.
يخبرنا كامس أيضا عن مصير مدينة أواريس نفسها:
أما أواريس الكائنة على النهرين، فدمرتها وبددت سكانها؛ دمرت بلداتهم وأحرقت بيوتهم حتى صارت كومة أنقاض محمرة للأبد، بسبب الدمار الذي كانوا قد ألحقوه بوسط مصر؛ أولئك الذين كانوا قد سمحوا لأنفسهم بالإصغاء إلى دعوة الآسيويين، [الذين] تخلوا عن مصر سيدتهم!
6
وبذلك، طرد المصريون الهكسوس من الأرض، فلاذوا بالفرار عائدين إلى «رتينو» (أحد الأسماء المصرية القديمة لإسرائيل وسوريا الحاليتين، وهي نفس المنطقة العامة التي كان المصريون يعرفونها باسم «با-كا -نا-نا»، أو كنعان). في نفس تلك الفترة، أسس المصريون الأسرة الثامنة عشرة، التي بدأها أحمس شقيق كامس، التي استهلت ما ندعوه الآن بحقبة المملكة الحديثة في مصر.
أعيد بناء أواريس وبقية مصر أثناء هذه الفترة، وتغيرت تسمية أواريس نفسها. وبحلول زمن حتشبسوت وتحتمس الثالث بعد ذلك ببضعة وستين عاما، حوالي سنة 1500ق.م، كانت قد صارت تلك المدينة مدينة مزدهرة من جديد، وعرفت هذه المرة باسم بيرو نفر، وضمت قصورا مزخرفة بالرسومات الجصية بأسلوب المينويين الذي يصور الوثب على الثيران ومشاهد أخرى والتي يتضح انتماؤها إلى كريت في منطقة إيجه أكثر من انتمائها لمصر نفسها. تكهن أحد الأثريين أنه حتى قد يكون حدث زواج ملكي بين حاكم مصري وأميرة مينوية.
7
من المؤكد أنه يوجد عدد من فراعنة الأسرتين الثامنة عشرة والتاسعة عشرة اللاحقتين الذين تزوجوا من أميرات أجنبيات، في المقام الأول لتوطيد الروابط الدبلوماسية أو لترسيخ معاهدة مع قوة أجنبية، كما سنرى لاحقا، ولكن ليس من الضروري استحضار الزيجات ذات الدوافع السياسية لتفسير ظهور الرسوم الجدارية المينوية في مصر، نظرا لوجود أدلة مستقلة أخرى على وجود صلات بين منطقة شرق المتوسط، ومصر، وفي هذه الحالة، منطقة إيجه. (2) عود إلى الماضي: بلاد الرافدين والمينويون
من الواضح، من خلال كم وفير من البيانات، بما في ذلك قطع أثرية، وأدلة نصية ورسومية، أن المينويين المنتمين إلى كريت كانوا بالفعل على اتصال مع مناطق عديدة في الشرق الأدنى القديم قبل وقت طويل من اتصالاتهم مع فراعنة المملكة الحديثة المصريين؛ فمثلا، نعرف المصنوعات المينوية التي كانت قد نقلت كل هذه المسافة عبر بحر إيجه ومنطقة شرق المتوسط حتى بلاد الرافدين، الأرض الواقعة بين النهرين؛ دجلة والفرات، بحلول القرن الثامن عشر ق.م، منذ حوالي أربعة آلاف سنة.
يأتي توثيق هذه التجارة القديمة من موقع ماري القديم، على الضفة الغربية لنهر الفرات في سوريا الحالية، حيث نقب الأثريون الفرنسيون، خلال ثلاثينيات القرن العشرين، عن كنز دفين يحوي أكثر من عشرين ألف لوح طيني منقوش. استدعاهم إلى الموقع السكان المحليون، الذين كانوا قد أماطوا اللثام بالصدفة عما اعتقدوا في أول الأمر أنه جثة رجل بلا رأس؛ والتي تبين بعد ذلك أنها تمثال حجري، واحد من تماثيل كثيرة، من ضمنها تمثال عليه نقش يحدد هويته ويصفه بأنه ملك للمدينة القديمة.
8
كان مصدر الألواح، المنقوش عليها نصوص مكتوبة باللغة الأكادية القديمة، أرشيفا لمراسلات ملكية وسجلات أخرى عادية أكثر تخص ملوك مملكة ماري، من ضمنهم ملك يسمى زمري ليم والذي حكم حوالي 1750ق.م تسجل الألواح كل صنوف المعلومات المتصلة بإدارة القصر وتنظيم مملكته، بالإضافة إلى جوانب من الحياة اليومية في ذلك الوقت.
أحد الألواح، على سبيل المثال، يتعلق بالثلج الذي كان زمري ليم يستخدمه في مشروباته الصيفية، التي اشتملت على الخمر، والجعة، والمشروبات المخمرة القائمة على الشعير إما بنكهة عصير الرمان أو يانسون يشبه العرقسوس. نعرف أنه كان قد أمر ببناء مخزن ثلج على ضفة نهر الفرات، وكان يستخدم خصيصى للاحتفاظ بالثلج الذي كان يجمع من الجبال المكسوة بالثلج أثناء فصل الشتاء حتى الحاجة إليه أثناء شهور فصل الصيف الحارة. وزعم أنه لم يبن ملك قبله قط مخزن ثلج مثل هذا، وربما كان ذلك صحيحا، ولكن استخدام الثلج في المشروبات لم يكن جديدا على المنطقة، حتى إنه كان على ملك أن يذكر ابنه بأن يجعل الخدم ينظفون الثلج قبل وضعه في المشروبات: «اجعلهم يجمعون الثلج! اجعلهم يغسلونه لينظفوه من الأغصان والروث والوسخ.»
9
اشتملت الأرشيفات على سجلات التجارة والاتصال مع مناطق حوض البحر المتوسط والشرق الأدنى الأخرى، مع إشارة خاصة إلى سلع غير معتادة واردة. نعرف كذلك من هذه الألواح أنه كان يحدث تبادل متكرر للهدايا بين حكام مملكة ماري وحكام المدن والممالك الأخرى، وأن الملوك كانوا يطلبون خدمات الأطباء، والحرفيين، والنساج، والموسيقيين، والمغنين بعضهم من بعض.
10
كان من ضمن الأغراض الغريبة المستوردة المسجلة في الألواح في مملكة ماري خنجر وأسلحة أخرى مصنوعة من الذهب ومطعمة بحجر اللازورد الكريم، بالإضافة إلى ملابس ومنسوجات «مصنوعة بالطريقة الكفتورية.»
11
كان «كفتور» (أو «كبتارو») هو الاسم الذي أطلقه شعب بلاد الرافدين والكنعانيون على جزيرة كريت، مثلما دعاها المصريون لاحقا «كفتيو». كانت السلع قد سافرت مسافة طويلة من كريت، مكتسبة ما يعرف الآن باسم «قيمة المسافة»، بالإضافة إلى القيمة الأصلية التي حازتها بالفعل بسبب الصنعة والمواد التي كانت مصنوعة منها.
لدينا أيضا لوح يسجل موقفا غير اعتيادي، عندما أرسل زمري ليم، ملك مملكة ماري، حذاء مينويا من كريت هدية إلى الملك حمورابي ملك بابل. يقول النص ببساطة: «حذاء مصنوعا من الجلد على الطريقة الكفتورية، حمله إلى قصر حمورابي؛ ملك بابل [مسئول يسمى] باهد ليم، ولكنه أعيد.»
12
ولا يقدم السبب الذي أعيد من أجله الحذاء. ربما ببساطة لم يكن مقاسه مناسبا. إن قانون حمورابي، والذي يعد أول قانون يحوي عبارة «العين بالعين، والسن بالسن» والتي اشتهرت بعد ذلك بفضل الكتاب المقدس العبري، لا ينص على أي عقوبة على إعادة سلع كالأحذية.
من المثير للدهشة قليلا أن حمورابي رفض الحذاء الجلدي، بصرف النظر عن كون مقاسه مناسبا أو لا، لأنه من المرجح أنه كان سيكون نادرا وكذلك غير معتاد في بلاده في ذلك الوقت، نظرا للمسافة الواقعة بين كريت وبلاد الرافدين، أي بين اليونان وسوريا/العراق في وقتنا هذا. لم يكن ليستهان برحلة كهذه ومن المرجح أنها كانت ستؤخذ على مراحل، مع تجار أو باعة مختلفين ينقلون السلع لأجزاء منفصلة من الرحلة. من ناحية أخرى، تقديم هدية كهذه بين ملوك من مرتبة مماثلة كان ممارسة معروفة جدا في الشرق الأدنى القديم أثناء الألفية الثانية قبل الميلاد.
13
في هذه الحالات، كانت الأغراض المعنية تجلب مباشرة بواسطة مبعوثي الملوك، فيما سندعوه في يومنا هذا بعثة دبلوماسية. (3) الاستكشاف ولمحة عامة عن المينويين
مما سبق، من الواضح أن المينويين من كريت كانوا على اتصال بمناطق عديدة في الشرق الأدنى القديم أثناء العصر البرونزي الوسيط والمتأخر، من 1800ق.م وما بعدها على الأقل. ويوجد حتى ذكر للمينويين في رسائل مملكة ماري، وثمة احتمال أن مترجما مينويا (أو مترجما للمينويين) كان موجودا في موقع مدينة أوغاريت في شمال سوريا أثناء أوائل القرن الثامن عشر ق.م، حيث كانوا يتلقون القصدير الذي كان يرسل غربا من مملكة ماري.
14
ومع ذلك، يبدو أنه كانت لهم علاقة خاصة مع مصر بدأت في القرن الخامس عشر، أثناء زمن حتشبسوت ومن بعدها تحتمس الثالث، ولهذا السبب تبدأ حكايتنا في هذه المرحلة الزمنية.
من المثير للاهتمام ملاحظة أن الحضارة المينوية عرفت بهذا الاسم على يد عالم الآثار البريطاني السير آرثر إيفانز في أوائل القرن العشرين. لا نعرف في الحقيقة الاسم الذي كانوا يدعون أنفسهم به، مع أننا نعرف أن كلا من المصريين، والكنعانيين، وأهل بلاد الرافدين كانوا يطلقون عليهم اسما مختلفا. فضلا عن ذلك، لا نعرف من أين جاءوا، غير أن ظننا يشير إلى الأناضول/تركيا باعتبارها الاحتمال الأرجح.
ما نعرفه حقا هو أنهم أقاموا حضارة على جزيرة كريت أثناء الألفية الثالثة قبل الميلاد استمرت حتى حوالي 1200ق.م في غضون هذه الفترة، في حوالي 1700ق.م، ضرب الجزيرة زلزال مدمر استلزم إعادة بناء القصور في مدينة كنوسوس وفي مواضع أخرى على الجزيرة. ومع ذلك تعافى المينويون سريعا وازدهروا باعتبارهم حضارة مستقلة حتى غزا الميسينيون القادمون من البر الرئيسي لليونان الجزيرة بعد ذلك في الألفية الثانية، والتي بعدئذ استمرت تحت الحكم الميسيني حتى انهار كل شيء في حوالي 1200ق.م.
بدأ السير آرثر إيفانز في التنقيب على جزيرة كريت بعد تتبعه لمصدر ما يطلق عليه أحجار الحليب التي وجدها تباع في السوق في أثينا. كانت النساء اليونانيات، اللاتي وضعن أو على وشك الوضع، يرتدين «أحجار الحليب» هذه. كان على الأحجار رموز محفورة لم يكن إيفانز قد رآها من قبل، ولكنه تبين أنها كتابة. فتتبع أثرها حتى موقع مطمور في مدينة كنوسوس (تلة كيفالا) بالقرب من مدينة هيراكليون المعاصرة الكبرى على جزيرة كريت؛ وهو موقع كان هاينريش شليمان، المنقب عن طروادة، قد حاول شراءه والتنقيب فيه، ولكن دون جدوى. رغم ذلك، استطاع إيفانز أن يشتري الأرض وأن يبدأ التنقيب في شهر مارس من عام 1900. استمر طيلة العقود السبعة التالية، منفقا معظم ثروته الشخصية في المشروع، وفي النهاية نشر اكتشافاته في مؤلف هائل متعدد المجلدات بعنوان «قصر مينوس في كنوسوس».
15
سرعان ما اكتشف إيفانز، بمعاونة مساعده الاسكتلندي المؤتمن دنكان ماكنزي،
16
ما بدا أنه قصر ملكي. على الفور أطلق على الحضارة المكتشفة حديثا اسم «المينوية»، نسبة إلى الملك مينوس الذي تحكي عنه الأسطورة اليونانية، والذي قيل إنه حكم كريت في الأزمنة القديمة، وكان لديه مينوتور (نصف إنسان، ونصف ثور) في ملحق قصره الذي بني على شكل متاهة تحت الأرض. عثر إيفانز على العديد من الألواح الطينية، وأشياء أخرى، عليها كتابة؛ بكل من «النظام الخطي إيه» (التي ما زالت رموزه لم تفك) و«النظام الخطي بي» (وهو شكل أقدم للغة اليونانية ربما يكون الميسينيون هم من أتوا به إلى كريت). ومع ذلك، لم يكتشف مطلقا الاسم الحقيقي لهؤلاء الناس، ويبقى اسمهم، كما ذكرت، مجهولا إلى يومنا هذا؛ رغم أكثر من قرن من التنقيب المستمر، ليس في كنوسوس وحدها وإنما في العديد من المواقع الأخرى في كريت أيضا.
17
كشف إيفانز عن العديد من الواردات من مصر والشرق الأدنى في كنوسوس، ومنها غطاء آنية من المرمر منقوش عليه بالهيروغليفية «الإله الطيب، سوسرن رع، ابن الشمس، خيان.»
18
خيان هو أحد أشهر ملوك الهكسوس، وحكم أثناء السنوات الأولى من القرن السادس عشر قبل الميلاد. وعثر على الأغراض الخاصة به في أنحاء الشرق الأدنى القديم، ولكن يظل أمر كيفية وصول هذا الغطاء إلى كريت لغزا.
من الأغراض التي تبعث على مزيد من الاهتمام إناء مصري من المرمر عثر عليه بعد أعوام عدة أثناء تنقيب لأثري آخر في مقبرة في موقع كاتسامبا في جزيرة كريت، وهو أحد الموانئ على الساحل الشمالي المرتبطة بمدينة كنوسوس. منقوش على الإناء الاسم الملكي للفرعون تحتمس الثالث: «الإله الطيب (من خبر رع)، ابن الشمس، تحتمس الكامل في تحولاته.» وهو واحد من الأغراض النادرة التي عثر عليها في منطقة إيجه وتحمل اسمه.
19
زعم المؤرخ اليوناني ثوسيديديس، الذي كان يعيش في القرن الخامس، أن المينويين كانوا يمتلكون أسطولا حربيا وسيطروا على البحار في هذه الفترة: «أول شخص تأكد لدينا أنه أسس أسطولا حربيا هو مينوس. لقد جعل من نفسه سيدا على ما يدعى في وقتنا هذا البحر الهيليني» (ثوسيديديس ، «تاريخ الحرب البيلوبونيسية»، الكتاب الأول، الصفحات 3-8). عند العلماء القدامى، أصبح هذا معروفا بمسمى
Minoan Thalassocracy ، أي: السلطة البحرية المينوية، من
kratia
وتعني: سلطة و
thalassos
وتعني: بحر. وعلى الرغم من أن هذه السيادة البحرية المينوية المزعومة قد أصبحت الآن موضع شك، فإن «قوارب «كفتيو»» قد ورد ذكرها في السجلات المصرية - كان «كفتيو» هو المسمى المصري الدال على جزيرة كريت في ذلك الوقت - على الرغم من أنه غير واضح ما إذا كانت هذه قوارب من كريت، أم ذاهبة إلى كريت، أو مبنية بطريقة مينوية.
20
كان جون ديفيت سترينجفيلو بيندلبري، خلف إيفانز في الموقع، مهتما اهتماما بالغا بالصلات المحتملة بين مصر وكريت؛ فنقب في الموقع المصري المسمى بالعمارنة (عاصمة إخناتون، التي سنتحدث عنها أكثر أدناه) بالإضافة إلى كنوسوس؛ حتى إن بيندلبري نشر أفرودة عن هذا الموضوع، بعنوان
Aegyptiaca ، جمع فيها وصنف كل الواردات المصرية التي عثر عليها في كنوسوس وفي مواضع أخرى على الجزيرة، قبل أن يقتل برصاص المظليين الألمان عندما اجتاحوا الجزيرة سنة 1941.
21
عثر إيفانز وبيندلبري على أغراض مستوردة إضافية في كنوسوس وبات واضحا على مر العقود التالية أن المينويين كانوا منخرطين في كل من مجالي الاستيراد والتصدير، وأنهم تواصلوا بجد مع عدد من المناطق الأجنبية بالإضافة إلى مصر. على سبيل المثال، عثر على أختام أسطوانية من بلاد الرافدين وعلى جرار تخزين من كنعان في مواقع مختلفة في جزيرة كريت في أطر تنتمي إلى العصر البرونزي الوسيط والمتأخر، بينما عثر على أوان فخارية وأغراض أخرى مكتملة الصنع تنتمي للمينويين، أو على الأقل على ذكر لها، في بلدان تمتد من مصر وإسرائيل والأردن وقبرص حتى سوريا والعراق. (4) عود إلى مصر
يجب ألا يغيب عن أذهاننا أن البضائع المذكورة عاليه لا تمثل سوى جزء صغير جدا من البضائع التي كانت ذات يوم تعبر البحر المتوسط، حيث إن بضائع كثيرة من تلك التي كان يتاجر فيها أثناء العصر البرونزي المتأخر كانت سريعة التلف ومن غير المرجح أن يبقى منها الكثير من البقايا التي يمكن التعرف عليها في وقتنا الحالي . فمن شبه المؤكد أن الحبوب، والخمر، والتوابل، والعطور، والخشب، والمنسوجات قد اختفت منذ أمد بعيد. أما المواد الخام مثل العاج، والأحجار الكريمة مثل اللازورد، والعقيق، والعقيق الأحمر، والمعادن مثل الذهب، والنحاس، والقصدير، فقد تحولت محليا هي الأخرى منذ أمد بعيد إلى أغراض أخرى مثل الأسلحة والمجوهرات؛ ومن ثم فربما تكون الدلائل الأكثر توافرا على طرق التجارة والصلات الدولية قد اندثرت، أو تحللت، أو اختفت بأي صورة أخرى في العصور القديمة. ومع ذلك، فإنه يمكن أحيانا تحديد وجود البضائع التجارية المندثرة في النصوص المكتوبة أو عن طريق تصويرها في الرسوم على الجدران التي بقيت إلى وقتنا الحاضر. يمكن لهذه الرسوم والنصوص والمراجع الأدبية أن تكون بمثابة أدلة أقل غموضا على الصلات بين الشعوب، إذا ما فسرت تفسيرا صحيحا؛ ومن ثم فإن الرسوم المجسدة لشعوب أجنبية في الرسوم الجدارية في عدد من المقابر المصرية التي يرجع تاريخها إلى عهود ملوك المملكة الحديثة، من حتشبسوت وحتى أمنحتب الثالث؛ قيمة للغاية؛ إذ تمثل دلائل ملموسة على شبكات الاتصال الدبلوماسية، والتجارية، وشبكات النقل التي كانت موجودة أثناء القرنين الخامس عشر والرابع عشر قبل الميلاد.
22
بنيت، أثناء حكم حتشبسوت، في القرن الخامس عشر قبل الميلاد، أولى المقابر التي تظهر فيها بالفعل شعوب منطقة إيجه على الرسوم الجدارية. في هذه المقابر كثيرا ما نرى المينويين مرسومين، عادة مع بضائعهم ومع نقوش تحدد هويتهم بعبارات لا لبس فيها تقول بأنهم قادمون من جزيرة كريت. فمثلا، في مقبرة سننموت، الذي كان المهندس المعماري الخاص بحتشبسوت، ومستشارها، وربما عشيقها، نجد مرسوما وفدا من منطقة إيجه، من ستة رجال يحملون أواني معدنية للزينة من المصنوعات الإيجية الشائعة.
23
في رسم آخر، داخل مقبرة رخميرع، وزير تحتمس الثالث (حوالي 1450ق.م)، نرى رجالا يرتدون تنورات على الطراز الإيجي التقليدي ويحملون أغراضا إيجية على وجه التحديد. وإلى جانبهم مكتوب (في نص منقوص): «قادمون في سلام باسم زعماء كفتيو و«الجزر الكائنة في وسط البحر»، راكعين ومحنيي الرءوس لعظمة صاحب الجلالة ملك مصر العليا والسفلى.»
24
من الواضح أن هذا تمثيل لوفد إيجي إلى مصر، وهو واحد من تمثيلات عديدة في مقابر مصرية من هذه الفترة.
الإيجيون ليسوا الوحيدين الذي يظهرون على رسوم جدار مقبرة رخميرع؛ في رسوم أخرى بأعلى وكذلك بأسفل تظهر بعثات من بلاد بونت، والنوبة، وسوريا، مع نقوش إلى جانب كل منها. وعلى الرغم من أن ذلك غير مثبت، فإنه يبدو أنه من المرجح أننا نطالع هنا تصويرا لحدث هام جرى أثناء حكم تحتمس الثالث، وأن الموفدين أو التجار القادمين من إيجه ليسوا سوى جانب واحد فقط من الحشد المتعدد الجنسيات الذي تجمع أو استدعي. إن كان الأمر كذلك، فهذا من شأنه على الأرجح أن يكون احتفال «حب سد» (أو اليوبيل)، الذي يحتفل به الفرعون لأول مرة بعد مرور ثلاثين عاما على حكمه ثم يحتفل به بعد ذلك بغير انتظام؛ في حالة تحتمس الثالث، نعرف أنه أقام ثلاثة من هذه الاحتفالات على الأقل، الأمر الذي لا يبعث على المفاجأة بما أنه حكم لأربعة وخمسين عاما.
25
شكل 1-2: مقبرة رخميرع، وتصوير لأشخاص من منطقة إيجه (نقلا عن ديفيز 1943، اللوح رقم 20؛ بإذن من متحف المتروبوليتان للفنون).
إجمالا، توجد حوالي أربع عشرة مقبرة ترجع إلى عهد حتشبسوت و/أو إلى عهد تحتمس الثالث، كلها تخص مسئولين رفيعي المستوى ومستشارين، والتي تصور وفودا من الأجانب الذي يزورون مصر، ومنهم الإيجيون، والنوبيون، والكنعانيون، وكلهم يحملون منتجات أجنبية.
26
في المقابر التسع التي ترجع تحديدا إلى زمن تحتمس الثالث، كثيرا ما نرى تصاوير لأجانب يقدمون هدايا دبلوماسية، أو يسلمون المكوس، أو يشاركون في بعثة بتكليف ملكي أرسلها تحتمس الثالث إلى لبنان للحصول على الأرز.
27
كفتيو، ورجال كفتيو، وقوارب كفتيو مذكورون في طائفة متنوعة من السياقات الأخرى التي ترجع إلى هذه الفترة في مصر، بما في ذلك نقوش على المعابد وتدوينات على ورق البردي. من هذه النقوش والتدوينات الأكثر إثارة للاهتمام بردية من العام الثلاثين لحكم تحتمس الثالث (حوالي 1450ق.م) تذكر العديد من «سفن كفتيو» في سياق استيراد مواد للأسطول الحربي المصري: «أعطي للحرفي [اسم رجل]، خشب تغليف لسفينة كفتيو»؛ و«اليوم أعطي للحرفي تيتي من أجل سفينة كفتيو الأخرى التي في عهدته»، و«أعطي للحرفي إينا من أجل سفينة كفتيو ... الأخرى.»
28
وعلى نحو مماثل، يشير أيضا نقش، على جدار لمعبد آمون في الكرنك من العام الرابع والثلاثين لحكم تحتمس الثالث، إلى سفن كفتيو.
29
على الرغم من أنه لا يزال غير واضح ما إن كانت هذه السفن من كفتيو (أي، سفن مينوية) أو أنها قادرة على الإبحار إلى كفتيو (أي، سفن مصرية)، فإنه من الواضح أنه كان يوجد اتصال، وربما اتصال مباشر، بين كريت المينوية ومصر في عهد المملكة الحديثة أثناء عصر تحتمس الثالث. بسبب الرياح السائدة، يمكن لسفينة شراعية - سواء في يومنا هذا أو منذ ثلاثة آلاف وأربعمائة سنة - أن تسافر بسهولة نسبية من سواحل كريت الجنوبية إلى مدينة مرسى مطروح على الساحل الشمالي لمصر ومن ثم إلى دلتا النيل. ليست رحلة العودة بالإبحار شراعيا بالرحلة السهلة، نظرا للرياح والتيارات، ولكنها ممكنة في أوقات معينة من العام. ومن الممكن أيضا الذهاب بحركة في عكس عقارب الساعة من مصر إلى كنعان وقبرص، ومن ثم إلى الأناضول ورودس، ومن هناك إلى كريت، وجزر السيكلاد، والبر الرئيسي لليونان، ثم العودة إلى كريت وجنوبا إلى مصر.
من الواضح من الرسم والنقش في مقبرة منخبر رع سنب، الكاهن الأول للإله آمون،
30
أن المصريين عرفوا بشأن الملوك المينويين وفهموا أنهم على قدم المساواة مع أولئك الذين من مناطق أجنبية أخرى. على جدران المقبرة يمكننا أن نرى «أمير كفتيو» (كريت) برفقة أمير الحيثيين (من الأناضول)، وأمير تونيب (من المحتمل أنها كانت في سوريا)، وأمير قادش (في سوريا). اللقب المستخدم لتحديد الشخصيات، وهو «ور »، ويعني «أمير» أو «زعيم»، هو نفسه في كل حالة.
31
يبدو أن الصورة المعروضة تشير إلى أن هؤلاء القادة زاروا مصر في مناسبة، ربما تتضمن مناسبة خاصة للغاية. هل جاءوا جميعا في نفس الوقت (ربما في منظور مختلف للحدث نفسه الذي قد صور في مقبرة رخميرع؟) أم في مناسبات منفصلة؟ لا نعرف يقينا، ولكن من المثير للاهتمام أن نبحث في احتمالية تجمع الشخصيات الرئيسية للعصر البرونزي المتأخر معا من أجل حدث عظيم في مصر، وهو ما يشبه كثيرا تجمع كبار الشخصيات في يومنا هذا من أجل زواج ملكي بريطاني أو من أجل مؤتمر لمجموعة الدول الصناعية الثمانية الكبرى.
يستخدم أيضا تحتمس الثالث نفس المصطلح، «ور» (أمير أو زعيم)، في موضع آخر، في مستهل العام الثاني والأربعين لسجلاته، حيث يذكر «أمير تاناجا»، وهي التسمية المصرية للبر الرئيسي لليونان. وهنا يدرج أغراضا من إيجه، تشمل وعاء فضيا بصنعة كفتيوية وأربع صحاف لها مقابض من الفضة. المثير للاهتمام أنه يدعوها «إينو»، وهو مصطلح عادة ما يترجم «جزية»، لكنه على الأرجح يعني «هدية» في هذا السياق.
32
ربما كان الانخراط في تبادل تجاري «عادي» يعتبر أدنى من مكانة الملك، في حين كان تبادل «الهدايا» مع النظراء (أو شبه النظراء) مقبولا تماما. سنناقش هذا أكثر في الفصل التالي، في سياق مسألة التبادل التجاري الدولي الذي كان يجري تحت ستار تقديم الهدايا خلال القرن الرابع عشر قبل الميلاد. (5) حتشبسوت وتحتمس الثالث
لم يشهد عهد حتشبسوت، الذي سبق مباشرة عهد تحتمس الثالث، تعاملات مع منطقة إيجه فحسب، بل أيضا مع مناطق أخرى من الشرق الأدنى القديم. كانت هي بالأساس من وضعت الأسرة الثامنة عشرة على الطريق الخاص بالصلات الدولية والمكانة العالمية، مستخدمة الدبلوماسية بدلا من الحرب. كانت ذات دم ملكي نقي، كونها ابنة الفرعون تحتمس الأول والملكة أحمس (إياح مس)؛ رغم أنه ينبغي الإشارة إلى أن والدها كان قد حقق المكانة الملكية عن طريق الزواج من العائلة الملكية فحسب.
تزوجت حتشبسوت من أخيها غير الشقيق، تحتمس الثاني، في ترتيب قصد منه تقديم العون للشاب؛ إذ كان ذا دم نصف ملكي فقط؛ لأن أمه كانت زوجة ملكية ذات مرتبة أدنى ولم تكن الملكة الفعلية. منحه زواجه من حتشبسوت شرعية أكثر مما كان سيحظى به بخلاف هذا. أثمر زواجهما ابنة لا ابنا، وهو ما كان من الممكن أن يكون كارثة للأسرة الملكية. ومع ذلك، فقد أنجب ابنا من فتاة من الحريم، الذي ترعرع حتى صار تحتمس الثالث، المقدر له أن يخلف والده على العرش. لسوء الحظ، عندما توفي تحتمس الثاني فجأة، لم يكن الابن الصغير كبيرا بما يكفي ليحكم بمفرده؛ لذلك تدخلت حتشبسوت لتحكم مؤقتا بصفتها وصية على العرش نيابة عنه، لكن عندما جاء وقت تسليم العرش له، رفضت أن تتنازل له. وحكمت لأكثر من عشرين عاما، بينما انتظر تحتمس الثالث، ربما بنفاد صبر، في خلفية المشهد.
33
أثناء هذين العقدين، بدأت حتشبسوت في ارتداء اللحية الفرعونية التقليدية الزائفة وعدة المنصب الأخرى، وملابس رجالية مع درع للجسد ليخفي ثدييها وسماتها الأنثوية الأخرى، مثلما يمكن أن يتبين في التماثيل المنحوتة في الدير البحري؛ معبدها الجنائزي. كذلك غيرت اسمها، معطية إياه نهاية ذكورية بدلا من نهايته الأنثوية، وأصبح «صاحب الجلالة، حتشبسو.»
34
بعبارة أخرى، حكمت باعتبارها رجلا؛ ملكا ذكرا، وليس مجرد وصية على العرش. نتيجة لذلك، تعتبر حاليا واحدة من أشهر نساء مصر القديمة، بجانب نفرتيتي وكليوباترا. على ما يبدو لم تتزوج حتشبسوت ثانية أبدا بعد وفاة تحتمس الثاني، ولكن ربما تكون قد اتخذت مهندسها المعماري، وكبير حاشيتها، سننموت، عشيقا لها؛ فحفرت صورة له، ربما سرا، على معبد حتشبسوت الجنائزي في الدير البحري، الذي أشرف على بنائه.
35
ينسب إلى هذه الحاكمة المثيرة للاهتمام البعثات التجارية السلمية التي أرسلتها إلى فينيقية (لبنان المعاصرة) بحثا عن الخشب، وإلى سيناء بحثا عن النحاس والفيروز،
36
لكن أشهر بعثاتها كانت بعثة أرسلتها إلى بلاد بونت أثناء العام التاسع من عهدها، المشار إليها في النقوش الموجودة على جدران معبد الدير البحري. لا يعرف الباحثون حاليا الموقع الدقيق لبلاد بونت وما يزال أمرا محل خلاف. معظم المراجع تضعها في مكان ما في منطقة السودان، أو إريتريا، أو إثيوبيا، لكن آخرين يرون أنها في مكان آخر، غالبا على امتداد شواطئ البحر الأحمر، بما في ذلك منطقة اليمن الحالية.
37
لم تكن بعثة حتشبسوت هي أول بعثة ترسل من مصر إلى بلاد بونت، ولن تكون الأخيرة. أرسلت بعثات عديدة أثناء عصر المملكة المصرية الوسطى، وبعد ذلك، خلال منتصف القرن الرابع عشر قبل الميلاد، بعث أمنحتب الثالث بعثة. ومع ذلك، فإن سجل حتشبسوت وحده هو الذي يصور ملكة بلاد بونت؛ التي تسمى «إيتي» حسب النقش المصاحب للرسم. وقد تولد عن التصوير الذي يوضح هيئة الملكة الأجنبية الكثير من التعليقات بسبب قامتها القصيرة، وظهرها المنحني، والشحوم المترهلة، والمؤخرة الكبيرة، والذي عادة ما يسفر عن أوصاف للملكة بأنها مصابة بحالة من كبر الكفل (أي امتلاك بطن سمين وفخذين ومؤخرة ضخمة؛ وعادة ما تكون بارزة). يوجد أيضا أشجار نخيل، وحيوانات غريبة، وتفاصيل أخرى تظهر المكان البعيد، وتصاوير للسفن التي نقلت المصريين إلى بلاد بونت ومنها، بكل تفصيلاتها حتى الصواري والحبال.
في العام الثالث والثلاثين من حكم تحتمس الثالث، في وقت ما بعد عام 1450ق.م، أرسل الفرعون وفده التجاري إلى بلاد بونت. وهذا مسجل كما ينبغي في سجلات وقائعه، مثلما حدث مع بعثة أخرى أرسلت في العام الثامن والثلاثين إلى نفس المنطقة.
38
هذه بعض من أمثلة قليلة، إلى جانب البعثات التي أرسلها إلى لبنان للحصول على الأرز، حيث يمكننا في الواقع أن نشير إلى تبادل تجاري مستمر بين مصر ومنطقة أجنبية أثناء حكم تحتمس الثالث، على الرغم من أننا نشك أن الكثير من «الجزية» (إينو) المصورة في مشاهد النبلاء في المقبرة في عهده هي في الواقع سلع تجارية.
من ضمن المناطق البعيدة التي كانت مصر، تحت حكم تحتمس الثالث، تقوم بتبادل تجاري معها على ما يبدو، والتي سجل تلقيه «الإينو» منها في ثلاث مناسبات منفصلة؛ إقليم كان معروفا للمصريين باسم «إسي»، وكان على الأرجح يقصد به ائتلاف دويلات المدن في شمال غرب الأناضول (تركيا الحالية) المعروف باسم أسوا، أو يقصد به ألشية، وهو الاسم الذي كانت تعرف به قبرص أثناء العصر البرونزي. يذكر كتبة تحتمس «إسي» أربع مرات على الأقل في نقوش متنوعة، مدرجين إياها جنبا إلى جنب كفتيو في «النصب الشعري/نشيد النصر» الخاص به : «جئت لأجعلك تتمكن من أن تطأ الأرض الغربية، فكفتيو وإسي تحت سلطانك، ولأجعلهم يرون جلالتك على هيئة ثور شاب، ثابت الجنان، حاد القرنين، لا يستطيع المرء أن يدنو منه.»
39
في سجلات وقائع بعثته التاسعة، في العام الرابع والثلاثين لحكمه (1445ق.م)، يذكر أن «زعيم إسي» قد أحضر «إينو» يتكون من مواد خام؛ نحاس خام، وكتل من الرصاص، ولازورد، وناب عاج، وخشب. وعلى نحو مماثل، في سجل بعثته الثالثة عشرة، في العام الثامن والثلاثين لحكمه (1441ق.م)، نعرف أن «أمير إسي» أحضر «إينو» يتكون من نحاس وخيول، وفي وصف بعثته الخامسة عشرة، في العام الأربعين لحكمه (1439ق.م)، نعرف أن «زعيم إسي» أحضر «إينو» يتكون من أربعين سبيكة من النحاس، وسبيكة من الرصاص، ونابين من العاج. أغلب تلك الأصناف كان الأصناف المعتادة التي نجدها في تبادل الهدايا العالي المستوى في أنحاء منطقة الشرق الأدنى في العصر البرونزي.
40 (6) مصر وكنعان في معركة مجدو، 1479ق.م
قد يكون علماء الآثار قد تعرفوا أخيرا على هوية مومياء حتشبسوت في السنوات الأخيرة، التي توجد في مقبرة تعرف باسم كيه في 60 (وترمز إلى «وادي الملوك، المقبرة رقم 60»)، وليس في مقبرتها «كيه في 20»، التي تقع في مكان آخر في وادي الملوك. كانت واحدة من نساء قلائل دفن على الإطلاق في وادي الصفوة هذا، المحجوز عادة لملوك مصر الذكور. إذا كانت المومياء المتعرف عليها هي بالفعل مومياء حتشبسوت، إذن فقد عانت في شيخوختها من السمنة المفرطة، ومشاكل في الأسنان، والسرطان.
41
وعندما ماتت أخيرا، في حوالي 1480ق.م، لم يضيع تحتمس الثالث، الذي يشك أحيانا في أنه كان له يد في موتها، وقتا وتولى السلطة وسار بجيشه ليخوض القتال في السنة الأولى من حكمه المنفرد. كذلك حاول أن يمحو اسم حتشبسوت من التاريخ، آمرا بتدنيس آثارها وبإزالة اسمها من النقوش حيثما أمكن.
عندما بدأ تحتمس الثالث حملته الأولى - الأولى من سبع عشرة حملة بدأها على مدى السنوات العشرين التالية أو نحوها - تمكن من أن يضع نفسه، بكل معنى الكلمة، في كتب التاريخ؛ إذ إن مسار وتفاصيل رحلته وفتوحاته العسكرية سنة 1479ق.م نقلت من اليوميات التي استمرت طوال مسار رحلته ونقشت للأجيال القادمة على جدار معبد آمون في الكرنك في مصر. المعركة التي خاضها في مجدو (التي أصبحت بعد ذلك معروفة في الكتاب المقدس باسم هرمجدون) في مواجهة الزعماء المحليين الكنعانيين المتمردين أثناء الحملة هي أول معركة نعرفها وتدون تفاصيلها وتصبح متاحة لتوعية الذين لم يكونوا حاضرين لها.
تشير الرواية المنقوشة إلى أن تحتمس الثالث زحف برجاله من مصر مدة عشرة أيام، شمالا حتى موقع يحم. هناك توقف ليعقد مجلس حرب ويقرر أفضل طريقة لمهاجمة مدينة مجدو المحصنة وما يحيط بها من معسكرات مؤقتة للحكام المحليين الكنعانيين الذين كانوا قد بدءوا تمردا على الحكم المصري عند اعتلائه العرش. من يحم، كان يوجد ثلاثة طرق مؤدية إلى مجدو؛ طريق شمالي، كان يظهر في وادي يزرعيل بالقرب من يوكنعام؛ وطريق جنوبي، كان يؤدي إلى وادي يزرعيل بالقرب من بلدة تعنك؛ وطريق مركزي، ينتهي عند مجدو.
42
اقترح قادته، حسب الرواية المكتوبة، أن يسلكوا إما الطريق الشمالي أو الجنوبي؛ لأنهما كانا أوسع وأقل عرضة لعمل كمين لهم فيها. أجاب تحتمس الثالث بأن هذا التكتيك هو بالضبط ما سيتوقعه الكنعانيون؛ فلن يصدقوا أبدا أن يكون من الغباء لدرجة أن يأتيهم من الطريق المركزي لأنه كان طريقا ضيقا ويسهل نصب كمين فيه. ولكن، بالتحديد لأن ذلك كان تفكيرهم، فكان سيسير بالجيش من الطريق المركزي، على أمل أن يباغت الكنعانيين على حين غرة، وذلك بالضبط ما حدث. استغرق المصريون حوالي اثنتي عشرة ساعة للوصول عبر الممر المركزي (المعروف، في أوقات كثيرة عبر التاريخ، باسم وادي عارة، و/أو ناحل عيرون، و/أو ممر مصمص) من أول رجل إلى آخر رجل، لكنهم مروا دون خدش ولم يجدوا أحدا يحرس لا مجدو ولا معسكرات العدو المؤقتة المحيطة بها. كانت قوات الكنعانيين كلها في يوكنعام إلى الشمال وتعنك إلى الجنوب، مثلما كان تحتمس الثالث قد توقع تماما. الخطأ الوحيد الذي ارتكبه تحتمس الثالث كان سماحه لرجاله بالتوقف لسلب ونهب معسكرات العدو قبل الاستيلاء على المدينة بالفعل. كان هذا خطأ أتاح وقتا لقلة من المدافعين عن مجدو - معظمهم من الشيوخ، والنساء، والأطفال - لإغلاق بوابات المدينة. وأسفر هذا بدوره عن حصار طويل دام سبعة شهور أخرى قبل أن يتمكن المصريون من الاستيلاء على المدينة.
بعد ذلك بنحو ثلاثة آلاف وأربعمائة سنة، جرب الجنرال إدموند ألنبي نفس التكتيك الذي استخدمه تحتمس الثالث، في سبتمبر من عام 1918 أثناء الحرب العالمية الأولى، وأدى إلى نفس النتائج الناجحة. ربح المعركة التي جرت عند مجدو وأخذ مئات من الجنود الألمان والأتراك أسرى، دون أي خسائر في الأرواح عدا بضعة من خيوله. أقر ألنبي بعد ذلك أنه كان قد قرأ ترجمة جيمس بريستد الإنجليزية لرواية تحتمس الثالث؛ مما أدى به إلى أن يقرر تكرار ما حدث في الواقعة التاريخية. يروى أن خورخي سانتايانا قال ذات مرة إن أولئك الذين لا يدرسون التاريخ محتم عليهم تكراره، لكن ألنبي أثبت أن العكس يمكن أن يكون صحيحا أيضا؛ فأولئك الذين يدرسون التاريخ يمكنهم أن يكرروه بنجاح، إذا ما اختاروا أن يفعلوا ذلك.
43 (7) مصر وميتاني
قاد تحتمس الثالث أيضا حملات إلى شمال سوريا، ضد المملكة الميتانية التي كانت قد ظهرت إلى الوجود في هذه المنطقة بحلول عام 1500ق.م، والتي كان جده تحتمس الأول قد قام في وقت سابق بحملة عليها.
44
استمرت المملكة الميتانية تنمو وتستوعب مناطق قريبة أخرى، مثل مملكة هانيجلبات الحورية. ونتيجة لذلك، عرفت بأسماء عديدة، حسب الفترة الزمنية وحسب من يكتب أو يتحدث عنها. بوجه عام، دعاها المصريون «نهارين» أو «نهارينا»؛ ودعاها الحيثيون «أرض حوري»؛ ودعاها الآشوريون «هانيجلبات»؛ بينما أشار ملوك ميتاني أنفسهم إليها باسم مملكة «ميتاني». لم يعثر مطلقا على عاصمتها واشوكاني. إنها واحدة من عواصم الشرق الأدنى القديم القليلة جدا التي لا تزال إلى الآن مستعصية على الأثريين، على الرغم من الدلائل المغرية في السجل الأثري وفي النصوص القديمة. يعتقد البعض أنها قد تكون واقعة في تل الفخيرية في سوريا، شرق نهر الفرات ؛ ولم يتأكد هذا مطلقا، رغم المحاولات العديدة.
45
وفقا لنصوص متنوعة، كان 90 بالمائة من تعداد سكان هذه المملكة تقريبا من الحوريين المحليين - كما كانوا يدعون - تحت حكم العشرة بالمائة الباقين؛ الذين كانوا الأسياد الميتانيين، الذين كانوا على ما يبدو من أصل هندو أوروبي. كانت هذه المجموعة الصغيرة، التي كانت على ما يبدو قد انتقلت إلى هناك من مكان آخر لتسيطر على السكان الأصليين من الحوريين وتنشئ المملكة الميتانية، تمتلك نخبة عسكرية يعرفون باسم «ماريانو» (المحاربين بالعجلات الحربية) والذين كانوا معروفين باستخدامهم للعجلات الحربية والمهارة العالية في تدريب الخيول. يحتوي نص عثر عليه في حاتوسا؛ عاصمة الحيثيين في الأناضول، على بحث كتبه كيكولي، الذي كان مدربا ميتانيا كبيرا للخيول، حوالي 1350ق.م، يعطي فيه إرشادات عن كيفية تدريب الخيول خلال فترة 214 يوما. إنه نص مفصل، يمتد على أربعة ألواح طينية، ولكنه يبدأ ببساطة بالعبارة التالية: «هكذا [يقول] كيكولي، مدرب الخيول من أرض ميتاني.»
46
في حملته الثامنة، أثناء عام حكمه الثالث والثلاثين (حوالي 1446ق.م)، شن تحتمس الثالث، كشأن جده من قبله، هجوما بريا وكذلك بحريا على مملكة ميتاني. تورد النقوش أنه جعل قواته تبحر في نهر الفرات، على الرغم من صعوبات الإبحار عكس كل من الريح والتيار، ربما كان ذلك ردا انتقاميا على الاشتباه في تورط ميتاني في التمرد الكنعاني أثناء العام الأول من حكمه.
47
هزم تحتمس الثالث القوات الميتانية وأمر بوضع نصب حجري منقوش شمال كركميش على الضفة الشرقية لنهر الفرات، لإحياء ذكرى انتصاره.
ومع ذلك، لم تبق ميتاني مقهورة مدة طويلة؛ ففي غضون خمسة عشر أو عشرين عاما، بدأ الملك الميتاني شوشتاتار في توسيع المملكة توسيعا كبيرا من جديد. فهاجم مدينة آشور، عاصمة الآشوريين، آخذا غنيمة بابا من الذهب والفضة الثمينين استخدمه لتزيين قصره في واشوكاني - كما نعرف من نص لاحق في محفوظات الحيثيين في حاتوسا - وربما حتى يكون قد تواجه مع الحيثيين.
48
في أقل من قرن، بحلول زمن الفرعون أمنحتب الثالث في منتصف القرن الرابع عشر قبل الميلاد، كانت العلاقات بين مصر وميتاني ودية جدا حتى إن أمنحتب لم يتزوج من أميرة ميتانية واحدة بل من أميرتين.
يتضح مما عرضناه عن ميتاني، وآشور، والمصريين أن العالم كان يزداد ترابطا بالفعل، حتى وإن كان ذلك في بعض الأحيان عن طريق الحرب فحسب. (8) تمرد أسوا في الأناضول
مما يثير الاهتمام أن تحتمس الثالث كان على اتصال، وربما كان منخرطا في تبادل تجاري نشط، مع مناطق بعيدة، بما في ذلك مناطق تقع شمال وغرب مصر. من المحتمل أن يكون الاتصال مع أسوا (بافتراض أنها هي «إسي») قد بادرت به أسوا وليس مصر. في حوالي 1430ق.م، شنت أسوا تمردا على الحيثيين في وسط الأناضول، ويجب على المرء أن ينظر في إمكانية أن أسوا كانت تبحث حثيثا عن صلات دبلوماسية مع قوى كبرى أخرى أثناء العقد السابق على التمرد.
49
احتل تمرد أسوا، الذي كان في السابق مهما لقلة من الباحثين، الصدارة في عام 1991، عندما كان مشغل جرافة يقحم نصل آلته في حافة طريق بالقرب من الموقع القديم لحاتوسا، عاصمة الحيثيين؛ الذي يبعد في وقتنا الحالي مسافة رحلة لمدة ساعتين بالسيارة (208 كيلومتر) شرق أنقرة الحالية. اصطدم النصل بشيء معدني. فقفز الرجل نازلا من مقعده في مقصورة الجرافة ومد يده في التراب المتفكك، وعلى نحو مفاجئ جذب إلى الخارج شيئا طويلا، رفيعا، وثقيلا ذا لون أخضر. كان له شكل وملمس سيف قديم، وهو ما تأكد عندما نظفه الأثريون المقيمون في المتحف المحلي.
ومع ذلك، لم يكن سيفا حيثيا تقليديا وإنما كان نوعا لم تقع عليه عين من قبل في الإقليم. بالإضافة إلى ذلك، كان يوجد عليه نقش حفر في النصل. من بداية الأمر ثبت أن قراءة النقش أسهل من التعرف على صناعة السيف؛ ولذلك تمت الترجمة أولا. كانت ترجمة نص النقش المكتوب باللغة الأكادية - اللغة الدبلوماسية للعصر البرونزي في الشرق الأدنى القديم - والذي جرى فيه استخدام رموز مسمارية (وتدية الشكل)، كالآتي: «بتدمير دوثاليا الملك العظيم لبلاد أسوا، وهب هذه السيوف لإله العاصفة، ربه.»
50
يشير النقش إلى ما يطلق عليه تمرد أسوا، الذي أخمده الملك الحيثي توداليا (دوثاليا) الأول أو الثاني سنة 1430 تقريبا (ذكرنا هنا «الأول أو الثاني» لأننا لسنا متيقنين مما إذا كان الملك الأول أو الثاني الذي حمل ذلك الاسم). كانت الثورة معروفة بالفعل للباحثين الذي يدرسون الإمبراطورية الحيثية بسبب عدد من النصوص الأخرى، التي كتبت كلها بكتابة مسمارية على ألواح طينية، التي عثر عليها أثريون ألمان كانوا ينقبون في حاتوسا في وقت سابق خلال القرن العشرين. غير أن السيف كان أول سلاح، وأول قطعة أثرية من أي نوع، في هذا الصدد، أمكن ربطها بالثورة. واضح من النقش رجحان وجود المزيد من السيوف التي ما زال يتعين العثور عليها. ومع ذلك، قبل أن نمضي قدما، سنمضي بعض الوقت بين الحيثيين، وفي تحديد موقع أسوا، وفي بحث أمر التمرد. سننظر في السبب وراء كون هذا دليلا على وجود حالة قديمة لمبدأ الدولية، وربما على أن حرب طروادة جرت قبل ذلك بمائتي سنة ولأسباب مختلفة عن تلك التي قدمها هوميروس. (9) استطراد: اكتشاف الحيثيين ونظرة عامة عنهم
يتعين أولا أن نشير إلى أن الحيثيين، رغم كونهم يحكمون إمبراطورية ضخمة من وطنهم في وسط الأناضول طوال جزء كبير من الألفية الثانية قبل الميلاد، كانوا مجهولين تاريخيا، على الأقل من الناحية الجغرافية، حتى مائتي سنة مضت فقط.
51
كان الحيثيون معروفين لباحثي الكتاب المقدس بسبب ذكرهم في الكتاب المقدس العبري، حيث يدرجون باعتبارهم من ضمن شعوب كثيرة (مثل الحويين، والعموريين، واليبوسيين، وهكذا) عاشت في كنعان أثناء أواخر الألفية الثانية قبل الميلاد، وكانت تتعامل مع العبرانيين/بني إسرائيل وفي النهاية خضعت لهم. يحكي لنا الكتاب المقدس، على سبيل المثال، أن إبراهيم اشترى مدفنا لزوجته سارة من عفرون الحيثي (سفر التكوين، الإصحاح 23، الآيات 3-20)، وأن بثشبع زوجة الملك داود كانت متزوجة أولا من أوريا الحيثي (سفر صموئيل الثاني، الإصحاح 11، الآيات 2-27)، وأن الملك سليمان كان له «نساء حيثيات» ضمن زوجاته (سفر الملوك الأول، الإصحاح 11، الآية 1). ومع ذلك، فإن الجهود الأولى للعثور على الحيثيين في الأراضي التوراتية باءت بالفشل، على الرغم من الموقع الجغرافي المعين المحدد بدقة في الإعلان الذي صرح به موسى من العليقة المتقدة نارا: «فنزلت لأنقذهم [بني إسرائيل] من أيدي المصريين، وأصعدهم من تلك الأرض إلى أرض جيدة وواسعة، إلى أرض تفيض لبنا وعسلا، إلى مكان الكنعانيين والحيثيين والأموريين والفرزيين والحويين واليبوسيين» (سفر الخروج، الإصحاح 3، الآية 7).
52
خلال تلك الأثناء، كان مستكشفو أوائل القرن التاسع عشر - مثل يوهان لودفيج بركهارت، الذي كان رجلا سويسريا مولعا بارتداء الملابس المحلية الشرق أوسطية (وكان يطلق على نفسه اسم «الشيخ إبراهيم») من أجل تيسير عمليات الاستكشاف التي كان يقوم بها - يكتشفون بقايا حضارة من العصر البرونزي لم تكن معروفة في السابق، وبخاصة في الهضبة الوسطى لتركيا. وأمكن إيجاد الرابط في نهاية الأمر. في عام 1879، في مؤتمر في لندن، أعلن عالم الآشوريات المعتبر إيه إتش سايس أن الحيثيين لم يكونوا موجودين في كنعان وإنما في الأناضول؛ أي، في تركيا وليس في إسرائيل/لبنان/سوريا/الأردن. لاقى إعلانه قبولا عاما، وما زال هذا الأمر مقبولا في يومنا هذا، ولكن يتعين على المرء أن يتساءل كيف أمكن أن يخطئ الكتاب المقدس خطأ كبيرا كهذا.
الإجابة في الواقع منطقية بدرجة كبيرة؛ فبقدر ما امتدت الإمبراطورية البريطانية من أراضي إنجلترا الفعلية، كذلك أيضا امتدت الإمبراطورية الحيثية غربا في تركيا وجنوبا إلى سوريا. ومثلما تستمر بعض البلدان التي كانت سابقا جزءا من الإمبراطورية البريطانية في لعب الكريكت وشرب شاي ما بعد الظهيرة، بعدما زالت الإمبراطورية الأصلية بوقت طويل، كذلك أيضا احتفظت بعض المناطق التي كانت سابقا تتبع الإمبراطورية الحيثية في شمال سوريا بأجزاء من الثقافة، واللغة والديانة الحيثية؛ لدرجة أننا نشير إلى أهلها الآن بالحيثيين الجدد، الذين ازدهروا أثناء السنوات الأولى من الألفية الأولى قبل الميلاد. وبحلول وقت تدوين الكتاب المقدس، في وقت ما بين القرنين التاسع والسابع قبل الميلاد وذلك وفق السلطات الدينية، كان الحيثيون الأصليون قد اختفوا منذ وقت طويل، لكن خلفاءهم، الحيثيين الجدد، كانوا مستقرين تماما في الجزء الشمالي من أرض كنعان. وما من شك في أنه كان يوجد تفاعل بينهم وبين بني إسرائيل وشعوب منطقة الشام الأخرى، مما يضمن ذكرهم في الروايات التوراتية ويحدث خلطا غير مقصود لدى المستكشفين اللاحقين الذين يبحثون عن الحيثيين الأصليين.
53
بالإضافة إلى ذلك، فإنه مع بدء الأثريين في التنقيب في المواقع الحيثية وترجمتهم في نهاية المطاف للألواح الطينية العديدة التي اكتشفت فيها، صار واضحا أنهم لم يكونوا يدعون أنفسهم بالحيثيين. كان الاسم الذي يطلقونه على أنفسهم في الواقع شيئا قريبا من «النيشيين» أو «النيشيانيين» نسبة إلى مدينة نيشا (التي تعرف، ونقب فيها حاليا، باسم كولتبه كانيش في إقليم كابادوكيا في تركيا). ازدهرت هذه المدينة لمائتي عام تقريبا بصفتها مقر سلالة هندو أوروبية محلية حاكمة قبل أن يؤسس ملك يسمى حاتوسيلي الأول (ويعني «الرجل الذي من حاتوسا») في حوالي 1650ق.م تقريبا عاصمته في مكان أبعد شرقا، في موقع جديد يحمل ذلك الاسم، حاتوسا. لا نزال في الوقت الحالي ندعوهم الحيثيين لمجرد أن ذلك الاسم أصبح مستقرا بشدة في الأدبيات الأكاديمية قبل أن تترجم الألواح التي أظهرت اسمهم الحقيقي.
54
اختير موقع العاصمة الجديدة، حاتوسا، بحرص. كانت محصنة تحصينا جيدا وكانت في موقع جيد جغرافيا، بوجود واد ضيق يتيح منفذا وحيدا مؤديا إلى المدينة، حتى إنها لم يجر الاستيلاء عليها إلا مرتين خلال وجودها الذي دام خمسمائة سنة؛ وربما كانت المرتان على يد مجموعة مجاورة تدعى الكاشكا. احتوى الموقع على آلاف من ألواح الطين أثناء عمليات التنقيب التي أجريت منذ 1906 على يد أثريين ألمان مثل هوجو فينكلر، وكيرت بيتل، وبيتر نيف، ويورجن سيهر. من ضمن هذه الألواح يوجد رسائل ووثائق مما يتعين أنه كان سجلات الدولة الرسمية، بالإضافة إلى قصائد، وقصص، وسجلات تاريخية، وطقوس دينية، وكل أنواع الوثائق المكتوبة الأخرى. وهي مجتمعة لا تتيح لنا تجميع تاريخ الحكام الحيثيين وتعاملاتهم مع الشعوب والممالك الأخرى فحسب، وإنما تتيح لنا أيضا تجميع تاريخ الأشخاص العاديين، بما في ذلك حياتهم اليومية ومجتمعهم، ونظمهم العقائدية، وتشريعاتهم القانونية؛ التي يشتمل أحدها على القانون المثير للدهشة نوعا ما الذي يقول: «إذا عض أي أحد أنف شخص حر، فعليه أن يدفع 40 شيكلا من الفضة»
55 (يتساءل المرء فقط عن عدد المرات التي حدث فيها هذا).
تخبرنا الألواح في مرحلة ما أن ملكا حيثيا يسمى مورسيلي الأول، حفيد وخلف حاتوسيلي الأول السالف ذكره، زحف بجيشه حتى بلاد الرافدين، وهي رحلة تزيد عن ألف ميل، وهاجم مدينة بابل سنة 1595ق.م، محرقا إياها عن بكرة أبيها ومنهيا سلالة حاكمة استمرت مائتا سنة اشتهرت بفضل حمورابي «المشرع». وبعد ذلك، بدلا من أن يحتل المدينة، ما كان منه إلا أن استدار بالجيش الحيثي وتوجه صوب الديار، منفذا بذلك فعليا أطول اعتداء مسلح ثم المغادرة، في التاريخ. وكنتيجة غير مقصودة لفعله، تمكنت مجموعة كانت مجهولة في السابق تدعى الكيشيين من احتلال مدينة بابل ثم حكمتها طوال القرون العديدة التالية.
بينما يعرف النصف الأول من التاريخ الحيثي باسم المملكة القديمة وهو ذو شهرة مبررة ترجع إلى مآثر ملوك مثل مورسيلي، فإن النصف الثاني هو الذي نحن معنيون به أكثر هنا. ازدهرت الإمبراطورية، التي عرفت خلال هذه الفترة باسم الإمبراطورية الحيثية، وارتفعت حتى إلى مستويات أعلى أثناء العصر البرونزي المتأخر؛ بدءا من القرن الخامس عشر قبل الميلاد وحتى العقود الأولى من القرن الثاني عشر قبل الميلاد. ومن بين أشهر ملوكها رجل يسمى سابيليوليوما الأول، الذي سنلتقي به في الفصل التالي والذي قاد الحيثيين إلى موقع بارز في الشرق الأدنى القديم باستيلائه على قدر كبير من المناطق وتعامله بندية مع فراعنة المملكة المصرية الحديثة. بل إن الأمر وصل بملكة مصرية كانت قد ترملت حديثا أن تطلب من سابيليوليوما أن يرسل لها أحد أبنائه زوجا لها، معلنة أنه سيحكم مصر معها. ليس واضحا أي ملكة كانت، أو أرملة من كانت، ولكن بعض الباحثين الخبراء يرجحون أن الملكة كانت عنخ إسن آمون وأن زوجها المتوفى هو الملك المصري توت عنخ آمون، كما سنرى لاحقا. (10) تمرد أسوا ومكان أخياوا
لنعد الآن إلى عام 1430ق.م تقريبا، عندما كان الحيثيون وملكهم توداليا الأول أو الثاني يتعامل مع تحالف من الدويلات المتمردة. كانت هذه الدويلات تعرف مجتمعة باسم أسوا. وكانت تقع في شمال غرب تركيا، على ساحل مضيق الدردنيل مباشرة، حيث كانت تجري معركة جاليبولي أثناء الحرب العالمية الأولى. تعطينا الألواح الحيثية أسماء كل هذه الدويلات الاثنتين والعشرين المتحالفة التي انتفضت في تمرد على الحيثيين. معظم هذه الأسماء لم يعد يعني لنا الكثير ولا يمكن تحديد مكان محدد له، فيما عدا الاسمين الأخيرين في القائمة: «ويلوسيا» و«تاروسيا»، اللذين يشار بهما على الأرجح إلى طروادة والمنطقة المحيطة بها.
56
بدأ التمرد على ما يبدو بينما كان توداليا الأول أو الثاني وجيشه عائدين من حملة عسكرية في غرب الأناضول. لدى سماع الأخبار، ما كان من الجيش الحيثي إلا أن استدار واتجه جهة الشمال الغربي إلى أسوا، لإخماد التمرد. تخبرنا الرواية الحيثية أن توداليا بنفسه قاد الجيش وهزم التحالف الأسوي. تشير الروايات إلى أن عشرة آلاف جندي أسوي، وستمائة زوج من الخيول وقادة مركباتها الحربية الأسويين، و«السكان المدحورين، وثيران، وماشية، ومتاع الأرض» أخذوا إلى حاتوسا أسرى وغنائم.
57
من بين هؤلاء كان الملك الأسوي وابنه كوكولي، إلى جانب قلة آخرين من العائلة المالكة الأسوية وعائلاتهم. في نهاية المطاف، نصب توداليا كوكولي ملكا على أسوا وأعاد تأسيس أسوا باعتبارها دويلة تابعة للمملكة الحيثية. ومع ذلك، تمرد كوكولي بعدئذ على الفور، فما كان من الحيثيين إلا أن هزموه ثانية. أعدم كوكولي، ودمر تحالف أسوا واختفى من على وجه الأرض. أما إرثها فما زال ماثلا بالدرجة الأولى في الاسم المعاصر «آسيا»، ولكن ربما يكون ماثلا أيضا في قصة حرب طروادة؛ إذ إن الاسمين ويلوسيا وتاروسيا يتشابهان تشابها كبيرا، حسبما يرى الباحثون، مع الاسمين اللذين كانا يطلقان في العصر البرونزي على مدينة طروادة، التي تعرف أيضا باسم إليوس، والمنطقة المحيطة بها، التي تعرف باسم ترواس.
وهنا يأتي دور السيف الذي عثر عليه في حاتوسا، وعليه نقش لتوداليا الأول أو الثاني، لأنه، كما ذكر آنفا، ليس سيفا مصنوعا صناعة محلية؛ فالسيف من نوعية كانت تستخدم أساسا في البر الرئيسي لليونان أثناء القرن الخامس عشر قبل الميلاد. إنه سيف ميسيني (أو تقليد جيد جدا له). لماذا كان سيف كهذا يستخدم في تمرد أسوا؟ إن هذا سؤال جيد لا نعرف إجابته؛ وهل استخدمه جندي أسوي، أم أحد المرتزقة الميسينيين، أم شخص مختلف تمام الاختلاف؟
توجد خمسة ألواح حيثية أخرى تذكر أسوا و/أو التمرد، إلى جانب اللوح الأساسي الذي يتضمن الرواية الأطول. أحد الألواح، على سبيل المثال، يؤكد الحدث برمته، مبتدئا ببساطة بعبارة «هكذا يقول ... توداليا، الملك العظيم: عندما فرغت من تدمير أسوا وعدت إلى حاتوسا ...»
58
الأكثر إثارة للاهتمام هو رسالة مجتزأة غير كاملة على نحو مثير لكنها تنجح في ذكر ملك أسوا مرتين وتوداليا مرة واحدة، وتشير أيضا إلى حملة عسكرية، وتذكر كذلك أرض أخياوا، وملك أخياوا، وجزرا تتبع ملك أخياوا. الرسالة مدمرة وغير كاملة؛ لذا من الخطورة الخوض أكثر مما ينبغي بشأن ظهور كل من أسوا وأخياوا في نفس النص، ولكن يبدو أنها تنم عن أن أسوا وأخياوا كانتا مرتبطتين بطريقة ما في هذا الوقت.
59
اعتقد لوقت طويل أن الرسالة - المعروفة باسم كيه يو بي ستة وعشرين 91 من إصدارها الألماني الأولي - كانت مرسلة من ملك الحيثيين إلى ملك أخياوا، ولكن أشير مؤخرا إلى أنها في الواقع أرسلت «إلى» الملك الحيثي «من» ملك أخياوا، الأمر الذي يجعلها الرسالة الوحيدة التي يعثر عليها في أي مكان مرسلة من تلك المنطقة وذلك الملك.
60
ولكن أي منطقة تلك وأي ملك هذا؟ أين تقع أخياوا؟ حير هذا السؤال الباحثين الأكاديميين طوال معظم القرن الماضي، ولكن أغلب الباحثين يتفقون الآن على أنها البر الرئيسي لليونان والميسينيين، وربما كان مقرها في مدينة ميسيناي. الإسناد مبني على أساس نحو خمسة وعشرين لوحا في الأرشيف الحيثي في حاتوسا يذكر أخياوا في سياق أو آخر على مدى ثلاثمائة سنة تقريبا (من القرن الخامس عشر إلى نهاية القرن الثالث عشر قبل الميلاد)، والتي، بتحليلها تحليلا شاملا، لا يمكن إلا أن تشير إلى البر الرئيسي لليونان والميسينيين.
61
مجددا، يجب أن نستطرد استطرادا موجزا، هذه المرة لنلتقي بالميسينيين، قبل أن نتابع الحكاية. (11) اكتشاف الميسينيين ونظرة عامة عليهم
استرعت الحضارة الميسينية انتباه الرأي العام لأول مرة منذ حوالي 150 عاما، من منتصف القرن الثامن عشر إلى أواخره، ويرجع الفضل في ذلك إلى هاينريش شليمان؛ الذي يطلق عليه أبو علم الآثار الميسيني. إنه الرجل الذي يميل علماء الآثار المعاصرون إلى أن يكرهوه، ويرجع ذلك من جهة إلى طرق التنقيب البدائية التي كان يستخدمها؛ ومن جهة أخرى بسبب أنه ليس واضحا على الإطلاق إلى أي مدى يمكن الوثوق فيه وفي تقاريره. بعد أعمال التنقيب التي قام بها في أوائل سبعينيات القرن التاسع عشر في هيسارليك في شمال غرب الأناضول، والتي اعتبر أنها طروادة، رأى شليمان حينئذ أن من الملائم تماما له أن يعثر على الطرف الميسيني، بما أنه قد عثر على الطرف الطروادي من حرب طروادة (الأمر الذي سنناقشه لاحقا).
كان الوقت الذي أمضاه في العثور على ميسيناي في البر الرئيسي لليونان أهون بالتأكيد من الذي قد أمضاه في العثور على طروادة في الأناضول؛ لأن أجزاء من موقع ميسيناي القديم كانت لا تزال بارزة فوق الأرض، بما في ذلك قمة بوابة الأسد الشهيرة، التي كانت قد اكتشفت بالفعل وأعيد بناؤها جزئيا قبل ذلك بعقود عديدة. قاد السكان المحليون في قرية ميكيناي المجاورة شليمان بسهولة إلى الموقع عندما وصل ليبدأ التنقيب في منتصف سبعينيات القرن التاسع عشر. لم يكن لديه تصريح بالتنقيب، لكن ذلك قط لم يوقفه من قبل، ولم يوقفه حينئذ. وسرعان ما كشف عن عدد من المقابر العمودية المملوءة بالهياكل العظمية، والأسلحة، والذهب بما يفوق أعظم أحلامه. فأذاع الخبر بأن أرسل برقية إلى ملك اليونان، معلنا حسبما أفيد أنه «قد حدق في وجه أجاممنون.»
62
بالطبع، كان شليمان - الذي كان مخطئا بشكل كبير حتى عندما كان مصيبا - قد أخطأ في تحديد الفترة الزمنية التي ترجع إليها المقابر والبقايا الأثرية. فنحن حاليا نعرف أن هذه المقابر العمودية (التي يوجد منها دائرتان كبيرتان في ميسيناي) يرجع تاريخها إلى قرب بداية عظمة المدينة والحضارة، من 1650 إلى 1500ق.م، وليس إلى وقت أجاممنون وأخيل (حوالي 1250ق.م). قد يكون قد جانبه الصواب بأربعة قرون، ولكنه على الأقل كان يحفر في المدينة الصحيحة. لم يكن شليمان بأي حال من الأحوال الأثري الوحيد الذي كان يفتش عن آثار العصر البرونزي هذه - فباحثون آخرون، من أمثال خريستوس تسونتاس وجيمس مانات، كانوا منشغلين أيضا بالتنقيب، وكانوا يقومون بعمل أفضل من شليمان - ولكنه كان الشخص الذي كان يحوز اهتمام العامة بسبب تصريحاته السابقة بشأن طروادة وحرب طروادة، كما سنرى لاحقا.
63
نقب شليمان في ميسيناي، وفي موقع تيرنز المجاور وفي أماكن أخرى أيضا، لبضعة مواسم أخرى قبل أن يعود إلى طروادة ليجري أعمال تنقيب إضافية في عام 1878 وفي ثمانينيات القرن التاسع عشر. وحاول أيضا أن يحفر في كنوسوس على جزيرة كريت، ولكن لم يحالفه النجاح. ترك لآخرين، لحسن حظ مجال الآثار، أمر متابعة عمليات البحث بشأن الميسينيين. وكان من أعظم هؤلاء اثنان هما أمريكي من جامعة سينسيناتي يسمى كارل بليجن وإنجليزي من كامبريدج يسمى آلان واس. وأخيرا وحد الاثنان جهودهما لوضع الأساس لتحديد هذه الحضارة ونموها من البداية إلى النهاية.
كان واس مسئولا عن أعمال التنقيب البريطانية في ميسيناي لعدة عقود، مبتدئا في عشرينيات القرن العشرين، بينما لم ينقب بليجن من 1932 إلى 1938 في طروادة فحسب بل حفر أيضا في بيلوس في جنوب اليونان. في بيلوس، في أول يوم لأعمال التنقيب في عام 1939، عثر بليجن وفريقه على أول بضعة ألواح طينية مما سيتضح أنه أرشيف ضخم يحتوي على نصوص مكتوبة بالنظام الخطي بي.
64
أوقف اندلاع الحرب العالمية الثانية مؤقتا عملهم في الموقع، ولكن في أعقاب الحرب، توبعت أعمال التنقيب في عام 1952. في نفس العام، أثبت مهندس معماري إنجليزي يسمى مايكل فينتريس بالدليل القاطع أن النظام الخطي بي كان في الواقع نسخة قديمة من اللغة اليونانية.
يستمر إلى يومنا هذا ما استتبع ذلك من ترجمة للنصوص المكتوبة بالنظام الخطي بي التي عثر عليها في مواقع مثل بيلوس، وميسيناي، وتيرنز، وثيفا، بالإضافة إلى كنوسوس، وقدمت هذه الترجمة نافذة إضافية للإطلال على عالم الميسينيين. أضاف الدليل النصي إلى التفاصيل التي كانت بالفعل معروفة من أعمال التنقيب وسمح للأثريين أن يعيدوا تشكيل عالم العصر البرونزي في اليونان، تماما مثلما كان بمقدور زملائهم، الذين كانوا يعملون في مواقع في مصر والشرق الأدنى، أن يفعلوا في تلك البلاد، كنتيجة مترتبة على ترجمة نصوص مكتوبة باللغات المصرية، والحيثية، والأكادية. جملة القول ببساطة، أن البقايا الأثرية، إلى جانب النقوش النصية، أتاحت للباحثين المعاصرين أن يعيدوا تشكيل التاريخ القديم.
نحن حاليا نعرف أن الحضارة الميسينية بدأت بالأساس في القرن السابع عشر قبل الميلاد، في نفس الوقت تقريبا الذي كان فيه المينويون على جزيرة كريت يتعافون من الزلزال الكارثي الذي يميز (وفقا للمصطلحات الأثرية) الانتقال من حقبة القصور الأولى إلى الثانية على الجزيرة. كان واس وبليجن هما أول من أطلقا على الفترات الزمنية المتعاقبة التي تخص الميسينيين اسم الحقبة الهلادية المتأخرة، حيث تمتد الحقبتان الهلاديتان المتأخرتان الأولى والثانية من القرن السابع عشر وحتى القرن الخامس عشر قبل الميلاد، وتنقسم الحقبة الهلادية المتأخرة الثالثة إلى ثلاثة أقسام: الثالثة «أ» ويرجع تاريخها إلى القرن الرابع عشر، والثالثة «ب» ويرجع تاريخها إلى القرن الثالث عشر، والثالثة «ج» ويرجع تاريخها إلى القرن الثاني عشر قبل الميلاد.
65
لا تزال الأسباب الكامنة وراء صعود الحضارة الميسينية محل نقاش بين الأثريين. وذهب أحد الاقتراحات الأولى إلى أنهم ساعدوا المصريين في طرد الهكسوس من مصر، ولكن هذه ليست وجهة نظر مقبولة عموما في يومنا هذا. إذا كانت الأغراض التي عثر عليها في المقابر العمودية في ميسيناي تمثل أي إشارة يعول عليها في هذا الصدد، فإن بعضا من أقدم التأثيرات في ميسيناي أتت من كريت. في الواقع، زعم إيفانز أن المينويين كانوا قد غزوا البر الرئيسي لليونان، لكن واس وبليجن نقضا لاحقا هذا الزعم؛ وكل الباحثين يقبلون رأيهما في وقتنا هذا. من الواضح حاليا أن الميسينيين عندما سيطروا على كريت ، سيطروا أيضا على طرق التجارة الدولية إلى مصر والشرق الأدنى. وأصبحوا فجأة (نسبيا) فاعلين في العالم المتسم بالعولمة؛ وهو دور سيستمرون في استثماره على مدى القرون العديدة التالية، حتى نهاية العصر البرونزي المتأخر.
كان المصريون على ما يبدو يعرفون الميسينيين باسم «تاناجا»، بينما كان الحيثيون يطلقون عليهم اسم «أخياوا»، وعلى نفس المنوال دعاهم الكنعانيون (إن كانت النصوص في أوغاريت التي كانت تقع أبعد قليلا جهة الشمال في سوريا تمثل أي إشارة) «خياوا»؛ أو كذلك نعتقد، حيث إن أسماء الأماكن هذه لا تناسب أحدا إلا الميسينيين. إذا كانت هذه الإشارات لا تخص الميسينيين، فإن هذا الشعب غير معروف في نصوص المصريين والقوى العظمى الأخرى في العصر البرونزي المتأخر في الشرق الأدنى، ولكن هذا يبدو غير مرجح نظرا لأعداد الآنية والأوعية الميسينية التي عثر عليها في تلك الأقاليم في سياقات يرجع تاريخها من القرن الرابع عشر إلى القرن الثاني عشر قبل الميلاد.
66 (12) هل كانت هناك حرب طروادة أقدم؟
إذا كانت أخياوا تمثل كلا من البر الرئيسي لليونان والميسينيين، وإذا كانت الرسالة المعروفة باسم كيه يو بي ستة وعشرين 91 التي عثر عليها في حاتوسا تظهر أن أخياوا كانت متورطة بطريقة ما مع أسوا أثناء تمردها على الحيثيين، إذن ماذا يمكننا أن نستنتج؟ يرجع تاريخ الرسالة ذاتها، وكل تلك الرسائل المتعلقة بتمرد أسوا، إلى عام 1430ق.م، قبل نحو مائتي سنة من التاريخ المقبول عموما لحرب طروادة (التي عادة ما يحدد تاريخها بأنه في الفترة ما بين عامي 1250 و1175ق.م). كل تلك البيانات المعروضة أعلاه، بما في ذلك السيف الميسيني ذي النقش الأكادي الذي عثر عليه في حاتوسا، يمكن أن تكون سلسلة من ظواهر لا صلة بينها. ومع ذلك، قد يكون من الممكن تأويلها على أنها تشير إلى أن محاربين من منطقة إيجه في العصر البرونزي كانوا متورطين في تمرد أسوا على الحيثيين. إذا كان الأمر كذلك، يمكن اقتراح أن هذا كان العون الذي سجل تاريخيا في السجلات الحيثية المعاصرة والذي استحضرته، على نحو أكثر غموضا نوعا ما، التقاليد الأدبية لليونان القديمة والكلاسيكية اللاحقة؛ ليس باعتباره حرب طروادة، وإنما باعتباره المعارك والغارات السابقة على حرب طروادة في الأناضول التي استحضرت أيضا ونسبت إلى أخيل وأبطال أسطوريين آخيين آخرين.
67
يتفق الباحثون حاليا على أنه حتى في «إلياذة» هوميروس يوجد روايات عن محاربين وأحداث من قرون تسبق الخلفية التقليدية لحرب طروادة في عام 1250ق.م من هذه الأمور الدرع البرجي الخاص بالمحارب أياس، وهو نوع من الدروع كان قد اختفى قبل القرن الثالث عشر قبل الميلاد بوقت طويل. ويوجد أيضا السيوف «المرصعة بالفضة» الخاصة بأبطال عديدين، وهو نوع غالي الثمن من الأسلحة كان قد توقف استخدامه قبل حرب طروادة بوقت طويل. ويوجد قصة بيليرفونتيس، المروية في الكتاب السادس من «الإلياذة» (الأبيات 178-240)، وهو بطل يوناني من شبه المؤكد أنه من وقت ما قبل حرب طروادة. أرسل بروتيوس، ملك تيرنز، بيليرفونتيس من تيرنز في البر الرئيسي لليونان إلى ليكية في الأناضول. وبعد إتمامه ثلاث مهمات وتغلبه على عقبات إضافية عديدة، كوفئ في نهاية المطاف بمملكة في الأناضول.
68
بالإضافة إلى ذلك، تسجل «الإلياذة» أنه قبل زمن أخيل، وأجاممنون، وهيلين، وهيكتور بوقت طويل - في الواقع أثناء زمن لاوميدون والد بريام - دمر البطل اليوناني هرقل طروادة. ولم يحتج سوى ست سفن («الإلياذة»، الكتاب الخامس، الأبيات 638-642):
يقولون إن هرقل المجيد، أبي، كان نوعا آخر من الرجال، قويا في القتال، له قلب أسد، وجاء إلى هنا [إلى طروادة] ذات مرة طلبا لخيول لاوميدون، ولم يكن معه سوى ست سفن وعدد أقل من الرجال، ولكنه دمر مدينة إليوس وخرب طرقاتها.
69 [ترجمة المركز القومي للترجمة]
كما ذكرت في موضع آخر، لو أراد المرء أن يبحث عن حدث تاريخي يربطه بالتقاليد السابقة على هوميروس الخاصة بقتال المحاربين الآخيين على البر الرئيسي للأناضول، لكان من شأن تمرد أسوا، الذي جرى في حوالي 1430ق.م، أن يبرز باعتباره واحدا من أكبر الأحداث العسكرية في نطاق منطقة شمال غرب الأناضول ما قبل حرب طروادة، وباعتباره واحدا من الأحداث القليلة التي يمكن أن يربط بها الميسينيون (الأخياويون) ربطا مبدئيا عن طريق الأدلة النصية مثل الرسالة الحيثية كيه يو بي ستة وعشرين 91 المذكورة أعلاه. لذلك، قد يحق لنا أن نتساءل عما إذا كانت هذه الواقعة هي الأساس التاريخي لحكايات الحيثيين المزامنة عن قتال المحاربين الميسينيين (الأخياويين) في الأناضول، والتي تولدت عنها القصص عن مساعي الآخيين العسكرية الأسبق، فيما قبل حرب طروادة، في البر الرئيسي للأناضول.
70
وقد نتساءل أيضا عما إذا كان هذا التمرد الوشيك، الذي ربما كان الأسويون قد أخذوا يخططون له لبعض الوقت، هو ما شكل أساس مبادراتهم المحتملة مع تحتمس الثالث في أواخر أربعينيات وأوائل ثلاثينيات القرن الخامس عشر قبل الميلاد. (13) ملاحظات ختامية
ذات مرة قالت مؤرخة الفن المرموقة هيلين كانتور: «لا تشكل الأدلة التي حفظها لنا مرور الزمن سوى نسبة ضئيلة مما لا بد وأنه كان موجودا يوما ما. كل وعاء مستورد ... يمثل عشرات من الأوعية الأخرى التي اندثرت.»
71
في الواقع، معظم البضائع التي كانت ترسل جيئة وذهابا كانت على الأرجح إما عرضة للتلف - واختفت منذئذ - أو كانت مواد خاما حولت على الفور إلى أغراض أخرى، مثل الأسلحة والمجوهرات، كما أشرنا. لذلك، ربما ينبغي أن نفهم أن التجارة بين منطقة إيجه، ومصر، والشرق الأدنى خلال العصر البرونزي جرت على نطاق أكبر بمرات عديدة من الصورة التي نراها حاليا بمنظور التنقيب الأثري.
ولعله ينبغي، في إطار هذا السياق، أن نستوعب الرسوم ذات الأسلوب المينوي التي كشف عنها مانفريد بيتاك في قصر تحتمس الثالث في تل الضبعة في دلتا مصر. في حين أنها ربما لا تكون بالضرورة قد رسمت حسب رغبة أميرة مينوية، فمن المؤكد أنها دليل على مدى تدفق الاتصالات، والتجارة، والتأثيرات الدولية في كل جهات عالم منطقة البحر المتوسط القديم أثناء القرن الخامس عشر قبل الميلاد، لدرجة بلوغ مناطق خارجية بعيدة مثل كريت المينوية وبالعكس.
يمكننا أن نلخص هذا القرن بالقول بأنه فترة شهدت صعود الاتصالات الدولية على أساس مستدام في سائر أنحاء عالم منطقة البحر المتوسط القديم، من إيجه إلى بلاد الرافدين. بحلول ذلك الوقت، كان وجود المينويين والميسينيين في منطقة إيجه في العصر البرونزي راسخا، وكذلك كان حال الحيثيين في الأناضول. كان الهكسوس قد طردوا من مصر، وكان المصريون قد استهلوا ما ندعوه حاليا الأسرة الثامنة عشرة وفترة المملكة الحديثة.
ومع ذلك، كما سنرى لاحقا، كان هذا فقط بداية ما سيغدو «عصرا ذهبيا» للنزعة الدولية والعولمة خلال القرن الرابع عشر قبل الميلاد الذي تلا. فمثلا، صعد المزيج بين السنوات العديدة التي أمضاها تحتمس الثالث في الحملات العسكرية والدبلوماسية، والتي جاءت في أعقاب بعثات حتشبسوت التجارية السلمية وأعمالها العسكرية الباهرة،
72
بمصر إلى قمة السلطة والازدهار الدوليين اللذين لم يسبق، إلا نادرا، أن شهدهما هذا البلد من قبل. نتيجة لذلك، رسخت مصر وجودها باعتبارها واحدة من القوى العظمى طيلة ما تبقى من العصر البرونزي المتأخر، إلى جانب الحيثيين، والآشوريين، والكيشيين/البابليين، بالإضافة إلى أطراف فاعلة أخرى متنوعة مثل الميتانيين، والمينويين، والميسينيين، والقبارصة، والذين سنتعرض لهم بمزيد من التفصيل في الفصل التالي وما بعده.
الفصل الثاني
المشهد الثاني
علاقة (إيجية) لا تنسى: القرن الرابع عشر قبل الميلاد
كان، ولا يزال، يطلق على التمثالين الضخمين الواقفين عند مدخل معبد أمنحتب الثالث الجنائزي في كوم الحيتان - واللذين يزيد ارتفاعهما عن ستين قدما والمقدر لهما أن يقفا حارسين طيلة الثلاثة آلاف والأربعمائة سنة التالية، حتى عندما كان هذا المعبد الجنائزي تسرق كتله الحجرية الضخمة وينهار ببطء متفتتا إلى تراب - اسم «عملاقي (تمثالي) ممنون» نتيجة لخطأ في تحديد هويتهما على أنهما يمثلان ممنون، الذي كان أميرا إثيوبيا أسطوريا قتل في طروادة على يد أخيل. يمثل كل تمثال أمنحتب الثالث، فرعون مصر من سنة 1391 إلى 1353ق.م، جالسا. كان التمثالان مشهورين بالفعل منذ ألفي سنة، ويرجع ذلك جزئيا إلى هذا التحديد الخاطئ لهويتهما، فكان يزورهما السائحون من قدماء اليونان والرومان المطلعين على «إلياذة» و«أوديسة» هوميروس، والذين نحتوا كتابات ورسومات على أرجلهما. عرف عن أحد التمثالين - بعد تعرضه لضرر بالغ جراء زلزال في القرن الأول قبل الميلاد - إصداره لصوت صفير غريب عند الفجر، مع انكماش الحجر وتمدده بفعل برودة الليل وحرارة النهار. لسوء حظ مجال السياحة القديمة، وضعت أعمال الترميم أثناء الحقبة الرومانية في القرن الثاني الميلادي أخيرا نهاية ل «صيحات الإله»
1
اليومية.
ورغم روعة التمثالين، فإنهما ليسا ما يمثل أهمية لقصتنا عن الأحداث المهمة في القرن الرابع عشر قبل الميلاد، وإنما قاعدة التمثال الخامسة من خمس قواعد لتماثيل تنتظم في صف من الشمال إلى الجنوب داخل حدود الموضع الذي كان المعبد الجنائزي قائما فيه فيما مضى. كان المعبد يقع على الضفة الغربية لنهر النيل، بالقرب مما يعرف حاليا باسم وادي الملوك، على الجهة الأخرى من مدينة الأقصر الحالية. كانت كل قاعدة من القواعد الخمس تحمل تمثالا هائل الحجم للملك، مع أن تلك التماثيل لم تكن تداني طولا تمثالي ممنون الموضوعين عند مدخل المعبد. اشتملت الساحة التي كانت تقف فيها هذه التماثيل على ما يقرب مجموعه من أربعين تمثالا وقاعدة كهذه. (1) قائمة أمنحتب الثالث الإيجية
منقوش على كل قاعدة من القواعد الخمس، وكذلك على الكثير من القواعد الأخرى، سلسلة من الأسماء المكانية المنحوتة في الصخر داخل ما أطلق عليه المصريون «شكلا بيضاويا محصنا»؛ وهو شكل بيضاوي مطول منحوت قائم، به سلسلة من النتوءات الصغيرة على امتداد محيطه. كان المقصود من هذا تمثيل مدينة محصنة، إضافة إلى الأبراج الدفاعية (لذلك نحتت النتوءات). كان كل شكل بيضاوي محصن موضوعا على - أو بالأحرى يحل محل - الجزء الأسفل من جسم سجين مقيد، وذراعاه مرسومان خلف ظهره ومقيدان معا من عند المرفق، وأحيانا مع حبل مربوط حول رقبته يصله بالسجناء الآخرين من أمامه ومن خلفه. كانت هذه طريقة تقليدية من طرق المملكة المصرية الحديثة في تمثيل المدن والبلاد الأجنبية؛ فحتى وإن لم يكن المصريون يسيطرون على هذه الأماكن الأجنبية أو لم يكونوا قريبين حتى من إخضاعها، كانوا لا يزالون يكتبون الأسماء داخل تلك «الأشكال البيضاوية المحصنة» كتقليد فني وسياسي، وربما كهيمنة رمزية.
شكلت الأسماء الموجودة على قواعد التماثيل هذه، مجتمعة، سلسلة من القوائم الجغرافية التي حددت العالم المعروف للمصريين في عصر أمنحتب الثالث، في أوائل القرن الرابع عشر قبل الميلاد. كان بعض من أهم الشعوب والأماكن في الشرق الأدنى في ذلك الوقت مذكورين في القوائم، بما في ذلك الحيثيون في الشمال، والنوبيون في الجنوب، والآشوريون والبابليون في الشرق. كانت القوائم، إذا ما أخذت برمتها، فريدة في تاريخ مصر.
إلا أن ما يلفت أنظارنا على الفور هو أن القائمة التي حفرها نحات الأحجار على قاعدة التمثال الخامسة احتوت على أسماء لم تذكر من قبل مطلقا في النقوش المصرية. كانت أسماء مدن وأماكن واقعة جهة الغرب من مصر؛ أسماء غريبة، مثل ميسيناي، وناوبليون، وكنوسوس، وكيدونيا، وكيثيرا، مكتوبة على الواجهة اليسرى وعلى الجانب الأيسر من القاعدة، ومعها اسمان آخران مكتوبان منفصلين على الواجهة اليمنى من القاعدة، كما لو كانا عنوانين موضوعين على رأس القائمة، وهما: كفتيو وتاناجا.
ماذا كان المقصود من هذه القائمة وماذا كانت تمثل تلك الأسماء؟ طيلة الأعوام الأربعين الماضية، ظل علماء الآثار وعلماء المصريات المعاصرون يتجادلون بشأن مغزى الأسماء الخمسة عشر التي عثر عليها على قاعدة التمثال هذه، ويشار إليها حاليا باسم «القائمة الإيجية».
شكل 2-1: (أ)، (ب): تمثالا ممنون والقائمة الإيجية لأمنحتب الثالث (تصوير إي إتش كلاين وجيه سترينج).
كان أثريون ألمان هم من استخرجوا في الأصل قاعدة التمثال، والقواعد الأخرى المصاحبة لها، في ستينيات القرن العشرين، ولكنها دمرت، في وقت ما في سبعينيات نفس القرن، عن طريق الخطأ. طبقا لقصة غير مثبتة، إن أفراد قبيلة بدوية محلية أشعلوا نارا تحت القاعدة وصبوا ماء باردا عليها في محاولة لفصل اللوحات المنقوشة، من أجل بيعها في سوق القطع الأثرية. النسخة الرسمية من القصة هي أن حرائق طبيعية في المنطقة هي التي أحدثت الضرر. أيا كان الشخص أو الشيء المذنب، فقد تحطمت القاعدة بالكامل إلى ألف قطعة تقريبا. وحتى وقت قريب، كان ما بقي للأثريين لا يتعدى عددا قليلا من صور ملونة للقاعدة الأصلية، الأمر الذي كان مؤسفا للغاية، لأن الأسماء الموجودة في القائمة مميزة لدرجة أن ثلاثة عشر من خمسة عشر اسما لم يسبق رؤيتها في مصر مطلقا ... ولن يراهم أحد مجددا.
ما يراه السائحون المعاصرون في الموقع حاليا (عندما يمرون عادة على الأنقاض في حافلة مكيفة الهواء في طريقهم إلى وادي الملوك المجاور) هو قواعد التماثيل، وعليها التماثيل، بعد أن أعيد تجميعها من جديد، لتقف تحت السماء المشمسة للمرة الأولى منذ أكثر من ثلاثة آلاف سنة. في عام 1998، استأنف فريق متعدد الجنسيات تقوده عالمة المصريات هوريج سوروزيان وزوجها راينر ستادلمان، المدير السابق للمعهد الألماني للآثار في القاهرة، عمليات التنقيب في كوم الحيتان. وظلوا ينقبون هناك كل عام منذئذ واسترجعوا أجزاء قاعدة تمثال القائمة الإيجية المدمرة، بالإضافة إلى القوائم الخاصة بالقواعد المجاورة لها. وهم حاليا في طور إعادة بنائها وترميمها. استغرقت القطع الثمانمائة للقائمة الإيجية وحدها أكثر من خمسة أعوام لتجميعها معا.
2
كان اسمان فقط من أسماء القائمة الإيجية مألوفين بالفعل للكتبة المصريين ولعلماء المصريات المعاصرين؛ وهما الاسمان اللذان يبدو أنهما استخدما كعنوانين على رأس القائمة وهما: «كفتيو»، التي كانت الكلمة المصرية الدالة على جزيرة كريت، و«تاناجا»، التي يبدو أنها كانت الكلمة المصرية الدالة على البر الرئيسي لليونان. بدأ هذان الاسمان في الظهور في النصوص المصرية أثناء عصر حتشبسوت وتحتمس الثالث، قبل ظهور القائمة الإيجية بنحو قرن، ولكنهما لم يظهرا مطلقا مع أسماء مكانية خاصة بمدن ومناطق منفردة في منطقة إيجه.
كانت الأسماء الأخرى في قائمة قاعدة التمثال هذه غير اعتيادية للغاية، ومع ذلك يمكن التعرف عليها على الفور تقريبا، حتى إن أول عالم مصريات ينشرها باللغة الإنجليزية، وهو البروفسير البارز كينيث كيتشن من جامعة ليفربول، كان مترددا في البداية في اقتراح ترجمة لها، خوفا من سخرية الأكاديميين. في مذكرته المختصرة الأولى عن نقش قاعدة التمثال، التي لم تتعد بضع صفحات في عدد عام 1965 من الدورية العلمية «أورينتاليا»، أبدى كيتشن بحرص ملاحظة قال فيها: «لا أكاد أود أن أسجل الفكرة التالية؛ ويمكن للقراء أن يتجاهلوها إن شاءوا. يبدو الاسمان أمنيسا وكونوسا على نحو غير مريح مثل أمنيسو[س] و... كنوسوس، المستعمرتين القديمتين الشهيرتين على الساحل الشمالي لكريت.»
3
في الأعوام التي تلت ذلك، عمل عدد من الباحثين على محاولة التعرف على الأسماء الواردة في القائمة والتوصل إلى المعنى الكامن وراء ظهورها. نشر الباحث الألماني إلمار إيديل أول دراسة مستفيضة عن قوائم قواعد التماثيل الخمس كلها في عام 1966؛ ونشرت طبعة ثانية لها، محدثة وتضم مراجعات وتصحيحات، منذ أعوام قليلة فحسب، بعد أربعين عاما، في عام 2005. في تلك الفترة، كرس الكثير من الباحثين الآخرين قدرا كبيرا من الفكر والكتابات من أجل التوصل إلى التفسيرات المحتملة للقائمة.
4
أول أسماء ترد في القائمة، بعد اسمي كفتيو (كريت) وتاناجا (البر الرئيسي لليونان) اللذين يأتيان على رأس القائمة، هي بضعة أسماء لمواقع مينوية مهمة على جزيرة كريت، تشمل كنوسوس وميناءها أمنيسوس، يليهما فايستوس وكيدونيا، المدرجتان بترتيب يمضي من الشرق إلى الغرب. كل هذه المواقع إما كان بها قصور مينوية أو، في حالة أمنيسوس، كانت ميناء لقصر مينوي قريب. بعد ذلك تأتي في القائمة جزيرة كيثيرا، الواقعة في منتصف الطريق بين كريت والبر الرئيسي لليونان، ثم بعد ذلك تأتي مواقع وأقاليم ميسينية مهمة على البر الرئيسي لليونان، تشمل ميسيناي وميناءها ناوبليون، وإقليم ميسينيا، وربما مدينة ثيفا في إقليم بيوتيا. آخر ما يرد في القائمة هو المزيد من الأسماء من كريت المينوية، وهذه المرة بترتيب من الغرب إلى الشرق ويشمل مجددا أمنيسوس.
تبدو القائمة على نحو يدعو إلى الشك مثل مسار رحلة ذهاب وإياب من مصر إلى منطقة إيجه. حسب ترتيب الأسماء، توجه المسافرون من مصر أولا إلى كريت، ربما لزيارة شخصية ملكية مينوية وتجار مينويين كان المصريون، بحلول هذه المرحلة، قد أصبحوا معتادين على التعامل معهم على مدى نحو قرن. وبعد ذلك واصلوا رحلتهم، عن طريق كيثيرا، إلى البر الرئيسي لليونان لزيارة الميسينيين؛ القوة الجديدة على الساحة، الذين كانوا آخذين في السيطرة على طرق التجارة إلى مصر والشرق الأدنى محل المينويين في تلك الفترة. وبعد ذلك عادوا إلى مصر عن طريق كريت باعتباره أسرع وأقصر الطرق، متزودين في أمنيسوس بالماء والطعام باعتباره أحد آخر التوقفات في رحلة العودة للديار، مثلما كانوا قد جعلوا ذلك الميناء محطة توقفهم الأولى بعد فترة وجيزة من انطلاقهم.
تعد القوائم الموجودة على قواعد التماثيل بمجملها فهرسا للعالم المعروف للمصريين في عهد أمنحتب الثالث. كانت غالبية الأسماء معروفة بالفعل من وثائق ومعاهدات أخرى؛ فمن بين هذه الأسماء المألوفة نجد الحيثيين والكيشيين/البابليين (الذين سنورد المزيد عنهم أدناه)، بالإضافة إلى مدن في كنعان. ومع ذلك، كانت أسماء الأماكن الإيجية (وما زالت) استثنائية وكانت منحوتة وفق ترتيب معين. بل إن بعضها أعيد نحته بوجه خاص، حيث أعيد حفر الأسماء الثلاثة الأولى (بما يتناسب مع قيمها الراهنة) في مرحلة ما قبل أو أثناء عرض القائمة على مرأى الناس.
5
يعتقد بعض الباحثين أن هذه القائمة ليست سوى دعاية، تفاخر لا أساس له من قبل فرعون كان قد سمع عن أماكن بعيدة وتاق إلى إخضاعها أو رغب في إقناع الناس بأنه قد فعل. يعتقد آخرون أن القائمة ليست تعظيما زائفا للذات، وإنما هي مستندة إلى معرفة فعلية وصلات حقيقية في ذلك الزمن البعيد. يبدو هذا التفسير الأخير أرجح؛ إذ إننا نعرف، من التصويرات العديدة الأخرى في مقابر النبلاء التي يرجع تاريخها إلى زمن حتشبسوت وتحتمس الثالث في القرن الخامس عشر قبل الميلاد، أنه كان يوجد اتصالات متعددة مع منطقة إيجه أثناء ذلك الوقت المبكر، منها حالات جاء فيها سفراء دبلوماسيون و/أو تجار إلى مصر حاملين هدايا. من المحتمل أن تلك الاتصالات استمرت حتى القرن التالي ، أثناء حكم أمنحتب الثالث. إذا كان الأمر كذلك، فقد يكون لدينا هنا أقدم تسجيل مكتوب لرحلة ذهاب وإياب من مصر إلى منطقة إيجه، رحلة جرت منذ أكثر من أربعة وثلاثين قرنا، قبل عقود قليلة من حكم الملك الصبي توت عنخ آمون للبلاد الخالدة.
يبدو الاقتراح القائل بأننا نطالع توثيقا لرحلة في أوائل القرن الرابع عشر قبل الميلاد من مصر إلى منطقة إيجه، وليس تسجيلا لمجيء الميسينيين والمينويين إلى مصر، معقولا للسبب المذهل التالي. يوجد عدد من الأغراض، منحوتا عليها الخرطوشة (وهو شكل بيضاوي يحوي اسما ملكيا) التي تحتوي على اسم أمنحتب الثالث أو زوجته الملكة تيي، والتي عثر عليها أثريون في ستة مواقع متفرقة في أنحاء منطقة إيجه؛ على جزيرة كريت، وفي البر الرئيسي لليونان، وعلى جزيرة رودس. يوجد علاقة ترابط بين أماكن العثور على هذه الأغراض في منطقة إيجه والمواقع المذكورة أسماؤها في القائمة الإيجية؛ حيث إن أربعة مواقع من الستة متضمنة ضمن الأسماء المحفورة عليها.
بعض هذه الأغراض التي تحتوي نقوشا هي مجرد جعارين وأختام صغيرة، لكن أحدها عبارة عن إناء؛ وكلها عليها خراطيش للفرعون أو لزوجته. أهم هذه الأغراض هي العدد الكبير من شدف من لوحات ذات وجهين مصنوعة من الخزف، وهي مادة وسط بين الفخار والزجاج، والتي عثر عليها في ميسيناي، التي ربما كانت المدينة الرائدة في اليونان في القرن الرابع عشر قبل الميلاد. مصدر هذه الشدف، التي يوجد منها اثنتا عشرة قطعة على الأقل، هو ما مجموعه تسع أو أكثر من اللوحات الأصلية، التي تبلغ كل منها نحو ست إلى ثماني بوصات طولا ونحو أربع بوصات عرضا، وأقل من بوصة سمكا. وكلها كان عليها ألقاب أمنحتب الثالث منقوشة عليها بلون أسود، ومكتوب على كلا جانبيها: «الإله الطيب، نب ماعت رع، ابن الشمس، أمنحتب، أمير طيبة، معطي الحياة.»
6
يشير علماء المصريات إلى هذه اللوحات بأنها لوحات ودائع الأساس. وهي توجد عادة، على الأقل في مصر، موضوعة في ودائع خاصة تحت المعابد، أو، أحيانا، تحت تماثيل الملك .
7
وهي تؤدي دورا يشبه بقدر كبير دور الكبسولات في ثقافتنا الحالية، وهكذا كان دور الودائع منذ العصر البرونزي المبكر في بلاد الرافدين. كان الغرض المفترض منها هو ضمان معرفة الآلهة والأجيال القادمة بهوية وكرم المتبرع/المنشئ، وتاريخ الانتهاء من إنشاء المبنى، أو التمثال، أو أي بناء آخر.
ما يجعل هذه اللوحات في ميسيناي متفردة هو ببساطة أنها لا مثيل لها في منطقة إيجه. في الواقع، هي موجودة حصريا في ميسيناي وحدها، من بين كل الأماكن في منطقة البحر المتوسط القديمة بأكملها؛ إذ لم يعثر قط على لوحات من الخزف كهذه عليها اسم أمنحتب الثالث في أي مكان آخر خارج مصر. يرجع تاريخ عثور أثريين يونانيين على أول شدف في ميسيناي ونشرهم لهذا الاكتشاف إلى أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، واعتقد حينئذ أنها مصنوعة من «البورسلين»، ولم يكن اسم أمنحتب الثالث بعد معروفا ولا كانت رموزه قد فكت على نحو واضح. اكتشف المزيد على مر السنين، بما في ذلك بعض الشدف التي اكتشفها عالم الآثار البريطاني البارز اللورد ويليام تايلور داخل مركز العبادة في ميسيناي. اكتشفت أحدث شدفة منذ أعوام قليلة فقط؛ حيث كانت موجودة في موضع عميق داخل بئر في ميسيناي، واكتشفها كيم شيلتون عالم الآثار في جامعة كاليفورنيا في بيركلي.
لم يعثر على أي من الشدف في سياقها الأصلي في ميسيناي. بعبارة أخرى، ليس لدينا أي فكرة عن الكيفية التي كانت في الأصل تستخدم بها في الموقع، لكن مجرد وجودها في ميسيناي، وليس في أي مكان آخر في العالم، يدل على احتمال وجود علاقة خاصة بين هذا الموقع ومصر أثناء زمن أمنحتب الثالث، ولا سيما وأن ميسيناي هي المكان الذي عثر فيه أيضا على إناء أمنحتب الثالث، بالإضافة إلى جعرانين لزوجته الملكة تيي. وبالنظر إلى أن هذه المنطقة كانت على حدود، بل وأطراف، المنطقة المعروفة والمتحضرة التي كانت مصر على اتصال بها أثناء هذه الفترة، فإن علاقة الترابط بين هذه الأغراض والأسماء الواردة في القائمة الإيجية تشير إلى أن شيئا غير اعتيادي من ناحية الاتصال الدولي ربما كان يحدث أثناء عهد أمنحتب الثالث.
شكل 2-2: لوحة خزفية لأمنحتب الثالث، عثر عليها في ميسيناي (تصوير إي إتش كلاين).
تشكل الأغراض المستوردة المصرية وكذلك المنتمية إلى الشرق الأدنى التي عثر عليها في منطقة إيجه نمطا مثيرا للاهتمام، ربما كان مرتبطا بالقائمة الإيجية. على ما يبدو أن كريت المينوية ظلت الوجهة الأساسية في منطقة إيجه لطرق التجارة من مصر والشرق الأدنى أثناء الجزء الأول من القرن الرابع عشر قبل الميلاد على الأقل. ومع ذلك، بما أنه يوجد أغراض من مصر، وكنعان، وقبرص بكميات متساوية تقريبا في كريت، فقد يعني ذلك أن البضائع من مصر لم تعد البضائع السائدة التي يحملها الباعة والتجار بحرا بين كريت ومنطقة شرق المتوسط، كما كان الأمر أثناء القرون السابقة. إذا كان المبعوثون والتجار المصريون والمينويون قد سيطروا على الطرق إلى منطقة إيجه أثناء الفترات السابقة الأولى، فعلى الأرجح أنه الآن قد انضم إليهم، أو حتى حل محلهم، آخرون من كنعان وقبرص.
استمر هذا الموقف الدولي الأكثر تعقيدا طوال القرنين التاليين، ولكن يوجد تحول في استيراد البضائع الأجنبية إلى منطقة إيجه اعتبارا من نهاية القرن الرابع عشر قبل الميلاد. وبينما يوجد هبوط مفاجئ في عدد البضائع المستوردة على جزيرة كريت، ثمة زيادة كبيرة على البر الرئيسي لليونان. وإذا كان هذا التحول في حجم الاستيراد، من كريت إلى البر الرئيسي لليونان، حقيقيا، فيبدو من المحتمل (رغم كونه تخمينا بالتأكيد) أن الانخفاض في وصول البضائع الشرقية إلى كريت وانقطاعها في نهاية المطاف قد يكون مرتبطا بدمار كنوسوس في حوالي 1350ق.م، وبسيطرة ميسينية على طرق التجارة إلى مصر والشرق الأدنى بعد ذلك بفترة وجيزة.
8
من المحتمل أن قائمة أمنحتب الثالث الإيجية تسجل هذا الوضع؛ حيث إن المواقع المدرجة على قاعدة التمثال تشتمل على مواقع مينوية على كريت وكذلك مواقع ميسينية على البر الرئيسي لليونان. وإذا كانت بعثة مصرية قد أرسلت إلى منطقة إيجه أثناء حكم أمنحتب الثالث، فربما كان موكلا إليها مهمة مزدوجة؛ هي تعزيز الصلات مع شريك تجاري قديم، ومهم (المينويين) وإقامة علاقات مع قوة صاعدة جديدة (الميسينيين).
9 (2) أرشيف العمارنة
ربما ينبغي ألا نفاجأ من وجود القائمة الإيجية، أو القوائم الأخرى الموجودة أيضا في المعبد، والتي تحدد مجتمعة العالم كما كان معروفا للمصريين في القرن الرابع عشر قبل الميلاد؛ وذلك لأننا نعرف من أدلة أخرى أن أمنحتب الثالث أدرك أهمية إنشاء علاقات مع القوى الخارجية، وتحديدا مع ملوك البلاد ذات الأهمية الدبلوماسية والتجارية لمصر؛ لذا أبرم معاهدات مع كثير من هؤلاء الملوك، وتزوج من العديد من بناتهم ليرسخ تلك المعاهدات. نعرف هذا من مراسلاته مع هؤلاء الملوك، والتي تركت لنا على صورة أرشيف منقوش على ألواح طينية عثر عليه لأول مرة في عام 1887.
القصة المقبولة عموما المتعلقة باكتشاف هذا الأرشيف هي أنه عثر عليه بواسطة امرأة قروية كانت تجمع مواد تستخدمها كوقود أو سماد في موقع تل العمارنة الحديث، والذي يضم حطام المدينة التي كانت يوما ما تدعى أخيتاتون (وتعني «أفق قرص الشمس»).
10
كان أمنحتب الرابع، الابن المهرطق لأمنحتب الثالث، والمعروف في العالم باسم إخناتون، قد بناها في منتصف القرن الرابع عشر قبل الميلاد لتكون عاصمة جديدة.
خلف إخناتون أمنحتب الثالث، ومن المحتمل أنه شارك والده في الحكم لبضعة أعوام قبل أن يموت الأخير في عام 1353ق.م وبعدما تولى إخناتون السلطة منفردا بفترة وجيزة، نفذ ما يعرف حاليا باسم «ثورة العمارنة». فأوصد المعابد التابعة لرع، وآمون، والمعبودات الرئيسية الأخرى، واستولى على خزائنها الضخمة، وأوجد لنفسه سلطة لا مثيل لها، بصفته رأس الحكومة، والجيش، والدين. وأدان عبادة كل معبود مصري عدا أتون، قرص الشمس، الذي كان مسموحا له هو، وهو وحده، أن يعبده مباشرة.
ينظر إلى هذا في بعض الأحيان على أنه المحاولة الأولى للتوحيد، بما أن إلها واحدا فقط كان يعبد حسب ظاهر الأمر، ولكن الأمر في الحقيقة موضع خلاف (وكان موضوعا لمناقشات علمية عديدة). وفيما يختص بعامة المصريين، كان يوجد في الأساس إلهان؛ أتون وإخناتون؛ إذ كان مسموحا للناس أن يصلوا إلى إخناتون وحده؛ ومن ثم كان هو يصلي إلى أتون نيابة عنهم. ربما كان إخناتون مهرطقا دينيا، وربما حتى متعصبا إلى حد ما، ولكنه كان أيضا داهية وطاغية وليس متطرفا. ربما كانت ثورته الدينية في واقع الأمر تحركا سياسيا ودبلوماسيا بارعا، يرمي إلى استعادة سلطة الملك؛ السلطة التي كانت قد فقدت ببطء لمصلحة الكهنة أثناء عهود الفراعنة السابقين.
ولكن إخناتون لم يبطل كل شيء كان أسلافه قد وضعوه. أدرك، على وجه الخصوص، أهمية الحفاظ على علاقات دولية قوية، وخصوصا مع ملوك البلاد المحيطة بمصر. تابع إخناتون نمط والده المتمثل في المفاوضات الدبلوماسية والشراكات التجارية مع القوى الأجنبية، الرئيسية والفرعية على حد سواء، ومنها تلك التي كانت مع سابيليوليوما والحيثيين.
11
واحتفظ بأرشيف للمراسلات مع هؤلاء الملوك والحكام في عاصمته، أخيتاتون. وتلك هي ما تعرف باسم «رسائل العمارنة»، المنقوشة على ألواح طينية، والتي أماطت امرأة قروية عنها اللثام في عام 1887.
كان الأرشيف موضوعا في الأصل في «مكتب السجلات» في المدينة. ويمثل كنزا دفينا من المراسلات مع الملوك والحكام الذين كان لأمنحتب الثالث وابنه إخناتون علاقات دبلوماسية معهم، ومنهم الحكام القبارصة والحيثيون، والملوك البابليون والآشوريون. يوجد أيضا رسائل من وإلى الحكام الكنعانيين المحليين، ومنهم عبدي هيبا من أورشليم وبريديا من مجدو. تعج الرسائل من هؤلاء الحكام المحليين، الذين كانوا في العادة تابعين للمصريين، بطلبات للمساعدة المصرية، ولكن كانت الرسائل المرسلة ما بين حكام القوى الكبرى (مصر، وآشور، وبابل، وميتاني، والحيثيين) تمتلئ على نحو أكثر تواترا بطلبات وإشارات لهدايا أجريت على مستوى دبلوماسي أعلى بكثير. أرشيف العمارنة هذا، إلى جانب ذلك الذي اكتشف في ماري والذي يرجع إلى القرن الثامن عشر قبل الميلاد، هو من أول الأرشيفات في تاريخ العالم التي توثق العلاقات الدولية الواسعة والمستدامة في العصر البرونزي في مصر ومنطقة شرق المتوسط.
12
كانت الرسائل مكتوبة باللغة الأكادية، اللغة الدبلوماسية الشائعة في ذلك الوقت والتي كانت تستخدم في العلاقات الدولية، على ما يقرب من أربعمائة لوح طيني. وبسبب بيع تلك الألواح في سوق القطع الأثرية وقت اكتشافها، فإنها حاليا موزعة بين متاحف في إنجلترا، ومصر، والولايات المتحدة، وأوروبا، ومن ضمنها المتحف البريطاني في لندن، والمتحف المصري في القاهرة، ومتحف اللوفر في باريس، ومتحف معهد الدراسات الشرقية التابع لجامعة شيكاجو، ومتحف بوشكين في روسيا، ومتحف فورديرازياتيش في برلين (الذي يضم تقريبا ثلثي الألواح).
13 (3) هدايا التحية والعلاقات العائلية
هذه الرسائل، بما في ذلك نسخ من تلك التي أرسلت إلى حكام أجانب وردود من أولئك الحكام، تتيح لنا نظرات متعمقة في التجارة والصلات الدولية في عصر أمنحتب الثالث وإخناتون أثناء منتصف القرن الرابع عشر قبل الميلاد. من الواضح أن كثيرا من الاتصال كان يتضمن «إعطاء الهدايا» الذي كان يجري على أعلى المستويات؛ من ملك لآخر. على سبيل المثال، تستهل إحدى رسائل العمارنة، المرسلة إلى أمنحتب الثالث من قبل توشراتا ملك ميتاني في شمال سوريا الذي اعتلى العرش في حوالي 1385ق.م، بفقرة تتضمن تحيات تقليدية ثم تنتقل إلى مناقشة الهدايا التي أرسلها، والتي أحضرها رسله:
أبلغوا نب ماعت رع [أمنحتب الثالث]، ملك مصر، أخي: هكذا [يقول] توشراتا، ملك ميتاني، شقيقك. من جهتي، كل شيء على ما يرام. من جهتك، أرجو أن يكون كل شيء على ما يرام. من جهة جليوخيبا [زوجتك]، أرجو أن يكون كل شيء على ما يرام. من جهة أسرتك، وزوجاتك، وأبنائك، وأقطابك [كبار رجالك]، ومحاربيك، وخيولك، وعرباتك الحربية، وبلدك، أرجو أن يكون كل شيء على ما يرام ...
مع رسالتي أرسل إليك عربة حربية، وحصانين، وخادما، وخادمة، من غنيمة أرض خاتي. وكهدية تحية لأخي، أرسل إليك 5 عربات حربية، و5 أزواج من الخيول. وكهدية تحية لجليوخيبا، أختي، أرسل إليها مجموعة مشابك تثبيت ذهبية، ومجموعة أقراط ذهبية، وخاتم «ماسو» ذهبي، وحاوية طيب مملوءة «زيتا حلوا».
مع رسالتي أرسل إليك كيليا، كبير وزرائي، وتونيب إبري. عسى أن يجعلهما أخي يذهبان فورا حتى يمكنهما أن يعودا على الفور ويبلغاني بما تم في اللقاء، وأسمع تحية أخي وأسعد، وعسى أن يرسل أخي إلي رسله حتى يأتوني بتحيات أخي وأسمعهم.
14
تتضمن رسالة ملكية أخرى، من إخناتون إلى بورنا بورياش الثاني، ملك بابل الكيشي، قائمة مفصلة بالهدايا التي أرسلها. يحتل تفصيل الهدايا أكثر من ثلاثمائة سطر من الكتابة على اللوح. تشمل الأغراض المذكورة أغراضا من الذهب، والنحاس، والفضة، والبرونز، وحاويات عطور وزيت حلو، وخواتم للأصابع، وأساور للأقدام، وقلائد، وكراسي عرش، ومرايا، وقماش كتان، وأوعية حجرية، وصناديق من خشب الأبنوس.
15
تأتي رسائل مشابهة تتضمن قوائم طويلة لأغراض، أحيانا تكون مرسلة بمثابة جزء من مهر مصاحب لابنة وأحيانا تكون مرسلة باعتبارها هدايا وحسب، من ملوك آخرين، مثل توشراتا من ميتاني.
16
تجدر الإشارة أيضا إلى أن «الرسل» المشار إليهم في هذه الرسائل، ورسائل أخرى، كانوا عادة وزراء، مرسلين بالأساس باعتبارهم سفراء، إلا أنهم كانوا في كثير من الأحيان تجارا، يؤدون مهمة مزدوجة بالعمل لحساب أنفسهم وكذلك لحساب الملك.
في هذه الرسائل، عادة كان الملوك المعنيون يشيرون إلى بعضهم البعض باعتبارهم أقارب، فيدعو بعضهم بعضا «أخا» أو «أبا/ابنا» على الرغم من أنهم عادة لم يكونوا أقرباء بالفعل، منشئين بذلك «شراكات تجارية».
17
أشار علماء الأنثروبولوجي إلى أن هذه الجهود لإنشاء علاقات عائلية تخيلية تحدث في أغلب الأحيان في مجتمعات ما قبل الصناعة، بخاصة لحل مشكلة التجارة عندما لا يوجد صلات قرابة أو أسواق تحت إشراف الدول.
18
وهكذا، كتب أحد ملوك عمورو إلى ملك أوغاريت المجاورة (كلتاهما منطقتان كانتا تقعان في المنطقة الساحلية الشمالية لسوريا): «أخي، انظر: أنا وأنت أخوان. إننا أخوان، ابنان لرجل واحد. لماذا لا نكون على علاقة طيبة بعضنا مع بعض؟ أيا كانت رغبتك التي ستكتبها لي، سألبيها؛ وسوف تلبي أنت رغباتي. فنحن نشكل وحدة واحدة.»
19
ينبغي التأكيد على أن هذين الملكين (ملكي عمورو وأوغاريت) لم يكن بينهما بالضرورة صلة على الإطلاق، ولا حتى عن طريق الزواج. لم يكن الجميع كذلك، ولم يقدر الجميع هذا النهج المختصر للعلاقات الدبلوماسية. يبدو أن الحيثيين في الأناضول كانوا نزقين على نحو خاص في هذا الصدد؛ إذ كتب ملك حيثي لملك آخر يقول: «لماذا علي أن أكتب لك بعبارات تنم عن الأخوة؟ هل نحن ابنا نفس الأم؟»
20
شكل 2-3: شبكة اجتماعية للعلاقات التي تشير إليها رسائل العمارنة (من إنشاء دي إتش كلاين).
ليس واضحا دائما ما الميزة التي تكتسبها العلاقة من استخدام مصطلح «أخ»، في مقابل «أب» و«ابن»، ولكن يبدو أنه عادة يدل على المساواة في المكانة أو في العمر، بينما «أب/ابن» مخصصان لإظهار الاحترام. يستخدم ملوك الحيثيين، على سبيل المثال، «أب » و«ابن» في مراسلاتهم، على نحو أكثر تواترا من حكام أي قوة كبرى أخرى في منطقة الشرق الأدنى، بينما تستخدم رسائل العمارنة كلها تقريبا مصطلح «أخ»، سواء كان ذلك لمخاطبة ملك آشور القوي أو ملك قبرص الأقل قوة. يبدو أن الفراعنة المصريين كانوا يعتبرون حكام منطقة الشرق الأدنى الآخرين، شركاءهم التجاريين، أعضاء أخوية عالمية، بصرف النظر عن العمر أو الأعوام التي أمضوها على العرش.
21
ومع ذلك، في بعض الحالات، كان يوجد بين الملكين صلة مصاهرة بالفعل عن طريق الزواج. على سبيل المثال، في رسائل من توشراتا ملك ميتاني إلى أمنحتب الثالث، يشير توشراتا إلى زوجة أمنحتب الثالث جليوخيبا بوصفها أخته، وقد كانت كذلك بالفعل (كان أبوه قد زوجها من أمنحتب الثالث). وبالمثل، زوج توشراتا أيضا ابنته تادو هيبا لأمنحتب الثالث في زيجة مدبرة أخرى، الأمر الذي جعل من توشراتا أخا لزوجة أمنحتب (أخا) وأبا لزوجته (أبا). لذا تستهل إحدى رسائله استهلالا حقيقيا بعبارة «أبلغ ... ملك مصر، أخي، وابني بالنسب ... هكذا يقول توشراتا، ملك أرض ميتاني، أبوك بالنسب.»
22
بعد وفاة أمنحتب الثالث، يبدو أن إخناتون أخذ (أو ورث) تادو هيبا باعتبارها واحدة من زوجاته، وهو ما أعطى توشراتا الحق أن يدعو نفسه أبا بالنسب لكل من أمنحتب الثالث وإخناتون في رسائل مختلفة من رسائل العمارنة.
23
في كل حالة من الحالتين، كان الزواج الملكي مدبرا لترسيخ الصلات والمعاهدات بين القوتين، وتحديدا بين الملكين؛ لذلك أعطى هذا أيضا لتوشراتا الحق في أن يدعو أمنحتب الثالث «أخاه» (رغم أنه كان، من الناحية الفعلية ، أخاه بالنسب [زوج شقيقته]) وأن يتوقع صلات مع مصر أفضل مما كان من المحتمل أن تكون عليه دون تلك الزيجات. كانت الزيجات مصحوبة بمهور كبيرة، مسجلة في العديد من رسائل العمارنة. على سبيل المثال، إحدى الرسائل من توشراتا إلى أمنحتب الثالث، السليمة جزئيا فقط وليست مقروءة بكاملها، تشتمل على 241 سطرا عن الهدايا، التي يقول هو نفسه عنها: «إن كل هدايا الزواج هذه، من كل نوع، هي التي منحها توشراتا، ملك ميتاني ، إلى نيموريا [أمنحتب الثالث]، ملك مصر، أخيه وابنه بالنسب. منحه إياها وفي الوقت نفسه منح تادو هيبا، ابنته، إلى مصر وإلى نيموريا لتكون زوجته.»
24
يبدو أن أمنحتب الثالث قد استخدم مسألة الزواج بين العائلات الحاكمة دبلوماسيا بدرجة أكبر مما فعل أي ملك في عصره؛ لأننا نعرف أنه تزوج، وضم إلى حريمه، بنات الملكين الكيشيين كوريجالزو الأول وكادشمان إنليل الأول ملكي بابل، وشوتارنا الثاني وتوشراتا ملكي ميتاني، وتارخوندارادو ملك أرزاوا (التي كانت تقع جنوب غرب الأناضول).
25
رسخت كل زيجة دون شك معاهدة دبلوماسية جديدة وأتاحت للملوك المعنيين أن يمارسوا العلاقات الدبلوماسية كما لو كانت فيما بين أفراد عائلة واحدة.
حاول بعض الملوك أن يستغلوا الصلة بين زواج العائلات المالكة وتقديم الهدايا في الحال، مستغنين عن الشكليات الأخرى. على سبيل المثال، تجمع إحدى رسائل العمارنة، ربما كانت من الملك الكيشي كادشمان إنليل ملك بابل إلى أمنحتب الثالث، مباشرة بين الأمرين، عندما يكتب كادشمان إنليل:
إضافة إلى ذلك، يا أخي ... بشأن الذهب الذي كتبت لك عنه، أرسل لي كل ما هو في متناول يدك منه، قدر المستطاع، قبل أن [يأتي] رسولك إلي، حالا، بكل سرعة ... إذا أرسلت لي الذهب الذي كتبت لك بشأنه، خلال هذا الصيف، خلال شهر تموز أو آب، سوف أعطيك ابنتي زوجة لك.
26
بسبب هذا الموقف المتهاون من كادشمان إنليل تجاه ابنته، عنفه أمنحتب الثالث في رسالة أخرى: «من الجيد أن تهب بناتك من أجل أن تحصل على قطعة ذهب من جيرانك!»
27
ومع ذلك، في مرحلة ما أثناء حكمه ، أجريت الصفقة بالفعل؛ إذ إننا نعرف من ثلاث رسائل أخرى من رسائل العمارنة أن أمنحتب الثالث تزوج بالفعل من ابنة كادشمان إنليل، غير أننا لا نعرف اسمها.
28 (4) الذهب، والذهب الزائف، والتجارة العالية المستوى
كانت مصر على وجه الخصوص بصفتها شريكا تجاريا مبتغى لملوك البلاد الأخرى. لم يكن هذا يرجع إلى أن مصر كانت ضمن القوى العظمى في ذلك الوقت فحسب، بل أيضا بسبب الذهب الذي تحكم فيه المصريون، بفضل المناجم التي كانت موجودة في النوبة. كتب أكثر من ملك إلى أمنحتب الثالث وإخناتون، يطلبون شحنات من الذهب ويتصرفون في الوقت نفسه كما لو كان ذلك أمرا عاديا؛ إذ ترى العبارة المتكررة «الذهب مثل التراب في بلادك.» وعبارات أخرى مشابهة، مرارا وتكرارا في رسائل العمارنة. في إحدى الرسائل، يتذرع توشراتا ملك ميتاني بالصلة العائلية ويطلب من أمنحتب الثالث أن «أرسل لي ذهبا أكثر بكثير مما أرسلت لوالدي.» وذلك لأنه، حسبما يقول: «في بلد أخي، الذهب في وفرة التراب.»
29
إلا أنه يبدو أن الذهب لم يكن دوما ذهبا، كما اشتكى الملوك البابليون على وجه الخصوص. في إحدى الرسائل التي أرسلها كادشمان إنليل إلى أمنحتب الثالث، قال فيها: «لقد أرسلت لي هدية تحية، وهو الشيء الوحيد الذي ترسله لي منذ ست سنوات، 30 منا من الذهب كانت تبدو كالفضة.»
30
وعلى نحو مماثل كتب خليفته في بابل، الملك الكيشي بورنا بورياش الثاني، في إحدى الرسائل إلى خليفة أمنحتب الثالث، إخناتون يقول: «من المؤكد أن أخي [ملك مصر] لم يراجع [شحنة] الذهب السابقة التي أرسلها لي أخي. عندما وضعت الأربعين منا من الذهب التي أرسلت لي في أتون، لم يظهر، وأقسم على ذلك، [ولا حتى] 10 أمنان.» وفي رسالة أخرى، قال: «العشرون منا من الذهب التي أحضرت إلى هنا لم تكن كلها موجودة. عندما وضعت في الأتون، لم يظهر 5 أمنان من الذهب. [الجزء] الذي ظهر، بدا عند التبريد مثل الرماد. هل اعتبر أي أحد هذا الذهب [ذهبا]؟»
31
من ناحية، قد يتساءل المرء عن السبب الذي كان يدفع ملوك بابل إلى أن يضعوا الذهب الذي يرسله الملك المصري في أتون ويصهروه. لا بد وأنه كان خردة معدنية كانت ترسل لقيمتها فقط ولم تكن قطعا مصنعة تصنيعا جيدا تعطى بمثابة هدايا، الأمر الذي يشبه كثيرا ما يراه المرء في وقتنا هذا من إعلانات في ساعة متأخرة على التليفزيون تستحث المشاهد على أن يبيع الحلي القديمة والمكسورة مقابل مبالغ نقدية، مع التلميح الواضح إلى أنها سوف تصهر على الفور. لا بد وأنهم احتاجوا إلى ذلك ليدفعوا للحرفيين، والمعماريين، وغيرهم من أصحاب المهن، مثلما تصرح بعض الرسائل بالفعل.
من ناحية أخرى، علينا أيضا أن نسأل عما إذا كان الملك المصري كان يعرف أن الشحنات التي كان يرسلها لم تكن ذهبا بالفعل، وإذا كان هذا التصرف عن عند، أو ما إذا كان التجار والمبعوثون معدومو الضمير يستبدلون الذهب الحقيقي في الطريق. شك بورنا بورياش في وقوع الاحتمال الأخير في حالة الأربعين منا من الذهب المذكورين عاليه، أو على الأقل عرض على إخناتون مخرجا دبلوماسيا من الموقف المحرج، وكتب: «الذهب الذي يرسله لي أخي، ينبغي ألا يسلمه أخي إلى عهدة أي نائب. ينبغي أن يجري أخي تحققا [شخصيا] [من الذهب]، ثم ينبغي على أخي أن يختمه ويرسله إلي. بالتأكيد، لم يتحقق أخي من الشحنة السابقة من الذهب التي أرسلها إلي. ثم إن نائبا لأخي هو من ختمه وأرسله إلي.»
32
يبدو أيضا أن القوافل المحملة بالهدايا والمرسلة بين الملكين كثيرا ما كانت تتعرض للنهب في الطريق. يكتب بورنا بورياش عن قافلتين كان سالمو، رسوله (وربما كان ممثله الدبلوماسي) مسئولا عنها، ويقول بأنه يعرف أنهما نهبتا. بل إنه يعرف المسئول عن ذلك: رجل يسمى بيرياوازا كان مسئولا عن السرقة الأولى، ورجل يفترض أن اسمه باماهو (من المحتمل أنه اسم مكان خلط بينه وبين اسم شخص) ارتكب الثانية. يسأل بورنا بورياش متى سيلاحق إخناتون مرتكب الواقعة الأخيرة، بالنظر إلى أنها كانت ضمن نطاق ولايته، ولكنه لم يتلق ردا، على الأقل بقدر علمنا.
33
علاوة على ذلك، ينبغي ألا ننسى أن هذه المبادلات للهدايا العالية المستوى ربما كانت لا تمثل سوى غيض من فيض من التعامل التجاري. قد يكون الوضع التالي، الحديث نسبيا، وضعا مشابها. في عشرينيات القرن الماضي، درس عالم الأنثروبولوجي برونيسواف مالينوفسكي سكان جزر تروبرياند الذين كانوا مشاركين فيما يطلق عليه حلقة كولا في منطقة جنوب المحيط الهادئ. في هذا النظام، كان زعماء الجزر يتبادلون شارات الأذرع والقلائد المصنوعة من الأصداف، مع انتقال شارات الأذرع دائما في اتجاه واحد حول الحلقة وانتقال القلائد في الاتجاه الآخر. كانت قيمة كل غرض تزيد وتنقص اعتمادا على سلسلة نسب مالكيها وتاريخ ملكيتها السابق (الذي يشير إليه علماء الآثار حاليا على أنه «سيرتها»). اكتشف مالينوفسكي أنه في نفس الوقت الذي كان فيه الزعماء في المراكز الاحتفالية يتبادلون شارات الأذرع والقلائد تبعا لمظاهر الأبهة التقليدية، كان الرجال الذين كانوا يعملون كأطقم على قوارب الكانو التي نقلت الزعماء مشغولين بالمتاجرة في الطعام، والماء والسلع الحياتية الضرورية الأخرى مع السكان المحليين على الشاطئ.
34
هذه المعاملات التجارية المعتادة كانت هي الدوافع الاقتصادية الحقيقية المنطوية عليها عمليات تبادل الهدايا الاحتفالية التي كان يقوم بها زعماء جزر تروبرياند، ولكنهم ما كانوا ليعترفوا بتلك الحقيقة أبدا.
وبالمثل، ينبغي ألا نقلل من أهمية الرسل، والتجار، والبحارة الذين كانوا ينقلون الهدايا الملكية وغيرها من الأصناف عبر صحارى الشرق الأدنى القديم، وربما أيضا عبر البحار إلى منطقة إيجه. من الواضح أنه كان ثمة قدر كبير من الاتصال بين مصر والشرق الأدنى ومنطقة إيجه أثناء العصر البرونزي المتأخر، ومما لا شك فيه أن الأفكار، والابتكارات كانت تنقل أحيانا مع الأغراض المادية. مما لا شك فيه أن عمليات نقل الأفكار هذه لم تجر في المستويات العليا من المجتمع فحسب، بل أيضا في خانات وحانات الموانئ والمدن على امتداد طرق التجارة في اليونان، ومصر، ومنطقة شرق المتوسط. وإلا فأين سيمضي بحار أو أحد أفراد طاقم وقت انتظار تحول الريح إلى الجهة المرادة أو إنهاء بعثة دبلوماسية لمفاوضاتها الحساسة، إلا في تبادل الأساطير والقصص الخرافية والحكايات الطويلة؟ ربما ساهمت تلك الأحداث في انتشار التأثيرات الثقافية بين مصر وبقية منطقة الشرق الأدنى، وحتى عبر منطقة إيجه. ويمكن لهذا النوع من التبادل أن يفسر أوجه التشابه بين «ملحمة جلجامش» و«إلياذة» و«أوديسة» هوميروس المتأخرتين عنها زمنيا، وبين «أسطورة كوماربي» الحيثية و«ثيوجونيا» هسيود المتأخرة عنها زمنيا.
35
يجدر أيضا أن نشير إلى أن عمليات تبادل الهدايا بين حكام منطقة الشرق الأدنى أثناء العصر البرونزي المتأخر كثيرا ما اشتملت على أطباء، ونحاتين، وبنائين، وعمال مهرة، والذين كانوا يرسلون فيما بين بلاط الملوك المختلفين. من غير المستغرب وجود بعض أوجه التشابه بين الهياكل المعمارية في مصر، والأناضول، وكنعان، وحتى في منطقة إيجه، إذا كان نفس المهندسين المعماريين والنحاتين والحجارين يعملون في كل منطقة من تلك المناطق. تشير الاكتشافات الأخيرة للوحات الجدارية والأرضيات المرسومة ذات الأسلوب الإيجي في منطقة تل الضبعة في مصر، المذكورة في الفصل السابق، بالإضافة إلى الاكتشافات في تل كابري في إسرائيل، ومدينة ألالاخ في تركيا، وموقع قطنة في سوريا، إلى أنه من الممكن أن يكون الحرفيون الإيجيون قد شقوا طريقهم إلى مصر ومنطقة الشرق الأدنى منذ القرن السابع عشر وربما في وقت متأخر كالقرن الثالث عشر قبل الميلاد.
36 (5) صعود ألشية وآشور
من رسائل العمارنة التي يرجع تاريخها تحديدا إلى عصر إخناتون، نعرف أن الصلات الدولية لمصر امتدت أثناء حكمه لتشمل آشور كقوة صاعدة تحت حكم ملكها آشور أوباليط الأول، الذي كان قد اعتلى العرش في العقد السابق لوفاة أمنحتب الثالث. وجد أيضا ثماني رسائل من وإلى ملك جزيرة قبرص، المعروفة للمصريين وشعوب العالم القديم الأخرى باسم ألشية،
37
وتلك الرسائل تقدم تأكيدا لوجود صلات مع مصر.
تعد هذه الرسائل المرسلة من وإلى قبرص، والتي من المحتمل أن يرجع تاريخها إلى عصر إخناتون وليس أمنحتب الثالث، ذات أهمية عظيمة، ويرجع ذلك جزئيا إلى الكمية الهائلة من النحاس الخام المذكورة في إحدى الرسائل. كانت قبرص المصدر الرئيسي للنحاس لمعظم القوى العظمى الإيجية والشرق أوسطية أثناء العصر البرونزي المتأخر ، حسبما يتضح بجلاء من المناقشات التي نجدها في الرسائل، بما في ذلك تلك التي يعتذر فيها ملك ألشية عن إرسال خمسمائة تالنت «فقط» من النحاس بسبب مرض اجتاح جزيرته.
38
يعتقد حاليا أن هذا النحاس الخام ربما كان يشحن على هيئة سبائك جلد الثور، مثل تلك التي عثر عليها في حطام سفينة أولوبورون الذي سنناقشه في الفصل التالي. تزن كل سبيكة من سبائك جلد الثور على ظهر السفينة حوالي ستين رطلا، وهو ما يعني أن هذه الحمولة المذكورة في رسالة العمارنة كانت ستتكون من حوالي ثلاثين ألف رطل من النحاس؛ وهي كمية اعتذر لإرسالها الملك القبرصي (هل كان اعتذاره تهكميا؟) لأنها صغيرة جدا!
أما فيما يتعلق بآشور، فتوجد رسالتان في أرشيف العمارنة من آشور أوباليط الأول، الذي حكم تلك المملكة من حوالي 1365 إلى 1330ق.م ليس من الواضح هوية الفرعون المصري الذي كانت هاتان الرسالتان موجهتين إليه؛ وذلك لأن إحداهما تبدأ بعبارة «أبلغ ملك مصر»، في حين أن الاسم المذكور في الأخرى غير واضح والقراءة غير متيقنة. اقترح مترجمون سابقون أنه من المحتمل أنهما كانتا مرسلتين إلى إخناتون، ولكن باحثا واحدا على الأقل يقترح أن الرسالة الثانية يمكن أن تكون موجهة إلى آي، الذي اعتلى العرش بعد وفاة توت عنخ آمون.
39
يبدو هذا غير مرجح، نظرا للتاريخ المتأخر لاعتلاء آي للعرش (حوالي 1325ق.م)، وفي الحقيقة، من المرجح أكثر بكثير أن الرسالتين كانتا مرسلتين إلى أمنحتب الثالث أو إخناتون، كحال الغالبية العظمى من الرسائل من الحكام الآخرين.
أولى هاتين الرسالتين هي ببساطة عبارة عن رسالة تحية وتشتمل على قائمة موجزة من الهدايا، مثل «عربة حربية جميلة، وحصانين، وحجر منقوش عليه التاريخ من اللازورد الأصلي.»
40
الرسالة الثانية أطول وتحتوي على طلب إرسال الذهب الذي صار معتادا، مع عبارة إخلاء المسئولية الاعتيادية: «الذهب في بلادك تراب؛ ليس على المرء سوى أن يجمعه.» إلا أنها تحتوي أيضا على مقارنة مثيرة للاهتمام مع ملك هانيجالبات، الميتاني، التي يصرح فيها ملك آشور أنه «على قدم المساواة مع ملك هانيجالبات»؛ وهي إشارة واضحة إلى مكانه في الترتيب الهرمي لما كان يطلق عليه القوى العظمى لذلك الوقت، الذي تمنت آشور وملكها بقوة أن يكونا جزءا منها.
41
يبدو أن آشور أوباليط لم يكن يتفاخر تفاخرا أجوف؛ لأنه كان أكثر من ند للملك الميتاني المعاصر له حينئذ، شوتارنا الثاني. هزم آشور أوباليط شوتارنا في معركة، يحتمل أنها كانت عام 1360ق.م، وأنهى السيطرة الميتانية على آشور التي كانت قد بدأت منذ أكثر من قرن بقليل، عندما سرق الملك الميتاني الأسبق شوشتاتار الباب المصنوع من الذهب والفضة من العاصمة الآشورية وأخذه إلى العاصمة الميتانية واشوكاني.
وهكذا بدأ صعود آشور إلى مكانة عظمى، على حساب ميتاني في المقام الأول. سرعان ما أصبح آشور أوباليط واحدا من الفاعلين الرئيسيين في عالم السياسة الواقعية الدولية. دبر زيجة ملكية بين ابنته وبورنا بورياش الثاني، ملك بابل الكيشي، وما كان منه إلا أن غزا مدينة بابل نفسها بعد بضعة أعوام، بعد اغتيال حفيده في عام 1333ق.م، ووضع ملكا دمية يسمى كوريجالزو الثاني على العرش.
42
وبذلك، تظهر أخيرا على الساحة آخر جهتين فاعلتين رئيسيتين في العصر البرونزي المتأخر في الشرق الأدنى القديم، وهما آشور وقبرص. أصبح لدينا الآن طاقم شخصيات مكتمل يضم: الحيثيين، والمصريين، والميتانيين، والكيشيين/البابليين، والآشوريين، والقبارصة، والكنعانيين، والمينويين، والميسينيين، وكل تلك الجهات حاضرة وفاعلة. وكلها تفاعلت فيما بينها، إيجابيا وكذلك سلبيا، أثناء القرون التالية، رغم أن بعضها، مثل ميتاني، اختفى من الساحة قبل الآخرين بوقت طويل. (6) نفرتيتي والملك توت عنخ آمون
بعد وفاة إخناتون بفترة وجيزة، انعكس مسار إصلاحاته وعادت الأمور إلى سيرتها الأولى، وجرت محاولة لمحو اسمه وذكراه من آثار وسجلات مصر. كادت المحاولة أن تنجح، ولكن من خلال جهود الأثريين والاختصاصيين في دراسة النقوش، أصبح لدينا حاليا قدر كبير من المعرفة عن فترة حكم إخناتون، وكذلك عن عاصمته أخيتاتون وحتى عن قبره الملكي. ونعرف أيضا بشأن عائلته، بما في ذلك زوجته الجميلة نفرتيتي، وبناته، اللواتي يظهرن في عدد من النقوش والآثار .
عثر لودفيج بورشادت، المنقب الألماني عن العمارنة (أخيتاتون)، على التمثال النصفي المعروف لنفرتيتي في عام 1912 وشحنه إلى ألمانيا بعد ذلك بشهور قليلة. ولكن لم يمط عنه اللثام ويعرض للجمهور حتى عام 1924 في المتحف المصري في برلين. لا يزال التمثال موجودا في برلين إلى يومنا هذا، على الرغم من مطالبات من الحكومة المصرية العديدة بإعادته؛ نظرا لأنه غادر مصر في ظروف غير مثالية. القصة المروية، ولكن غير المؤكدة، تفيد بأنه كان ثمة اتفاق بين المنقبين الألمان والحكومة المصرية على اقتسام مكتشفات التنقيب بالتساوي، مع حصول المصريين على حق الاختيار الأول. عرف الألمان هذا لكنهم أرادوا الحصول على تمثال نفرتيتي النصفي لأنفسهم؛ لذا يقال إنهم أبقوا التمثال النصفي بدون تنظيف ووضعوه عن عمد في نهاية صف طويل من الأغراض. عندما تغاضت السلطات المصرية عن الرأس الذي كان يبدو قذرا، شحنه الألمان على الفور إلى برلين. وعندما عرض أخيرا في عام 1924، استشاط المصريون غضبا وطالبوا بعودته، لكنه ما يزال في برلين.
43
ونعرف أيضا بشأن ابن إخناتون، توت عنخ أتون، الذي غير اسمه وحكم مستخدما الاسم الذي نعرفه به اليوم، وهو توت عنخ آمون، أو الملك توت. إنه لم يولد في ولاية أريزونا، خلافا لما قاله ستيف مارتن ذات مرة في برنامج «ساترداي نايت لايف»، ولا انتقل أبدا إلى بلاد بابل.
44
غير أنه اعتلى بالفعل عرش مصر في سن مبكرة، عندما كان في حوالي الثامنة من عمره؛ تقريبا في نفس العمر الذي اعتلى فيه تحتمس الثالث العرش قبل قرابة 150 سنة. لحسن حظ توت عنخ آمون، لم يكن ثمة حتشبسوت في الجوار لتحكم بالنيابة عنه؛ ومن ثم كان بوسع توت عنخ آمون أن يحكم لقرابة عشر سنوات قبل أن يموت في سن مبكرة.
الغالبية العظمى من التفاصيل المحيطة بحياة توت عنخ آمون القصيرة ليست ذات صلة مباشرة بدراستنا للعالم الدولي الذي عاش فيه. ومع ذلك، فإن موته وثيق الصلة بالموضوع، من ناحية لأن اكتشاف مقبرته في عام 1922 أطلق العنان لهوس عصري على مستوى العالم بمصر القديمة (يعرف باسم الهوس بالمصريات) وجعله الملك الأكثر شهرة من كل أولئك الذين حكموا أثناء العصر البرونزي المتأخر، وبسبب الإمكانية الكبيرة في أنه من المحتمل أن تكون أرملته هي التي كتبت إلى الملك الحيثي سابيليوليوما الأول، تطلب زوجا بعد وفاة توت عنخ آمون.
يدور نقاش منذ وقت طويل حول سبب وفاة توت عنخ آمون - ومن ذلك إمكانية أن يكون قد قتل بضربة على مؤخرة رأسه - لكن الدراسات العلمية الحديثة العهد، بما في ذلك تصوير جمجمته بالأشعة المقطعية، تشير إلى أن السبب الأرجح المسئول عن وفاته هو إصابته بكسر في الساق تلاه عدوى.
45
لا يمكن أبدا إثبات إذا ما كانت ساقه قد كسرت جراء سقوطه من فوق عجلة حربية، كما يشتبه، ولكن بات من الواضح الآن أنه عانى من الملاريا أيضا وأنه كان لديه تشوهات خلقية، بما في ذلك اعوجاج القدم. وأشير أيضا إلى أنه من الممكن أن يكون قد ولد من علاقة سفاح قربى بين أخ وأخته.
46
دفن توت عنخ آمون في مقبرة في منطقة وادي الملوك. ربما لم تكن المقبرة له في الأصل، كما كان حال الكثير من الأغراض المذهلة التي عثر عليها مدفونة معه؛ نظرا لأنه مات فجأة وعلى نحو غير متوقع. وكذلك ثبت بجلاء صعوبة تحديد موقعها على علماء المصريات المعاصرين، لكن هوارد كارتر اكتشفها أخيرا في عام 1922.
كان إيرل كارنارفون قد استأجر كارتر لغرض صريح هو العثور على مقبرة توت عنخ آمون. كان كارنارفون، كشأن بعض أعضاء الطبقة الأرستقراطية البريطانية الآخرين، يبحث عن شيء ليفعله أثناء تمضيته لفصل الشتاء في مصر. وخلافا لبعض مواطنيه، كان كارنارفون يتبع أوامر طبيبه بالمجيء إلى مصر كل عام؛ وذلك لأنه كان قد تعرض لحادث سيارة في ألمانيا في عام 1901 - إذ انقلبت سيارته وهو يقودها بسرعة غير مسبوقة بلغت عشرين ميلا في الساعة - وأصيب بثقب في الرئة، أدى بطبيبه إلى أن يخشى عليه من أنه لن يتحمل الشتاء في إنجلترا؛ لذا اضطر إلى أن يمضي الشتاء في مصر وعلى الفور بدأ يمارس دور الأثري الهاوي، بأن استأجر عالم مصريات مفضلا.
47
كان كارتر يعمل مفتشا عاما للآثار في صعيد مصر، ثم تولى منصبا أرفع في سقارة. ومع ذلك استقال بعد أن رفض الاعتذار لمجموعة من السائحين الفرنسيين الذين تسببوا في مشكلة في الموقع في عام 1905. ولذلك كان أكثر قابلية لأن يوظفه كارنارفون؛ إذ كان عاطلا عن العمل في ذلك الوقت وكان يعمل رساما يرسم مناظر بألوان الماء للسائحين. بدأ الاثنان العمل معا في عام 1907.
48
بعد عقد من أعمال التنقيب الناجحة في مجموعة متنوعة من المواقع، كان بمقدور الرجلين أن يشرعا في العمل في وادي الملوك في عام 1917. كانا يبحثان تحديدا عن مقبرة توت عنخ آمون، التي عرفا أنها لا بد وأن تكون في مكان ما في وادي الملوك؛ لذلك أخذ كارتر يحفر ستة مواسم، لشهور عديدة كل عام، حتى كان تمويل كارنارفون، وربما اهتمامه أيضا، على وشك النضوب. التمس منه كارتر موسما واحدا أخيرا، عارضا أن يدفع مقابله بنفسه، لأنه كان هناك مكان واحد في الوادي لم يكن قد نقب فيه بعد. رضخ كارنارفون لالتماسه وعاد كارتر إلى وادي الملوك، مبتدئا العمل في الأول من نوفمبر من عام 1922.
49
أدرك كارتر أنه كان ينصب معسكره في نفس المكان كل موسم، لذا نقل عندئذ مقره وحفر في المكان الذي كان فيه الموضع الأصلي للمعسكر، وبعد ثلاثة أيام، عثر عضو في فريقه على الدرجات الأولى المؤدية إلى المقبرة. وكما اتضح، كان أحد الأسباب وراء بقاء المقبرة دون أن تكتشف لآلاف السنين هو أن المدخل كان قد طمر تحت التراب الذي كان يلقيه الحفارون اللاحقون الذين كانوا يقيمون مقبرة رمسيس السادس المجاورة، والذي مات بعد ما يقرب من قرن من وفاة توت عنخ آمون.
حيث إن كارتر كان قد اكتشف مدخل المقبرة في الوقت الذي كان فيه كارنارفون لا يزال في إنجلترا، أرسل إليه على الفور برقية ثم كان عليه أن ينتظر حتى يتمكن كارنارفون من الإبحار إلى مصر. وكذلك أبلغ وسائل الإعلام. وعند وصول كارنارفون واستعدادهم لفتح المقبرة في السادس والعشرين من نوفمبر من عام 1922، كان الصحفيون يحيطون بهما، كما تظهر الصور الفوتوغرافية المأخوذة في ذلك اليوم.
ما إن حفرت فتحة بالإزميل في الباب، حتى كان بمقدور كارتر أن ينظر من خلال الثقب وعبر ممر الدخول الذي يليه، الغرفة المفضية إلى غرفة الدفن. جذب كارنارفون كارتر من سترته وسأله عما رآه. يقال إنه أجاب قائلا: «أرى أشياء رائعة.» أو كلمات أخرى بهذا المعنى، وفعلا أورد لاحقا أنه كان بوسعه أن يرى ذهبا؛ إذ كان بريق الذهب في كل مكان.
50
بلا شك، كان الارتياح واضحا على صوته؛ لأنه أثناء الانتظار الطويل لمجيء كارنارفون، استحوذت على كارتر مخاوف أن المقبرة قد تعرضت للنهب على الأقل مرة واحدة، إن لم يكن مرتين، بالاستناد إلى إعادة التمليط بالجص عند مدخل المقبرة، مع وجود أختام الجبانة عليها.
51
كانت عقوبة سرقة المقابر في مصر القديمة هي الموت بالخوزقة على عصا مثبتة في الأرض، ولكن لا يبدو أن هذا أخاف الكثير من لصوص المقابر.
عندما دخل كارتر وكارنارفون بالفعل إلى داخل المقبرة، بات واضحا أنها قد تعرضت بالفعل للسرقة، بالاستناد إلى حالة الفوضى التي كانت عليها الأغراض الموجودة في الغرفة المفضية إلى غرفة الدفن، حيث كانت ملقاة مثل ممتلكات في شقة أو منزل حديث تعرض للنهب على يد لصوص منازل، وبالاستناد أيضا إلى الخواتم الذهبية الملفوفة في منديل والملقاة في ممر الدخول، التي ألقاها على الأرجح اللصوص الذين إما كانوا في عجلة من أمرهم للخروج من المقبرة أو أثناء ما كان حراس الجبانة يقبضون عليهم. ومع ذلك، كان الكم الهائل من الممتلكات الباقية في المقبرة مذهلا؛ حتى إن الأمر استغرق من كارتر ومعاونيه معظم السنوات العشر التالية للتنقيب تنقيبا كاملا وعمل قائمة بكل شيء في المقبرة، رغم أن كارنارفون نفسه مات جراء تسمم الدم بعد ثمانية أيام فقط من فتح المقبرة، الأمر الذي أدى إلى ظهور قصة «لعنة المومياء».
العدد الضخم من أغراض الدفن في مقبرة توت عنخ آمون قاد بعض علماء المصريات إلى التساؤل عما كان من الممكن أن يكون موجودا في مقبرة أحد الفراعنة الذين حكموا مدة أطول، مثل رمسيس الثالث أو حتى أمنحتب الثالث، ولكن كل تلك المقابر كانت قد نهبت منذ زمن بعيد. ومع ذلك فمن المرجح أن الأغراض المذهلة التي كانت موجودة في المقبرة كانت فريدة من نوعها وربما كانت نتيجة هدايا من الكهنة المصريين، الذين كانوا ممتنين له لأنه أبطل إصلاحات والده وأعاد الأمور إلى سيرتها الأولى وأرجع السلطة إلى كهنة آمون وآخرين. وحتى تكتشف مقبرة مصرية ملكية غير منهوبة أخرى، فإننا، على أي حال، ليس لدينا شيء يقارن بمقبرة توت عنخ آمون.
عندما مات توت عنخ آمون، ترملت ملكته الشابة عنخ إسن آمون التي كانت أخته أيضا. وهنا نصل إلى القصة الطويلة للملك الحيثي سابيليوليوما الأول ومسألة زانانزا، التي تعد إحدى أغرب الوقائع الدبلوماسية في القرن الرابع عشر قبل الميلاد. (7) سابيليوليوما ومسألة زانانزا
بعد توداليا الأول أو الثاني، عانى الحيثيون في الأناضول/تركيا لفترة من الزمن في ظل حكام ضعاف نسبيا. بدأت حظوظهم في التحسن من جديد في حوالي 1350ق.م، تحت حكم ملك جديد يسمى سابيليوليوما الأول، الذي أتينا على ذكره بإيجاز فيما يتصل بمراسلات وسجلات إخناتون.
عندما كان أميرا شابا يأتمر بأوامر والده، ساعد سابيليوليوما الأول الحيثيين في استعادة السيطرة على الأناضول.
52
شكلت معاودة ظهور الحيثيين في هذا الوقت خطرا على أمنحتب الثالث وإمبراطوريته، لذا ليس مفاجئا أن المعاهدات التي تفاوض بشأنها أمنحتب الثالث، والزيجات بين العائلات المالكة التي دبرها، استهلت بحكام كل البلاد المحيطة بموطن الحيثيين تقريبا، من أوغاريت على ساحل شمال سوريا إلى بابل في بلاد الرافدين جهة الشرق وأرزاوا في الأناضول جهة الغرب. سعى أمنحتب الثالث إلى إبرام تلك المعاهدات والزيجات في محاولة في بداية الأمر لاستغلال الضعف النسبي للحيثيين أثناء مطلع حكم سابيليوليوما الأول، وللحد، بعد ذلك، من نطاق أنشطتهم، مع بدء الحيثيين في معاودة الصعود تحت قيادته.
53
لدينا علم بالكثير من الأمور عن سابيليوليوما من السجلات الحيثية، وبخاصة مجموعة من الألواح التي كتبها ابنه وخليفته لاحقا، مورسيلي الثاني، التي تحتوي على ما يعرف باسم «صلوات الطاعون». يبدو أن سابيليوليوما مات، بعد حكم دام قرابة الثلاثين عاما، جراء طاعون جلب إلى بلاد الحيثيين عن طريق أسرى الحرب المصريين الذين كانوا قد أسروا أثناء حرب دارت في شمال سوريا. اجتاح الطاعون عامة الشعب الحيثي. ومات الكثير من العائلة المالكة، بما فيهم سابيليوليوما.
رأى مورسيلي الوفيات، وخاصة وفاة والده، على أنها عقاب إلهي على اغتيال كان قد ارتكب في بداية حكم سابيليوليوما، ولم يسأل سابيليوليوما الآلهة قط الغفران له. كان شقيق سابيليوليوما هو من اغتيل؛ وهو أمير حيثي يسمى توداليا الأصغر. ليس واضحا إن كان سابيليوليوما متورطا في الاغتيال أم لا، ولكن من المؤكد أنه استفاد منه؛ إذ كان المزمع تولي توداليا للعرش بدلا من سابيليوليوما، على الرغم من كل الانتصارات العسكرية العظيمة التي حققها سابيليوليوما نيابة عن والده. يكتب مورسيلي:
ولكنك الآن، أيتها الآلهة، قد انتقمت من أبي بسبب مسألة توداليا الأصغر. [مات] أبي بسبب دم توداليا، والأمراء، والنبلاء، وقادة الآلاف، والضباط الذين مضوا إلى أبي، هم أيضا ماتوا بسبب تلك المسألة. هذه المسألة نفسها حلت على أرض خاتي، وبدأ سكان أرض خاتي في الهلاك بسبب هذه المسألة.
54
لا نعرف أي تفاصيل أخرى عن عملية استيلاء سابيليوليوما على السلطة، عدا أنها نجحت كما هو واضح. إلا أننا عرفنا بعد ذلك أحداثا مهمة إضافية من فترة حكمه، بفضل وثيقة طويلة عنوانها «أعمال سابيليوليوما»، والتي كتبها أيضا ابنه وخليفته، مورسيلي الثاني. يمكن لتفاصيل حكم سابيليوليوما أن تستغرق كتابا كاملا، والذي سيكتب دون شك في مرحلة ما. أما هنا فسيكفي أن نقول ببساطة إن سابيليوليوما تمكن من إعادة معظم منطقة الأناضول إلى السيطرة الحيثية، من خلال حروب شبه متواصلة ودبلوماسية ماكرة. ووسع كذلك من النفوذ الحيثي، وحدود الإمبراطورية، وصولا إلى شمال سوريا، حيث من المحتمل أن يكون قد دمر مدينة ألالاخ، عاصمة مملكة موكيش.
55
أدت به حملاته العديدة إلى الجنوب والشرق في نهاية المطاف إلى الدخول في صراع مع المصريين، وإن كان ذلك لم يحدث إلا في عصر إخناتون. أدت به هذه الحملات أيضا إلى الدخول في صراع مع ميتاني، الواقعة في موضع أبعد شرقا، أثناء حكم ملكها، توشراتا. هزم سابيليوليوما في النهاية مملكة ميتاني وأخضعها، ولكن ذلك لم يحدث إلا بعد عدد من المحاولات؛ بما فيها الحرب التي يطلق عليها «الحرب السورية العظمى»، عندما سلب سابيليوليوما ونهب واشوكاني عاصمة ميتاني.
56
من ضمن المدن الأخرى التي هاجمها سابيليوليوما ودمرها والتي كانت واقعة في نطاق الأراضي الميتانية كان موقع قطنة القديمة، تل المشرفة الحالي، الذي يقوم فيه أثريون إيطاليون وألمان وسوريون بأعمال تنقيب حاليا. جرت اكتشافات هائلة في العقد الماضي فحسب، منها مقبرة ملكية غير منهوبة، ورسوم جدارية إيجية الطراز عليها صور لسلاحف ودلافين، وقطعة من الطين عليها الاسم الذي حمله إخناتون عند اعتلاء العرش (ربما استخدمت لختم جرة أو كانت في الأصل مرفقة برسالة)، وعشرات الألواح من الأرشيف الملكي، وكلها كانت واقعة داخل أو تحت القصر. من ضمن هذه الألواح يوجد رسالة يرجع تاريخها إلى حوالي 1340ق.م من هانوتي، القائد الأعلى للجيش الحيثي تحت حكم سابيليوليوما، يخبر فيها إيدادا ملك قطنة أن يستعد للحرب. عثر على الرسالة في البقايا المحروقة لقصر الملك، في دليل على أن الحيثيين قد هاجموها وانتصروا.
57
لم يكن سابيليوليوما يجهل الشئون الدبلوماسية؛ إذ كانت تمضي آنذاك جنبا إلى جنب مع الحرب. ويبدو حتى إنه تزوج أميرة بابلية، ربما بعد إبعاد زوجته الأساسية (وأم أبنائه) فيما وراء البحار إلى أخياوا بسبب تجاوز غير معروف.
58
كذلك زوج إحدى بناته إلى شاتيوازا، الذي نصبه على عرش ميتاني ملكا تابعا له بعد أن أرسل معه جيشا حيثيا ليظفر بعرش والده. ومع ذلك فإن أكثر الزيجات المرتبطة بحكم سابيليوليوما إثارة للاهتمام هي زيجة لم تحدث قط. وتعرف اليوم باسم «مسألة زانانزا».
نعرف بمسألة زانانزا من وثيقة «أعمال سابيليوليوما»، كما كتبها ابنه مورسيلي الثاني، نفس الابن الذي كان مسئولا عن كتابة «صلوات الطاعون». ويبدو أن البلاط الحيثي تلقى ذات يوم رسالة، يزعم أنها من ملكة مصر. كانت الرسالة محل ارتياب لأنها احتوت على عرض لم يسبق قط أن قدمه حاكم لمصر. كان عبارة عن طلب مفاجئ للغاية حتى إن سابيليوليوما شك على الفور في صحة الرسالة. كان نص الرسالة ببساطة هو الآتي:
لقد توفي زوجي. وليس لي ابن. لكنهم يقولون إن لديك أبناء كثيرين. إن أعطيتني واحدا من أبنائك، فسيصبح زوجي. ولن أقدم أبدا على أن أتخذ خادما من خدمي زوجا لي!
59
تسجل وثيقة «أعمال سابيليوليوما» أن مرسل الرسالة كان امرأة تسمى «داهامونذو». غير أن هذه الكلمة هي كلمة حيثية تعني «زوجة الملك». بعبارة أخرى، كانت الرسالة على ما يفترض من ملكة مصر، ولكن هذا كان غير منطقي؛ لأن العائلة المالكة المصرية لم تزوج بناتها من أجانب. في كل مفاوضات معاهدات أمنحتب الثالث، على سبيل المثال، لم يهب، ولو مرة، إحدى أفراد عائلته للزواج من حاكم أجنبي، على الرغم من أنه طلب منه في أكثر من مناسبة أن يفعل ذلك. أما هنا، فملكة مصر لم تكن تعرض أن تتزوج ابن سابيليوليوما فحسب بل أن تجعل منه على الفور فرعون مصر. كان هذا العرض لا يصدق؛ ولذلك فإن رد فعل سابيليوليوما مفهوم. وهذا ما جعله يبعث برسول مؤتمن يسمى حاتوسا زيتي إلى مصر، ليسأل عما إذا كانت الملكة قد أرسلت بالفعل الرسالة، وعما إذا كانت جادة في عرضها.
سافر حاتوسا زيتي إلى مصر، حسب التعليمات، ولم يعد برسالة إضافية من الملكة فحسب بل عاد أيضا بمبعوثها الخاص، رجل يسمى هاني. كانت الرسالة مكتوبة باللغة الأكادية، وليست بالمصرية أو الحيثية. لا تزال الرسالة باقية في يومنا هذا على هيئة غير مكتملة بعد اكتشافها في حاتوسا، ضمن السجلات الحيثية، وتعكس غضب الملكة من الشك فيها. وحسبما اقتبس في «أعمال سابيليوليوما»، كانت تنص على ما يلي:
إن كان لي ابن، فهل كنت سأكتب عن خزيي وخزي بلدي لبلد أجنبي؟ أنت لم تصدقني، حتى إنك حدثتني بذلك! لقد مات من كان زوجي. وليس لدي ابن! ولن أقدم أبدا على أن أتخذ خادما من خدمي زوجا لي! أنا لم أكتب إلى أي بلد آخر. لقد كتبت إليك فحسب. يقولون إن لديك أبناء كثيرين؛ لذا أعطني ابنا من أبنائك. وسوف يكون زوجا لي. وفي مصر سوف يكون ملكا!
60
وحيث إن سابيليوليوما كان لا يزال متشككا، فقد تحدث المبعوث المصري هاني بعد ذلك قائلا:
يا مولاي! هذا خزي بلدنا! إن كنا نملك أي ابن للملك، فهل كنا أتينا إلى بلد أجنبي وظللنا نطلب سيدا لنا؟ لقد مات نب خبرو رع [الملك المصري]. وليس له أبناء! زوجة مولانا بمفردها. نحن نبتغي ابنا من أبناء مولانا [سابيليوليوما] للملك في مصر. أما للسيدة، مولاتنا، فنحن نبتغيه لها زوجا! علاوة على ذلك، لم نذهب إلى أي بلد آخر، فقد أتينا إلى هنا فقط! والآن، يا مولاي، أعطنا واحدا من أبنائك!
61
حسبما ورد في «أعمال سابيليوليوما»، اقتنع سابيليوليوما أخيرا بهذه الخطبة وقرر أن يرسل واحدا من أبنائه، ويسمى زانانزا، إلى مصر. لم يكن يخاطر بالكثير؛ لأن زانانزا كان رابع أبنائه الخمسة. كان الثلاثة الأكبر سنا يخدمونه بالفعل في مناصب مختلفة؛ لذا كان بوسعه أن يتخلى عن زانانزا. إذا جرت الأمور على ما يرام، فسيصبح ابنه ملكا لمصر؛ وإذا لم تجر الأمور على ما يرام، فما زال لديه أربعة أبناء آخرين.
لكن لم تجر الأمور على ما يرام. بعد عدة أسابيع، وصل رسول وأبلغ سابيليوليوما أن الجماعة المسافرة إلى مصر قد تعرضت لكمين في الطريق وأن زانانزا قد قتل. وأضاف أن المسئولين عن قتله قد هربوا وما زالت هويتهم غير معروفة. استشاط سابيليوليوما غضبا؛ فلم يكن لديه شك في أن المصريين كانوا مسئولين بطريقة ما عن هذا، وربما يكونون حتى قد أغروه ليرسل ابنه إلى حتفه. فحسبما تسجل «أعمال سابيليوليوما»:
عندما سمع أبي [سابيليوليوما] بمقتل زانانزا، بدأ يرثي زانانزا، وتكلم إلى الآلهة هكذا: «أيتها الآلهة! أنا لم أقترف شرا، ومع ذلك فعل قوم مصر هذا معي! كما أنهم هاجموا حدود بلادي!»
62
يظل أمر هوية من نصب كمينا لزانانزا وقتله حتى الآن لغزا لم يحل. ويظل أيضا أمر من أرسلت الرسالة إلى سابيليوليوما سؤالا مطروحا يحتاج إلى إجابة؛ وذلك لأنه يوجد ملكتان محتملتان، كلتاهما كانتا أرملتين. إحداهما كانت نفرتيتي، زوجة إخناتون؛ والأخرى كانت عنخ إسن آمون، زوجة الملك توت عنخ آمون.
63
ومع ذلك، بالأخذ في الاعتبار المعلومة الواردة في الرسائل، وأعني بذلك ما ورد من أن الملكة لم يكن لها أبناء، وبالأخذ في الاعتبار سلسلة الأحداث التي تلت اغتيال زانانزا، وانتقال العرش إلى رجل يسمى آي، الذي تزوج عنخ إسن آمون رغم كونه مسنا بما يكفي لأن يكون جدها، فإن تحديد هوية كاتبة الرسالة الملكية على أنها عنخ إسن آمون هو الأكثر منطقية. من غير الواضح إن كان آي له أي علاقة بالاغتيال الفعلي للأمير الحيثي، ولكن بما أنه كان الأكثر استفادة، فمن الواضح أن الشكوك تحوم حوله.
عندما أقسم سابيليوليوما بأن ينتقم لموت ابنه، وضع خططا لمهاجمة الحدود المصرية. حذره آي من القيام بذلك، في مراسلة لا تزال موجودة في حالة غير مكتملة، ولكن سابيليوليوما أعلن الحرب على أي حال وأرسل الجيش الحيثي إلى جنوب سوريا، حيث هاجم مدنا عديدة وجلب آلافا من الأسرى، منهم الكثير من الجنود المصريين.
64
لئلا يتساءل أي أحد عما إذا كان يمكن لشخص ما أن يذهب إلى الحرب من أجل شخص واحد، لا يحتاج المرء سوى أن يتأمل قصة حرب طروادة، حيث قاتل الميسينيون الطرواديين مدة عشر سنوات، حسبما قيل، بسبب اختطاف الجميلة هيلين، الأمر الذي سنعود إليه عما قليل. يمكن للمرء أيضا أن يشير إلى اغتيال الأرشيدوق فرديناند في سراييفو في الثامن والعشرين من يونيو، عام 1914، الذي يعتبره الكثيرون الشرارة التي أشعلت الحرب العالمية الأولى.
المفارقة، كما أشرنا أعلاه وكما ورد في «صلوات الطاعون» التي كتبها مورسيلي، أنه يعتقد أن أسرى الحرب المصريين الذين جلبهم الجيش الحيثي معه هم من أحضروا معهم مرضا مريعا، انتشر بسرعة عبر الأراضي الحيثية. بعد ذلك بفترة وجيزة، في عام 1322ق.م تقريبا، توفي سابيليوليوما جراء إصابته بهذا الطاعون؛ والذي ربما كان ضحية للعارض المؤسف بين المصريين والحيثيين بقدر ابنه زانانزا. (8) الحيثيون والميسينيون
ثمة ملاحظة إضافية يمكن تسجيلها حول الحيثيين في هذا الوقت. أثناء حكم سابيليوليوما، بدأت فترة كان الحيثيون خلالها إحدى القوى العظمى في العالم القديم، وكانوا على قدم المساواة مع المصريين ومتجاوزين نفوذ الميتانيين، والآشوريين، والكيشيين/البابليين، والقبارصة. وحافظوا على موقعهم من خلال الجمع بين الدبلوماسية، والتهديدات، والحرب، والتجارة. في الواقع، عثر الأثريون الذي ينقبون في المواقع الحيثية على بضائع تجارية من معظم تلك البلدان الأخرى (التي يمكننا بتعبير معاصر أن ندعوها دولا قومية). وعلاوة على ذلك، عثر على بضائع حيثية في كل تلك البلدان تقريبا.
كان الاستثناء هو منطقة إيجه؛ فالأغراض الحيثية تكاد تكون بلا وجود في سياقات العصر البرونزي في البر الرئيسي لليونان، وكريت، وجزر السيكلاد، وحتى في رودس، رغم القرب الشديد للأخيرة من تركيا. لم يكتشف سوى دزينة من تلك الأغراض، على النقيض من مئات من الواردات المصرية، والكنعانية، والقبرصية التي عثر عليها في نفس السياقات في منطقة إيجه. وعلى الجانب الآخر، لم تستورد تقريبا أي أغراض ميسينية ولا مينوية إلى البلاد الحيثية في وسط الأناضول، على الرغم من أن البضائع المستوردة من قبرص، وآشور، وبابل، ومصر شقت طريقها عبر الممرات الجبلية صعودا إلى هضبة الأناضول الوسطى. هذا التفاوت الواضح في أنماط التجارة لمنطقة البحر المتوسط القديمة ليس مقصورا فقط على عصر سابيليوليوما والقرن الرابع عشر قبل الميلاد، بل يظهر أيضا خلال معظم القرون الثلاثة، من القرن الخامس عشر وحتى القرن الثالث عشر قبل الميلاد.
65
قد يكون الأمر ببساطة أن أيا من الطرفين لم ينتج أغراضا احتاج إليها الطرف الآخر، أو أن الأغراض المتبادلة كانت قابلة للتلف (زيت الزيتون، والخمور، والخشب، والمنسوجات، والمعادن على سبيل المثال) وتحللت منذ زمن بعيد أو استخدمت لصناعة أغراض أخرى، ولكن ربما أيضا كانت ندرة التجارة متعمدة. سنرى، في الفصل التالي، معاهدة دبلوماسية حيثية منصوصا فيها على حظر اقتصادي متعمد على الميسينيين؛ «ليس مسموحا بأن تذهب إليه سفينة من أخياوا.» ويبدو أنه من المرجح إلى حد بعيد أننا نطالع هنا أحد أقدم الأمثلة في التاريخ على هذا النوع من الحظر.
كما أوضحت في موضع آخر،
66
هذا السيناريو، وهذا الدافع لإنشاء حظر، تدعمهما أدلة على أن الميسينيين شجعوا بشدة أنشطة معادية للحيثيين في غرب الأناضول.
67
ووفقا لما ذكر في بداية هذا الفصل، إذا كان أمنحتب الثالث قد أرسل بعثة إلى منطقة إيجه، مثلما هو مسجل فيما يطلق عليه القائمة الإيجية في معبده الجنائزي في كوم الحيتان، من أجل المساعدة على احتواء قوة الحيثيين المتصاعدة، فربما تكون هذه المبادرات المصرية المعادية للحيثيين، وبخاصة تلك التي استفادت منها ميسينيا، قد وجدت حليفا متحمسا في منطقة إيجه.
بدلا من ذلك، من الجائز أن العدائية وغياب التجارة بين الميسينيين والحيثيين كانا «نتيجة» لمعاهدة معادية للحيثيين وقعت بين مصر ومنطقة إيجه أثناء عصر أمنحتب الثالث. خلاصة القول هي أنه يبدو أن السياسة، والتجارة، والدبلوماسية منذ ثلاثة آلاف وخمسمائة سنة، وبخاصة أثناء القرن الرابع عشر قبل الميلاد، لم تكن تختلف اختلافا كبيرا عن تلك التي تمارس كجزء لا يتجزأ من الاقتصاد المعولم لعالمنا المعاصر، الذي يتضمن إجراءات الحظر الاقتصادي، والبعثات الدبلوماسية، وألاعيب كل من الهدايا والنفوذ في أعلى المستويات الدبلوماسية.
الفصل الثالث
المشهد الثالث
القتال في سبيل الآلهة والوطن: القرن الثالث عشر قبل الميلاد
لا نعرف ما حدث أثناء اللحظات الأخيرة للسفينة التي غرقت قبالة الساحل الجنوبي الغربي لتركيا عند منطقة أولوبورون (التي تترجم «الرأس البحري الكبير») حوالي عام 1300ق.م هل انقلبت في عاصفة شديدة؟ هل غرقت بعد اصطدامها بشيء مغمور في الماء؟ هل خرقها طاقمها عن عمد ليتجنبوا أن يأخذهم قراصنة أسرى؟ الأثريون لا يعرفون، وليسوا متأكدين من الميناء الذي غادرت منه السفينة، ولا وجهتها النهائية، ولا موانئ التوقف، ولكنهم انتشلوا حمولتها، التي تشير إلى أن السفينة التي ترجع إلى العصر البرونزي كانت على الأرجح مبحرة من منطقة شرق المتوسط إلى منطقة إيجه.
1
اكتشف غطاس تركي شاب من صائدي الإسفنج حطام السفينة في عام 1982. وأفاد أنه رأى «قطع بسكويت معدنية لها آذان» قابعة في قاع البحر أثناء إحدى أولى الغطسات التي قام بها في حياته. أدرك قائده أن الوصف يناسب سبيكة جلد الثور النحاسية من العصر البرونزي (يطلق عليها هذا لأنها تبدو مثل جلد مقطوع من ثور أو بقرة مذبوحة). كان علماء الآثار من معهد علم الآثار البحرية، بجامعة تكساس إيه آند إم، قد أروه صورا لأغراض كهذه وأخبروه أن ينتبه لها.
كان علماء الآثار الباحثون عن هذه الأغراض تحت قيادة جورج باس، الذي كان رائدا لمجال علم الآثار الغارقة في ستينيات القرن العشرين في الوقت الذي كان لا يزال فيه طالب دراسات عليا بجامعة بنسلفانيا. في ذلك الوقت، كانت عدة جهاز التنفس تحت الماء الحديثة القائمة بذاتها (جهاز التنفس تحت سطح الماء) تطورا حديث العهد نسبيا، ومثل تنقيب باس لحطام سفينة في منطقة رأس جليدونيا قبالة ساحل تركيا أول تنقيب بحري رسمي لحطام سفينة من العصر البرونزي على الإطلاق يجريه أثريون محترفون في تلك المنطقة.
لاقى اكتشاف باس في رأس جليدونيا، الذي خلص فيه إلى أن الحطام كان لسفينة كنعانية في طريقها إلى منطقة إيجه وغرقت في عام 1200ق.م تقريبا، الكثير من التشكك والجدال عندما ظهر منشوره الرسمي عن التنقيب في عام 1967.
2
وجد معظم الأثريين صعوبة في تصديق أنه كان يوجد أي تجارة واتصال بين منطقة إيجه والشرق الأدنى يعود إلى العصور القديمة، منذ أكثر من ثلاثة آلاف عام، فضلا عن تصديق أن الكنعانيين كان لديهم القدرة على الإبحار في البحر المتوسط؛ لذلك كان باس قد أقسم أن يجد ويستخرج سفينة أخرى من العصر البرونزي في مرحلة ما من حياته المهنية، حتى يثبت أن استنتاجاته عن حطام رأس جليدونيا كانت معقولة. والآن كانت فرصته قد أتت، في ثمانينيات القرن العشرين، مع حطام السفينة في أولوبورون، الذي يرجع تقريبا إلى 1300ق.م، أي أقدم بمائة عام تقريبا من سفينة جليدونيا. (1) سفينة أولوبورون
يقترح الفكر السائد حاليا أن سفينة أولوبورون ربما كانت قد بدأت رحلتها إما من مصر وإما من كنعان (ربما في منطقة أبو الهوام في إسرائيل المعاصرة)، وقامت بتوقفات عند أوغاريت في شمال سوريا وربما في ميناء على جزيرة قبرص. وتوجهت بعد ذلك غربا إلى منطقة إيجه، متتبعة الشريط الساحلي الجنوبي للأناضول (تركيا الحالية). خلال الطريق، كان طاقم السفينة قد أخذ على متنها زجاجا خاما، وجرار تخزين مملوءة بالشعير، والراتينج، والتوابل، وربما الخمر، وأثمن ما في تلك الحمولة كان حوالي طن من القصدير الخام وعشرة أطنان من النحاس الخام، اللذين كانا سيمزجان معا لتشكيل ذلك المعدن المدهش، المسمى بالبرونز.
من حمولة السفينة، نحن متأكدون بدرجة معقولة من أنها كانت مسافرة غربا من بلاد الشام، وربما كانت في طريقها إلى ميناء في منطقة إيجه؛ ربما واحد من الاثنين أو الثلاثة على البر الرئيسي لليونان التي كانت تخدم العاصمة المركزية ميسيناي، أو ربما إحدى المدن الكبرى الأخرى، مثل بيلوس على البر الرئيسي لكوموس أو حتى كنوسوس على جزيرة كريت. مجرد حقيقة أنه كان ثمة سفينة أخرى تبحر من الشرق إلى الغرب أثناء العصر البرونزي المتأخر كانت كافية لتأكيد نظريات باس وتغيير أفكار الباحثين المعاصرين تماما حول مدى التجارة والاتصالات التي كانت تحدث منذ أكثر من ثلاثة آلاف عام. عثر حينئذ على ثلاث سفن من العصر البرونزي، ولكن حطام السفينة عند أولوبورون كان هو الأضخم، والأكثر ثراء، والأكثر إنجازا من ناحية التنقيب.
شكل 3-1: إعادة بناء لسفينة أولوبورون (روزالي سيدلر/ناشيونال جيوجرافيك ستوك؛ بإذن من جمعية ناشيونال جيوجرافيك).
لا يزال مالك السفينة ورعاتها مجهولين. يمكن للمرء أن يتكهن حول الاحتمالات المختلفة ليفسر الجهة التي غادرت منها السفينة وموقع محطتها النهائي. ربما كانت حمولة تجارية، أرسلها تجار من الشرق الأدنى أو مصريون، ومن المحتمل أن ذلك كان بمباركة فرعون مصري أو ملك كنعاني. أو ربما أرسلت مباشرة من قبل فرعون أو ملك، كهدية تحية من ملك إلى آخر، مثلما جرى كثيرا أثناء عصر العمارنة قبل ذلك بعقود قليلة. ومن المحتمل أن تكون السفينة قد أرسلت من قبل الميسينيين في «بعثة تسوق» إلى شرق المتوسط وغرقت أثناء رحلة العودة. ربما يكون التجار على متن السفينة قد جلبوا مواد خاما وبضائع أخرى لم تكن متاحة في اليونان نفسها، مثل القصدير والنحاس، بالإضافة إلى طن الراتينج التربنتيني (من أشجار الفستق) الذي يمكن استخدامه في العطور التي تصنع في بيلوس على البر الرئيسي لليونان ثم تشحن عائدة إلى مصر ومنطقة شرق المتوسط. ومن الواضح أن السيناريوهات المحتملة ليست قليلة. إذا كان الميسينيون هم المتلقون المقصودون، فربما كانوا إذن ينتظرون بفارغ الصبر الشحنة التي على السفينة، لأنها كانت تحتوي معدنا خاما كافيا لتجهيز جيش من ثلاثمائة رجل بالسيوف، والتروس، والخوذات، والدروع البرونزية، بالإضافة إلى العاج الثمين والأشياء الغريبة الأخرى. من الواضح أنه عندما غرقت السفينة في ذلك اليوم في عام 1300ق.م تقريبا، فقد شخص ما أو مملكة ما ثروة كبيرة. •••
غرقت سفينة أولوبورون في مياه عميقة إلى حد ما؛ فمؤخر السفينة موجود حاليا على عمق 140 قدما تحت السطح، وبقية السفينة مائلة بزاوية إلى الأسفل أكثر، حتى 170 قدما تحت السطح. ويتسم الغطس إلى عمق 140 إلى 170 قدما بالخطورة؛ لأنه يتجاوز حد الغطس الآمن بجهاز تنفس مستقل. كان مسموحا لغطاسي معهد علم الآثار البحرية بغطستين فقط في اليوم، لمدة عشرين دقيقة في كل مرة. أضف إلى ذلك أنه، في تلك الأعماق، يمكن للمستويات المتزايدة من الغازات المستنشقة أن تسبب تأثيرا مخدرا. وقال باس إنه أثناء العمل في هذا العمق كانوا يشعرون وكأنهم احتسوا كأسين من المارتيني قبل البدء؛ لذا كان يتعين التخطيط مسبقا لكل غطسة وكل حركة كانوا سيقومون بها تحت الماء.
على مدى اثني عشر موسما تقريبا، من 1984 إلى 1994، غاص الفريق إلى الحطام أكثر من اثنين وعشرين ألف مرة دون حدوث إصابة خطيرة واحدة، مما يشهد على التدابير الوقائية التي اتخذوها وحقيقة أن غطساتهم كانت تحت إشراف ضابط سابق في قوة العمليات الخاصة التابعة للبحرية الأمريكية.
3
كانت النتيجة النهائية عبارة عن مخطط للحطام القديم وحمولته يوازي في دقته، التي تصل إلى المليمتر، أي مخطط منفذ للتنقيب على البر، رغم الأعماق الكبيرة التي كانوا يعملون فيها. أيضا أسفرت الغطسات عن استعادة آلاف من الأغراض، التي ما زالت تحت الدراسة.
كان طول القارب نفسه يبلغ في الأصل حوالي خمسين قدما. وكان محكم البناء، وبه ألواح خشبية وعارضة مصنوعان من خشب الأرز اللبناني ويستخدم تصميم النقرة واللسان للهيكل.
4
قبل ذلك، كان أقدم حطام معروف في البحر المتوسط يستخدم تقنية النقرة واللسان هذه هو حطام كيرينيا الذي عثر عليه قبالة ساحل قبرص، ويرجع تاريخه إلى أكثر من ألف عام لاحقة، إلى حوالي 300ق.م.
اتسمت سبائك النحاس، التي كان يوجد منها أكثر من 350 سبيكة، بصعوبة خاصة في التنقيب عنها وجلبها إلى السطح. وأثناء مدة الثلاثة آلاف عام التي قبعت فيها تحت الماء، متراصة بطريقة متعرجة في أربعة صفوف منفصلة، كان كثير منها قد تحلل بقدر كبير وصار حينئذ في حالة هشة للغاية. وفي نهاية الأمر، تعين على المرممين الأثريين الذين كانوا يعملون في فريق باس استخدام نوع جديد من الغراء؛ والذي كان عبارة عن مادة لاصقة يمكن حقنها في بقايا السبيكة، ومن شأنها أن تجمد وتتصلب تحت الماء على مدى عام. وفي النهاية يلحم الغراء معا الأجزاء المنفصلة من السبيكة المتحللة جيدا بما يكفي حتى يمكن سحبها إلى السطح.
ولكن كان يوجد على متن السفينة أكثر بكثير من سبائك النحاس. اتضح أن الحمولة التي تحملها سفينة أولوبورون كانت تتكون من تشكيلة رائعة من البضائع، كانت بالفعل قائمة بضائع دولية. عموما، كان على متن السفينة منتجات من سبعة بلدان، ودول، وإمبراطوريات مختلفة على الأقل. بالإضافة إلى شحنتها الأساسية التي كانت عبارة عن عشرة أطنان من النحاس القبرصي، وطن من القصدير، وطن من الراتينج التربنتيني، كان يوجد أيضا دزينتان من جذوع خشب الأبنوس من النوبة؛ ومائتا سبيكة تقريبا من الزجاج الخام من بلاد الرافدين، معظمها مطلي بلون أزرق غامق، أما البعض الآخر فمطلي باللون الأزرق الفاتح، والأرجواني ، وحتى إحدى درجات اللون العسلي/الأصفر العنبري؛ وحوالي 140 جرة تخزين كنعانية، بحجمين أو ثلاثة أساسية، احتوت على الراتينج التربنتيني، وبقايا من العنب، والرمان، والتين، بالإضافة إلى توابل مثل الكزبرة والسماق؛ وآنية فخارية جديدة من قبرص وكنعان، تشتمل على مصابيح زيت، وصحاف، وأباريق، وجرار؛ وجعارين من مصر وأختام أسطوانية من منطقة أخرى في الشرق الأدنى؛ وسيوف وخناجر من إيطاليا واليونان (التي ربما كان بعضها يخص أفراد الطاقم أو الركاب)، من ضمنها واحد له مقبض مطعم من الأبنوس والعاج؛ وحتى صولجان حجري من البلقان. كان يوجد أيضا مجوهرات ذهبية، تشمل قلائد وكأسا ذهبية؛ وحاويات مستحضرات تجميل عاجية على هيئة بطة؛ وصحاف وأوعية أخرى من نحاس، وبرونز، وقصدير؛ وأربع وعشرون مرساة حجرية؛ وأربع عشرة قطعة من عاج فرس النهر وناب فيل واحد؛ وتمثال طوله ست بوصات لإله كنعاني مصنوع من برونز مكسو بالذهب في مواضع منه، والذي لم يقم بعمله على نحو جيد جدا، إن كان من المفترض أن يكون بمثابة الإله القائم بحماية السفينة.
5
من المحتمل أن القصدير جاء من إقليم بدخشان في أفغانستان، أحد الأماكن القليلة التي كان متاحا فيها أثناء الألفية الثانية قبل الميلاد. جاء اللازورد الذي كان على متن السفينة من نفس المنطقة، مسافرا آلاف الأميال برا قبل أن يجلب إلى السفينة. كانت قطع كثيرة، مثل الأختام الأسطوانية المصنوعة من اللازورد، صغيرة ويسهل إغفالها أثناء عمليات التنقيب، وبخاصة عندما كانت أنابيب الشفط الضخمة تستخدم لإزالة الرمال التي تغطي البقايا. إن استعادتها بأي حال من الأحوال هي بمثابة شهادة على مهارة علماء آثار تحت الماء، كانوا ينقبون في الحطام تحت قيادة باس في البداية ثم خليفته المختار، سيمال بولاك.
أحد أصغر الأغراض التي عثر عليها على متن السفينة كان أيضا واحدا من أهمها؛ وهو جعران مصري مصنوع من الذهب الخالص. بقدر ما كان غرض كهذا نادرا، جعلته الرموز الهيروغليفية المنقوشة عليه أكثر ندرة؛ لأنها كانت تؤلف اسم نفرتيتي، زوجة الفرعون المهرطق إخناتون. كان اسمها مكتوبا على الجعران على صورة «نفر نفرو آتون»؛ وهي تهجئة لم تستخدمها نفرتيتي إلا أثناء السنوات الخمس الأولى من حكمها، في وقت ربما كان فيه زوجها في ذروة إدانته المهرطقة لكل إله مصري عدا آتون، قرص الشمس، الذي كان مسموحا له هو، وهو وحده، أن يتعبد إليه مباشرة.
6
استخدم الأثريون الجعران ليساعدهم في تحديد الفترة الزمنية المنتمية إليها السفينة؛ لأنه لم يكن من الممكن أن يكون قد صنع - ومن ثم لم يكن من الممكن أن تكون السفينة قد أبحرت - قبل وصول نفرتيتي إلى السلطة في حوالي 1350ق.م.
كان بمقدور الأثريين تحديد تاريخ غرق السفينة بثلاث طرق أخرى أيضا. إحدى الطرق كانت تتعلق باستخدام الكربون المشع لتحديد تاريخ الأغصان والفروع القصيرة العمر التي كانت مستخدمة فيما مضى على سطح السفينة. وتعلقت طريقة أخرى بالتأريخ الشجري (عد حلقات الأشجار)، مستفيدين من العوارض الخشبية التي تكون منها هيكل السفينة. أما الطريقة الثالثة فكانت الأواني الفخارية الميسينية والمينوية والتي كانت موجودة على متن السفينة، والتي بدا للمتخصصين أن تاريخها يرجع إلى نهاية القرن الرابع عشر قبل الميلاد. تشير آليات التأريخ المنفصلة الأربع معا إلى عام 1300ق.م تقريبا - بداية القرن الثالث عشر قبل الميلاد، أو يمكن أن يكون قبل ذلك العام أو بعده ببضع سنوات - باعتباره العام الذي غرقت فيه السفينة.
7
عثر في السفينة على شدف من لوح كتابة خشبي صغير، كان في الأصل له مفصلات من العاج، محفوظة داخل جرة تخزين ربما تكون قد سبحت إلى داخلها بينما كانت السفينة تتعرض للغرق. اللوح، الذي يذكرنا ب «اللوح الذي عليه علامات شريرة» الخاص بهوميروس (الإلياذة، الكتاب السادس، البيت 178)، أقدم بأكثر من خمسمائة سنة من ألواح كتابة مماثلة عثر عليها في نمرود في العراق. ربما كان اللوح يحتوي يوما ما على تسجيل لمسار رحلة السفينة، أو ربما بيان الشحنة التي كانت على ظهرها. غير أن الشمع، الذي كانت تنقش عليه الكتابة على جانبي اللوح، قد تلاشى منذ زمن بعيد، دون أن يترك أثرا لما كان مسجلا.
8
ولذلك لا يزال من المستحيل معرفة ما إذا كان الغرض من الشحنة التي كانت على متن السفينة أن تكون هدية ملكية، ربما كانت من ملك مصر إلى ملك ميسينيا، أو ما إذا كانت تخص تاجرا خاصا، يبيع البضائع في الموانئ الرئيسية في أنحاء البحر المتوسط. ومثلما افترضنا سابقا، يمكن أيضا أن الشحنة عبارة عن مشتريات جرت في رحلة تسوق طويلة؛ لأن المواد الخام الموجودة على سطح السفينة ناسبت ما احتاجه العمال وورش الحرف التابعة لقصور ميسينية مثل بيلوس من أجل صنع أشياء عليها طلب مرتفع، بما في ذلك العطور والزيوت، إلى جانب المجوهرات مثل القلائد الزجاجية.
يمكن ألا نعرف أبدا هوية من أرسل سفينة أولوبورون إلى رحلتها أو إلى أين كانت ذاهبة ولماذا، ولكن من الواضح أن السفينة احتوت على نموذج مصغر للتجارة والاتصالات الدولية التي كانت تجري في منطقة شرق المتوسط، وعبر منطقة إيجه، أثناء أوائل القرن الثالث عشر قبل الميلاد. لم تكن السفينة تضم بضائع مما لا يقل عن سبع مناطق مختلفة فحسب، بل - استنادا إلى الأغراض الشخصية التي عثر عليها الأثريون في حطام السفينة - كان يوجد أيضا شخصان ميسينيان على الأقل على متن السفينة، على الرغم من أنه يبدو أنها كانت سفينة كنعانية. من الواضح أن هذه السفينة لا تنتمي إلى عالم يضم حضارات، وممالك، وإقطاعيات منعزلة، وإنما إلى عالم مترابط فيه التجارة، والهجرة، والدبلوماسية، ومع الأسف، الحرب. كان هذا حقا أول عصر عولمة فعلي. (2) سينارانو الأوغاريتي
بعد حوالي أربعين عاما من غرق سفينة أولوبورون، صيغ نص سجل بعض محتويات سفينة مشابهة، وأرسله تاجر يسمى سينارانو من أوغاريت في شمال سوريا إلى جزيرة كريت. كان في الواقع إعلانا رسميا كتب على لوح طيني باللغة الأكادية، باستخدام نظام الكتابة المسمارية، ويذكر أنه عندما عادت السفينة الخاصة بسينارانو من كريت، لم يكن ملزما بأن يدفع ضرائب للملك. ينص الجزء ذو الصلة من نص سينارانو، كما هو معروف، على ما يلي: «من يومنا هذا يعفي أميستامرو، ابن نقمبا، ملك أوغاريت، سينارانو، ابن سيجينو ... [حبوبه ]، وجعته، وزيت [الزيتون] الخاص به ليس عليه أن يسلمها للقصر. سفينته معفاة عندما تصل من كريت.»
9
نعرف، من مصادر أخرى، أن سينارانو كان تاجرا أوغاريتيا ثريا (كانت الكلمة المستخدمة تحديدا للدلالة على مثل هذا التاجر باللغة الأكادية هي تامكار)، عاش ويبدو أنه ازدهر أثناء الزمن الذي كان فيه أميستامرو الثاني ملكا لأوغاريت. أرسل سينارانو سفينته، على ما يبدو، من أوغاريت إلى كريت، ومنها إلى أوغاريت مرة أخرى، في حوالي 1260ق.م، حسب أحدث ما توصلنا إليه من فهم للتواريخ التي كان فيها أميستامرو الثاني ملكا (حوالي 1260 إلى 1235ق.م). لا نعرف المحتوى الفعلي للشحنة التي جلبها عائدا من كريت، عدا الاحتمال الظاهر أن الحبوب، والجعة، وزيت الزيتون كانت من بين محتوياتها. على أقل تقدير، هذا تأكيد على أنه كان يوجد صلات تجارية بين شمال سوريا وكريت أثناء منتصف القرن الثالث عشر قبل الميلاد. لدينا أيضا اسم شخص كان مشاركا مشاركة مباشرة في المعاملات الاقتصادية والتجارية الدولية منذ أكثر من ثلاثة آلاف ومائتي سنة. ويبدو من المرجح جدا أنه لم يكن ثمة اختلاف كبير بين سفينة أولوبورون والسفينة التي كان يملكها سينارانو، سواء من ناحية البناء أو من ناحية الشحنة المحمولة.
نعرف أيضا أن سينارانو لم يكن الوحيد الذي كان يرسل ويتلقى سفنا وشحنات أثناء هذه الفترة الزمنية، ولا كان التاجر الوحيد الذي يمنح إعفاء من القصر من ضرائبه. أصدر أميستامرو الثاني إعلانا مماثلا لرجال أعمال آخرين أبحرت سفنهم إلى مصر، والأناضول، وأماكن أخرى: «من هذا اليوم فصاعدا، أميستامرو، ابن نقمبا، ملك أوغاريت، ... [نص منقطع] ... بن ياسوبا وبن (؟) ... وأبنائهما إلى الأبد، من الرحلات إلى مصر والرحلات إلى خاتي وفي أرض زي (؟)، ليس عليهم أن يقدموا أي تقارير إلى القصر ولا إلى مفتش القصر.»
10 (3) معركة قادش وتوابعها
في الوقت الذي كان فيه سينارانو وتجار آخرون نشطين، كانت أوغاريت تحت سيطرة الحيثيين في الأناضول، وكانت مملكة تابعة لهم. كانت كذلك منذ زمن سابيليوليوما الأول في منتصف القرن الرابع عشر قبل الميلاد، عندما وقعت معاهدة تفصل التزامات أوغاريت باعتبارها تابعة للحيثيين.
11
امتدت سيطرة الحيثيين جنوبا حتى منطقة قادش، التي تقع بعيدا إلى الجنوب في سوريا، ولكنهم لم يذهبوا أبعد من ذلك. منع المصريون جهود الحيثيين في مزيد من التوسع. وجرت معركة كبرى بين الحيثيين والمصريين في قادش في عام 1274ق.م، قبل أن يرسل سينارانو سفينته إلى كريت بنحو خمس عشرة أو عشرين سنة. يتردد صدى هذه المعركة باعتبارها إحدى المعارك العظيمة في العصور القديمة وباعتبارها إحدى الأمثلة الأولى من العالم القديم التي استخدم فيها عن عمد المعلومات المضللة المعدة لإرباك العدو .
دارت معركة قادش بين مواتالي الثاني ملك خاتي، الذي كان يحاول توسيع الإمبراطورية الحيثية أكثر جنوبا في أرض كنعان، ورمسيس الثاني ملك مصر، الذي كان مصمما على إبقاء حدود تلك الإمبراطورية عند قادش، حيث كانت موجودة لعقود عديدة في هذه المرحلة. على الرغم من أننا لا نملك جانب الرواية الحيثية للقصة، فإننا نعرف تقريبا كل تفصيلة من تفاصيل المعركة ونتيجتها؛ لأن النسخة المصرية من القصة مسجلة بطريقتين مختلفتين في خمسة معابد مختلفة في مصر: الرامسيوم (معبد رمسيس الثاني الجنائزي بالقرب من وادي الملوك) والمعابد الموجودة في الكرنك، والأقصر، وأبيدوس، وأبو سمبل. تعرف أقصر نسخة، وهي التي عثر عليها بمصاحبة نقش بارز يصور المعركة، باسم «التقرير» أو «النشرة». ويطلق على النسخة الأطول اسم «القصيدة» أو «التسجيل الأدبي».
12
نعرف أن المعركة كانت بوجه خاص عنيفة، وأن كل طرف من الطرفين كان يمكن أن يربحها في مرحلة أو أخرى. ونعرف أيضا أنها انتهت دون حسم، وأن النزاع بين القوتين سوي في نهاية المطاف عن طريق توقيع معاهدة سلام.
13
جرى الجزء الأكثر درامية من المواجهة بعد أن أرسل الحيثيون رجلين - من بدو شوشو، حسبما تخبرنا الرواية المصرية - للتجسس على القوات المصرية، ولكن بطريقة متعمدة على نحو أدى إلى أن يأسر المصريون الرجلين على الفور تقريبا. تحت التعذيب، على ما يبدو، أدلى الجاسوسان بمعلوماتهما المضللة (ربما كانت تلك هي واحدة من أولى الحالات الموثقة في تاريخ البشرية في هذا الشأن) وأخبرا المصريين أن القوات الحيثية لم تكن بعد قريبة من قادش وأنها ما زالت بعيدة شمالا، في منطقة عمورو في شمال سوريا. لدى سماع رمسيس الثاني بالأنباء، ودون محاولة التأكد منها على نحو مستقل، مضى بأقصى سرعة مع الفرقة الأولى من فرقه الأربعة، فرقة آمون، مستهدفا الوصول إلى قادش قبل الحيثيين.
14
في حقيقة الأمر، كان الحيثيون بالفعل في قادش، وكانوا قد جمعوا قواتهم في أجمة ضيقة شمال وشرق المدينة مباشرة، مختبئين في ظل أسوار المدينة حيث لم يكن من الممكن أن تراهم القوات المصرية التي كانت تقترب من الجنوب. وبينما كان فوج طليعة القوات المصرية ينصب مخيما شمال المدينة مباشرة، أمسك رجال رمسيس بجاسوسين حيثيين آخرين وهذه المرة عرفوا منهما الحقيقة، ولكن بعد فوات الأوان. تحركت القوات الحيثية بسرعة في اتجاه عقارب الساعة مطوقة محيط أسوار المدينة كله تقريبا واشتبكت مباشرة مع الفرقة المصرية الثانية، المعروفة باسم رع، آخذة أفرادها على حين غرة تماما ومبيدة إياهم إبادة فعلية. فرت الشرذمة الباقية من فرقة رع الممزقة إلى الشمال، يطاردها الجيش الحيثي بأكمله، وانضمت إلى رمسيس ورجال فرقة آمون عند معسكرهم قبل المجابهة.
15
تأرجحت الغلبة في المعركة بين الطرفين، إلى أحدهما تارة وإلى الآخر تارة أخرى. تخبرنا الرواية أنه في مرحلة ما كان الجيش المصري مشرفا على الهزيمة وكاد رمسيس نفسه أن يقتل، إلا أنه بمفرده ودون مساعدة من أحد أنقذ نفسه ورجاله. تقول الرواية المنقوشة على جدران المعبد المصري:
ثم ركب جلالته مسرعا، واندس في أعماق الأعداء من خاتي، وكان بمفرده وليس معه أي أحد ... ووجد 2500 عربة حربية تضيق الخناق عليه من الخلف، يقودها جميع أنواع المحاربين الخاسئين من خاتي وكذلك البلاد الأجنبية الكثيرة التي كانت معهم.
وبعد ذلك تتحول الرواية إلى صيغة المتكلم، لتروي على لسان الفرعون نفسه:
لقد ناديتك، يا أبي آمون، عندما كنت وسط جموع لا أعرفها ... وجدت آمون قد أتى عندما دعوته؛ مد لي يده وحينها ابتهجت ... كل ما فعلته كان مصيره النجاح ... كنت أشد قوسي بيميني وأحارب بيساري ... وجدت ال 2500 عربة، التي كنت وسطها، ممددة أمام حصاني. ولم يكن بمقدور أي منهم أن يجد يده ليقاتل بها ... وقد جعلتهم يتساقطون في الماء تماما كما تسقط التماسيح، وقد خروا على وجوههم الواحد فوق الآخر. وأعملت القتل فيهم كما شئت.
16
على الرغم من أن الرواية الخاصة ببسالته بمفرده ودون مساعدة من أحد مبالغ فيها بالتأكيد؛ لأنه لا شك في أن الفرعون قد تلقى بعض المساعدة؛ فالأعداد المشمولة قد لا تكون منافية للحقيقة، لأنه في موضع آخر في النقش نجد أن حجم القوات الحيثية المشار إليه هو 3500 عربة، و37000 جندي مشاة، وما مجموعه 47500 من القوات إجمالا.
17
رغم المبالغة المحتملة، من الواضح من المشاهد المصاحبة ونتيجة المعركة أن رمسيس الثاني والفرقتين المصريتين الأوليين تمكنوا من الصمود حتى لحقت بهم الفرقتان المصريتان الأخيرتان ودحرت القوات الحيثية.
18
في النهاية، كانت نتيجة المعركة هي حالة من الجمود في الموقف، وظلت الحدود بين القوتين عند قادش، ولم تتغير ولا جرى التعرض لها ثانية. بعدئذ بخمسة عشر عاما، في نوفمبر/ديسمبر من عام 1259ق.م، في نفس الوقت الذي كان فيه سينارانو يرسل سفينته إلى كريت من أوغاريت، كان يجري إبرام معاهدة سلام - واحدة من أشهر المعاهدات في العالم القديم والتي حفظها لنا التاريخ على أفضل وجه - بين رمسيس الثاني والملك الحيثي في ذلك الوقت حاتوسيلي الثالث؛ إذ إن مواتالي الثاني كان قد مات بعد عامين فحسب من المعركة. هذا الاتفاق، الذي يعرف باسم «المعاهدة الفضية»، ما زال موجودا في نسخ عديدة، نظرا لأن نسختين صيغتا منه، واحدة على يد الحيثيين وواحدة على يد المصريين. أرسلت النسخة الحيثية، المكتوبة في الأصل باللغة الأكادية والمنقوشة على لوح من الفضة الخالصة، إلى مصر، حيث ترجمت إلى اللغة المصرية ونسخت على جدران معبد الرامسيوم ومعبد آمون في الكرنك. وعلى نحو مماثل، ترجمت النسخة المصرية إلى اللغة الأكادية ونقشت على لوح من الفضة الخالصة، ثم أرسلت إلى حاتوسا، حيث اكتشفها الأثريون منذ بضعة عقود فحسب.
19
تستهل النسخة الحيثية المنقوشة على جدران المعابد في مصر بما يلي:
جاء [المبعوثون الملكيون الثلاثة من مصر ...] ومعهم المبعوثان الملكيان الأول والثاني لخاتي، تيلي تيشوب، ورعموسي، ومبعوث من كركميش هو يابوسيلي، يحملون لوحا فضيا كان الملك العظيم ملك خاتي، حاتوسيلي، قد أمر بجلبه إلى الفرعون، على يد مبعوثه تيلي تيشوب ومبعوثه رعموسي، ليطلب الصلح من جلالة ملك جنوب وشمال مصر، أوسر ماعت رع-ستب إن رع، ابن الشمس، رمسيس الثاني.
20
بعد ذلك بثلاثة عشر عاما، ومن المحتمل أن يكون ذلك بعد أن زار حاتوسيلي شخصيا مصر، تزوج رمسيس الثاني من ابنة حاتوسيلي في احتفال زواج ملكي، موطدا بذلك المعاهدة بينهما وعلاقتهما:
21
ثم أمر (حاتوسيلي) بإرسال ابنته الكبرى، مع هدية تحية رائعة [تسبقها] من الذهب، والفضة، والنحاس بوفرة، وعبيد، وقطعان بلا حد من الخيول، وعشرات الآلاف من الأبقار، والماعز، والماشية؛ بلا حد كانت المنتجات التي جلبوها لملك جنوب وشمال مصر، أوسر ماعت رع-ستب إن رع، ابن الشمس، رمسيس الثاني، معطي الحياة. ثم جاء أحدهم ليخبر جلالته، قائلا: «انظر، لقد أرسل حاكم خاتي العظيم ابنته الكبرى، مع هدية تحية من كل صنف ... أميرة خاتي، وبصحبتها كل عظماء أرض خاتي.»
22
ربما كان أيضا السبب الذي جعل الحيثيين والمصريين يعلنون السلام ويتوقفون عن قتال بعضهما لبعض، هو أنهم احتاجوا على الأرجح إلى توجيه اهتمامهم إلى حدثين آخرين ربما يكونان قد وقعا في حوالي 1250ق.م على الرغم من أن الحدثين كليهما أسطوريان، وعلى الرغم من أنه لم يثبت بعد أنهما قد وقعا بالفعل، فلا تزال أصداؤهما تتردد في العالم الحديث الذي نعيش فيه اليوم؛ في الأناضول، ربما اضطر الحيثيون أن يواجهوا حرب طروادة، وفي الوقت نفسه ربما اضطر المصريون إلى أن يتعاملوا مع الخروج العبري. ومع ذلك، قبل أن نناقش كلا من هذين الأمرين، يجب أن نمهد الطريق أولا. (4) حرب طروادة
في الفترة التي سبقت معركة قادش تقريبا، كان الحيثيون منشغلين أيضا بجبهة ثانية، في غرب الأناضول، حيث كانوا يحاولون احتواء تابعين متمردين كان الميسينيون، على ما يبدو، يدعمون أنشطتهم.
23
قد يكون هذا أحد أقدم الأمثلة التي لدينا عن قيام حكومة عن عمد بالانخراط في أنشطة موضوعة للنيل من أخرى (فكر في المساندة الإيرانية لحزب الله في لبنان، بعد ثلاثة آلاف ومائتي سنة من معركة قادش).
أول ذكر يرد بشأن تابع حيثي متمرد يسمى بيامارادو كان يحاول زعزعة الوضع في منطقة ميليتوس في غرب الأناضول، نجده في نصوص محفوظة في سجلات الدولة في العاصمة حاتوسا يرجع تاريخها إلى فترة حكم الملك الحيثي مواتالي الثاني، في فترة أوائل إلى منتصف القرن الثالث عشر قبل الميلاد. كان بيامارادو قد نجح بالفعل في هزيمة ملك تابع للحيثيين في نفس المنطقة، وهو رجل يسمى مانابا تارهونتا. يعتقد أن بيامارادو ربما كان يعمل نيابة عن، أو بالتواطؤ مع، الأخياويين (أي، الميسينيين في العصر البرونزي).
24
استمرت أنشطة التمرد التي كان يقوم بها بيامارادو أثناء حكم الملك الحيثي التالي، حاتوسيلي الثالث، في منتصف القرن الثالث عشر قبل الميلاد، كما نعرف من مراسلة أطلق عليها الباحثون «رسالة تاواجالاوا». أرسل الملك الحيثي الرسالة إلى ملك لأخياوا لا ذكر لاسمه، والذي كان يخاطبه بوصفه «الملك العظيم» و«الأخ»، مما يوحي ضمنا بدرجة من التكافؤ بين الاثنين. رأينا بالفعل أن ألفاظا مشابهة استخدمت عندما كان الفرعونان المصريان أمنحتب الثالث وإخناتون يكتبان إلى ملوك بابل، وميتاني، وآشور قبل ذلك بقرن أو نحوه. قدم تفسير هذه النصوص معلومات مهمة بشأن حالة العلاقات بين منطقة إيجه والشرق الأدنى في ذلك الوقت.
25
تعنى رسالة تاواجالاوا بأنشطة بيامارادو، الذي استمر في الإغارة على الأراضي الحيثية في غرب الأناضول، والذي، كما نعرف الآن، كان قد منح حق اللجوء وسافر بحرا إلى أراضي أخياوا؛ ربما إلى جزيرة قبالة الساحل الغربي للأناضول.
26
نتعرف أيضا، فيما كان ذات يوم الصفحة الثالثة/اللوح الثالث من الرسالة (اللوحان الأول والثاني مفقودان)، على تاواجالاوا نفسه، الذي يعرف بأنه شقيق ملك أخياوا، والذي كان موجودا في غرب الأناضول في تلك اللحظة، يجند أفرادا معادين للحيثيين. ومما يثير الحيرة والفضول، أنه في إشارة إلى أن العلاقات بين الحيثيين والميسينيين كانت في السابق أفضل مما كانت في هذه المرحلة، تخبرنا الرسالة أن تاواجالاوا كان في وقت سابق قد ركب (امتطى العجلة الحربية) مع السائق الشخصي للعجلة الحربية للملك الحيثي نفسه.
27
تشير الرسالة أيضا إلى نزاع بين الميسينيين والحيثيين على إقليم يعرف باسم ويلوسا، يقع في شمال غرب الأناضول. ورد ذكر هذا الإقليم في مناقشتنا لتمرد أسوا الذي وقع قبل ذلك بمائتي سنة تقريبا، ويبدو أن الحيثيين والميسينيين كانوا على خلاف من جديد بشأن الإقليم، الذي يعتبر معظم الباحثين أنه طروادة و /أو إقليم ترواس. عند الأخذ في الاعتبار تاريخ الرسالة، في منتصف القرن الثالث عشر قبل الميلاد، من المنطقي بالتأكيد أن نتساءل عما إذا كانت ثمة صلة مع الأساطير اليونانية التي ظهرت لاحقا بخصوص حرب طروادة.
28 •••
إن قصة حرب طروادة، حسب الرواية التقليدية للشاعر اليوناني الكفيف هوميروس في القرن الثامن قبل الميلاد، وحسبما تستكمل فيما يطلق عليه «دائرة الملاحم» (شذرات أدبية من قصائد ملحمية إضافية مفقودة حاليا) وكذلك في أعمال الكتاب المسرحيين اليونانيين اللاحقين، لهي قصة معروفة جيدا. أبحر باريس، ابن الملك بريام ملك طروادة، من شمال غرب الأناضول إلى البر الرئيسي لليونان في مهمة دبلوماسية إلى منيلاوس، ملك إسبرطة. وبينما كان هناك، أغرم بزوجة منيلاوس الجميلة، هيلين. عندما عاد باريس إلى الديار، صاحبته هيلين؛ إما طوعا، حسب رواية الطرواديين، وإما كرها، حسب رواية اليونانيين. أقنع منيلاوس، في فورة غضبه، شقيقه أجاممنون، ملك ميسيناي وقائد اليونانيين، بإرسال أسطول حربي من ألف سفينة وخمسين ألف رجل إلى طروادة لاستعادة هيلين. في النهاية بعد حرب دامت عشر سنوات، كان النصر حليفا لليونانيين. نهبت طروادة وخربت، وقتل معظم سكانها، وعادت هيلين إلى الديار في إسبرطة مع منيلاوس.
ثمة، بالطبع، عدد من الأسئلة التي لا إجابة لها. هل كان ثمة وجود بالفعل لما يسمى حرب طروادة؟ بل، هل كان ثمة وجود لطروادة نفسها؟ ما مقدار الحقيقة الكامنة وراء قصة هوميروس؟ هل كانت هيلين حقا ذات وجه فائق الجمال لدرجة أنه كان يمكن أن يؤدي إلى أن «تبحر من أجله ألف سفينة؟» هل نشبت حرب طروادة بسبب حب رجل لامرأة ... أم أن ذلك كان مجرد مبرر لحرب نشبت لأسباب أخرى؛ ربما من أجل الأرض أو السلطة أو المجد؟ لم يكن اليونانيون القدماء أنفسهم متيقنين من التاريخ الذي جرت فيه حرب طروادة؛ إذ يوجد ما لا يقل عن ثلاثة عشر تخمينا بشأن التاريخ خمنها الكتاب اليونانيون القدماء.
29
بحلول وقت مضي هاينريش شليمان في رحلة البحث عن موقع طروادة في منتصف القرن التاسع عشر الميلادي، كان معظم الباحثين المعاصرين يعتقدون أن حرب طروادة كانت مجرد أسطورة، وأن موقع طروادة لم يكن له وجود قط. شرع شليمان في إثبات خطأ اعتقادهم. ونجح في ذلك مما أثار دهشة الجميع. رويت القصة مرات كثيرة ولذلك لن نكررها بالتفصيل هنا.
30
يكفي أن نقول إنه عثر على تسع مدن، واحدة فوق الأخرى، في موقع هيسارليك، الذي يحظى بقبول معظم العلماء حاليا باعتباره موقع طروادة القديمة، لكنه لم يتمكن من تحديد أي المدن التسع كانت طروادة بريام. منذ أعمال التنقيب الأولية التي قام بها شليمان، كان ثمة العديد من بعثات الاستكشاف إلى طروادة، ومن بينها بعثات قام بها مهندسه المعماري، فيلهلم دوربفلد؛ وبعثات قام بها كارل بليجن وجامعة سينسيناتي في ثلاثينيات القرن العشرين؛ وأخيرا بعثات قام بها مانفريد كورفمان، وحاليا يوجد بعثات استكشاف يقوم بها إرنست بيرنيكا وجامعة توبنجن منذ أواخر ثمانينيات القرن العشرين وحتى يومنا هذا.
ما زال دمار المدينة السادسة، طروادة السادسة، محل جدل. ربما تكون المدينة، التي اعتبر أنها ترجع إلى حوالي عام 1250ق.م، قد دمرت في الحقيقة قبل ذلك بقليل، في حوالي عام 1300ق.م
31
كانت هذه المدينة مدينة ثرية، بها منتجات مستوردة من بلاد الرافدين، ومصر، وقبرص، وكذلك من اليونان الميسينية. وأيضا كانت ما يمكن أن يدعوه المرء «منطقة حدودية متنازع عليها»؛ بعبارة أخرى، كانت تقع على طرف العالم الميسيني وعلى طرف الإمبراطورية الحيثية؛ ولذلك كانت عالقة بين قوتين من أعظم قوى عالم منطقة البحر المتوسط القديمة في العصر البرونزي.
اعتقد دوربفلد أن الميسينيين قد استولوا على هذه المدينة (طروادة السادسة) وأحرقوها عن بكرة أبيها، وأن هذا الحدث هو الذي شكل الأساس الذي اعتمدت عليه حكايات هوميروس الملحمية. خالفه بليجن، الذي قام بالتنقيب بعده بعقود عديدة، في الرأي ونشر ما قال إنه دليل لا يقبل الجدل على أن الدمار لم يقع بفعل بشر، وإنما جراء زلزال. تضمنت حجته أدلة إيجابية، مثل جدران مهدمة على نحو غير متناسب وأبراج منهارة، بالإضافة إلى أدلة سلبية، فهو لم يعثر على أي سهام، ولا سيوف، ولا أي مخلفات من بقايا الحرب.
32
في الحقيقة، من الواضح حاليا أن نوع الضرر الذي وجده بليجن كان مشابها لما يرى في مواقع كثيرة في منطقتي إيجه وشرق المتوسط، من بينها ميسيناي وتيرنز في البر الرئيسي لليونان. من الواضح أيضا أن هذه الزلازل لم تحدث كلها في نفس الوقت أثناء العصر البرونزي المتأخر، كما سنرى أدناه.
اعتقد بليجن أيضا أن المدينة التالية، طروادة السابعة (أ)، كانت مرشحا أرجح لأن تكون طروادة بريام. من المحتمل أن تكون هذه المدينة قد دمرت حوالي 1180ق.م، وربما تكون قد تعرضت للاجتياح من قبل شعوب البحر وليس الميسينيين، على الرغم من أن هذا ليس مؤكدا إطلاقا. سنتوقف عن الحديث عن القصة هنا في الوقت الراهن وسنتابع الحديث عنها مجددا في الفصل التالي، عندما نناقش أحداث القرن الثاني عشر. (5) الصلات الأجنبية والبر الرئيسي لليونان في القرن الثالث عشر قبل الميلاد
ينبغي أن نلاحظ أن هذا هو الوقت الذي شيدت فيه أسوار تحصين ضخمة، ما زالت آثارها ظاهرة للعيان، في حوالي 1250ق.م، هناك في ميسيناي في البر الرئيسي لليونان. شيدت هذه الأسوار في نفس الوقت تقريبا الذي جرت فيه مشروعات أخرى، ربما كانت تمثل إجراءات دفاعية، تشمل نفقا تحت الأرض يقود إلى مصدر للماء يمكن للسكان أن يصلوا إليه دون التخلي عن حماية المدينة.
أنشئت بوابة الأسد الشهيرة عند مدخل قلعة ميسيناي في هذه الفترة، كجزء من أسوار التحصين الجديدة التي أحاطت بالمدينة. هل كانت أسوار التحصين هذه مجرد جزء من إجراءات الحماية للمدينة، أم بنيت إظهارا للسلطة والثروة؟ أنشئت أسوار التحصين وبوابة الأسد بحجارة ضخمة؛ حجارة بلغت من ضخامتها أنها يشار إليها حاليا بوصف «البناء السايكلوبي»؛ لأن اليونانيين اللاحقين اعتقدوا أن عمالقة السايكلوب الأسطوريين أصحاب العين الواحدة، بقوتهم الغاشمة، هم وحدهم الذين كان من الممكن أن يكونوا بالقوة الكافية لتحريك كتل الحجارة ووضعها في موضعها.
الأمر المثير للاهتمام والفضول أن ثمة عمارة مماثلة، تشمل دهاليز مقوسة الأسقف وأنفاقا سرية مؤدية إلى شبكات مياه جوفية، موجودة ، ليس في العديد من مواقع القصور الميسينية، بما في ذلك ميسيناي وتيرنز، فحسب، بل أيضا في بعض الأبنية الحيثية، التي يرجع تاريخها أيضا إلى نفس الفترة تقريبا.
33
إن اتجاه تدفق التأثيرات لهو مسألة محل جدال علمي، ولكن أوجه التشابه المعماري توحي بأن المنطقتين كانتا على اتصال وكان بينهما تأثيرات متبادلة.
نعرف، من المكتشفات الفخارية الميسينية في منطقة شرق المتوسط التي يرجع تاريخها إلى القرن الثالث عشر قبل الميلاد والواردات المصرية والقبرصية والكنعانية وغيرها من الواردات التي عثر عليها في منطقة إيجه أثناء نفس الفترة، أنه كان ثمة تبادل تجاري نشط بين الميسينيين، ومصر وقبرص وقوى أخرى في منطقة شرق المتوسط خلال تلك السنوات. كانوا قد استولوا من المينويين على طرق التجارة بحلول ذلك الوقت، وازدادت في الواقع التجارة في هذه الفترة، حسبما ذكر أعلاه.
في الواقع، مؤخرا قام الأثريون الذين ينقبون في موقع تيرنز، الذي يقع في إقليم بيلوبونيز في البر الرئيسي لليونان، بتوثيق أدلة تشير إلى أن ربما كان يوجد مجموعة معينة من القبارصة تعيش في تيرنز خلال أواخر القرن الثالث عشر قبل الميلاد، وهو ما يتفق تماما مع اقتراحات تقدم بها الباحثون مفادها أنه كان يوجد نوع ما من العلاقة التجارية الخاصة بين تيرنز وجزيرة قبرص أثناء هذه الفترة. وتحديدا، يبدو أنه كان يوجد نوع ما من أشغال المعادن، وربما أيضا أشغال الخزف أو الخزف المزخرف، التي كان يضطلع بها القبارصة في تيرنز. كان ذلك هو الوقت الذي كانت توضع فيه علامات مينوية قبرصية على حاويات النقل الطينية الميسينية، التي كانت تستخدم لشحن الخمور، وزيت الزيتون، وسلع أخرى، قبل تقسيتها بالنار. وعلى الرغم من أن اللغة المينوية القبرصية لم تترجم بعد ترجمة كاملة، فإنه يبدو واضحا أن هذه الأوعية كانت تصنع لسوق معينة في قبرص.
34
ومن المثير للدهشة أن ألواح النظام الخطي بي التي عثر عليها في بيلوس ومواقع متنوعة أخرى على البر الرئيسي لميسينيا لا تذكر تحديدا التجارة أو الاتصال مع العالم الخارجي. أقرب ما تصل إليه يشمل ما يبدو أنه كلمات أجنبية مستعارة من الشرق الأدنى، حيث جاء الاسم الأجنبي على ما يبدو مع الصنف. هذه الكلمات تشمل الكلمات المرادفة للسمسم، والذهب، والعاج، والكمون؛ فعلى سبيل المثال، كلمة «سمسم» في النظام الخطي بي هي
sa-sa-ma ، المأخوذة من الكلمة الأوغاريتية
ššmn ، والكلمة الأكادية
šammaššammu ، والكلمة الحورية
sumisumi .
35
على هذه الألواح يوجد أيضا مصطلحات مثل
ku-pi-ri-jo ، التي فسرت على أنها تعني «قبرصي». يظهر هذا المصطلح ست عشرة مرة على الأقل في الألواح في كنوسوس، حيث تستخدم لوصف التوابل، ولكنها تستخدم مضافة مباشرة إلى كلمات صوف، وزيت، وعسل، وآنية، ومكونات مراهم أيضا. وتستخدم أيضا في بيلوس كصفة عرقية لوصف أفراد مرتبطين برعي الماشية، وأشغال البرونز، وسلع مختلفة تشمل الصوف، والقماش، والشب، وهو ما قد يعني أنه كان يوجد طائفة عرقية قبرصية تعيش في بيلوس في نهاية القرن الثالث عشر قبل الميلاد.
36
ومن قبيل ذلك، قد تكون لفظة ثانية، هي
a-ra-si-jo ، بمثابة إشارة إلى قبرص، حسبما كانت معروفة في منطقة شرق المتوسط، أي، باسم ألشية: حيث كانت تعرف باسم
a-la-ši-ia
باللغة الأكادية، وباسم 'irsȝ
باللغة المصرية، وباسم
a-la-ši-ia
باللغة الحيثية، وباسم
altyy
باللغة الأوغاريتية.
37
يوجد أيضا مجموعة من الأسماء العرقية التي فسرت على أنها من غرب الأناضول، وهي بالدرجة الأولى لعاملات إناث، والتي عثر عليها في نصوص النظام الخطي بي في بيلوس. وكلها تشير إلى مناطق تقع في الساحل الغربي للأناضول، بما في ذلك ميليتوس ، وهاليكارناسوس، وكنيدوس، وليديا (آسيا). أشار أكثر من باحث إلى أنه قد يكون ثمة ذكر أيضا لنساء طرواديات في ألواح بيلوس تلك. وقد افترض أن هؤلاء النساء جميعهن ربما وقعن في الأسر أثناء الهجمات الميسينية على الساحل الغربي للأناضول أو جزر دوديكانيسيا المجاورة.
38
يوجد أيضا بضع كلمات محل جدال في نصوص النظام الخطي بي في كل من بيلوس وكنوسوس، والتي أشار بعض الباحثين إلى أنها قد تكون أسماء مشتقة من أسماء أماكن كنعانية تصف مواطني هذه الأماكن. هذه الأسماء تشمل
، ويعني «الرجل الذي من بيروت»؛ و
Tu-ri-jo ، ويعني «الرجل الذي من صور»؛ و
po-ni-ki-jo ، وتعني «الفينيقي» (سواء الرجل أو التوابل). بالإضافة إلى ذلك، نجد أن اسم
A-ra-da-jo ، ويعني «الرجل الذي من أراد (أرواد)» موجود فقط في الألواح المكتشفة في كنوسوس.
39
يوجد أسماء تبدو مصرية الأصل ولكنها ربما جاءت عن طريق كنعان، ألا وهي:
mi-sa-ra-jo ، ويعني «مصري» و
a
3 -ku-pi-ti-jo ، ويعني «منفي (نسبة إلى مدينة منف)» أو «مصري». يأتي اللفظ الأول، على ما يبدو، من الكلمة السامية
Miṣraim ، والتي تعني مصر، والتي من الشائع أكثر أن نجدها في الوثائق الأكادية والأوغاريتية في بلاد الرافدين وكنعان. أما اللفظ الثاني، فربما يكون هو الآخر مشتقا من إشارة من إحدى لغات الشرق الأدنى إلى مصر، لأن الاسم الأوغاريتي الذي كان يستخدم لكل من مصر ومدينة منف هو
Ḥikupta . ومن الغريب بمكان أن الكلمة موجودة في لوح مكتوب عليه بالنظام الخطي بي في كنوسوس بصفته اسم شخص كان مسئولا عن قطيع من ثمانين من الغنم في موقع كريتي؛ فهل من المحتمل أنه كان معروفا باسم «المصري»؟
40
تظهر كل هذه الكلمات الأجنبية المستعارة، الموجودة في الألواح المكتوبة بالنظام الخطي بي، على نحو مثير للاهتمام والفضول، أن العالم الإيجي كان على اتصال بمصر ومنطقة الشرق الأدنى أثناء العصر البرونزي المتأخر. قد يكون عدم امتلاكنا لأي سجلات توثق بيانات وعمليات تبادل معينة أمرا مستغربا وقد لا يكون كذلك؛ لأنه ليس بحوزتنا سوى السنة الأخيرة فقط من الأرشيف على أي حال؛ إذ إنه من الطبيعي في حالة الألواح التي كانت تتعرض لعمليات التدمير وتحرق عرضا، أنه من الممكن أنها قد مسحت (بدعك سطح الطين بالماء) وأعيد استخدامها كل عام أو حسب الحاجة. علاوة على ذلك، نعرف أن الميسينيين استخدموا هذه الألواح فقط لتسجيل بعض الأنشطة الاقتصادية للقصور. ومن المقبول تصور أن «أرشيف وزارة الخارجية» كان له مقرات في أماكن أخرى في مواقع ميسينية متعددة، مثل السجلات المماثلة في العمارنة في مصر وفي حاتوسا في الأناضول. (6) الخروج وفتوحات بني إسرائيل
فيما يختص بحرب طروادة، ومدينة طروادة، حوالي 1250ق.م، لدينا كم هائل من البيانات، حتى وإن كانت لا تزال غير قاطعة. غير أنه فيما يتعلق بالحدث الآخر الذي يقال إنه جرى في نفس الفترة الزمنية تقريبا، فنملك أدلة أقل بكثير، بل إن ما نملكه أقل قطعا. ذلك الحدث يتعلق بخروج العبرانيين من مصر، الحكاية التي يرويها الكتاب المقدس العبري.
حسب الرواية التوراتية، في أثناء حكم فرعون مصري لا يعرف اسمه، قاد النبي موسى بني إسرائيل للخروج من العبودية في مصر. كانوا قد استعبدوا، حسبما يخبرنا الكتاب المقدس العبري، بعد أن عاشوا أحرارا في مصر طيلة قرون عديدة. يقول سفر الخروج إنه كان قد مضى على وجودهم في مصر أربعمائة سنة من وقت أول وصول لهم في أثناء حياة يعقوب، أحد الآباء الأجلاء التوراتيين، ربما في حوالي القرن السابع عشر قبل الميلاد. إن كان الأمر كذلك، فسيكونون قد قدموا إلى مصر أثناء عصر الهكسوس ثم بقوا في مصر أثناء أوج العصر البرونزي المتأخر، بما في ذلك حقبة العمارنة. في عام 1987، اكتشف عالم المصريات الفرنسي آلان زيفي مقبرة رجل يسمى أبير إل، وهو اسم سامي، عمل وزيرا (أعلى مسئول معين) للفرعونين أمنحتب الثالث وإخناتون أثناء القرن الرابع عشر قبل الميلاد.
41
على أي حال، كما تمضي الرواية التوراتية، خرج العبرانيون، يقودهم موسى، من مصر على عجل بعد أن أدت الضربات العشر، التي أحاقها إله العبرانيين بالمصريين، إلى اقتناع الفرعون المصري أنه من غير المجدي الإبقاء على هذه الأقلية من السكان مستعبدة. حسب الرواية، شرع بنو إسرائيل بعد ذلك في رحلة دامت أربعين سنة وقادتهم في نهاية المطاف إلى أرض كنعان والحرية. أثناء فترة التيه، يقال إنهم تبعوا عمود دخان نهارا وعمود نار ليلا، ويأكلون من حين لآخر المن الآتي من السماء. وبينما هم في طريقهم إلى كنعان، تلقوا الوصايا العشر على جبل سيناء وصنعوا تابوت العهد ليحملوها فيه.
أصبحت قصة الخروج هذه إحدى أشهر حكايات الكتاب المقدس العبري وأكثرها ثباتا، وما زال يحتفل بها في وقتنا هذا أثناء عطلة عيد الفصح اليهودي. ومع ذلك فهي أيضا واحدة من أصعب القصص من ناحية التثبت منها سواء عن طريق النصوص القديمة أو الأدلة الأثرية.
42
تشير الأدلة في القصص التوراتية إلى أنه «إذا» كان الخروج قد حدث بالفعل، فإنه حدث أثناء منتصف القرن الثالث عشر قبل الميلاد؛ لأن الكتاب المقدس يروي أن العبرانيين في ذلك الوقت كانوا مشغولين ببناء «مدينتي مخازن» تسميان فيثوم ورعمسيس للفرعون (سفر الخروج، الإصحاح 1، الآيات 11-14). تشير التنقيبات الأثرية في مواقع هاتين المدينتين القديمتين إلى أن سيتي الأول، الذي ربما كان «الفرعون الذي لم يعرف النبي يوسف»، شرع فيهما في حوالي 1290ق.م، وأكملهما رمسيس الثاني (حوالي 1250ق.م)، الذي ربما يكون هو فرعون الخروج.
رمسيس الثاني معروف جيدا لدى السائحين المعاصرين الذين يزورون مصر، وهواة أدب القرن التاسع عشر؛ لأن تمثاله الساقط في الرامسيوم - معبده الجنائزي في مصر بالقرب من وادي الملوك - هو الذي دفع بيرسي بيش شيلي لكتابة القصيدة الشهيرة «أوزيماندياس»:
قابلت مسافرا من بلد قديم
قال: «ساقان حجريان كبيران بلا جذع
يقفان في الصحراء. وبجوارهما على الرمال
يستلقي وجه مهشم نصف غارق، يدل عبوسه
وشفاهه المجعدة، وسخرية أوامره الفاترة،
أن نحاته قرأ تلك المشاعر جيدا،
والتي بقيت مطبوعة على هذه الأشياء التي لا حياة فيها،
بعد فناء اليد التي صورت ذلك بسخرية، والقلب الذي غذى هذا.
وعلى قاعدة التمثال تظهر هذه الكلمات: «اسمي أوزيماندياس ملك الملوك:
انظروا إلى أعمالي أيها الجبابرة واعتبروا!»
لا شيء سيبقى بعد. وحول تحلل
ذلك الحطام الضخم، بلا حدود ولا غطاء،
تمتد الرمال المنعزلة المستوية على مد البصر.»
نشرت القصيدة في عام 1818، قبل خمسة أعوام فقط من نجاح جان-فرانسوا شامبليون في فك شفرة الكتابة الهيروغليفية المصرية. فاضطر شيلي إلى أن يعتمد على الترجمة غير الصحيحة للمؤرخ اليوناني القديم ديودوروس الصقلي للاسم الذي حمله رمسيس الثاني عند اعتلاء العرش والذي كان «أوزيماندياس»، وليس الاسم الصحيح أوسر ماعت رع-ستب إن رع.
43
لسوء الحظ، لا يجدي تحديد هوية فرعون الخروج على أنه رمسيس الثاني - وهو تحديد الهوية الأكثر شيوعا في كل من الكتب الأكاديمية والشعبية - إذا ما أراد المرء أن يتتبع التسلسل الزمني الذي يقدمه الكتاب المقدس. تحدد الرواية التوراتية الفترة الزمنية للخروج على أنها في حوالي عام 1450ق.م، استنادا إلى التصريح الوارد في سفر الملوك الأول (الإصحاح 6، الآية 1) بأن الحدث وقع قبل نحو 480 سنة من بناء سليمان للهيكل في أورشليم (والذي يحدد تاريخه بحوالي سنة 970ق.م). غير أن تاريخ 1450ق.م هذا يقع قرب نهاية حكم الفرعون تحتمس الثالث، في وقت كانت فيه مصر قوة جبارة للغاية في منطقة الشرق الأدنى. كما رأينا، كان تحتمس الثالث مسيطرا سيطرة محكمة على أرض كنعان، بعد أن خاض معركة كبرى عند موقع مجدو سنة 1479ق.م من المستبعد للغاية أن يكون قد سمح لبني إسرائيل بالهروب من مصر إلى ذلك الإقليم، أو يكون خلفاؤه قد سمحوا لهم بأن يهيموا على وجوههم مدة أربعين سنة قبل أن يستقروا، وبخاصة لأن مصر كانت تحتفظ بسيطرة محكمة على الإقليم حتى بعد حكم تحتمس الثالث. بالإضافة إلى ذلك، ليس ثمة أدلة على وجود لبني إسرائيل/العبرانيين في أرض كنعان أثناء القرن الخامس عشر قبل الميلاد ولا أثناء القرن الرابع عشر قبل الميلاد، الأمر الذي كان ينبغي أن يحدث لو كان الخروج قد حدث حوالي سنة 1450ق.م.
لذلك، يفضل معظم الأثريين العلمانيين تاريخا بديلا هو عام 1250ق.م للخروج، وهو ما يتجاهل التسلسل الزمني التوراتي ولكنه أكثر منطقية من وجهة نظر أثرية وتاريخية. وهو أكثر منطقية لأن التاريخ يقع في نطاق فترة حكم رمسيس الثاني، الفرعون الذي أتم بناء مدينتي فيثوم ورعمسيس الوارد ذكرهما في الكتاب المقدس. وهو أيضا يتماشى مع التاريخ التقريبي لدمار عدد من المدن في كنعان على يد جهة غير معلومة ويسمح بفترة تصل إلى أربعين سنة لأن يهيم بنو إسرائيل على وجوههم في الصحراء قبل أن يدخلوا كنعان ويخضعوها، حسبما تصور الرواية التوراتية، ومع ذلك لا يزالون يصلون في الوقت المناسب لأن يذكرهم الفرعون مرنبتاح فيما يطلق عليه «لوح إسرائيل»؛ وهو نقش يرجع تاريخه إلى عام 1207ق.م وهو أقدم ذكر خارج الكتاب المقدس لكيان يعرف باسم إسرائيل.
44
يرجع تاريخ هذا النقش، الذي ذكرته بشكل عابر في الفقرة السابقة، إلى العام الخامس من حكم الفرعون مرنبتاح. اكتشفه السير ويليام ماثيو فلندرز بتري في فبراير من عام 1896 داخل معبد مرنبتاح الجنائزي، الذي يقع بالقرب من وادي الملوك على ضفة نهر النيل مقابل مدينة الأقصر الحديثة. على اللوح، يزعم نقش مرنبتاح أنه أخضع شعبا يعرف باسم «إسرائيل»، في إقليم كنعان. ونصه، على وجه التحديد، كما يلي:
يقول الملوك خاضعين: «الرحمة!»
ولم يعد أحد يرفع رأسه من أقوام الأقواس التسعة.
تحنو قد خربت؛ وخاتي أصبحت مسالمة؛
وكنعان أسرت مع كل خبيث؛
وقضي على أشقلون؛ واستولي على جزر؛
جعلت ينوعام كأنما لا وجود لها؛
وإسرائيل دمروا، ولم يعد لهم نسل؛
وخارو أمست أرملة لمصر!
كل البلاد قاطبة صارت مسالمة؛
كل من كان هائما، صار موثقا.
45
على الرغم من أن أعمال تنقيب أجريت في مواقع عديدة يحتمل أن تكون ذات صلة بالخروج، ومن بينها أعمال الحفر الحديثة العهد الجارية في حاصور في إسرائيل وفي تل البرج في شمال سيناء،
46
فإنه حاليا لا يوجد تقريبا شيء يسلط ضوءا محددا على الصحة التاريخية للخروج؛ فكل ما هو موجود حتى الآن عبارة عن استدلالات.
من ناحية أخرى، ما الذي يتوقع المرء أن يجده من قطع أثرية لبني إسرائيل الذين كانوا يعيشون في خيام في الصحراء مدة أربعين عاما منذ أكثر من ثلاثة آلاف عام؟ إذا كانوا يهيمون على وجوههم، بدلا من العيش في أبنية دائمة، فمن المحتمل أنهم كانوا سيستخدمون خياما وحفرا للأوتاد، مثلما يفعل البدو في وقتنا الحاضر؛ ولذلك فالأثري الذي يبحث عن بقايا منظورة للخروج من المحتمل ألا يعثر على بقايا أبنية دائمة، كما أن حفر أوتاد الخيام ستكون قد محيت من الوجود منذ أمد بعيد.
وبالمثل، فإن جهودا كثيرة لتحديد الضربات العشر التوراتية التي ابتلي بها المصريون، والتي اشتملت على ضربة الضفادع، وضربة الجراد، وضربة الدمامل، وضربة الذباب، وضربة البرد، وضربة موت الأبكار من أطفال المصريين، قد باءت بالفشل، أو كانت غير مقنعة، رغم أن ذلك بالتأكيد لم يكن راجعا إلى التقاعس عن المحاولة.
47
أيضا لا يوجد دليل يؤكد الرواية التوراتية الخاصة بانشقاق البحر الأحمر (بحر الغاب). إجمالا، رغم المحاولات التي لا تحصى (التي عرض كثير منها على قنوات تليفزيون كابل) لاقتراح فرضيات من شأنها أن تعلل الظاهرة التي وصفها الكتاب المقدس، ومن بينها جهود لربط الأمر بثوران بركان سانتوريني في منطقة إيجه، ظلت الأدلة القاطعة، سواء كانت أثرية، أو جيولوجية، أو غيرها، بعيدة المنال.
قد يتساءل المرء عن الدليل الذي يمكن أن يأمل أثري في العثور عليه لإثبات انشقاق البحر: هل البقايا التي غمرتها المياه لقائدي عجلات الفرعون الحربية الغارقين، مع خيولهم، وعرباتهم، وأسلحتهم؟ حتى الآن، لم يظهر أي شيء للنور، رغم ظهور مزاعم بين الحين والآخر تدعي العكس.
48
لا يمكننا حتى قبول الزعم القائل بأن انشقاق البحر نتج عن أمواج تسونامي (موجة مدية) نجمت عن ثوران بركان سانتوريني في منطقة إيجه، لأن تاريخ ثوران البركان قد تراجع إلى عام 1550 على الأقل، وعام 1628ق.م على الأرجح، استنادا إلى تواريخ مستقاة من تجارب الكربون المشع والعينات اللبية الجليدية، بينما من المرجح أن يرجع تاريخ الخروج في أقرب تقدير إلى 1250ق.م، أو 1450ق.م
49
ومن ثم، فإن قرنا على الأقل (من 1550ق.م إلى 1450ق.م) أو على الأرجح أربعة قرون (من 1628ق.م إلى 1250ق.م) تفصل بين الحدثين، وهو ما يعني أن الجهود لتفسير انشقاق البحر الأحمر والضربات التوراتية على أنها ظواهر مرتبطة بثوران البركان هي جهود خاطئة تماما.
يصف سفر يشوع في الكتاب المقدس العبري بالتفصيل فتح المدن الكنعانية على يد بني إسرائيل الغزاة. استنادا إلى هذه الرواية، كان يمكن للمرء أن يتوقع أن يجد أدلة على دمار واسع النطاق في المواقع الكنعانية التي جرت فيها أعمال تنقيب، مثل مجدو، وحاصور، وبيت إيل، وآي، وغيرها. مع ذلك، يجب ألا يغيب عن أذهاننا الرواية المناقضة نوعا ما في سفر القضاة، التي تعطي صورة مختلفة قليلا (أطول وأقل دموية) عن الفتح، والتي فيها عاش بنو إسرائيل والكنعانيون معا في مدن مختلفة . تكمن المشكلة، كما أبرزنا في موضع آخر،
50
في أنه يوجد أدلة أثرية قليلة جدا تدعم حكايات الكتاب المقدس عن تدمير المدن الكنعانية في ذلك الوقت. يعتقد حاليا أن موقعي مجدو ولاخيش قد دمرا بعد ذلك بأكثر من قرن، في حوالي 1130ق.م، كما سنرى لاحقا، ولا يوجد دليل في مواقع أخرى، مثل أريحا، على حدوث تدمير في أي وقت من القرن الثالث عشر ولا حتى في القرن الثاني عشر قبل الميلاد.
لا تزال حاصور وحدها تشكل احتمالا ممكنا، لأنه من الواضح أن القصر (أو المعبد) في المدينة العالية الذي يرجع تاريخه إلى العصر البرونزي المتأخر قد احترق وعلى الأقل جزء من المدينة قد دمر، حسبما يستدل على ذلك من عوارض الأسقف الخشبية الساقطة والجرار المملوءة بقمح محروق. هذه الصروح، التي بنيت أثناء ما كانت حاصور في أوجها في القرن الرابع عشر قبل الميلاد، وقتما ورد ذكرها في رسائل العمارنة المصرية، تضررت بشدة أثناء التدمير، كما تضررت بوابة المدينة، التي دمرت «في «حريق رهيب ومدمر»، ممثل في أكوام من الطوب اللبن الساقط والرماد يصل ارتفاعه إلى 1,5 متر.»
51
كشفت أحدث التنقيبات في التل العلوي للمدينة عن المزيد من نفس الشيء: «طبقات كثيفة من الرماد، وعوارض خشبية محترقة، وألواح بازلت متصدعة ، وطوب لبن تحول إلى زجاج، وجدران منهارة، وتماثيل بازلتية مشوهة.»
52
بوجه خاص، كانت بقايا الأبنية العامة والدينية من «طبقة 1إيه» في منطقة الشعائر وفي مواضع أخرى في حاصور «مغطاة تماما ومغلقة بإحكام بحطام الدمار الكثيف.»
53
مع ذلك لا يزال تاريخ هذا التدمير مثار جدال، وإن كان المنقب الأصلي، يجائيل يادين، وأمنون بن تور، أحد المنقبين الحاليين المشاركين في الموقع، يفضلان كلاهما تاريخ 1230ق.م تقريبا. ومع ذلك، من المحتمل أن يكون التدمير قد حدث لاحقا، ربما حتى في أوائل القرن الثاني عشر قبل الميلاد. سيكون علينا أن ننتظر نتائج اختبارات الكربون المشع على جرار التخزين المملوءة بالقمح، التي عثر عليها في الموقع خلال صيف 2012، للوصول إلى إجابة علمية قاطعة.
هوية مرتكبي التدمير غير مؤكدة هي الأخرى. قدم المنقبون الحديثو العهد حجة جيدة للقول بأنهم لم يكونوا المصريين ولا الكنعانيين؛ لأن تماثيل تنتمي إلى كلتا الحضارتين تعرضت للتشويه أثناء التدمير، الأمر الذي ما كان ليفعله جنود هذين الجيشين. استبعدت شعوب البحر هي الأخرى من أن تكون هي من فعلتها، استنادا إلى عدم وجود أوان فخارية تعريفية وبعد المسافة عن البحر، رغم أن مثل هذه الحجج تبدو أقل إقناعا. يتفق بن تور عموما مع المنقب السابق في الموقع يجائيل يادين على أن أرجح وأكثر معاول التدمير منطقية هم بنو إسرائيل، بينما ترى المديرة المشاركة الأخرى، شارون زوكرمان، أن ثمة فترة تدهور تسبق مباشرة التدمير وتقترح أن الدمار ربما يكون قد تسبب فيه تمرد داخلي لسكان المدينة أنفسهم، ظلت بعده المدينة مهجورة حتى وقت ما خلال القرن الحادي عشر قبل الميلاد.
54
باختصار، على الرغم من أنه من الواضح أن حاصور دمرت في القرن الثالث عشر أو الثاني عشر قبل الميلاد، وبقيت مهجورة لقرن أو أكثر بعد ذلك، فإنه ليس من الواضح بالضبط متى أو على يد من دمرت. وبالمثل، فإن سؤال ما إذا كان الخروج العبري من مصر حدثا فعليا أم مجرد جزء من أسطورة وخرافة - يهتم بها الكثير من الناس من مختلف أنحاء العالم - يظل بلا إجابة في الوقت الحالي. لن يسفر إفراغ الأدلة المتاحة في قوالب جديدة عن جواب نهائي. من الجائز أن يتأتى حل السؤال في اكتشاف مستقبلي إما عن طريق بحث أثري دءوب أو كشف وليد الصدفة. وقد يكون أحد التفسيرات البديلة لقصة الخروج صحيحا. هذه البدائل تشمل احتمال أن يكون بنو إسرائيل قد استغلوا الخراب الذي تسببت فيه شعوب البحر في كنعان ليحتلوا المنطقة ويسيطروا عليها؛ أو احتمال أن بني إسرائيل كانوا في الواقع جزءا من جماعة الكنعانيين الأكبر عددا الذين كانوا بالفعل يعيشون في الأرض؛ أو احتمال أن بني إسرائيل كانوا قد هاجروا بسلام إلى المنطقة على مدى قرون. إذا كان أحد هذه البدائل هو التفسير الصحيح لكيفية انتهاء المطاف بالعبرانيين بالاستقرار في أرض كنعان، فعندئذ من المحتمل أن تكون قصة الخروج قد اختلقت بعد قرون لاحقة، كما اقترح العديد من الباحثين. في نفس الوقت، سيكون من الأفضل أن نظل واعين باحتمال الغش؛ لأن كثيرا من الادعاءات السيئة السمعة قد ابتدعت بشأن أحداث، وأشخاص، وأماكن، وأشياء متصلة بالخروج. ومما لا شك فيه أن المزيد من المعلومات المغلوطة، سواء عن قصد أو لا، سيصدر في المستقبل.
55
في الوقت الحاضر، كل ما بوسعنا قوله جازمين هو أن الأدلة الأثرية، المتمثلة في الأواني الفخارية، والعمارة، وجوانب الثقافة المادية الأخرى، تدل على أن بني إسرائيل باعتبارهم جماعة محددة لها خصائصها التي يمكن التعرف عليها منها كانوا قطعا موجودين في كنعان بنهاية القرن الثالث عشر قبل الميلاد، وأن حضارتهم، إلى جانب حضارة الفلستيين والفينيقيين، هي ما ينبثق من رماد دمار الحضارة الكنعانية في وقت ما خلال القرن الثاني عشر قبل الميلاد. هذا، جزئيا، هو السبب وراء كون مسألة الخروج وثيقة الصلة في هذا السياق؛ لأن بني إسرائيل يأتون ضمن مجموعات الشعوب التي سوف تشكل نظاما عالميا جديدا، ينبعث من الفوضى التي كانت هي نهاية العصر البرونزي المتأخر. (7) الحيثيون والآشوريون، والعموريون، والأخياويون
آخر ملوك الحيثيين - وبخاصة توداليا الرابع (1237-1209ق.م) وسابيليوليوما الثاني (1207-؟ق .م) - كانوا نشطين للغاية أثناء الربع الأخير من القرن الثالث عشر، من حوالي 1237ق.م، على الرغم من أن علامات اقتراب نهاية عالمهم وحضارتهم كانت قد بدأت في الظهور. أمر توداليا بأن ينحت بانثيون كامل للآلهة والإلهات في صخرة نتوء كلسي في يازليكايا (والتي تعني «الحجر المنقوش»)، إلى جانب تمثيل له هو نفسه، على بعد كيلومتر أو نحوه فحسب من العاصمة الحيثية حاتوسا.
في ذلك الوقت، كان الحيثيون في حالة حرب مع الآشوريين في بلاد الرافدين. سبق وأن التقينا بالآشوريين في فصل سابق، في سياق تناول آشور أوباليط الأول، الذي حكم آشور في عصر فراعنة العمارنة، والذي نهب وخرب بابل بعد أن باء بالفشل تحالف بين القوتين عن طريق الزواج.
56
كان الآشوريون، بعد فترة قصيرة من الخمود النسبي الذي أعقب حكم آشور أوباليط، قد عاودوا الظهور من جديد تحت حكم ملكهم، أداد نيراري الأول (1307-1275ق.م). وتحت قيادته وقيادة خلفائه، برز الآشوريون بصفتهم قوة كبرى في منطقة الشرق الأدنى في بداية القرن الثالث عشر.
من بين إنجازات أخرى، حارب أداد نيراري الأول الميتانيين، واستولى على واشوكاني ومدن أخرى. ووضع ملكا تابعا له على عرشهم ووسع الإمبراطورية الآشورية إلى الغرب بصورة كافية لدرجة أن حدودها بلغت في ذلك الوقت بلاد الحيثيين وكادت تصل إلى البحر المتوسط. ربما لم يكن ذلك بالصعوبة التي يبدو عليها، لأن الحيثيين في ظل حكم سابيليوليوما الأول كانوا قد سبق وأن ألحقوا بالميتانيين هزيمة ساحقة قبل ذلك بعقود عديدة.
57
بعد حكم شلمنصر الأول (1275-1245ق.م)، الذي تابع الكثير من سياسات أداد نيراري وربما يكون هو من قضى أخيرا على المملكة الميتانية،
58
ظهر على الساحة الدولية واحد من أعظم «ملوك آشور المحاربين»، وهو توكولتي نينورتا الأول، الذي حكم من حوالي 1244 إلى 1208ق.م سار توكولتي نينورتا الأول على خطى سلفه في القرن السابق، آشور أوباليط - ولكنه ربما كان أيضا يحاكيهم - عندما قرر أن يهاجم بابل. ومع ذلك، تجاوز توكولتي نينورتا الأول إنجازات آشور أوباليط؛ فلم يهزم الملك البابلي الكيشي كشتيلياش الرابع في الحرب ويجلبه إلى آشور مكبلا في الأغلال فحسب؛ بل استولى أيضا على مملكتهم بحلول عام 1255ق.م تقريبا ليحكمهم ويولي نفسه ملكا عليهم قبل أن ينصب ملكا دمية ليحكم نيابة عنه، ولكن هذه الخطوة لم تكن ناجحة بقدر كبير؛ لأن الملك الدمية، إنليل نادين شومي، تعرض بعد ذلك مباشرة تقريبا للهجوم عليه وأطيح به على يد جيش عيلامي زحف جنوده من موطنهم في الشرق على الهضبة الإيرانية، في جنوب غرب إيران حاليا. لن تكون تلك هي المرة الوحيدة التي يحدث فيها هذا؛ إذ سنلتقي بالعيلاميين مرة أخرى قريبا.
59
بالإضافة إلى إنجازاته الأخرى، هزم توكولتي نينورتا الأول، الملك الآشوري المحارب، أيضا الحيثيين تحت حكم توداليا الرابع، محدثا بذلك تغييرا جذريا في ميزان القوى في الشرق الأدنى القديم. حتى إنه اقترح أنه بلغ من القوة حد أنه بعث منا (وحدة قياس وزن في الشرق الأدنى، ربما تعادل ما يزيد قليلا على الرطل الأمريكي المعاصر) من اللازورد هدية إلى الملك الميسيني في ثيفا في إقليم بيوتيا في البر الرئيسي لليونان، بعيدا جدا عبر بحر إيجه.
60
نتيجة لذلك، بحلول وقت وقوع أول هجوم لشعوب البحر على منطقة شرق المتوسط في 1207ق.م، بعد عام واحد فقط من اغتيال توكولتي نينورتا على يد أحد أبنائه، كانت آشور قد أصبحت واحدة من القوى الفاعلة الرئيسية في المشهد الدولي في الشرق الأدنى القديم لما يقرب من مائتي سنة. كانت مملكة متصلة عبر القرون بالمصريين، والبابليين، والحيثيين، والميتانيين عن طريق الزواج، والسياسة، والحرب، والتجارة. وكانت، بلا شك، واحدة من القوى العظمى أثناء العصر البرونزي المتأخر.
خلال حكم الملك الآشوري توكولتي نينورتا، واجهت إمبراطورية الحيثيين تهديدا واضحا وخطيرا وكان الحيثيون عازمين على إيقاف محاولة أي أحد في التحرك إلى الداخل من الساحل إلى الأراضي الآشورية في الشرق. تضمنت إحدى الاستراتيجيات معاهدة وقعت في 1225ق.م تقريبا بين توداليا الرابع، ملك الحيثيين، وشوشجاموا، صهره عن طريق الزواج. كان شوشجاموا ملك عمورو، الذي سيطر على المناطق الساحلية لشمال سوريا التي أتاحت منفذا محتملا إلى الأراضي الآشورية. في المعاهدة، يستدعى الولاء الذي أصبح مألوفا لدينا؛ فعدو صديقي هو عدوي أنا أيضا؛ وصديق صديقي هو صديقي أنا أيضا. لذلك، كتب توداليا الرابع (الذي يشير إلى نفسه بصيغة الغائب بقوله «جلالتي») إلى شوشجاموا مصرحا:
إذا كان ملك مصر صديقا لجلالتي، فعندئذ يكون صديقا لك. ولكن إذا كان عدوا لجلالتي، فعندئذ يكون عدوا لك. وإذا كان ملك بابل صديقا لجلالتي، فعندئذ يكون صديقا لك، ولكن إذا كان عدوا لجلالتي، فعندئذ يكون عدوا لك. وحيث إن ملك آشور عدو لجلالتي، عندئذ يكون بالمثل عدوا لك. لن يذهب تاجرك إلى آشور، ولن تسمح لتاجره أن يدخل أرضك. ولن يمر من أرضك، ولكن إذا دخل أرضك، فاقبض عليه وأرسله إلى جلالتي. فلتقسم على ذلك الأمر.
61
في دراستنا للعالم القديم، يوجد عنصران لهما أهمية خاصة في معاهدة التقدير المتبادل هذه. العنصر الأول هو أن توداليا الرابع يقول لشوشجاموا: «[لن تسمح (؟)] لأي سفينة [تخص] أخياوا أن تصل إليه (يقصد إلى ملك آشور)».
62
يعتقد كثير من الباحثين أن هذه إشارة إلى حظر؛ الحظر المذكور في نهاية الفصل السابق. إن كان الأمر كذلك، رغم أنه يعتقد عادة أن الحظر مفهوم عصري إلى حد كبير، فيبدو أن ثمة حظرا قد فرضه الحيثيون على الآشوريين منذ أكثر من ثلاثة آلاف عام.
63
العنصر الثاني هو حقيقة أن توداليا الرابع كان قد كتب قبل ذلك ببضعة سطور: «والملوك المساوون لي من ناحية المرتبة هم ملك مصر، وملك بابل، وملك آشور، و »
64
الشطب على كلمتي «ملك أخياوا» ليس خطأ في الطباعة في هذا الكتاب؛ وإنما هو شطب موجود على اللوح الطيني الخاص بتوداليا الرابع. بعبارة أخرى، ما لدينا هنا هو عبارة عن مسودة أولية للمعاهدة، والتي لا يزال من الممكن أن يحذف منها، أو يضاف إليها، أو تعدل فيها بنود. الأهم من ذلك، أن بحوزتنا عنصرا يدل على أن ملك أخياوا لم يعد يعتبر مساويا في المرتبة للقوى الكبرى الأخرى في عالم العصر البرونزي المتأخر؛ وهم ملوك مصر، وبابل، وآشور، والحيثيين.
من المنطقي أن نسأل عما حدث في منطقة إيجه، أو في الساحل الغربي للأناضول، ليتسبب في هذا الوضع. لا بد وأنها واقعة حديثة العهد إلى حد كبير؛ إذ نذكر أنه أثناء حكم حاتوسيلي الثالث، والد توداليا الرابع، كان الحاكم الحيثي قد أشار إلى ملك أخياوا على أنه «الملك العظيم» و«الأخ». ربما يمكن العثور على دليل في أحد نصوص أخياوا، المعروف باسم «رسالة ميلاواتا». توضح الرسالة، التي ترجع على الأرجح إلى زمن توداليا الرابع، بجلاء أن مدينة ميلاواتا (ميليتوس) والمنطقة المحيطة بها على الساحل الغربي للأناضول، والتي كانت يوما ما تمثل الوجود الرئيسي للميسينيين في المنطقة، لم تعد تتبع ملك أخياوا وإنما كانت حينئذ تحت سيطرة الحيثيين.
65
ربما كان ذلك يعني أن ملك أخياوا لم يعد ملكا عظيما في نظر الملك الحيثي. ومع ذلك، ينبغي أن نأخذ في الاعتبار احتمال أن تخفيض الملك الحيثي لمرتبة الحاكم الميسيني ربما كان نتيجة لحدث ما أكبر حجما، وأنه ربما يكون أمرا ما قد حدث في منطقة إيجه؛ أي في البر الرئيسي لليونان، كما سنرى في الفصل التالي. (8) الغزو الحيثي لقبرص
في غضون ذلك، وبينما كان كل ذلك يجري، قرر توداليا الرابع أن يهاجم جزيرة قبرص. كانت الجزيرة مصدرا رئيسيا للنحاس طوال الألفية الثانية قبل الميلاد، ومن المحتمل أن الحيثيين قرروا أن يحاولوا السيطرة على هذا المعدن الثمين، الذي يشكل العنصر الأساسي لصنع البرونز. ومع ذلك، لسنا متيقنين بشأن دوافعه للهجوم على قبرص. ربما كان لها، بدلا من ذلك، علاقة بالظهور المحتمل لشعوب البحر في المنطقة أو بالجفاف الذي يعتقد أنه قد حدث في منطقة شرق المتوسط في ذلك الوقت، كما دلت اكتشافات علمية حديثة وكذلك نصوص معروفة منذ عهد بعيد تذكر شحنة مساعدات طارئة من الحبوب أرسلت من أوغاريت في شمال سوريا إلى ميناء أورا في كيليكية (الواقعة في جنوب شرق تركيا).
66
ثمة نقش، كتب في الأصل على تمثال لتوداليا لكنه أعيد نسخه بعد ذلك على لوح من زمن ابن توداليا، سابيليوليوما الثاني، مكتوب فيه: «قبضت على ملك ألشية وزوجاته، وأبنائه، ... كل الأغراض، بما في ذلك الفضة والذهب، وكل الأسرى أخذتهم وجلبتهم عائدا إلى حاتوسا. استعبدت بلد ألشية، وجعلتها تابعة على الفور.»
67
لم يعد سابيليوليوما الثاني نسخ نقش توداليا الرابع فحسب، بل زيادة على ذلك أخضع هو نفسه قبرص. ونص النقش المتعلق باستيلائه عسكريا على قبرص كالتالي: «أنا، سابيليوليوما، الملك العظيم، [ركبت] بسرعة البحر. وحاربت سفن ألشية في معارك بحرية ثلاث مرات. فقضيت عليهم. واستوليت على السفن وأشعلت فيها النيران في عرض البحر. وعندما وصلت إلى اليابسة من جديد، عندئذ هاجمني العدو من أرض ألشية في حشود [فقاتلتهم].»
68
من الواضح أن التوفيق كان حليف سابيليوليوما في هجماته البحرية وربما في غزو قبرص، ولكن ليس واضحا السبب الذي جعله يقاتل ويغزو الجزيرة مجددا، بعد أن كان توداليا الرابع قد استولى عليها بالفعل. ربما كان الغرض من محاولته ببساطة هو السيطرة (أو استعادة السيطرة) على مصادر النحاس أو على طرق التجارة الدولية في أوقات كان الاضطراب فيها آخذا في التصاعد. ولكننا قد لا نعرف أبدا السبب في ذلك. أيضا ليس واضحا أين جرت المعركة البرية الأخيرة؛ اقترح الباحثون احتمالين هما قبرص وساحل الأناضول.
أخذ سابيليوليوما الثاني، عند اعتلائه العرش بعد وفاة والده، اسم سلفه الشهير من القرن الرابع عشر قبل الميلاد سابيليوليوما الأول (رغم أن اسم الملك الجديد كان يتهجى على نحو مختلف: سابيليولياما وليس سابيليوليوما). ربما كان يأمل في تكرار بعض نجاحات سلفه. إلا أنه انتهى به الأمر إلى أن يكون هو المسئول عن انهيار الإمبراطورية الحيثية. في سياق القيام بذلك، إلى جانب غزو قبرص، قام هو ومعه الجيش الحيثي بحملة مرة أخرى في غرب الأناضول.
69
يذكر أحد الباحثين، في مقالة نشرت مؤخرا، ملاحظة مفادها أن وثائق كثيرة ترجع إلى زمن سابيليوليوما الثاني «تشير إلى تزايد عدم الاستقرار في العاصمة الحيثية وتزايد الشعور بانعدام الثقة»، ولكن ربما كان من الأفضل استخدام كلمة «الاضطراب»، بالنظر إلى ما كان على وشك أن يحدث.
70 (9) حطام سفينتي رأس إريا ورأس جليدونيا
في عامي 1993 و1994، استخرج علماء الآثار البحرية قبالة ساحل أرجوليد على البر الرئيسي لليونان، غير بعيد من موقع ميسيناي، حطاما آخر لسفينة شراعية قديمة، يفترض هذه المرة أنها كانت من قبرص، استنادا إلى شحنة الأواني الفخارية التي كانت تحملها. يرجع تاريخ الحطام، الذي يعرف باسم «حطام سفينة رأس إريا»، إلى 1200ق.م تقريبا، وقد يكون دليلا على أن التجارة بين قبرص واليونان الميسينية كانت لا تزال جارية في ذلك الوقت، رغم التوغلات الحيثية في قبرص.
71
في الوقت نفسه تقريبا، قبالة ساحل الأناضول، غير بعيد من المكان الذي كانت سفينة أولوبورون قد غرقت عنده قبل ذلك بقرن، غرقت سفينة أخرى سمي حطامها باسم «حطام سفينة رأس جليدونيا»، نسبة إلى موضع ضريحها البحري قبالة الساحل الجنوبي الغربي لتركيا الحالية. كما أشرنا سابقا، هذا هو الحطام الذي بدأ به جورج باس حياته المهنية، ومجال علم الآثار الغارقة، في ستينيات القرن الماضي. كان باس قد استنتج أن الحطام كان يخص سفينة كنعانية غرقت في 1200ق.م تقريبا وهي في طريقها إلى منطقة إيجه.
72
عاد باس إلى الموقع مرات قليلة على مر السنين؛ من أجل استكشاف البقايا باستخدام أجهزة حديثة كانت قد صارت متاحة نتيجة للتطورات الهائلة في تكنولوجيا الاستكشاف تحت الماء خلال النصف قرن الماضي. وعثر على المزيد من الأغراض القليلة التي تواصل تدعيم فكرته الأصلية القائلة بأنه من المحتمل أن السفينة كانت مبحرة من الشرق الأدنى، ولكن، الأمر المثير للفضول أن الاكتشافات الجديدة تدل على أن السفينة ربما تكون في الواقع قبرصية الأصل وليس كنعانية، حسب تحليلات جديدة أجريت على مرساة السفينة وبعض المصنوعات الخزفية على متنها.
73
بصرف النظر عن منشئها على وجه التحديد في منطقة شرق المتوسط، فإن سفينة رأس جليدونيا وحمولتها يتسمان بأهمية كبيرة، مع التسليم بأن السفينة وحمولتها لا تدانيان حطام سفينة أولوبورون إبهارا. عادة ما توصف السفينة الأصغر بأنها كانت «تتسكع» من ميناء إلى ميناء، تتبادل بضائع على نطاق محدود، بدلا من أن تبحر في مهمة تجارية أو دبلوماسية مباشرة.
74
ومع ذلك، فإنها تعتبر دليلا آخر على أن التجارة الدولية كانت جارية في نهاية القرن الثالث عشر قبل الميلاد، حتى عندما بدأت الأمور في الانهيار في إقليمي شرق المتوسط وإيجه.
الفصل الرابع
المشهد الرابع
نهاية حقبة: القرن الثاني عشر قبل الميلاد
هذه هي اللحظة التي كنا بانتظارها؛ لحظة ذروة أحداث المسرحية والبداية الدرامية لنهاية ثلاثمائة عام وأكثر من الاقتصاد المعولم الذي كان السمة المميزة لحقبة العصر البرونزي المتأخر في منطقتي إيجه وشرق المتوسط. يتسم القرن الثاني عشر قبل الميلاد، كما سنرى في هذا المشهد الأخير، بحكايات الويلات والدمار أكثر من قصص التجارة والعلاقات الدولية، ومع ذلك يمكننا أن نبدأ بداية إيجابية فيما يتعلق بثانيتهما. (1) اكتشاف أوغاريت والمينا البيضا
يقال إن الحظ حليف أصحاب الروح المتأهبة، ولكنه في بعض الحالات يحالف حتى أصحاب الروح غير المتأهبة؛ فقد كان اكتشاف بالمصادفة من قبل مزارع، كان على الأرجح غير دارس لطرق علم الآثار، هو ما قاد إلى اكتشاف مدينة ومملكة أوغاريت، الواقعة على ساحل شمال سوريا. في عام 1929، جلب الاكتشاف المبلغ عنه لمقبرة عند خليج المينا البيضا علماء الآثار الفرنسيين إلى المنطقة. سرعان ما كشفت أعمال التنقيب عن أطلال ميناء، يشار إليه حاليا باسم المينا البيضا. بعد ذلك بوقت وجيز، على بعد ثمانمائة متر إلى الداخل، في نطاق تلة حديثة تدعى رأس شمرا، اكتشفت العاصمة أوغاريت.
1
ومنذ ذلك الحين، تجرى أعمال التنقيب الفرنسية في كل من أوغاريت والمينا البيضا على نحو شبه مستمر، أولا على يد كلود شايفر، من عام 1929 وما بعده، ومؤخرا، على يد مارجريت يون، من 1978 إلى 1998. منذ عام 1999، يجري فريق سوري فرنسي مشترك عمليات التنقيب.
2
كشفت هذه التنقيبات، جميعها، عن بقايا ميناء ومدينة تجارية فاعلة، ونشطة، ومزدهرة، دمرت فجأة وأصبحت مهجورة بعد وقت وجيز من بداية القرن الثاني عشر قبل الميلاد. عثر، بين الأطلال، على منتجات من سائر أنحاء منطقتي شرق المتوسط وإيجه؛ فعلى سبيل المثال، ما زال مخزن بضائع في المينا البيضا يضم ثمانين جرة تخزين كنعانية. لسوء الحظ، عثر على هذه الأشياء في ثلاثينيات القرن الماضي؛ لذا لم تجر تحليلات علمية دقيقة على المحتويات.
3
انتشل من داخل المنازل الخاصة والقصر الملكي في أوغاريت عدد من السجلات الهامة منذ خمسينيات القرن الماضي، التي توثق الأنشطة الاقتصادية للعديد من التجار، بالإضافة إلى العائلة المالكة الأوغاريتية. كتبت الرسائل والعناصر الأخرى الموجودة في هذه السجلات على ألواح طينية، كما كان معتادا في العصر البرونزي، ولكن في هذه الحالة عثر على الألواح منقوشة بلغات مختلفة؛ أحيانا بالأكادية، وأحيانا بالحيثية، وأحيانا بالمصرية، وأحيانا بلغات أخرى كانت مستخدمة على نطاق أضيق، مثل اللغة الحورية.
إضافة إلى ذلك، كان ثمة لغة أخرى لم يكن الباحثون قد رأوها من قبل. فك العلماء شفرتها بسرعة كبيرة نسبيا ويطلق عليها حاليا اسم اللغة الأوغاريتية. استخدمت هذه اللغة واحدة من أقدم الحروف الأبجدية التي كانت معروفة؛ عدا أنه كان يوجد في الواقع نوعان من الحروف الأبجدية في النصوص، أحدهما يحتوي على اثنين وعشرين رمزا مثل الأبجدية الفينيقية والآخر على ثمانية رموز إضافية.
4
هذه النصوص الأوغاريتية، التي يوجد منها حاليا مجموعة واسعة للغاية لدرجة أنه تولد عنها مجال دراسات أكاديمية حديثة على نطاق ضيق يعرف باسم الدراسات الأوغاريتية، التي لا تشتمل على سجلات ومراسلات التجار والملوك فحسب، بل أيضا على نماذج للأدب، والميثولوجيا، والتاريخ، والدين، وعناصر أخرى تنتمي إلى حضارة مزدهرة على وعي بإرثها الخاص. النتيجة هي أن بوسعنا إعادة إنشاء مدينة أوغاريت من أنقاضها وبوسعنا أيضا، من نصوصها، أن نعيد تشكيل الحياة اليومية ونظم المعتقدات لسكانها. على سبيل المثال، من الواضح أنهم كانوا يعبدون مجموعة من الآلهة، احتل إيل وبعل مكانة بارزة وسطها. ونعرف أسماء ملوكهم، من أميستامرو الأول ونيقمادو الثاني، الموجودة رسائلهما إلى أمنحتب الثالث وإخناتون في أرشيف العمارنة في مصر، إلى آخر ملوكهم، أمورابي، الذي حكم في العقد الأول من القرن الثاني عشر قبل الميلاد. وكذلك نعرف أن ملوك أوغاريت تزوجوا أميرات من دولة عمورو المجاورة ، وربما أيضا من مملكة الحيثيين الأكبر حجما، في زيجات بين العائلات المالكة بمهور كانت، بكل معنى الكلمة، تليق بملك، رغم أن واحدة على الأقل من هذه الزيجات انتهت بطلاق مرير استمر أمر مناقشته في أروقة الجهات ذات الصلة لسنوات.
5 (2) الصلات الاقتصادية والتجارية لأوغاريت وتجارها
مارس مواطنو وملوك أوغاريت علاقات تجارية نشطة طوال عمر المدينة. ومن الواضح أنها كانت مركزا تجاريا دوليا، حيث كانت سفن من أمم كثيرة تصل إلى مرفأ المينا البيضا. وربما كانت تدين بالولاء لمصر أثناء النصف الأول من القرن الرابع عشر قبل الميلاد، ولكنها كانت بالتأكيد تابعة للحيثيين ابتداء من النصف الثاني من ذلك القرن وما بعده، بعد أن أخضع سابيليوليوما المنطقة، في حوالي 1350-1340ق.م. توثق النصوص التي كانت في الموقع، التي نجدها في السجلات المتنوعة، والتي يرجع تاريخ معظمها إلى نصف القرن الأخير من عمر المدينة، الصلات بين أوغاريت وأنظمة حاكمة عديدة أخرى كبيرة وكذلك صغيرة، من بينها مصر، وقبرص، وآشور، والحيثيون، وكركميش، وصور، وبيروت، وعمورو، وماري. ومؤخرا أضيفت منطقة إيجه إلى هذه القائمة أيضا.
6
أيضا تذكر الألواح على وجه التحديد تصدير بضائع قابلة للتلف من أوغاريت، تشمل الصوف المصبوغ، والملبوسات المصنوعة من الكتان، والزيت، والرصاص، والنحاس، وأغراضا من البرونز، خاصة إلى الآشوريين، الموجودين بعيدا جهة الشرق في بلاد الرافدين، بالإضافة إلى صلات تجارية واسعة النطاق مع بيروت، وصور، وصيدا على الساحل الفينيقي.
7
عثر على أغراض مستوردة من منطقة إيجه، ومصر، وقبرص، وبلاد الرافدين في أوغاريت نفسها، بما في ذلك سفن ميسينية، وسيف برونزي منقوش عليه اسم الفرعون المصري مرنبتاح، ومئات الأجزاء من جرار مصنوعة من المرمر، ومقتنيات ثمينة أخرى.
8
وصلت هذه الأغراض، وبضائع أخرى أكثر بساطة، مثل الخمور، وزيت الزيتون، والقمح، إلى أوغاريت عبر جهود تجار مثل سينارانو، الذي التقينا به سابقا في هذا الكتاب، الذي ذهبت سفينته إلى كريت وعادت أثناء منتصف القرن الرابع عشر قبل الميلاد. نعرف أن الأوغاريتيين كانوا ميسورين ماديا بما يكفي لأن يرسلوا إلى الحيثيين جزية كل عام، تتألف من خمسمائة شيكل من الذهب، وصوف مصبوغ، وملبوسات، بالإضافة إلى كئوس من الذهب والفضة للملك والملكة الحيثيين، والمسئولين الرفيعي المستوى التابعين لهم.
9
نعرف حاليا بشأن تجار أوغاريتيين كانوا نشطين لاحقا؛ وقت دمار أوغاريت في بداية القرن الثاني عشر ق.م؛ ويرجع الفضل في ذلك إلى ألواح إضافية، عثر على الكثير منها في العقود الأخيرة داخل منازلهم، والتي غير بعضها من فهمنا للنهاية المحتملة للمدينة.
10
يعرف أحد تلك المنازل باسم «منزل يابنينو»، ويقع بالقرب من الجزء الجنوبي من القصر الملكي. ما يزال المنزل نفسه لم ينقب فيه تنقيبا كاملا، ولكن معروف بالفعل أنه كان يغطي على الأقل مساحة لا تقل عن ألف متر مربع؛ لذا لا بد وأن يابنينو كان تاجرا ناجحا إلى حد معقول. يعتقد أن الستين لوحا أو أكثر التي اكتشفت في أطلال هذا المنزل كانت محفوظة في الطابق الثاني، وتضم وثائق مكتوبة باللغتين الأكادية، والأوغاريتية، واللغة المينوية القبرصية التي لم تفك شفرة رموزها بعد، والتي كانت تستخدم بصورة رئيسية في جزيرة قبرص ولكنها وجدت أيضا منقوشة على سفن في تيرنز في البر الرئيسي لليونان. توثق النصوص المكتوبة على الألواح، بالإضافة إلى الأغراض المستوردة التي عثر عليها داخل المنزل، أن أنشطة يابنينو التجارية تضمنت صلات مع قبرص، وساحل الشام جنوبا، ومصر، ومنطقة إيجه.
11
عثر على مجموعة أخرى من الألواح داخل المنزل الذي يطلق عليه اسم «منزل رابانو»، والذي جرت أعمال تنقيب فيه بين عامي 1956 و1958. سرعان ما أجريت الدراسات على الألواح، التي بلغ عددها أكثر من مائتين، ثم نشرت بعد عقد، في عام 1968. تشير الألواح إلى أن رابانو كان ناسخا ومستشارا رفيع المستوى لملك أوغاريت، على الأرجح أميستامرو الثاني (حوالي 1260-1235ق.م). كان رابانو على ما يبدو مشاركا في بعض المفاوضات الحساسة على أعلى المستويات، كما تشير محتويات الأرشيف. تتضمن النصوص عددا من الرسائل المتبادلة بين ملك أوغاريت وملك قبرص (ألشية)، مكتوبة في الفترة الزمنية التي شكلت فيها شعوب البحر تهديدا لكليهما. يوجد أيضا رسائل متبادلة مع ملك كركميش المجاورة ومع فرعون مصر الأكثر بعدا؛ والمجموعة الأخيرة تعنى بواقعة ما تتعلق بالكنعانيين على ساحل الشام.
12
إحدى الرسائل تتناول المتاجرة في الزيت بين أوغاريت وقبرص. مرسل هذه الرسالة هو نيقمادو الثالث، ملك أوغاريت قبل الأخير، وأرسلت إلى ملك ألشية، الذي يدعوه نيقمادو «والدا» له، مشيرا إلى نفسه بعبارة «ابنك».
13
إذا لم يكن الملك الأوغاريتي قد تزوج أميرة قبرصية، وهو الأمر الذي ليس مستبعدا، فيبدو أن استخدام كلمة «والد» يتبع الاصطلاح العام لذلك الوقت في محاولة لإنشاء علاقة أسرية، بينما يقر في الوقت نفسه إما بعلو مكانة ملك قبرص عن ملك أوغاريت، وإما بأنه أكبر منه نسبيا في العمر. ورد بالفعل ذكر رسالة أخرى من الرسائل المكتشفة في هذا المنزل؛ وهي الرسالة التي تصف مجيء سفن العدو إلى أوغاريت، والتي ظن شايفر أنه عثر عليها في قمين، حيث كان اللوح الطيني المكتوب عليه يقسى بالحرارة قبل إرساله إلى ملك قبرص. وسنناقش هذا النص بمزيد من التفصيل أدناه.
بعض أحدث الألواح اكتشافا هي تلك التي كانت موجودة في منزل يدعى «منزل أورتينو». اكتشف هذا المسكن في البداية بالصدفة في الجزء الجنوبي من الموقع أثناء بناء دشمة عسكرية حديثة في عام 1973. سمح للأثريين بالحفر في كومة المخلفات الناتجة عن حفر الدشمة، والذي أدى بالمصادفة إلى تدمير مركز المنزل، وعثروا على عدد من الألواح، التي نشرت محتوياتها كلها حاليا. جاءت الألواح الأحدث من عمليات التنقيب المتأنية التي أجريت ما بين عامي 1986 و1992، والتي نشرت محتوياتها هي الأخرى، ومن عمليات التنقيب التي أجريت ما بين عامي 1994 و2002، والتي يجري دراستها حاليا. إجمالا، يوجد أكثر من 500 لوح في هذا الأرشيف - عثر على 134 منها في عام 1994 وحده - تتضمن بعض النصوص المكتوبة باللغة الأوغاريتية ولكن أغلبها مكتوب باللغة الأكادية. تشتمل المراسلات على رسائل من ملوك مصر، وقبرص، وخاتي، وآشور، وكركميش، وصيدا، وبيروت، وربما صور.
14
أرسل أحد أقدم هذه النصوص من ملك من ملوك آشور، ربما كان توكولتي نينورتا الأول، إلى ملك من ملوك أوغاريت، ربما كان أميستامرو الثاني أو إيبيرانا، وتتعلق بالمعركة التي هزم فيها توكولتي نينورتا والآشوريون توداليا الرابع والحيثيين.
15
حسبما أوضح أحد المنقبين، تشير الألواح إلى أن أورتينو كان نشطا في بداية القرن الثاني عشر قبل الميلاد، وأنه كان يتمتع بمكانة اجتماعية عالية. وكان على ما يبدو وكيلا في شركة تجارية ضخمة يديرها زوج ابنة الملكة، وكان لهذه الشركة معاملات تجارية مع مدينة إمار في الداخل السوري، وكذلك معاملات مع كركميش المجاورة. وكان أيضا منخرطا في مفاوضات واتفاقات تجارية مع جزيرة قبرص، إلى جانب مشاريع تجارية مع جهات بعيدة أخرى.
16
في الواقع، تتسم الرسائل الخمس، التي عثر عليها في المنزل والتي كانت مرسلة من قبرص، بأهمية فائقة؛ لأنها تتضمن، لأول مرة على الإطلاق، اسم ملك من ملوك قبرص في العصر البرونزي؛ وهو رجل يعرف باسم كوشميشوشا. توجد رسالتان من هذا الملك، بالإضافة إلى رسالتين من حكام كبار للجزيرة، ومن المثير للاهتمام أنه توجد رسالة من ناسخ أوغاريتي كان يعيش بالفعل في قبرص في ذلك الوقت. تنضم هذه الرسائل الخمس الآن إلى الأربع رسائل الأخرى المرسلة من ألشية التي كانت قد اكتشفت في وقت سابق في منزل رابانو.
17
توجد رسالتان إضافيتان في المنزل تحتويان على إشارات إلى اثنين من «رجال خياوا»، ذكر أنهما كان ينتظران، في أرض اللكا (التي عرفت بعد ذلك باسم ليكية) في جنوب غرب الأناضول، وصول سفينة من أوغاريت. أرسلت الرسالتان إلى أمورابي، آخر ملوك أوغاريت، من ملك حيثي، ربما يكون سابيليوليوما الثاني، وأحد مسئوليه. هذه هي أول إشارات معروفة لشعب إيجه في السجلات الأوغاريتية؛ لأن «خياوا» ترتبط بلا شك بالكلمة الحيثية «أخياوا»، والتي يعتبر معظم الباحثين، كما رأينا سابقا، أنها تعني الميسينيين ومنطقة إيجه في العصر البرونزي.
18
شكل 4-1: رسائل ملكية في أرشيف أورتينو في أوغاريت (الشكل توضيحي وليس شاملا؛ نقاط التفرع تمثل أفرادا أرسلوا أو تلقوا رسالة (رسائل)؛ ورءوس الأسهم/الخطوط تمثل ثنائيات أرسلت بينهما الرسالة (الرسائل)؛ وأحجام الدوائر تمثل أعداد الرسائل؛ من إنشاء دي إتش كلاين).
يوجد أيضا رسالة من مرنبتاح، فرعون مصر، ردا على طلب من ملك أوغاريت - إما نيقمادو الثالث وإما أمورابي - لإرسال نحات، حتى يمكن صنع تمثال للفرعون ونصبه في المدينة، وتحديدا أمام معبد لبعل. في نفس الوقت الذي يرفض فيه الفرعون الطلب في الرسالة، يورد قائمة طويلة بالأغراض الكمالية التي كانت ترسل من مصر إلى أوغاريت. حسبما قال، كانت الأغراض تحمل في سفينة متجهة إلى أوغاريت، وتضمنت أكثر من مائة من المنسوجات وقطع الملابس، بالإضافة إلى أغراض متنوعة أخرى مثل خشب الأبنوس ولويحات من أحجار حمراء، وبيضاء، وزرقاء.
19
ومجددا، ينبغي أن نلاحظ أن كل هذه الأغراض تقريبا عبارة عن أغراض قابلة للتلف ولن تبقى في السجل الأثري؛ ولذلك فإنه لشيء طيب أنها مذكورة في هذا النص؛ وإلا فما كنا سنعرف أبدا أنها كانت ذات يوم موجودة وكانت تتبادل بين مصر وأوغاريت.
يوجد رسالة أخرى في هذا الأرشيف هي رسالة من رسول/ممثل يسمى زو أستارتي، تتناول السفينة التي كان قد أبحر على متنها من أوغاريت. ويذكر أنه تعرض للاحتجاز في الطريق. ويتساءل بعض الباحثين عما إذا كان قد تعرض حتى للاختطاف، ولكنه يكتب فقط قائلا: «في اليوم السادس كنت في البحر. وإذ قادتني ريح، بلغت إقليم صيدا. وحملتني من صيدا إلى إقليم أوسناتو، وفي أوسناتو أنا محتجز. أرجو أن يعرف أخي هذا ... قل للملك: «إذا كانوا قد تلقوا الخيول التي أعطاها الملك لرسول بلاد ألشية، فإن زميلا للرسول سوف يأتي إليكم. أرجو أن يسلموه تلك الخيول».»
20
ليس من الواضح تماما السبب وراء «احتجازه» في أوسناتو ولا حتى سبب وجود الرسالة في سجلات أورتينو، إلا أنه من المحتمل أن تجارة الخيول كانت مجالا تحت حماية الدولة في أوغاريت في ذلك الوقت. تنص رسالة مرسلة، في نفس الفترة الزمنية، من الملك الحيثي توداليا الرابع إلى أميستامرو الثاني، عثر عليها في منزل رابانو، على أن ملك أوغاريت يجب ألا يسمح بتصدير الخيول إلى مصر عن طريق الرسل/التجار الحيثيين أو المصريين.
21 (3) عمليات تدمير في شمال سوريا
يشير الدليل النصي من سجلات ومنازل متنوعة في أوغاريت إلى أن التجارة والاتصال الدوليين كانا ماضيين بقوة في المدينة حتى آخر لحظة ممكنة. في الواقع، أورد أحد الباحثين الذين كانوا ينشرون الرسائل المكتشفة في منزل أورتينو منذ عشرين عاما تقريبا؛ ملاحظة مفادها أنه لم يكن ثمة ما يشير إلى وجود مشاكل، عدا ذكر سفن العدو في رسالة واحدة، وأنه يبدو أن طرق التجارة ظلت مفتوحة حتى النهاية.
22
والأمر نفسه ينطبق على إمار، على نهر الفرات بعيدا جهة الشرق في الداخل السوري، حيث ذكر أن «النساخ كانوا يضطلعون بالأعمال العادية حتى النهاية.»
23
على أي حال، دمرت أوغاريت، على نحو بالغ العنف على ما يبدو، أثناء حكم الملك أمورابي، على الأرجح فيما بين عامي 1190 و1185ق.م ولم يعاود استيطانها حتى الحقبة الفارسية، بعد 650 عاما تقريبا.
24
يورد المنقبون في تقريرهم «أدلة على التدمير والنيران في سائر أنحاء المدينة»، بما في ذلك «الجدران المنهارة، والجص المدكوك المحترق، وأكوام الرماد»، بمستوى دمار بلغ مترين ارتفاعا في بعض الأماكن. تقول مارجريت يون، أحدث مديرة لعمليات التنقيب، إن الأسقف والشرفات في الأحياء السكنية وجدت منهارة، وأن الجدران في مواضع أخرى كانت «قد تحولت إلى كومة ركام عديمة الشكل.» وتعتقد أن ما تسبب في الدمار كان هجوما من أعداء وليس زلزالا، كما كان شايفر قد اقترح سابقا، وأنه كان ثمة قتال عنيف في المدينة، بما في ذلك قتال شوارع. يدل على ذلك، حسبما تقول، «وجود العديد من رءوس السهام منتشرة في أنحاء الأطلال المدمرة أو المهجورة.» بالإضافة إلى حقيقة أن السكان - ثمانية آلاف تقريبا - فروا مسرعين ولم يرجعوا، ولا حتى من أجل أن يجمعوا الكنوز الثمينة التي دفنها بعضهم قبل أن يغادروا.
25
ما برح التاريخ الدقيق لوقوع كل هذا يشكل محورا لنقاش حديث العهد. أكثر الأدلة قطعا هو رسالة عثر عليها في عام 1986 داخل منزل أورتينو. أرسلت الرسالة إلى أمورابي، ملك أوغاريت، من المستشار المصري باي الذي نعرف من مصادر مصرية أنه أعدم في العام الخامس للفرعون سبتاح. كان سبتاح هو الفرعون قبل الأخير في الأسرة التاسعة عشرة في مصر، الذي حكم من حوالي 1195 إلى 1189ق.م، أي قبل بضع سنوات فحسب من رمسيس الثالث الذي ينتمي إلى الأسرة العشرين؛ لذا يمكن تحديد تاريخ الرسالة ببعض التيقن، وبخاصة قبل إعدام باي في 1191ق.م، مما يعني أن تدمير المدينة لا يمكن أن يكون قد وقع قبل هذا التاريخ؛ ولذلك عادة ما يحدد تاريخ تدمير المدينة فيما بين عامي 1190 و1185ق.م، رغم أنه نظريا يمكن أن يكون قد حدث بعد ذلك.
26
أشار مقال نشر مؤخرا إلى أنه يمكن الآن تأكيد صحة هذا التاريخ، استنادا إلى ملاحظة فلكية عثر عليها على لوح آخر في مدينة أوغاريت. يسجل هذا اللوح كسوف الشمس الذي يمكن تحديد تاريخه بالحادي والعشرين من يناير من عام 1192ق.م، وهو ما يعني أيضا أن المدينة لا يمكن أن تكون قد دمرت قبل هذا التاريخ.
27
خلافا للروايات السابقة الشائعة المتعلقة بنهاية أوغاريت،
28
من المحتمل ألا نستطيع الاستعانة بالرسالة الشهيرة من الأرشيف الجنوبي - التي عثر عليها في الساحة الخامسة لقصر أوغاريت - لتحديد تاريخ التدمير أو للتعرف على هوية المدمرين. كانت هذه هي الرسالة التي اعتقد شايفر أنه عثر عليها في قمين، قبل إرسالها إلى ملك قبرص. تبدأ الرسالة: «أبي، الآن وصلت سفن العدو. إنهم يضرمون النار في مدني وأحاقوا الأذى بالبلد.» وفقا للتقرير الأصلي، عثر على الرسالة في قمين، مع أكثر من سبعين لوحا آخر، حيث وضعت من أجل أن يقسى اللوح المكتوب عليه بالحرارة. في البداية افترض المنقبون وباحثون آخرون أن سفن العدو كانت قد عادت ونهبت وخربت المدينة قبل أن يكون ممكنا إرسال طلب العون العاجل، وهذه هي القصة التي تكررت مرارا وتكرارا في الروايات الأكاديمية والعامة منذ العقود العديدة الماضية. ومع ذلك، تشير عملية إعادة فحص أجراها مؤخرا باحثون آخرون للموقع الذي عثر فيه على الرسالة إلى أنها لم يعثر عليها في قمين على أي حال، بل ربما كانت مخزنة في سلة سقطت من الطابق الثاني بعد أن هجر المبنى سكانه.
29
شكل 4-2: المواقع المدمرة في حوالي 1200ق.م.
نتيجة لذلك، على الرغم من أنه يمكن الاستعانة بالرسالة لمناقشة وجود سفن العدو وربما الغزاة، ليس واضحا إن كان تاريخها يرجع إلى الأيام الأخيرة لأوغاريت أو إلى فترة قبل ذلك بقليل. وحتى إن كانت تمثل إشارة إلى سفن شعوب البحر، فمن المحتمل أن تاريخها يرجع إلى الموجة الأولى للغزاة، أولئك الذين هاجموا مصر في عام 1207، وليس إلى الموجة الثانية التي قاتلت رمسيس الثالث في 1177ق.م.
دمر أيضا موقع إمار في الداخل السوري، الذي كانت أوغاريت على اتصال به، في نفس الوقت تقريبا، في عام 1185ق.م، كما نعرف من التاريخ المعطى على وثيقة قانونية عثر عليها هناك. ومع ذلك، ليس واضحا هوية المتسبب في تدمير إمار. تشير الألواح التي عثر عليها هناك إلى «حشود» غير مسماة ولكنها لا تشير تحديدا إلى شعوب البحر كما ذكر باحثون شتى.
30
دمر أيضا موقع رأس البسيط، الذي يقع على الحد الشمالي لأوغاريت، في نفس الوقت تقريبا. يعتقد المنقبون أنه كان موقعا أماميا تابعا لأوغاريت ويذكرون أنه بحلول عام 1200 تقريبا كان قد «أخلي جزئيا، وهجر جزئيا، ثم أضرمت فيه النيران، تماما مثل مواقع الإقليم الأخرى.» ويسندون هذا التدمير إلى شعوب البحر ولكن هذا الإسناد غير قاطع.
31
وصف وضع مماثل في موقع رأس ابن هاني، على الساحل جنوب أوغاريت مباشرة، والذي يعتقد أنه كان محل إقامة ثان لملوك أوغاريت أثناء القرن الثالث عشر. يتصور المنقبون وآخرون أن هذا الموقع أخلي قبل تدمير أوغاريت بوقت قصير ثم دمر على يد شعوب البحر. أعيد استيطان جزء على الأقل من الموقع على الفور، كما حدث في رأس البسيط، ويحدد المنقبون هوية المدمرين، والمستوطنين، لكلا الموقعين، استنادا إلى الأواني الفخارية التي عثر عليها في مستويات إعادة الاستيطان هذه، بأنهم شعوب البحر، وهو أمر سنوليه مزيدا من المناقشة أدناه.
32
ربما يكون أفضل الأدلة، وبالتأكيد أحدثها اكتشافا، على التدمير الواسع النطاق في هذا الوقت، قد عثر عليه في تل تويني، موقع بلدة ومرفأ جيبالا من العصر البرونزي المتأخر التي تدخل في نطاق مملكة أوغاريت، والواقعة على بعد حوالي ثلاثين كيلومترا جنوب مدينة اللاذقية المعاصرة. في هذه الحالة، هجر الموقع من سكانه بعد «دمار شديد» أحاق به في نهاية العصر البرونزي المتأخر. حسب المنقبين، إن «طبقة الدمار تحتوي على بقايا نزاعات (رءوس سهام برونزية مبعثرة في أنحاء البلدة، وجدران متهاوية، ومنازل محترقة) ورماد من اندلاع النيران في المنازل، وتجمعات محصورة جيدا من الخزف المجزأ جراء انهيار البلدة.»
33
بتحديد تاريخ طبقة الدمار هذه من خلال «أساليب علم آثار التراصف الطبقي المعتمد على الكربون المشع» و«نقاط ارتكاز في المصادر الأدبية القديمة المستمدة من النقوش، والملوك الحيثيين والشاميين والمصريين والملاحظات الفلكية»، يقول المنقبون إنهم تمكنوا أخيرا «من التحديد الدقيق لتاريخ غزو شعب البحر في شمال الشام»، و«تقديم أول تسلسل زمني محكم لهذه الحقبة الرئيسية في المجتمع الإنساني.»
34
أظهرت نتائج الفحوصات المعملية لتواريخ الكربون المشع لطبقة الرماد الواسعة الانتشار (المستوى 7إيه) أن تاريخها يرجع تحديدا إلى حوالي 1192 إلى 1190ق.م
35
ومع ذلك، ورغم أن هذه الفحوصات المعملية ربما تكون قد حددت جيدا تاريخ تدمير هذا الموقع الذي يعود إلى العصر البرونزي المتأخر، فإن المنقبين لم يقدموا سوى أدلة ظرفية على أن شعوب البحر هي التي أحاقت هذا الدمار، كما سنناقش أدناه.
ومن المهم أيضا الإشارة إلى أن هذا التاريخ (1192-1190ق.م) يأتي قبل ثلاثة عشر إلى خمسة عشر عاما كاملا من مجابهة رمسيس الثالث لشعوب البحر في المعارك في عام 1177ق.م وحتى عمليات التدمير في مواضع أخرى التي يرجع تاريخها إلى 1185ق.م لا تزال تسبق الصراع، الذي يمثل ذروة الأحداث، بثماني سنوات. ربما ينبغي علينا أن نتساءل عن مقدار الوقت الذي كانت ستستغرقه هذه المجموعة المهاجرة المقترحة لتشق طريقها عبر البحر المتوسط، أو حتى مجرد المسير على طول ساحل الشام إلى مصر. ومع ذلك فمن البديهي أن هذا سيعتمد على قدرتهم التنظيمية، ووسائل النقل، والأهداف النهائية، من بين جملة عوامل أخرى، ولا يمكن الإجابة عنه بسهولة.
أخيرا، ينبغي أيضا أن نفكر في موقع أبعد جهة الجنوب، وهو تل كزل، الذي كان يقع في إقليم عمورو، والذي ربما كان هو موقع سومر القديمة، عاصمة تلك المملكة. دمر الموقع في نهاية العصر البرونزي المتأخر وافترض المنقبون افتراضا معقولا مفاده أن شعوب البحر دمرته، وخاصة نظرا لأن رمسيس الثالث ذكره تحديدا (أعني عمورو) في نقوشه المتعلقة بشعوب البحر. ومع ذلك، ففي مستوى الشغل الذي يسبق مباشرة التدمير، تعرف المنقبون على ما يبدو أنه أوان فخارية ميسينية محلية الصنع وعلى دلائل أخرى على سكان جدد من منطقة إيجه وغرب المتوسط.
36
لذلك، افترض رينهارد جنج من جامعة فيينا، الذي أجرى دراسات على هذه الأواني الفخارية، أن «قبل الدمار الكبير الذي ألحقته شعوب البحر، وصلت مجموعات أصغر من الناس بالسفن إلى تل كزل واستقرت معا ضمن السكان المحليين.» ويرى هذا على أنه نمط للهجرة على نطاق صغير من منطقة إيجه، ولكن مع وجود مؤشرات على أن بعض الناس الذين كانوا منخرطين في الأمر كان لهم جذور أسبق في جنوب إيطاليا القارية.
37
إذا صح ذلك، فإنه مؤشر على مدى تعقيد الحقبة والناس الذين يحتمل مشاركتهم فيها، لدرجة أن عمليات التدمير التي سببتها الموجة الثانية من شعوب البحر، حوالي 1177ق.م، ربما تكون قد أثرت على المهاجرين السابقين من نفس الأصول الذين كانوا بالفعل قد وصلوا واستقروا في شرق المتوسط، ربما أثناء أو بعد غارات شعوب البحر الأصليين في العام الخامس لحكم مرنبتاح، التي كانت في عام 1207ق.م. (4) عمليات التدمير في جنوب سوريا/كنعان
أثناء نفس الفترة، في القرن الثاني عشر قبل الميلاد، دمر عدد من المدن والبلدات في جنوب سوريا وكنعان. ومثلما هو الحال في شمال سوريا، من غير الواضح هوية الذين دمروها ولا توقيت ذلك تحديدا، على الرغم من أنه عثر، في مستوى الدمار في موقع دير علا الصغير في الأردن، على إناء عليه خرطوشة الملكة المصرية توسرت. كانت هذه الملكة أرملة الفرعون سيتي الثاني ومن المعروف أنها حكمت من عام 1187 إلى عام 1185ق.م؛ لذلك يمكن تحديد تاريخ التدمير احتمالا بأنه بعد هذا الوقت بقليل. وينطبق الشيء نفسه في حالة موقع عكا، فيما يعرف حاليا بإسرائيل المعاصرة، حيث عثر على جعران مماثل لتوسرت في الأنقاض الناجمة عن التدمير.
38
ويمكن رؤية دليل آخر على التدمير في موقع بيت شان، حيث كشفت أعمال التنقيب التي قام بها يجائيل يادين عن نهاية عنيفة للوجود المصري في الموقع.
39
ربما يكون أفضل موقعين وسط المواقع في هذه المنطقة التي تضم أدلة على التدمير هما موقعا مجدو ولاخيش. ومع ذلك، فإن طبيعة وتوقيت الانهيار في هذا الإقليم ما زالا محل كثير من النقاشات. يبدو أن المدينتين قد دمرتا بعد عقود عديدة تتجاوز ما يمكن أن يكون متوقعا من تواريخ تدمير المواقع التي سبق مناقشتها، لأنه يبدو أن مجدو ولاخيش قد دمرتا حوالي 1130ق.م وليس في 1177ق.م.
40 (4-1) مجدو
في مجدو في وادي يزرعيل في إسرائيل الحالية، موقع هرمجدون التوراتية، عثر على نحو عشرين مدينة في طبقات واحدة فوق الأخرى. من بين هذه المدن، كان يوجد مدينة، هي المدينة السابعة، التي لها مرحلتان تسميان المرحلة 7بي والمرحلة 7إيه، دمرت تدميرا عنيفا في القرن الثالث عشر والثاني عشر قبل الميلاد، على الترتيب، أو ربما في عملية تدمير واحدة في القرن الثاني عشر.
ومنذ نشر منقبو جامعة شيكاجو نتائج عمليات التنقيب التي قاموا بها في الموقع أثناء الأعوام من 1925 وحتى 1939، أصبح مقبولا على نحو تقليدي أن الطبقة 7بي انتهت في وقت ما بين عامي 1250 و1200ق.م، بينما انتهت المدينة التالية الموجودة في الطبقة 7إيه في وقت ما حوالي عام 1130ق.م عثر في هاتين الطبقتين على بقايا قصر كنعاني، أو ربما على بقايا قصرين، بني أحدهما على أنقاض الآخر.
حسبما أورد منقبو جامعة شيكاجو، إن قصر الطبقة 7بي «تعرض لتدمير عنيف كان واسع النطاق لدرجة أن بناة الطبقة 7إيه ارتأوا أن من الأنسب تسوية الحطام الناتج والبناء عليه بدلا من إزالته كله كما كان الإجراء المتبع في مهام إعادة البناء السابقة.» أما الغرف «فامتلأت بحجارة ساقطة حتى ارتفاع متر ونصف تقريبا ... عثر هنا وهناك على خطوط أفقية متفحمة على جدران الغرف الكائنة شمال البلاط ... تشغل مستوى أرضيا عاما في كافة أنحاء القصر.»
41
لذلك كان يعتقد أن قصر الطبقة 7إيه، الذي بني فوقه مباشرة، ظل باقيا حتى نحو 1130ق.م.
ومع ذلك، فمؤخرا اقترح ديفيد أوسيشكين، عالم آثار من جامعة تل أبيب والمدير المشارك حديث التقاعد لبعثة مجدو، اقتراحا مقنعا مفاده أن منقبي جامعة شيكاجو أخطئوا في تأويل المستويات. ويعتقد أنه ينبغي أن نفهم هذا الهيكل على أنه قصر واحد ذو طابقين، أجريت فيه تجديدات طفيفة أثناء الانتقال من الطبقة 7بي إلى الطبقة 7إيه، حوالي 1200ق.م، وليس قصرين، أحدهما فوق الآخر. ويقول إنه حدث تدمير واحد؛ حريق هائل دمر القصر في نهاية الطبقة 7إيه. وحسبما يقول أوسيشكين، فإن ما اعتقد علماء آثار جامعة شيكاجو أنه «قصر الطبقة 7بي» كان ببساطة قبو القصر أو طابقه السفلي، في حين كان «قصر الطبقة 7إيه» هو الطابق العلوي. دمر معبد المدينة الرئيسي (الذي يطلق عليه معبد البرج) هو الآخر في هذا الوقت، ولكن معظم أعمال التنقيب الأخيرة في الموقع تشير إلى أن جانبا كبيرا من بقية المدينة نجا من التدمير؛ إذ يبدو أن مناطق الصفوة وحدها هي التي أضرمت فيها النيران في هذا الوقت.
42
عادة ما يحدد تاريخ تدمير الطبقة 7إيه هذه بأنه حوالي 1130ق.م، استنادا إلى غرضين منقوش عليهما خرطوشتان مصريتان عثر عليهما في الأنقاض. الأول هو حافظة أقلام من العاج منقوش عليها اسم رمسيس الثالث، والتي عثر عليها وسط كنوز أخرى من العاج بداخل غرفة في القصر، في سياق مغلق بإحكام بأنقاض تدمير القصر.
43
قد يدل هذا على أن التدمير قد حدث في وقت ما خلال أو بعد زمن رمسيس الثالث، في حوالي 1177ق.م أو بعد ذلك.
تعد قطع العاج التي عثر عليها في هذه الغرفة بداخل القصر من بين أفضل الأغراض المعروفة المنتشلة من موقع مجدو. وتشتمل على صناديق وصحون متكسرة، ولويحات، وملاعق، وأقراص، وطاولات لعب وقطع لعب، وأغطية جرار، وأمشاط، من ضمن العديد من الأغراض الأخرى. وهي معروضة في معهد الدراسات الشرقية في جامعة شيكاجو ومتحف روكفلر في القدس. ليس واضحا سبب جمع هذه القطع العاجية معا في الأصل، وسبب وجودها في هذا القسم تحديدا من القصر. ومع ذلك، فقد نالت قدرا عظيما من الاهتمام على مر السنين؛ لأن الأغراض العاجية نفسها والمشاهد المنقوشة عليها تظهر نمط عولمة حقا، وهو النمط الذي يطلق عليه الآن عادة اسم النمط العالمي، والذي نراه في أماكن أخرى في مواقع مثل أوغاريت وميسيناي. يجمع النمط المميز عناصر موجودة في الثقافات الميسينية، والكنعانية، والمصرية، مشكلا بذلك أغراضا هجينة يتفرد بها هذا العصر العالمي الطابع وتمثله.
44
الغرض الثاني ذو الصلة من مجدو هو قاعدة تمثال برونزية منقوش عليها اسم الفرعون رمسيس السادس، الذي حكم بعد بضعة عقود، من حوالي 1141 إلى 1133ق.م لم يعثر على هذه القاعدة في سياق أثري آمن، وإنما عثر عليها تحت جدار في الطبقة 7بي في المنطقة السكنية في الموقع. وحسب ملاحظة أوسيشكين، هذا ليس سياقا موثوقا، لأن الطبقة 7بي كانت أسبق بكثير زمنيا من رمسيس السادس. وهذا يعني أنه لا بد وأن قاعدة التمثال دفنت عمدا في حفرة حفرها أحد السكان اللاحقين، إما أثناء فترة الطبقة 7إيه أو حتى أثناء فترة مدينة الطبقة 6بي-إيه التالية التي تعود إلى العصر الحديدي. عادة ما ينسب الأثريون قاعدة التمثال إلى الطبقة 7إيه، ولكن هذا محض تخمين.
45
شكل 4-3: حافظة أقلام رمسيس الثالث العاجية من مجدو (نقلا عن لاود 1939، اللوح رقم 62؛ بإذن من معهد الدراسات الشرقية التابع لجامعة شيكاجو).
دائما ما يكون هذان الغرضان، اللذان يخصان رمسيس الثالث والسادس، محل مناقشة معا في المنشورات ذات الصلة؛ ومن ثم فإن تاريخ تدمير مجدو الطبقة 7إيه يحدد بأنه بعد حكم رمسيس السادس، أو حوالي 1130ق.م ومع ذلك، لا ينبغي استخدام قاعدة تمثال رمسيس السادس البرونزية لتحديد تاريخ نهاية مجدو الطبقة 7إيه، حيث إنها ليست في حالة جيدة. وعلى الجانب الآخر، كانت حافظة الأقلام العاجية الخاصة برمسيس الثالث مغلقة بإحكام داخل طبقة التدمير 7إيه ولذلك يمكن استخدامها باطمئنان لتقديم تاريخ محدد لا يمكن قبله أن تكون المدينة قد دمرت، أي الفترة التي تسبق فترة حكم هذا الفرعون. من شأن هذا أن يتفق بالفعل بشكل جيد مع أدلة التدمير في المواقع العديدة الأخرى في كافة أنحاء الشرق الأدنى التي نوقشت في هذه الصفحات.
ومع ذلك، فإن علم الآثار هو مجال في حالة تطور متواصل؛ إذ تتطلب البيانات الجديدة والتحليلات الجديدة إعادة النظر في المفاهيم القديمة. وفي هذا الصدد، تشير حاليا الدراسات الجارية المتعلقة بالتأريخ بالكربون المشع للبقايا المكتشفة ضمن دمار الطبقة 7إيه إلى أن تاريخ 1130ق.م، أو ربما حتى تاريخ لاحق له، من المرجح أن يكون صحيحا في نهاية الأمر. إذا ثبتت دقة هذا، فإن من شأنه أن يعني أن مجدو دمرت بعد أكثر من أربعين عاما من اجتياز شعب البحر للإقليم في عام 1177ق.م
46
على أي حال، كما يشير أوسيشكين: «الافتقار إلى المصادر المكتوبة يترك الأسئلة المتعلقة بهوية المسئول عن دمار الطبقة 7إيه [بلا إجابة] ... قد تكون المدينة قد تعرضت للهجوم بنجاح على يد مجموعات شعب البحر الغازية، أو على يد عناصر كنعانية شامية، أو على يد بني إسرائيل، أو على يد قوة مشتركة من مجموعات مختلفة.»
47
بعبارة أخرى، في مجدو، لدينا نفس الوضع الذي رأيناه في المستوى ذي الصلة في حاصور، حسبما هو مبين أعلاه، حيث دمرت الأجزاء الخاصة بالصفوة في المدينة، ولكن لا يمكن تحديد هوية أولئك المسئولين عن الدمار. (4-2) لاخيش
تعرضت لاخيش، وهي موقع آخر في إسرائيل الحالية، هي الأخرى لعمليتي تدمير أثناء هذه الفترة الزمنية التقريبية، إن كان ديفيد أوسيشكين، الذي قام بالتنقيب في الموقع من 1973 إلى 1994، مصيبا.
48
في هذه الحالة، وفي هذا الموقع المتعدد الطبقات الواقع جنوب القدس، تعرف المدينتان السابعة والسادسة (الطبقتان 7 و6) بأنهما آخر المدن الكنعانية، استنادا إلى البقايا المادية التي عثر عليها أثناء عمليات التنقيب. هذه الفترة كانت فترة ازدهار كبير لمدينة لاخيش، أثناء فترة السيطرة المصرية على الإقليم. كانت واحدة من أكبر المدن في كنعان بأسرها في ذلك الوقت، مع وجود نحو ستة آلاف نسمة يعيشون في أراضيها، ومعابد ضخمة ومبان عامة داخل المدينة نفسها.
49
يعتقد أن مدينة الطبقة 7 قد دمرتها النيران في حوالي 1200ق.م، ولكن المنقبين لم يتكهنوا بشأن طبيعة الدمار ولا هوية من يحتمل أن يكون مسئولا عنه. يرجع السبب في ذلك، جزئيا، إلى أنه ليس من الواضح مقدار ما دمر فعلا من المدينة. حتى الآن، لم يعثر على أدلة على دمار بالنار إلا في بقايا معبد واحد (الذي يطلق عليه اسم معبد فوس الثالث) وفي الجهة الداخلية في المنطقة إس.
50
يمكن تصور أن الدمار ربما يكون قد تسببت فيه أول موجة من شعوب البحر، الذين غزوا الإقليم في 1207ق.م تقريبا، ولكن لا يوجد دليل على إسناد كهذا.
ما برحت مدينة الطبقة 6 أن تكون محور تركيز الاهتمام البحثي حتى تاريخه. يبدو أن الناجين من حريق الطبقة 7 أعادوا ببساطة بناء كل المدينة أو جزء منها وواصلوا نفس الثقافة المادية التي كانت موجودة سابقا. يعتقد أن مدينة الطبقة 6 كانت مدينة أغنى وأكثر ازدهارا من المدينة التي كانت قد دمرت؛ إذ كانت تضم مبنى عاما ضخما (المبنى ذا الأعمدة) مبنيا في المنطقة إس حيث كانت المباني الداخلية قائمة في السابق. وبني أيضا معبد جديد، في المنطقة بي، ولكن لم يبق منه إلا نذر يسير بسبب الدمار الذي أحاق به بعد ذلك. عثر على أغراض، أوان فخارية في معظمها، واردة من مصر، وقبرص، ومنطقة إيجه، في أنحاء المدينة في هذا المستوى، مما يشهد على علاقاتها الدولية.
51
يعتقد أنه كان ثمة تدفق من اللاجئين الفقراء إلى مدينة الطبقة 6 قبيل تدمير أجزاء كبيرة منها تدميرا عنيفا.
52
أحد المباني تحديدا، وهو المبنى ذو الأعمدة في المنطقة إس، «دمر تدميرا فجائيا وعنيفا؛ إذ غطت طبقات من الرماد والطوب اللبن المتهاوي هيكل البناء بأكمله، وعثر على العديد من الهياكل العظمية لبالغين، وأطفال ورضع محصورة تحت الجدار المنهار.»
53
دمرت أيضا مبان أخرى في لاخيش في هذا الوقت، ثم جاء في أعقابها فترة، صارت فيها المدينة مهجورة، دامت مدة تصل إلى ثلاثمائة سنة.
54
وحسب أوسيشكين: «سويت مدينة المستوى 6 بالأرض في عملية تدمير عنيفة بالنيران، رصد أثرها في كل موقع عثر فيه على بقايا للمستوى 6 ... كان التدمير كاملا، وتعرض السكان للتصفية أو أخرجوا.»
55
اعتقد أثريون سابقون أن المدينة قد دمرت في أواخر القرن الثالث عشر ق.م، حوالي 1230ق.م (واستتبع ذلك اعتقادهم بأن تخريب مدينة الطبقة 7 قد حدث في وقت أسبق)
56
ولكن تاريخ تدمير الطبقة 6 قد تغير حاليا تغييرا كبيرا على يد أوسيشكين، استنادا في الأساس على اكتشاف لويحة من البرونز، يحتمل أنها كانت جزءا من مزلاج باب، عليها خرطوشة رمسيس الثالث. هذه اللويحة كانت جزءا من مخبأ لأغراض برونزية مكسورة أو معيبة كانت مطمورة ومغلقا عليها بإحكام تحت حطام تدمير مدينة الطبقة 6.
57
كما في حالة حافظة أقلام رمسيس الثالث في مجدو، يدل سياق الكشف لهذا الغرض في لاخيش على أن تدمير المدينة لا بد أن يكون قد وقع أثناء أو بعد عهد رمسيس الثالث؛ لذلك في البداية حدد أوسيشكين تاريخ التدمير بأنه حوالي 1150ق.م، استنادا إلى حقيقة أنه لا يمكن أن تكون اللويحة البرونزية قد صنعت قبل اعتلاء رمسيس الثالث للعرش في 1184ق.م، واعتقاده بأن المرء يجب أن يتيح وقتا كافيا «لأن تستخدم، ثم تكسر وأخيرا يتخلص منها وتوضع جانبا في هذا المخبأ الذي ضم الأغراض البرونزية المعيبة أو المكسورة.»
58
بعد ذلك عدل التاريخ إلى 1130ق.م، استنادا إلى العثور على جعران لرمسيس الرابع في الموقع، ربما في هذا المستوى، على يد منقبين بريطانيين سابقين، وعند المقارنة مع مجدو الطبقة 7، دفع بأنه إذا كانت مجدو قد بقيت طوال ذلك الوقت، إذن ربما كان الحال كذلك بالنسبة للاخيش.
59
أورد باحث آخر مؤخرا ملاحظة مفادها أنه يحتمل وجود جعران آخر لرمسيس الرابع في المقبرة 570 في لاخيش ، ولكنه شدد على أن القراءة الواردة على كلا الجعرانين في الواقع ليست مؤكدة، وأن التصوير الطبقي لموقع الكشف للجعران الأول ليس واضحا تماما.
60
لذلك، مرة أخرى، مثلما في حالة المواقع الأخرى التي اطلعنا عليها، ليس واضحا على الإطلاق هوية، أو ماهية، المتسبب في التدمير، أو حتى تاريخ حدوثه في لاخيش؛ فكل ما يمكننا بالفعل قوله بكل ثقة أنه حدث أثناء أو بعد حكم رمسيس الثالث. حسبما يصرح أوسيشكين: «تشير الأدلة إلى تخريب المستوى 6 على يد عدو قوي وشديد العزم، ولكن البيانات الأثرية لا تقدم دليلا مباشرا فيما يتعلق بطبيعة وهوية ذلك العدو ولا فيما يتعلق بالملابسات المباشرة المحيطة بسقوط المدينة.»
61
وينوه إلى أن الباحثين السابقين اقترحوا ثلاثة مرشحين هم: الجيش المصري، وأسباط بني إسرائيل، وشعوب البحر الغزاة، ولكنه ينوه أيضا إلى أنه «لم يكشف عن أي بقايا لمعركة، باستثناء رأس سهم برونزي واحد ... كشف عنه في المبنى ذي الأعمدة في المنطقة إس.»
62
من غير المرجح أن يكون المصريون هم المتسببون في التدمير؛ لأن لاخيش كانت مزدهرة أثناء فترة سيطرتهم وكانت تجري تداولا تجاريا نشطا معهم، كما تبين من العديد من الأغراض المنقوش عليها خراطيش ملكية والتي عثر عليها في الأنقاض. لا يزال من المحتمل أن يكون بنو إسرائيل تحت قيادة يوشع هم المتسببون في التدمير، كما اعتقد ويليام إف أولبريت من جامعة جونز هوبكنز، غير أن ذلك كان عندما كان يعتقد أن تاريخ التدمير يعود إلى نحو عام 1230ق.م.
63
غير أن أوسيشكين يعتبر أن شعوب البحر هم الفاعلون المسئولون على الأرجح عن الدمار فيما يتعلق بمدينة الطبقة 6. وهو يحذو في هذا حذو أولجا توفنل، التي كانت منقبة سابقة لمدينة لاخيش.
64
إلا أنه لا يقدم دليلا على أن شعوب البحر كانوا بالفعل هم المسئولون؛ فنحن ببساطة نرى النتيجة النهائية للتدمير، دون إشارة إلى من تسبب فيه. علاوة على ذلك، فإن تاريخ 1130ق.م يبدو متأخرا للغاية فيما يتعلق بشعوب البحر، بأربعة عقود تقريبا، تماما كما هي الحال مع تدمير مجدو . ينبغي أن ننوه إلى أن أوسيشكين قد يكون غير مصيب في ربط تدمير لاخيش بتدمير مجدو ووضعه في هذا التاريخ المتأخر؛ فليس ثمة سبب وجيه يدعو إلى الربط بين الاثنين، وبذلك قد يكون التاريخ الذي اقترحه في الأصل وهو حوالي 1150ق.م (أو ربما حتى قبل ذلك، إذا لم يكن مزلاج رمسيس الثالث البرونزي قد استخدم لوقت طويل) هو الذي ينبغي تبنيه بدلا من ذلك.
من المحتمل أيضا أن يكون زلزال هائل هو الذي تسبب في تدمير مدينة الطبقة 6. عثر على جثث الأشخاص الأربع الذين قتلوا في المبنى ذي الأعمدة «على ما يبدو محاصرة ومسحوقة تحت الركام الساقط بينما كانوا يحاولون الهروب منه.» كان طفل، في الثانية أو الثالثة من عمره «قد ألقي من عل على وجهه أو مات وهو يزحف على الأرض»، بينما كان رضيع «قد ألقي به أو سقط على الأرض.»
65
هذه الملاحظات، مقترنة بحقيقة أنه لم يعثر على أي أسلحة في الركام، تشير إلى مسئولية الطبيعة وليس البشر، مثلما ربما كان الأمر في مواقع أخرى قرب نهاية العصر البرونزي المتأخر.
66
يعارض هذه الفرضية حقيقة أن المنقبين لم يعثروا على دليل آخر على حدوث زلزال، كجدران متصدعة أو مائلة. علاوة على ذلك، يبدو أن المعبد الكنعاني الجديد الذي بني في المنطقة بي قد تعرض للسلب والنهب قبل تدميره بالنيران، مما قد يبدو أنه يشير إلى تدخل بشري.
67
مجمل القول أنه، كما في حالة حاصور ومجدو، ليس واضحا هوية من دمر مدينة الطبقة 6 ولا مدينة الطبقة 7 الأقدم للاخيش. فشعوب البحر يمكن أن تكون هي التي خربت كلتا المدينتين، ويمكن ألا يكون الأمر كذلك، ويمكن أن تكونا قد خربتا على يد أحد، أو شيء، آخر مختلف تماما. وكما قال جيمس وينشتاين من جامعة كورنيل: «بينما يمكن لشعوب البحر أن تكون هي المسئولة عن إنهاء المعاقل العسكرية المصرية في جنوب وغرب فلسطين، علينا أن نسمح باحتمال أن تكون مجموعات أخرى غير شعوب البحر هي المسئولة عن دمار المواقع الموجودة في مناطق أخرى من البلاد.»
68 (4-3) مدن الفلستيين الخمس
مما يتسم بأهمية خاصة المواقع الكائنة في جنوب كنعان، بما في ذلك تلك التي اعتبر في الكتاب المقدس وفي مواضع أخرى أنها تنتمي إلى ما يطلق عليه مدن الفلستيين الخمس، وهي المواقع الفلستية الخمس الرئيسية: أشقلون (عسقلان)، وأشدود، وعقرون، وجت، وغزة.
في نهاية العصر البرونزي المتأخر، دمرت المدينتان الكنعانيتان الأقدم في عقرون وأشدود تدميرا عنيفا واستبدل بهما مستوطنات جديدة حدث فيها تغير شبه كامل في الثقافة المادية، بما في ذلك الأعمال الفخارية، والمواقد، وأحواض الاستحمام، وأدوات المطبخ، والعمارة. يبدو أن هذا يشير إما إلى تغير في السكان وإما إلى تدفق كبير لأناس جدد - ربما كانوا الفلستيين - في أعقاب انهيار كنعان وانسحاب القوات المصرية من المنطقة.
69
تصف ترود دوثان، الأستاذة الفخرية في الجامعة العبرية في القدس والمديرة المشاركة السابقة لعمليات التنقيب في عقرون، التي تقع عند منطقة تل مقنع المعاصرة، نهاية مدينة العصر البرونزي المتأخر في عقرون كما يلي: «في الحقل الأول، المدينة العلوية أو الأكروبوليس، يمكننا أن نتتبع التدمير الكامل لمدينة العصر البرونزي المتأخر الكنعانية بالنيران. هنا التدمير جلي؛ فبقايا مبنى تخزين ضخم من الطوب اللبن، وآثار للتين والعدس في جرار التخزين، وصومعة كبيرة محفوظة حفظا جيدا، مدفونة تحت الطوب اللبن المنهار ... تقبع المدينة الفلستية الجديدة مستوية فوق أنقاض مستوطنة العصر البرونزي المتأخر في المدينة العلوية وعلى الحقول المفتوحة لمدينة العصر البرونزي الأوسط السفلية.»
70
ويبدو أن وضعا مماثلا قد نشأ في أشقلون، حيث وثقت عمليات تنقيب جرت مؤخرا تحول المستوطنة من معقل عسكري مصري إلى ميناء بحري فلستي في وقت ما خلال النصف الأول من القرن الثاني عشر قبل الميلاد؛ ربما بعد حكم رمسيس الثالث مباشرة، حسبما يستشف من الجعارين العديدة، المنقوش عليها خرطوشته، التي عثر عليها. غير أنه يبدو أن التحول في أشقلون كان سلميا، على الأقل بقدر ما يمكن للمرء أن يتبين من المساحة المحدودة التي كشفت حتى تاريخه. وصف المنقبون «الظهور المفاجئ لأنماط ثقافية جديدة تظهر في العمارة، والخزفيات، ونوعية الغذاء ، والصناعات اليدوية، وتحديدا النسيج.» إنهم يربطون هذه التغييرات بشعوب البحر، وتحديدا الفلستيين، ويصفونها بأنها نتيجة هجرات من العالم الميسيني.
71
ومع ذلك، فربما كان فهمنا لهذا الوضع في كنعان في نهاية العصر البرونزي المتأخر لا يزال آخذا في التطور. على الرغم من أن المقال الكلاسيكي المنشور عام 1995 عن مجيء الفلستيين إلى كنعان، الذي كتبه لاري ستاجر من جامعة هارفرد، يصف الفلستيين بأنهم «يدمرون مدن السكان الأصليين وينقلون نمط حياتهم إلى كافة أنحائها.»
72
فإن عساف ياسور-لانداو من جامعة حيفا اتخذ مؤخرا موقفا معارضا لهذه الصورة التقليدية، كما سنرى أدناه. (5) عمليات التدمير في بلاد الرافدين
حتى شرقا في بلاد الرافدين، يمكن رؤية أدلة على التدمير في مواقع متعددة تشمل بابل، ولكن من الواضح أن المتسبب في ذلك قوى أخرى غير شعوب البحر. نعرف تحديدا أن الجيش العيلامي، الذي زحف مجددا من جنوب غرب إيران، هذه المرة تحت قيادة ملكهم شوتروك ناخونته، تسبب على الأقل في بعض من هذا الخراب.
كان شوتروك ناخونته قد وصل إلى العرش العيلامي في 1190ق.م وحكم حتى 1155ق.م على الرغم من أنه يبدو أن عيلام (كشأن الممالك الأخرى في الإقليم) كانت ذات دور هامشي إلى حد ما على الساحة العالمية خلال معظم العصر البرونزي المتأخر، فإنها كانت على صلة ببعض الممالك الكبرى عن طريق الزواج. تزوج شوتروك ناخونته من ابنة ملك كيشي بابلي، تماما مثلما فعل كثيرون من أسلافه؛ إذ كان أحدهم قد تزوج من ابنة كوريجالزو الأول في القرن الرابع عشر قبل الميلاد؛ وتزوج آخر أخت كوريجالزو؛ وتزوج ثالث ابنة بورنا بورياش في وقت لاحق من نفس القرن. كانت أم شوتروك ناخونته نفسه أميرة كيشية، كما يطلعنا في رسالة كتبها إلى البلاط الكيشي، وكما اكتشف المنقبون الألمان في بابل.
73
في هذه الرسالة، يشتكي من أنه جرى تخطيه فيما يتعلق بتولي العرش البابلي، رغم كونه مؤهلا تماما للمنصب، بما في ذلك بحكم الولادة. ويتضح استياؤه جليا إذ يكتب: «لماذا لا أجلس على عرش بلاد بابل، وأنا ملك، ابن ملك، حفيد ملك، سليل ملك، وملك (؟) بلاد بابل وبلاد [عيلام]، وحفيد الابنة الكبرى للملك العظيم كوريجالزو العظيم؟» ثم يهدد بالانتقام، قائلا: «سأدمر مدنكم، وأحطم حصونكم، وأوقف قنوات [ريكم]، وأهلك بساتينكم»، ويضيف: «يمكنكم أن تصعدوا إلى السماء، [ولكنني سأسحبكم إلى الأسفل] من أهداب ثيابكم، ويمكنكم أن تهبطوا إلى الجحيم، [ولكنني سأسحبكم إلى أعلى] من شعركم!»
74
وقد وفى بتهديداته في 1158ق.م، فغزا بابل، واستولى على المدينة وأطاح بالملك الكيشي، ثم وضع ابنه على العرش. وأكثر ما يشتهر به أنه جلب أيضا إلى مدينة سوسة (شوشان) عاصمة عيلام كميات هائلة من الغنائم من بابل، تشمل نصبا من حجر الدايورايت، يصل طوله إلى ثماني أقدام تقريبا، منقوش عليه شريعة حمورابي، بالإضافة إلى نصب نصر تذكاري يخص الملك الأكادي الأسبق نارام سين، وأغراض عديدة أخرى. اكتشفت هذه الأغراض لاحقا في عام 1901 أثناء عمليات التنقيب الفرنسية في سوسة وأرسلت إلى باريس، حيث هي معروضة حاليا، في متحف اللوفر.
75
كان الدافع وراء حملة شوتروك ناخونته هو على ما يبدو رغبته في مملكة وبلاد بابل، وربما يكون قد أحسن استغلال الاضطرابات التي كانت جارية في منطقة شرق المتوسط في هذا الوقت. ومن المحتمل جدا أنه عرف أنه لم يكن ثمة أحد تقريبا يمكن أن يلجأ إليه الملك الكيشي طلبا للمساعدة . ومن المرجح جدا أن الحملات التالية التي اضطلع بها ابن شوتروك ناخونته وحفيده في بلاد الرافدين قد تأثرت هي الأخرى بحقيقة أن القوى العظمى في القرون السابقة إما لم تعد موجودة وإما صارت أضعف كثيرا. ومع ذلك، فمن الواضح أنه لا يمكن أن ينسب أي من عمليات التدمير، المرتبطة بهذه الأنشطة العسكرية، إلى شعوب البحر. (6) عمليات التدمير في الأناضول
دمر أيضا عدد من المدن في الأناضول في هذا الوقت. ومع ذلك، مجددا، يصعب الجزم بالسبب في كل حالة؛ ومجددا نسب تقليديا الدمار الذي لحق بهذه المدن إلى شعوب البحر استنادا إلى أدلة لا تذكر أو بلا أدلة. في بعض الحالات، تبطل حاليا أعمال التنقيب الإضافية التي يجريها منقبون لاحقون هذه الإسنادات والافتراضات. على سبيل المثال، في موقع تل عطشانة، ألالاخ القديمة، الذي يقع بالقرب من الحدود التركية السورية الحالية، اعتقد السير ليونارد وولي أن مدينة المستوى 1 دمرت على يد شعوب البحر في عام 1190ق.م غير أن معظم عمليات التنقيب الحديثة العهد، التي قامت بها أصليهان ينير من جامعة شيكاجو، أعادت تحديد تاريخ هذا المستوى إلى القرن الرابع عشر قبل الميلاد وتشير إلى أن سكان المدينة قد هجروا معظمها بحلول عام 1300ق.م، قبل غارات شعوب البحر المحتملة بوقت طويل.
76
من أشهر تلك المواقع الأناضولية التي لحق بها الدمار بعد عام 1200ق.م، حاتوسا، عاصمة الحيثيين على الهضبة الداخلية، وطروادة على الساحل الغربي. إلا أنه من المؤكد، في الحالتين، بما لا يدع مجالا للشك أن التدمير لم يكن من صنيع شعوب البحر. (6-1) حاتوسا
من الواضح أن العاصمة الحيثية حاتوسا دمرت وهجرت بعد وقت قليل من بداية القرن الثاني عشر قبل الميلاد. عثر المنقبون على «رماد، وخشب متفحم، وطوب لبن، وخبث تشكل عندما ذاب الطوب اللبن بسبب الحرارة الشديدة للحريق.»
77
ومع ذلك، ليس واضحا على الإطلاق هوية من دمر المدينة. على الرغم من أن الباحثين والمؤلفين الذين يكتبون لغير المتخصصين غالبا ما يلقون باللائمة على شعوب البحر، استنادا إلى حد كبير على عبارة رمسيس الثالث «لم يستطع أي بلد أن يصمد في مواجهة جيوشهم، بدءا من خاتي ...» فإننا في الواقع لا نعرف إن كانت «خاتي» في هذه الحالة كان يقصد بها الإشارة إلى الحيثيين عموما أم إلى حاتوسا تحديدا.
78
أيضا ليس واضحا بدقة توقيت سقوط حاتوسا، وخاصة أنه يبدو حاليا أنها قد هوجمت في وقت ما خلال حكم توداليا الرابع، ربما على يد قوى موالية لابن عمه كورونتا، الذي ربما يكون قد حاول أن يغتصب العرش.
79
وكما أشار العالم البارز، من جامعة شيكاجو، المتخصص في الحضارة الحيثية، هاري هوفنر الابن، عادة ما يستند الزمن الذي لا بد أن يكون آخر تدمير قد حدث قبله (أي التاريخ الذي لا بد أن يكون هذا قد حدث قبله) على العبارة التي أدلى بها رمسيس الثالث في عام 1177ق.م، وهو ما من شأنه على الأرجح أن يجعل تاريخ التدمير في وقت سابق على ذلك، ربما من 1190 إلى 1180ق.م تقريبا. ومع ذلك، لا نعرف يقينا إلى أي حد كانت عبارة رمسيس الثالث دقيقة.
80
بحلول ثمانينيات القرن العشرين، كان العلماء المتخصصون في الحضارة الحيثية وغيرهم من الباحثين جادين في القول بأن عدوا أقدم وأشهر، ألا وهو، قبائل الكاشكا، التي كانت موجودة جهة الشمال الشرقي للأراضي الحيثية، كان مسئولا بدلا من ذلك عن تدمير المدينة. يعتقد أن هذه المجموعة نهبت وخربت المدينة قبل ذلك، في وقت يسبق مباشرة معركة قادش في أوائل القرن الثالث عشر قبل الميلاد، عندما هجر الحيثيون حاتوسا مؤقتا ونقلوا عاصمتهم بكاملها جنوبا لعدد من السنوات، إلى إقليم يعرف باسم تارهونتاسا.
81
هذا أكثر منطقية؛ لأنه كما كتب جيمس مولي من جامعة بنسلفانيا يوما: «كان من الصعب دوما تفسير كيف دمر غزاة البحر [أي شعوب البحر] التحصينات الضخمة ... لحاتوسا، التي تقع على بعد مئات الأميال من البحر فيما يبدو في يومنا هذا جزءا معزولا نوعا ما من الهضبة المرتفعة لوسط الأناضول.»
82
تشير الأدلة الأثرية إلى أن أجزاء من حاتوسا دمرت بفعل نيران شديدة، أتت على أجزاء من كل من المدينتين العليا والسفلى، بالإضافة إلى مقر الملك والحصون. ومع ذلك، فقد أصبح من الواضح الآن أن المباني العامة وحدها هي التي دمرت، بما في ذلك القصر وبعض المعابد، وبعض من بوابات المدينة. كانت هذه المباني قد أخليت، ولم تنهب، قبل أن تضرم فيها النيران، بينما لا يظهر على الأحياء الداخلية في كل من المدينتين العليا والسفلى أي آثار لدمار على الإطلاق.
83
اقترح مدير عمليات تنقيب حديث العهد، هو يورجن سيهر، أن المدينة لم تهاجم إلا بعد أن هجرت لبعض الوقت، حتى إن أفراد العائلة المالكة كانوا قد أخذوا كل ممتلكاتهم وانتقلوا إلى مكان آخر قبل التدمير الأخير بوقت طويل. إن كان الأمر كذلك، فإن احتمال أن يكون الكاشكا، أعداء الحيثيين منذ زمن بعيد، هم المسئولون عن التدمير الفعلي أكبر من احتمال أن تكون شعوب البحر المسئولة عن ذلك، رغم أنه من المحتمل أن ذلك لم يحدث إلا بعد أن أضعفت الإمبراطورية الحيثية بشدة من خلال عوامل أخرى؛ كالجفاف، والمجاعة، وقطع خطوط التجارة الدولية.
84
يمكن إعطاء نفس التفسير المحتمل للتخريب الواضح للعيان في ثلاثة مواقع معروفة أخرى في وسط الأناضول على قرب معقول من حاتوسا؛ وهي: ألاجا هويوك، وأليشار، وماسات هويوك. لقد دمرت كلها بفعل النيران في نفس هذا الوقت تقريبا، رغم أنه ليس واضحا ما إذا كان الكاشكا، أو شعوب البحر، أو أحد آخر مختلف تماما، مسئولا عن ذلك. دمرت أيضا مدينتا مرسين وطرسوس، في جنوب شرق الأناضول، إلا أن المدينتين تعافيتا وعاد السكان إلى استيطانهما لاحقا.
85
دمر أيضا في هذا الوقت موقع كراوجلان، الذي يقع في موضع غير بعيد جدا غرب حاتوسا في منطقة وسط الأناضول، وعثر على جثث في طبقة التدمير، ولكن مجددا ليس واضحا هوية من كان مسئولا.
86
يوجد تدمير صغير نسبيا جهة الغرب في الأناضول. في الواقع، أشار الباحث الأسترالي تريفور برايس إلى أنه «يبدو أن المواقع المدمرة بفعل النيران [في الأناضول] تنحصر في المناطق الواقعة شرق نهر مراسانتيا ... لا يوجد أدلة على وجود مثل تلك الكارثة غربا. تشير المؤشرات المستقاة من عمليات التنقيب الأثرية إلى أن فقط عددا قليلا من مواقع العالم الحيثي دمر بالفعل؛ أما أغلبها فقد هجره سكانه فحسب.»
87 (6-2) طروادة
كان الموقع الوحيد الواقع في الغرب الذي دمر بفعل النيران في أوائل القرن الثاني عشر قبل الميلاد هو طروادة، وتحديدا طروادة 7إيه، الواقعة على الساحل الغربي للأناضول.
88
ومع أن كارل بليجن، المنقب من جامعة سينسيناتي، حدد تاريخ تدميرها على أنه حوالي 1250ق.م، فإن بينلوبي ماونتجوي، وهي خبيرة مرموقة في الأعمال الفخارية الميسينية، قد أعادت حاليا تحديد التاريخ على أنه من 1190 إلى 1180ق.م
89
ببساطة أخذ قاطنو هذه المدينة بقايا طروادة 6إتش، التي يحتمل أنها دمرت جراء زلزال ربما في عام 1300ق.م، كما ناقشنا بتفصيل سابقا، وأعادوا بناء المدينة؛ لذا فالمنازل الضخمة التي كانت مبنية بالأساس أثناء طروادة 6 كان منصوبا فيها جدران فاصلة وكانت عائلات عديدة تعيش فيها بدلا من عائلة واحدة فقط كما كان في الماضي. رأى بليجن المساكن على أنها دليل على أن المدينة كانت تحت الحصار، ولكن ماونتجوي تقترح اقتراحا بديلا هو أن السكان كانوا يحاولون التعافي من الزلزال، ببعض الأكواخ المؤقتة المقامة بين الأطلال.
90
ومع ذلك، فقد أصبحت المدينة في نهاية الأمر تحت الحصار، كما يتبين من الدليل الذي عثر عليه بليجن وكذلك المنقب التالي لطروادة، مانفريد كورفمان من جامعة توبنجن، الذي نقب في الموقع من 1988 إلى 2005.
عثر كلا المنقبين على جثث في شوارع طروادة 7إيه وعلى رءوس سهام غائرة في الجدران، وكان كلاهما مقتنعا بأنها كانت قد دمرت في قتال.
91
في أحد المواضع قال كورفمان، الذي اكتشف أيضا مكان المدينة السفلى الضائعة من أمد بعيد في طروادة، التي كان المنقبون السابقون قد غفلوا عنها: «الدليل هو الحريق ووجود كارثة متعلقة بالنار. ثم إنه يوجد هياكل عظمية؛ فقد عثرنا، على سبيل المثال، على فتاة، اعتقد أنها في السادسة عشرة أو السابعة عشرة من عمرها، نصفها مدفون، والأقدام كانت محترقة بفعل النار ... كانت مدينة محاصرة. كانت مدينة مدافعة تحمي نفسها. لقد خسروا الحرب ومن الواضح أنهم قد هزموا.»
92
ومع ذلك، فقد يجعل تاريخ هذا التدمير من الصعب القول بأن الميسينيين هم المسئولون، كما في قصة هوميروس عن حرب طروادة في «الإلياذة»، إلا إذا كانت قصور الميسينيين هناك في البر الرئيسي لليونان كانت تتعرض للهجوم والتدمير لسبب محدد هو أن كل محاربيهم كانوا غائبين يقاتلون في طروادة. في الواقع تقترح ماونتجوي أن شعوب البحر، وليس الميسينيين، هم الذين دمروا طروادة 7إيه. من شأن هذا القول أن ينسجم جيدا مع ذكر رمسيس الثالث لشعوب البحر بعد ذلك بثلاثة أعوام فقط، ولكنها لا تقدم أدلة قوية تؤيد فرضيتها، التي لا تزال عبارة عن تكهنات.
93 (7) عمليات التدمير في البر الرئيسي لليونان
إذا لم يكن الميسينيون ضالعين في تدمير طروادة 7إيه؛ فقد يكون ذلك لأنهم كانوا هم أيضا يتعرضون للهجوم عليهم في نفس الوقت تقريبا. من المتفق عليه بشكل عام في أوساط الباحثين أن ميسيناي، وتيرنز، وميديا، وبيلوس، وثيفا، ومواقع ميسينية كثيرة أخرى في البر الرئيسي لليونان لحقت بها عمليات التدمير في نفس هذا الوقت تقريبا، أي في نهاية القرن الثالث عشر، وأوائل القرن الثاني عشر قبل الميلاد.
94
في واقع الأمر، يقدم مسح نشره مؤخرا عالم الآثار البريطاني جاي ميدلتون في عام 2010 صورة قاتمة للتخريب الذي وقع في البر الرئيسي لليونان أثناء الفترة من 1225 وحتى 1190ق.م: «في أرجوليد وكورينثيا كان يوجد عمليات تدمير في ميسيناي، وتيرنز، وكاتسينجري، وكوراكو وإريا ... وفي إقليم لاكونيا، في مينيلايون؛ وفي إقليم ميسينيا، في بيلوس؛ وفي إقليم آخايا، في تيخوس ديمايون؛ وفي إقليمي بيوتيا وفوكيس، في ثيفا، وأورخومينوس، وجلا ... وكريسا، في حين يبدو أن المواقع التالية قد هجرها سكانها دون تدمير: إقليما أرجوليد وكورينثيا: بيرباتي، وبروزيمنا، وزيجوريس، وجونيا، وتسونجيزا؛ وإقليم لاكونيا: أجيوس استيفانوس؛ وإقليم ميسينيا: نيتشوريا؛ وإقليم أتيكا: براورون؛ وإقليما بيوتيا وفوكيس: إتروسيس.»
95
كما يلاحظ ميدلتون كذلك وجود عمليات تدمير إضافية أثناء الفترة من 1190 وحتى 1130ق.م في ميسيناي، وتيرنز، وليفكاندي، وكينوس.
ومثلما كتب كارل بليجن وميبل لانج، من كلية برين ماور، قديما في 1960، يبدو أن هذه الفترة كانت «فترة عاصفة في التاريخ الميسيني؛ فقد لوحظ تدمير واسع الانتشار بالنار في ميسيناي في داخل مقر الملك وكذلك خارجه. تعرضت تيرنز هي الأخرى لكارثة من نفس النوع. ومن المحتمل أن القصر في ثيفا قد تعرض بالمثل للنهب وأحرق في نفس تلك الحقبة. ودمرت مستوطنات أخرى كثيرة، وهجرت تماما، ولم تعمر بعد ذلك قط: ومن أشهر الأمثلة على ذلك يمكننا أن نذكر بيرباتي ... وبروزيمنا ... وزيجوريس ... وأماكن أخرى أصغر.»
96
من الواضح أن شيئا عنيفا حدث، رغم أن بعض الباحثين يرون هذا على أنه مجرد المراحل النهائية لانحلال أو انهيار كان قد بدأ منذ 1250ق.م يعتقد جيريمي روتر من جامعة دارتمث، على سبيل المثال، أن «تدمير القصور لم يكن بأي حال من الأحوال كارثة غير متوقعة تسببت في قرن من الأزمات في منطقة إيجه، وإنما كان تتويجا لفترة ممتدة من الاضطراب ألمت بالعالم الميسيني من منتصف القرن الثالث عشر وما بعده.»
97 (7-1) بيلوس
في بيلوس، عادة ما يحدد حاليا تاريخ تدمير القصر، الذي كان المنقب في البداية يعتقد أن تاريخه يرجع إلى حوالي 1200ق.م، بحوالي 1180ق.م، لنفس الأسباب التي لأجلها حدد تاريخ أقرب لتدمير طروادة 7إيه، أي استنادا إلى إعادة تحديد تاريخ الأعمال الفخارية التي عثر عليها في الأطلال.
98
يفترض بصفة عامة أن تدميره نتج عن عنف، من جانب لأنه يوجد قدر كبير من الاحتراق المقترن بالمستويات الأخيرة في الموقع، والذي يبدو أنه أخلي بعده من سكانه. في 1939، أثناء الموسم الأول لعمليات التنقيب في القصر، أورد بليجن ملاحظة تقول: «لا بد أنه كان حريقا على قدر كبير من الشدة؛ لأن الأبواب الداخلية في مواضع كثيرة قد انصهرت إلى كتل غير محددة الشكل، وتحولت الصخور إلى كلس، وتستقر على الأنقاض والرماد المسود المفحم الذي يكسو الأرضيات طبقة سميكة من تراب أملس جاف ذي لون أحمر محروق، من المحتمل أنه الحطام المتفتت لقوالب الطوب غير المتقن الذي كان يوما ما يشكل المادة التي كانت تتكون منها البنية الفوقية.»
99
زادت عمليات التنقيب اللاحقة من تأكد انطباعاته الأولية؛ فحسبما أشار لاحقا جاك ديفيز من جامعة سينسيناتي والمدير السابق للمدرسة الأمريكية للدراسات الكلاسيكية في أثينا: «احترق المبنى الرئيسي بشدة لدرجة أن الألواح المكتوبة بالنظام الخطي بي الموجودة في غرفة الأرشيف احترقت، بل إن الجرار في بعض من حجرات التخزين ذابت.»
100
كتب بليجن نفسه في 1955 أن «في كل مكان ... ظهرت أدلة واضحة على التخريب بواسطة النار. وفر استخدام ألواح خشبية ضخمة بكثرة، بل بإفراط، في بناء الجدران الحجرية، وقودا غير محدود تقريبا للنيران، وتحول البناء بكامله إلى كومة من أطلال متداعية في حريق بلغ من شدة حرارته أنه حول الصخور إلى أحجار كلسية، بل إنه أذاب حليا ذهبية.»
101
أبرز باحثون سابقون في بعض الأحيان وجود إشارات في ألواح النظام الخطي بي التي عثر عليها في الموقع والتي توحي بأنه كان يوجد «مراقبون للبحر» متمركزون أثناء السنة (أو السنوات) الأخيرة للوجود في الموقع، وافترضوا أنهم كانوا ينتظرون ويترقبون شعوب البحر. غير أنه ليس واضحا ما الذي كانت تلك الألواح توثقه، وحتى إن كان سكان بيلوس يراقبون البحر، لا نعرف السبب أو الغرض من مراقبتهم.
102
باختصار، دمر القصر في بيلوس في حريق كارثي حوالي 1180ق.م، ولكن ليس واضحا سبب الحريق أو هوية المتسبب فيه. كشأن المواقع الأخرى التي خربت في هذا الوقت، لسنا متيقنين مما إذا كان الفاعلون من البشر أو كان ذلك بفعل الطبيعة. (7-2) ميسيناي
تعرضت ميسيناي لدمار هائل أثناء منتصف القرن الثالث عشر قبل الميلاد، في حوالي عام 1250، والذي ربما يكون قد وقع جراء زلزال. وكان ثمة أيضا دمار ثان، في حوالي 1190ق.م أو بعد ذلك بقليل، لا يعرف سببه ولكنه كان إيذانا بنهاية المدينة كقوة كبرى.
كانت السمة المميزة لهذا التدمير الأخير هي الحريق. ذكر أحد المديرين الرئيسيين لعمليات التنقيب في ميسيناي، الراحل سبيروس إياكوفيديس من جامعة بنسلفانيا أن «نيرانا اندلعت، كانت محدودة بمواضع معينة، ولم تكن بالضرورة متزامنة، في مركز العبادة، ومنزل تسونتاس، وجزء من المبنى الجنوبي الغربي، ومنزل باناجيا الثاني ... وربما القصر.»
103
في مركز العبادة، على سبيل المثال ، «ساعدت شدة النيران على حفظ هذه الجدران في حالتها الأصلية، وإن كانت مائلة عن محورها.»
104
في مستودع قريب، عثر عليه على الممر داخل القلعة، عثر المنقبون على كتلة من الركام، احتوت على «حجر متكلس، وطوب لبن محترق، وبقع من الرماد، وألواح خشبية متفحمة»، وهذه الكتلة «كانت تسد مداخل الحجرات جهة الجنوب الشرقي، وتستقر على عمق مترين تقريبا قبالة جدار المصطبة جهة الشمال الشرقي.» جدار المصطبة نفسه «كان ملتويا جراء الحرارة الشديدة التي نتجت عن نيران التدمير، وفي أماكن كثيرة كان قد وصل إلى درجة تماسك الأسمنت.» استنتج المنقبون أن الركام جاء من جدران الطوب اللبن المرتبطة بالمباني الموجودة على المصطبة بالأعلى، والتي انهارت «على هيئة كتلة ملتهبة.»
105
ومع ذلك، لا يوجد ما يدل على سبب أي من هذا، سواء كان غزاة، أو تمردا داخليا، أو حادثا.
قالت واحدة من كبار الباحثين والمنقبين في ميسيناي، هي إليزابيث فرينش من جامعة كامبريدج: «بعد «تدمير عام 1200ق.م» مباشرة، أيا كان سببه، كانت قلعة ميسيناي في حالة يرثى لها. بحسب ما يمكننا أن نجزم، كانت المباني كلها تقريبا غير صالحة للاستخدام. كان كل من الحريق والانهيار منتشرين انتشارا واسعا ولدينا أدلة على وجود طبقة من الوحل تغطي مساحات كبيرة من المنحدر الغربي والذي نخمن أنه كان ناتجا عن سقوط أمطار شديدة على الأنقاض.»
106
غير أن كلا من فرينش وإياكوفيديس يشيران إلى أن هذا لم يمثل نهاية ميسيناي؛ لأنها عمرت مجددا، وإن كان على نطاق أصغر، بعد ذلك مباشرة. وحسبما قال إياكوفيديس، فإن هذه كانت «فترة انكماش وانتكاس متسارعة ولكنها لم تكن فترة خطر وشدة.»
107
مما يثير الاهتمام أن إياكوفيديس لاحظ أيضا أن «السياق الأثري ... لا يقدم أدلة على هجرات أو عمليات غزو على أي نطاق ولا أدلة على قلاقل داخلية أثناء القرنين الثاني عشر والحادي عشر قبل الميلاد. لم تواجه ميسيناي نهاية عنيفة. لم تهجر ... المنطقة قط ولكن في ذلك الوقت، بسبب أسباب خارجية وبعيدة، كانت القلعة قد فقدت أهميتها السياسية والاقتصادية. كان النظام المركزي المعقد الذي ضمته ومثلته قد انهار، ولم يعد ممكنا بقاء النفوذ الذي صنعها أكثر من ذلك وبدأ انحدار عام، انهار خلاله الموقع ببطء وتدريجيا حتى صار خرابا.»
108
بعبارة أخرى، ليس واضحا، حسب إياكوفيديس، ما الذي تسبب في النيران التي دمرت أقساما كبيرة من ميسيناي بعيد عام 1200ق.م، ولكنه يتجنب فكرة عمليات الغزو أو أي أحداث مأساوية أخرى، مفضلا أن يعزى الانحدار التدريجي للموقع أثناء العقود التالية إلى انهيار النظام التابع للقصر والتجارة البعيدة المدى. قد تثبت أبحاث، يقوم بها في الآونة الأخيرة علماء آثار آخرون، صحة هذه الفرضية.
109 (7-3) تيرنز
على بعد كيلومترات قليلة من ميسيناي، كانت عمليات التنقيب في تيرنز في إقليم أرجوليد في البر الرئيسي لليونان تجري منذ أيام هاينريش شليمان في أواخر القرن التاسع عشر. سجل معظم المنقبين وجود أدلة على عمليات تدمير، ولكن أحدثها سجلها جوزيف ماران من جامعة هايدلبرج.
في عامي 2002 و2003، تابع ماران التنقيب عن هيكلين يعرفان باسم المبنيين الحادي عشر والخامس عشر داخل القلعة السفلية في الموقع، واللذين كان سلفه كلاوس كيليان قد نقب عن أجزاء منهما. ويعتقد أنهما كانا يستخدمان لفترة قصيرة فقط قبل أن يلحق بهما الدمار. في أنقاض التدمير التي يرجع تاريخه إلى حوالي 1200ق.م أو بعد ذلك مباشرة، عثر على عدد من القطع الأثرية المثيرة للاهتمام للغاية، والتي تشمل صولجانا صغيرا من العاج عليه نقش مسماري، والذي إما أن يكون مستوردا أو صنعه/استخدمه أجنبي كان يعيش في تيرنز أثناء هذه الفترة العصيبة.
110
يورد ماران أن هذا التدمير كان نتيجة «كارثة ألمت بتيرنز ... [والتي] دمرت القصر والمستوطنة الكائنة في القلعة السفلية.» ويضيف، مثلما اقترح كيليان بالفعل، أنه استنادا إلى «الجدران المتموجة» الواضحة في بعض المباني، فإن السبب المحتمل للتدمير كان زلزالا قويا، وإن «عمليات تنقيب جرت مؤخرا في ميديا المجاورة قد أيدت [حاليا] هذا التفسير.»
111
وقد ساق كيليان لوقت طويل حججا مفادها أن زلزالا دمر تيرنز وأصاب أيضا مواقع أخرى عديدة في إقليم أرجوليد، مثل ميسيناي؛ وحاليا يتفق أثريون آخرون مع هذه الفرضية.
112
كتب كيليان: «يتألف الدليل من بقايا مبنى له جدران وأساسات مائلة ومنحنية، بالإضافة إلى هياكل عظمية لأشخاص قتلوا ودفنوا جراء جدران المنازل المنهارة.»
113
ذكرنا بالفعل أن ميسيناي أصيبت بدمار كبير، في حوالي 1250ق.م، والذي ربما يكون قد نتج عن زلزال. كما هو مبين بمزيد من التفصيل فيما يلي، يوجد أدلة دامغة على تضرر مواقع عديدة في اليونان في غضون هذا الوقت تضررا بالغا جراء زلزال واحد أو أكثر، ولم يكن ذلك في ميسيناي وتيرنز في إقليم أرجوليد فحسب.
ومع ذلك، أظهرت الأدلة الأثرية، من عمليات التنقيب الجارية، بشكل قاطع أن تيرنز لم تتدمر كليا. ظلت المدينة تستخدم لجولة أخرى من الإشغال دامت عدة عقود أخرى، مع حدوث عملية إعادة بناء كبيرة في بعض الأجزاء، وخاصة في المدينة السفلى.
114 (8) عمليات التدمير في قبرص
في شرق المتوسط، ألقي أيضا باللوم على عاتق شعوب البحر باعتبارهم المسئولين عن اضطرابات العصر البرونزي في قبرص، حوالي 1200ق.م كان الاعتقاد السائد أن المسألة واضحة وجلية. منذ ثلاثين عاما، كتب فاسوس كاراجورجيس، الذي كان حينئذ المسئول عن الآثار على الجزيرة: «الظروف السلمية ... تغيرت قبيل نهاية الحقبة القبرصية المتأخرة الثانية [أي حوالي 1225ق.م]. على الرغم من أننا قد لا نقبل الادعاء المتفاخر من قبل الحيثيين بأنهم مارسوا سيطرة على قبرص على أنه ادعاء دقيق كليا ... لا يمكننا تجاهل حقيقة أنه أثناء حكم سابيليوليوما الثاني ما كان يمكن للأوضاع في شرق المتوسط أن تكون هادئة.»
115
وتابع كاراجورجيس مقترحا أن «أعدادا كبيرة من اللاجئين» غادروا البر الرئيسي لليونان عندما انهارت «الإمبراطورية الميسينية» (كما أسماها)، وقد أصبحوا نهابين ومغامرين، ووصلوا أخيرا إلى قبرص بصحبة آخرين، حوالي 1225ق.م وهو ينسب إليهم عمليات التدمير في قبرص في ذلك الوقت، بما في ذلك تلك التي جرت في الموقعين الكبيرين كتيون وإنكومي على الساحل الشرقي، بالإضافة إلى النشاط في مواقع أخرى مثل مواقع ما-بالايوكاسترو، وكالافاسوس-أيوس ديميتريوس، وسيندا، وماروني.
116
يثير موقع ما-بالايوكاسترو الصغير الاهتمام بشكل خاص؛ إذ إنه بني تحديدا أثناء فترة القلاقل هذه، أي قبيل نهاية القرن الثالث عشر قبل الميلاد. وصف كاراجورجيس، الذي نقب في الموقع، المكان بأنه «موقع أمامي [عسكري] حصين على رأس بحري على الساحل الغربي.» وحسبما بين، كان محصنا تحصينا طبيعيا بالجوانب المنحدرة للرأس البحري ومحاطا من ثلاثة جوانب بالبحر؛ لذا لم يكن ثمة حاجة إلى تحصينه إلا من الناحية التي يلتقي فيها بالبر الرئيسي. واعتقد أن الغزاة من منطقة إيجه، هم من أنشئوا هذا الموقع الأمامي، والذين اجتاحوا بعد ذلك إنكومي وكتيون من هذا الجيب، ولم يمض وقت طويل حتى دمر بدوره على يد تدفق ثان من المستوطنين من منطقة إيجه، ربما حوالي 1190ق.م، والذين أقاموا إقامة دائمة على الجزيرة.
117
اعتقد كاراجورجيس أن جيوبا أو مواقع أمامية أجنبية أخرى مماثلة قد أنشئت على مواقع قبرصية مثل سيندا وبيلا-كوكينوكريموس. على سبيل المثال، لاحظ أن مستوطنة سيندا الحصينة، التي تقع في الداخل أمام الساحل مباشرة وغرب إنكومي، دمرت تدميرا عنيفا في حوالي 1225ق.م بعد ذلك أضيفت طوابق جديدة وأنشئت مبان جديدة فوق طبقة التدمير المحترقة هذه مباشرة، وربما كان الغزاة القادمون من منطقة إيجه هم من قاموا بذلك.
118
ومع ذلك فربما تكون عمليات التدمير والإعمار هذه أبكر بكثير من أن تتسق مع تواريخ توغلات شعوب البحر؛ أو على الأقل تلك التي ذكرها مرنبتاح في 1207ق.م أو رمسيس الثالث في 1177ق.م وبناء على ذلك، اقترح كاراجورجيس أن موجة أسبق من شعوب مقاتلة من منطقة إيجه كانت قد حلت على جزيرة قبرص قبل حتى شعوب البحر، في حوالي 1225ق.م على الأكثر. يمكن ملاحظة الوصول اللاحق لشعوب البحر في عمليات التنقيب في إنكومي، على ساحل قبرص، والتي «كشفت عن كارثة ثانية ... ربطها بعض الباحثين بهجمات شعوب البحر.» وقال إن تاريخ المستوى الثاني للتدمير هذا يرجع إلى حوالي 1190ق.م.
119
ومع ذلك، فليس ثمة أدلة حقيقية لتحديد هوية الذين يجب أن ينحى عليهم بلائمة أي من عمليات التدمير ما بين 1225 و1190ق.م في أي من هذه المواقع على جزيرة قبرص. من المحتمل جدا أن توداليا والحيثيين - الذين، أيا كان الأمر، زعموا بالفعل أنهم هاجموا قبرص وأخضعوها في هذا الوقت تقريبا - تسببوا، على أقل تقدير، في بعض عمليات التدمير في حوالي 1225ق.م علاوة على ذلك، رأينا بالفعل أن هجوما حيثيا آخر على الجزيرة قد وقع، حسبما ورد، أثناء حكم سابيليوليوما الثاني (الذي اعتلى العرش الحيثي في حوالي 1207ق.م)، حسبما يزعم في سجلاته؛ ومن ثم يمكن أن تكون حقيقة الأمر أن الحيثيين، وليس شعوب البحر، هم الذين كانوا مسئولين عن معظم عمليات التدمير على جزيرة قبرص أثناء هذه الفترة العصيبة. بل إن ثمة نصا، أرسله حاكم قبرص (ألشية)، والذي يبدو أنه يدل على أن سفنا من أوغاريت يمكن أن تكون قد تسببت في بعض من الأضرار، فضلا عن إمكانية أنه يمكن أن يكون بعض من التخريب على الأقل قد نتج عن زلزال واحد أو عدد من الزلازل. في إنكومي، اكتشف المنقبون جثث أطفال كانوا قد قتلوا جراء سقوط قوالب الطوب اللبن من البنية الفوقية للمبنى عليهم، مما يشير على ما يبدو إلى أن ذلك كان بفعل الطبيعة وليس فعل بشر.
120
عدل حاليا السيناريو الذي تصوره كاراجورجيس ليشكل رؤية أكثر تعقيدا لمسار الأحداث على جزيرة قبرص أثناء هذه الفترة في نهاية العصر البرونزي المتأخر. وقد اقتنع كاراجورجيس نفسه بسرعة بأنه، في كل موقع من المواقع المعنية، كان يوجد دفعة واحدة فحسب من عمليات التدمير، وليس اثنتين؛ وأنها تراوحت بدءا من وقت مبكر يرجع إلى 1190ق.م وحتى 1174ق.م، وليس بدءا من 1225ق.م،
121
يذكر تأريخ أحدث عهدا لتلك الفترة، كتبته الباحثة البريطانية لويس ستيل، أن «الرؤية التقليدية ... للفترة هي رؤية تتعلق بالاستعمار الميسيني لقبرص (وجنوب الشام) بعد سقوط القصور الميسينية. ومع ذلك ... لم يكن ثمة وجود لفرض بسيط للثقافة الميسينية على الجزيرة. عوضا عن ذلك، توضح ... المواد وجود نزعة توفيقية للتأثيرات تعكس الطابع العالمي للهوية الثقافية [القبرصية المتأخرة]. فلا نجد أن الثقافة الميسينية (أو الإيجية) تنقل فحسب من منطقة إيجه إلى قبرص وإنما تندمج مع الثقافة القبرصية المحلية.»
122
أيضا تشكك ستيل في استنتاجات كاراجورجيس، وفي الرؤية التقليدية للاستعمار الإيجي لقبرص. على سبيل المثال، بدلا من اعتبار مواقع مثل ما-بالايوكاسترو وبيلا-كوكينوكريموس «مواقع أمامية دفاعية» أجنبية أو إيجية، تذكر أنه يبدو أن الأدلة تدعم أكثر تعريف هذه المواقع بأنها معاقل قبرصية محلية، وأن تلك المعاقل أنشئت، مثلا، «من أجل ضمان حركة البضائع، وتحديدا المعادن، بين المرافئ ... والمناطق الداخلية القبرصية.»
123
وتضيف أن «التفسير التقليدي لموقع ما-بالايوكاسترو على أنه معقل إيجي مبكر هو أمر لم يفحص بعد بدقة.» واقترحت أن كلا من ما-بالايوكاسترو وبيلا-كوكينوكريموس يمكن في الواقع أن يكونا بمثابة نموذجين للمعاقل القبرصية المحلية، التي تشبه المستوطنات الدفاعية التي بنيت في هذا الوقت تقريبا على جزيرة كريت.
124
وكان باحثون آخرون، منهم برنارد ناب من جامعة إدنبرة، قد اقترحوا حاليا أن الاستعمار الميسيني المزعوم والسائد في الأدبيات الأكاديمية السابقة لم يكن ميسينيا ولا استعمارا. وإنما كان على الأرجح فترة تهجين، جرى أثناءها الاستحواذ على جوانب من الثقافية المادية القبرصية، والإيجية والشامية وإعادة استخدامها لتشكيل هوية اجتماعية نخبوية جديدة.
125
بعبارة أخرى، ما نحن بصدده مجددا هو عبارة عن ثقافة تتسم بالعولمة، وتعكس العديد من التأثيرات في نهاية العصر البرونزي، قبيل الانهيار.
على الجانب الآخر، ما زال لدينا تعليقات بول أستروم حول تنقيبه في موقع تكية هالة سلطان، على ساحل قبرص بالقرب من مدينة لارناكا الحالية، والذي وصفه بأنه «بلدة دمرتها النيران جزئيا وهجرها سكانها على عجل.» وفي هذا الموضع، حوالي عام 1200ق.م أو بعده «تركت أغراض بلا اعتناء في أفنية المنازل وخبئت نفائس تحت الأرض. إن وجود رءوس سهام برونزية، كان أحدها محشورا في جانب جدار مبنى، وعدد كبير من قذائف المقلاع المصنوعة من الرصاص المبعثرة في أنحاء المكان هو دليل دامغ على الحرب.»
126
هذه واحدة من الحالات القليلة الواضحة لمهاجمين معادين، ومع ذلك لم يتركوا ما يدل على هويتهم، لا هنا ولا في أي مكان آخر. أيضا يوجد الآن أدلة علمية حديثة العهد من البحيرة الشاطئية عند موقع تكية هالة سلطان تثبت أنه من المحتمل جدا أن المنطقة كانت تعاني من آثار جفاف شديد في نفس هذا الوقت، كما سنناقش أدناه.
127
لذلك، نواجه الآن موقفا يجري فيه إعادة تقييم معرفتنا الحالية وتنقض النماذج التاريخية التقليدية، أو على الأقل توضع في موضع التشكك فيها. ففي حين أنه من الواضح أنه كان ثمة عمليات تدمير على جزيرة قبرص إما قبيل 1200ق .م أو بعيده، فليس من الواضح على الإطلاق هوية من كان مسئولا عن هذا الضرر؛ ويتراوح الجناة المحتملون من الحيثيين إلى غزاة من منطقة إيجه إلى شعوب البحر وحتى الزلازل. يمكن أيضا تصور أن ما نراه في السجل الأثري هو مجرد الثقافة المادية لأولئك الذين استغلوا عمليات التدمير هذه واستقروا في المدن والمستوطنات التي كانت حينئذ مهجورة كليا أو جزئيا، وليس الثقافة المادية لأولئك الذين كانوا بالفعل مسئولين عن عمليات التدمير.
بالرغم مما سبق، يبدو أن قبرص صمدت في وجه أعمال النهب والتدمير هذه. وكل الدلائل الآن تشير إلى أن الجزيرة ازدهرت أثناء بقية القرن الثاني عشر وخلال القرن الحادي عشر قبل الميلاد؛ وتشمل الأدلة نصوصا مصرية مثل «تقرير ون آمون»، الذي يتعلق بكاهن ومبعوث مصري تحطمت السفينة التي كان على متنها على الجزيرة في حوالي 1075ق.م،
128
ومع ذلك، جاءت قدرة قبرص على الصمود فقط نتيجة إعادة الهيكلة الهائلة لتنظيمها السياسي والاقتصادي، مما سمح للجزيرة وأنظمتها السياسية بالبقاء حتى حانت النهاية أخيرا في حوالي 1050ق.م.
129 (9) القتال في مصر ومؤامرة الحريم
نعود إلى مصر لبعض الوقت لنجد صورة مشابهة لتلك التي تتسم بها المواقع في أماكن أخرى في منطقتي شرق المتوسط وإيجه، ولكنها مع ذلك مختلفة. كان المصريون قد أنهوا القرن الثالث عشر قبل الميلاد في وضع جيد نسبيا؛ إذ دحروا أول موجة لشعوب البحر أثناء حكم مرنبتاح، في 1207ق.م بدأ القرن الثاني عشر بداية هادئة، تحت حكم سيتي الثاني ثم الملكة توسرت، ولكن بحلول وقت اعتلاء رمسيس الثالث للعرش في 1184ق.م، كانت الأحداث آخذة في اتخاذ منحى مضطرب . في العام الخامس لحكمه، ومجددا في العام الحادي عشر، خاض حروبا كبرى مع جيرانه الليبيين.
130
وفيما بين هذين العامين، وتحديدا في عامه الثامن خاض معارك في مواجهة شعوب البحر والتي سبق وأن تناولناها هنا. ثم في عام 1155، بعد أن حكم لمدة اثنين وثلاثين عاما، يبدو أنه اغتيل.
تروى لنا قصة الاغتيال في عدد من الوثائق، أطولها هي بردية تورين القضائية. يعتقد أن بعض هذه الوثائق يمكن أن يكون متصلا ببعضه البعض وربما كانت في الأصل جزءا من لفافة بردي واحدة يبلغ طولها خمس عشرة قدما. تتعلق الوثائق كلها بمحاكمة المتهمين باغتياله في المؤامرة، التي يعرفها علماء المصريات باسم «مؤامرة الحريم».
لا يبدو أن ثمة صلة بين المؤامرة وأي شيء آخر يجري في شرق المتوسط في ذلك الوقت وأنها كانت ببساطة مكيدة دبرتها ملكة ثانوية في الحريم الملكي لجعل ابنها يخلف رمسيس الثالث على العرش. كان يوجد عدد كبير من المتهمين بلغ أربعين شخصا من المتآمرين، من أفراد الحريم وكذلك من مسئولي البلاط الملكي، وحوكموا في أربع مجموعات. ثبتت إدانة عدد منهم وحكم عليهم بالإعدام؛ وأجبر العديد على الانتحار على الفور في البلاط. وكانت الملكة الثانوية وابنها من بين من حكم عليهم بالإعدام.
131
ومع أنه من المعروف أن رمسيس الثالث مات قبل صدور الحكم في هذه القضية، فليس واضحا في هذه الوثائق ما إذا كانت المكيدة قد نجحت بالفعل. ولكن ظاهر الأمر أنها نجحت، وإن لم تتكشف هذه الحقيقة إلا مؤخرا.
مومياء رمسيس الثالث معروفة منذ أمد طويل. وكانت مدفونة في الأصل في وادي الملوك في مقبرته الخاصة (المعروفة باسم كيه في 11) ولكن الكهنة نقلوها لاحقا للحفاظ عليها، إلى جانب عدد من المومياوات الملكية الأخرى. عثر على هذه المومياوات جميعها في عام 1881، في خبيئة الدير البحري بالقرب من معبد حتشبسوت الجنائزي.
132
في عام 2012 أجرى علماء مصريات وعلماء مختصون في الطب الشرعي تشريحا لجثة رمسيس الثالث وأوردوا في بحث نشر في دورية «بريتش ميديكال جورنال» أن حلقه قد قطع. كان السكين الحاد الذي أحدث الجرح قد غرز في عنقه تحت الحنجرة مباشرة، نزولا حتى الفقرات العنقية، محدثا قطعا في قصبته الهوائية وممزقا كل النسيج الرخو في هذه المنطقة. كانت الوفاة فورية. لاحقا، أثناء عملية التحنيط، وضعت تميمة عين حورس حامية في موضع الجرح، إما للحماية وإما للشفاء، رغم أن أوان معاونة الملك في هذه الحياة كان قد فات. بالإضافة إلى ذلك، وضعت ياقة سميكة من الكتان حول عنقه، حتى تخفي الجرح الذي تسبب فيه الطعن (الذي كان عرضه 70 مليمترا). لم يتمكن العلماء من أن يروا ما تخفيه الياقة السميكة إلا أثناء تحليل الأشعة السينية وتمكنوا من تحديد الإصابة التي أودت بحياة الملك.
133
عثر على جثة ثانية، لذكر يبلغ ما بين الثامنة عشرة والعشرين من عمره ويعرف فقط باسم «الرجل المجهول»، مع مومياء رمسيس الثالث. من المحتمل أن تكون الجثة، الملفوفة في جلد ماعز غير طاهر من الناحية الشعائرية والتي لم تكن محنطة تحنيطا سليما، تخص الأمير المذنب، حسب اختبارات الحمض النووي التي تشير إلى أنه ربما كان ابن رمسيس الثالث. تشير أدلة الطب الشرعي، التي تشمل ملامح الوجه والإصابات في حلقه، إلى أنه ربما يكون قد مات شنقا.
134
بموت رمسيس الثالث، حلت نهاية مجد المملكة المصرية الحديثة. سيأتي ثمانية فراعنة آخرون خلال الأسرة العشرين قبل أن تنتهي في 1070ق.م، ولكن أحدا منهم لم يحقق أي شيء يستحق الثناء. بالطبع كان من شأن تحقيقهم لأي إنجاز أن يكون أمرا جديرا بالملاحظة حقا، نظرا للحالة التي كانت عليها الأمور في أماكن أخرى في منطقة شرق المتوسط، رغم أن الملك الأخير، رمسيس الحادي عشر، أرسل بالفعل مبعوثه ون آمون إلى بيبلوس من أجل شراء أرز لبنان، ولم يمض وقت طويل حتى تحطمت سفينته على ساحل جزيرة قبرص في رحلة الإياب في حوالي 1075ق.م. (10) ملخص
على الرغم من أنه من الواضح أنه كان هناك عمليات تدمير هائلة في منطقتي إيجه وشرق المتوسط في نهاية القرن الثالث عشر وبداية القرن الثاني عشر قبل الميلاد، فلم يكن واضحا على الإطلاق هوية من، أو ما، كان مسئولا عن ذلك. من بين الأمور محل التساؤل نجد أيضا مسألة هوية صانعي الأعمال الفخارية المعروفة باسم «الأواني الفخارية الميسينية 3سي1بي»، التي تظهر في الكثير من مواقع شرق المتوسط هذه بعد عمليات التدمير التي وقعت حوالي 1200ق.م، ومن بينها رأس ابن هاني ورأس البسيط بالقرب من أوغاريت.
135
هذه الأواني الفخارية، التي كان ينظر إليها في السابق على أنها من صنع ميسينيين نازحين فروا شرقا، بعد عمليات التدمير التي لحقت ببلداتهم ومدنهم على البر الرئيسي لليونان، يبدو عوضا عن ذلك أنها أنتجت في قبرص وفي شرق المتوسط، على الأرجح بعد أن توقف استيراد السلع الإيجية الحقيقية.
وكما قالت آني كوبيه، من متحف اللوفر، بخصوص إعادة إعمار موقع رأس ابن هاني، بالقرب من أوغاريت: «مما لا شك فيه أن إعادة الاستيطان في الموقع بطريقة ثابتة ومتواصلة هي أمر لا يمكن إنكاره. الأمر الذي لا يزال يتعين إثباته هو أن السكان كانوا حينئذ جزءا من شعوب البحر ولم يكونوا سكانا محليين عادوا بعد أن انتهت القلاقل.»
136
وقد تشير ابتكارات أخرى ملحوظة في قبرص والشام في هذا الوقت، مثل استخدام الحجارة المربعة المنحوتة في تقنيات البناء المعمارية، والطقوس الجنائزية الجديدة وأنواع الأواني،
137
إلى وجود صلة مع منطقة إيجه أو حتى إلى وجود أشخاص نازحين من منطقة إيجه، ولكن الأنماط الإيجية لا تدل بالضرورة على وجود أناس من منطقة إيجه؛ لذا يمكن أيضا أن تكون هذه الأنماط ببساطة عبارة عن مظهر من مظاهر العولمة التي كانت قائمة حتى في أثناء السنوات المضطربة التي اتسمت بها نهاية العصر البرونزي المتأخر.
أما فيما يتعلق بالنهاية نفسها، فربما تكون قد استلزمت أكثر بكثير من عمليات النهب البسيطة التي سجلها المصريون للمغيرين المتنقلين، أو «شعوب البحر» كما نطلق عليهم الآن. وإن احتمال أن شعوب البحر، الذين غالبا ما وجه إليهم الباحثون السابقون أصابع الاتهام معتبرين إياهم الجناة الوحيدين المسئولين عن نهاية حضارة هذه المنطقة الشاسعة، كانوا هم الضحايا يوازي احتمال كونهم المعتدين، كما سنرى في الفصل التالي.
الفصل الخامس
هل كانت هناك «عاصفة مثالية» من الكوارث؟
نحن أخيرا في وضع يسمح لنا بمحاولة حل اللغز الذي يشغلنا، بتجميع كل خيوط الأدلة والقرائن المختلفة المتاحة، حتى نتمكن من أن نحدد السبب وراء الانهيار الفجائي للنظام الدولي المستقر في العصر البرونزي المتأخر بعدما ظل باقيا لقرون. ومع ذلك، يجب علينا أن نتعرض لهذا الأمر بعقل منفتح ونطبق «الاستخدام العلمي للخيال»، مثلما قالت ذات مرة شخصية شيرلوك هولمز الخالدة؛ لأننا «يجب أن نوازن بين الاحتمالات ونتخير الأرجح منها.»
1
بداية، من الواضح الآن أن شعوب البحر وما يطلق عليه الانهيار أو الكارثة في نهاية العصر البرونزي المتأخر هما موضوعان ناقشهما الباحثون كثيرا طيلة القرن الماضي، وأنهما في أغلب الأحيان يكونان مرتبطين في هذه النقاشات. وكان هذا صحيحا على وجه الخصوص أثناء الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي، عندما نشرت نانسي ساندرز الطبعة المنقحة من كتابها، الذي يحمل ببساطة اسم «شعوب البحر»، في عام 1985، ونشر روبرت دروز كتابه «نهاية العصر البرونزي» في عام 1993. كان ثمة أيضا على الأقل مؤتمران أو حلقتان دراسيتان أكاديميتان مكرستان لهذين الموضوعين، أقيما في عامي 1992 و1997، وارتبط بهما كتب وأبحاث ومؤتمرات أخرى كثيرة.
2
ومع ذلك فإنه، كما أشير في بداية هذا الكتاب، أصبحت وفرة من البيانات الجديدة متاحة في العقود القليلة الماضية، والتي يلزم أخذها في الاعتبار في فهمنا الآخذ في التطور لكل من شعوب البحر والقوى المتشابكة التي أدت إلى نهاية حقبة من الحضارات العظيمة التي كنا بصدد مناقشتها.
3
نحن بحاجة إلى الإقرار أولا وقبل كل شيء، كما أشير مرارا في الصفحات السابقة، بأنه ليس واضحا دوما هوية من، أو ما، تسبب في الدمار في مدن وممالك وإمبراطوريات إيجه وشرق المتوسط في العصر البرونزي المتأخر. ودمار قصر نسطور في بيلوس، في حوالي 1180ق.م، لهو مثال ممتاز، حيث أقر مؤخرا أحد الباحثين: «اقترح البعض أن المتسببين في هذه الكارثة كانوا غزاة من خارج المملكة، واقترح آخرون أن مواطني بيلوس أنفسهم ثاروا على ملكهم. وتظل الأسباب الدقيقة غير مؤكدة.»
4
ثانيا: علينا أن نقر بأنه لا يوجد حاليا إجماع علمي بشأن سبب أو أسباب انهيار هذه المجتمعات المتداخلة المتعددة منذ ما يزيد قليلا على ثلاثة آلاف عام؛ إذ يتضمن الجناة الذين ألقى عليهم الباحثون مؤخرا باللائمة «هجمات من قبل أعداء أجانب، وانتفاضات اجتماعية، وكوارث طبيعية، وانهيار أنظمة، وتغيرات في أساليب الحرب.»
5
لذا يستحق منا الأمر أن نأخذ وقتا في إعادة النظر، كما فعل الباحثون طيلة قرابة الثمانين عاما الماضية، بشأن ما يمكن أن يكون الأسباب المحتملة لذلك. ومع ذلك فعند قيامنا بذلك، ينبغي أن ننظر بموضوعية في الأدلة المتاحة التي تدعم أو تعجز عن دعم كل احتمال من الاحتمالات المفترضة. (1) الزلازل
على سبيل المثال، ظلت الفكرة القائلة بأن الزلازل تسببت، أو ربما تكون قد ساهمت، في تدمير بعض من مدن العصر البرونزي المتأخر؛ مطروحة منذ أيام كلود شايفر، المنقب الأول عن أوغاريت. اعتقد شايفر أن زلزالا تسبب في التدمير النهائي للمدينة، لأنه وجد دلائل منظورة على أن زلزالا قد ضرب المدينة في الماضي البعيد. على سبيل المثال، تظهر صور من عمليات التنقيب التي قام بها شايفر جدرانا حجرية طويلة منهارة على نحو منتظم، وهي إحدى السمات المميزة للأضرار الناجمة عن الزلزال.
6
ومع ذلك، فإن التفكير الحالي في الموضوع يحدد تاريخ هذا الزلزال في أوغاريت على أنه عام 1250ق.م أو بعد ذلك بقليل. علاوة على ذلك، بسبب وجود علامات على أنشطة ترميم في العقود الممتدة ما بين الزلزال والزوال النهائي للمدينة، يعتقد حاليا أن الزلزال ألحق أضرارا بالمدينة فحسب ولم يدمرها تدميرا كاملا.
7
من المسلم به أنه غالبا ما يكون من الصعب التمييز بين مدينة دمرت جراء زلزال ومدينة دمرت على يد البشر والحرب. ومع ذلك، يوجد العديد من العلامات التي تميز زلزالا مدمرا والتي يمكن أن يلاحظها الأثريون أثناء عمليات التنقيب. هذه العلامات تشمل الجدران المنهارة، أو المرممة، أو المدعمة؛ والهياكل العظمية المهشمة، أو الأجساد التي يعثر عليها ملقاة تحت أنقاض؛ والأعمدة الساقطة المطروحة موازيا بعضها بعضا؛ وأحجار الزاوية المزاحة في الأروقة المعمدة والمداخل؛ والجدران المائلة بزوايا مستحيلة أو المزاحة عن وضعها الأصلي.
8
على النقيض، فإن مدينة دمرت أثناء حرب سوف تحتوي عادة على أسلحة من مختلف الأنواع في نطاق حطام التدمير. في موقع أفيق، في إسرائيل، على سبيل المثال، الذي دمر قرب نهاية القرن الثالث عشر قبل الميلاد ، عثر المنقبون على رءوس سهام عالقة في جدران المباني، مثلما هو الحال في طروادة 7إيه.
9
بفضل الأبحاث التي أجراها مؤخرا علماء الزلازل الأثرية، بات من الواضح الآن أن اليونان، وكذلك مساحة كبيرة من بقية منطقتي إيجه وشرق المتوسط، كانت قد ضربتها سلسلة من الزلازل، التي بدأت من 1225ق.م واستمرت طيلة خمسين عاما، حتى 1175ق.م لم يكن الزلزال في أوغاريت، الذي تعرف عليه ووصفه شايفر، حدثا منعزلا؛ وإنما كان مجرد واحد من زلازل كثيرة مثله وقعت أثناء هذه الفترة الزمنية. تعرف الآن هذه النوعية من سلاسل الزلازل التي وقعت في العصور القديمة باسم «عاصفة الزلازل»، والتي فيها يستمر صدع زلزالي في «الانحلال» بإطلاق سلسلة من الزلازل على مدى سنوات أو عقود حتى يتحرر الضغط بكامله على امتداد خط الصدع.
10
في منطقة إيجه، من المحتمل أن تكون الزلازل أثناء هذه الفترة الزمنية قد ضربت ميسيناي، وتيرنز، وميديا، وثيفا، وبيلوس، وكينوس، وليفكاندي، ومينيلايون، وكاستاناس في مناطق ثيسالي، وكوراكو، وبروفيتيس إلياس، وجلا. في شرق المتوسط، يمكن أيضا رؤية الضرر الزلزالي الذي يرجع إلى هذه الفترة في مواقع عديدة، تشمل طروادة، وكراوجلان، وحاتوسا في الأناضول؛ وأوغاريت، ومجدو، وأشدود، وعكا في الشام؛ وإنكومي على جزيرة قبرص.
11
ومثلما يقتل أناس أثناء انهيار المباني ويدفنون تحت الأنقاض عندما يضرب زلزال منطقة مأهولة بالسكان في وقتنا الحالي، كذلك أيضا عثر على جثث ما لا يقل عن تسعة عشر شخصا قتلوا في هذه الزلازل القديمة أثناء عمليات التنقيب في مدن العصر البرونزي المتأخر المدمرة. في ميسيناي، على سبيل المثال، عثر على الهياكل العظمية لثلاثة بالغين وطفل في قبو منزل على بعد مائتي متر شمال القلعة، حيث كانوا قد سحقوا تحت الأحجار الساقطة أثناء أحد الزلازل. وبالمثل، في منزل بني على المنحدر الغربي للتل شمال مقبرة كنز أتريوس، عثر على الهيكل العظمي لامرأة في منتصف العمر، كانت جمجمتها قد سحقت جراء حجر ساقط، في المدخل بين الحجرة الرئيسية والحجرة الأمامية. في تيرنز، عثر على الهيكلين العظميين لامرأة وطفل مدفونين جراء انهيار جدران المبنى إكس داخل الأكروبوليس؛ وعثر على هيكلين عظميين بشريين آخرين بالقرب من جدران التحصين، حيث قتلا ثم غطتهما أنقاض متساقطة من الجدران. بالمثل، في ميديا القريبة، عثر على هياكل عظمية أخرى، من بينها الهيكل العظمي لامرأة شابة في حجرة بالقرب من البوابة الشرقية، والتي سحقت جمجمتها وعمودها الفقري تحت الحجارة الساقطة.
12
ومع ذلك، علينا أن نسلم بأنه بالرغم من أن هذه الزلازل تسببت بلا شك في أضرار جسيمة، فمن غير المرجح أنها كانت كافية وحدها في أن تتسبب في الانهيار الكامل للمجتمع، وخاصة لأنه من الواضح أن الناس عادوا للاستقرار في بعض المواقع وأعيد بناؤها على الأقل جزئيا فيما بعد. هكذا كان الحال في ميسيناي وتيرنز، على سبيل المثال، مع أنهما لم يعودا مطلقا بالمستوى الذي كانا قد وصلا إليه قبيل التدمير.
13
لذلك، علينا أن نلتمس في مكان آخر تفسيرا مختلفا، أو ربما مكملا، لانقضاء العصر البرونزي المتأخر في منطقتي إيجه وشرق المتوسط. (2) التغير المناخي، والجفاف، والمجاعة
أحد الاقتراحات التي يفضلها الباحثون - وخاصة أولئك الذين لا يسعون فحسب إلى تفسير نهاية العصر البرونزي المتأخر بل أيضا إلى تفسير سبب بدء شعوب البحر لهجراتها - هو التغير المناخي، لا سيما التغير المناخي المتمثل في الجفاف، المؤدي إلى المجاعة. على الرغم من أن النظريات التي صاغها علماء الآثار غالبا ما تعكس الحقبة، أو العقد، أو حتى السنة التي ينشرون فيها، فإن تلك الفرضيات المتعلقة بآثار التغير المناخي المحتمل في نهاية الألفية الثانية قبل الميلاد تسبق بعقود عديدة انشغالنا الحالي بالتغير المناخي.
على سبيل المثال، كان الجفاف منذ وقت طويل هو التفسير المفضل للباحثين السابقين لانتقال شعوب البحر خارج أقاليم غرب المتوسط إلى الأراضي الواقعة جهة الشرق. وافترضوا أن جفافا في شمال أوروبا قد أجبر السكان على النزوح إلى منطقة البحر المتوسط، حيث أزاح سكان صقلية، وسردينيا، وإيطاليا، وربما أيضا أولئك الذين كانوا يسكنون منطقة إيجه. إن كان ذلك حدث، فربما يكون قد أشعل شرارة سلسلة من التفاعلات التي توجت بانتقال شعوب البحر بعيدا في منطقة شرق المتوسط. فيما يتعلق بالأمثلة على موجات الجفاف التي تسببت في بدء عمليات نزوح بشري واسعة النطاق، ليس على المرء إلا أن يعود بذاكرته إلى الولايات المتحدة في ثلاثينيات القرن العشرين والجفاف الذي تسبب في «قصعة الغبار» الشهيرة، التي أدت إلى نزوح كبير لعائلات من أوكلاهوما وتكساس إلى كاليفورنيا.
يشار إلى هذا النوع من النزوح في كثير من الأحيان باسم «الدفع والجذب»، حيث تدفع الظروف السلبية في المناطق الأصلية السكان خارجها وتغري، أو تجذب، الظروف الإيجابية في مناطق الوجهة المقصودة النازحين الجدد في ذلك الاتجاه. وكما أوضح عالم الآثار البريطاني جاي ميدلتون، يمكن أن يضاف إلى هذين التصنيفين أمران آخران هما «البقاء» و«القدرة»؛ العوامل التي تسهم في الرغبة في البقاء في الديار في نهاية الأمر، والعوامل المتعلقة بالقدرة على النزوح بالفعل، والتي تشمل الدراية بالإبحار، والطرق التي يمكن سلكها، وما إلى ذلك.
14
ربما تكون أشهر الحجج، التي تصب في صالح أن حدوث جفاف كان عاملا مؤثرا في زوال العصر البرونزي المتأخر في منطقة إيجه، قد طرحت بالكامل منذ خمسين عاما، في منتصف ستينيات القرن العشرين، بواسطة ريس كاربنتر، الذي كان أستاذا في علم الآثار بكلية برين ماور. نشر كاربنتر كتابا موجزا جدا ولكنه مؤثر للغاية ذهب فيه إلى أن الحضارة الميسينية سقطت بفعل جفاف طويل أثر تأثيرا بالغا على منطقتي البحر المتوسط وإيجه. واستند في حججه على ما بدا أنه انخفاض جذري نوعا ما في عدد السكان على البر الرئيسي لليونان تبع نهاية العصر البرونزي.
15
إلا أن البحوث الأثرية وعمليات التنقيب اللاحقة أظهرت أن انخفاض عدد السكان لم يكن جذريا بقدر ما اعتقد كاربنتر. وإنما حدث انتقال للسكان إلى مناطق أخرى في اليونان أثناء العصر الحديدي، وهو الأمر الذي ربما لم يكن له صلة تذكر بجفاف محتمل؛ ومن ثم نحيت الآن جانبا نظرية كاربنتر المبتكرة، رغم أنه ربما ينبغي إحياؤها من جديد في ضوء البيانات الجديدة (انظر ما يلي).
16
نترك الحديث عن الجفاف قليلا ، ونتحول إلى المجاعة، ويمكننا أن نلاحظ أن الباحثين أشاروا منذ وقت طويل إلى النصوص المكتوبة التي تتحدث بوضوح عن مجاعات وعن الحاجة إلى الحبوب في الإمبراطورية الحيثية وفي أماكن أخرى في شرق المتوسط في نهاية العصر البرونزي.
17
وأيضا أشاروا عن صواب إلى أن حدوث المجاعة في هذه المنطقة لم يكن مقتصرا على الأعوام الأخيرة من العصر البرونزي المتأخر.
فمثلا، قبل ذلك بعقود، أثناء منتصف القرن الثالث عشر قبل الميلاد، كتبت ملكة حيثية إلى الفرعون المصري رمسيس الثاني مصرحة: «ليس لدي حبوب في بلادي.» بعد ذلك بوقت قصير، ربما في خطوة ذات صلة، أرسل الحيثيون بعثة تجارية إلى مصر للحصول على الشعير والقمح لشحنهما والعودة بهما إلى الأناضول.
18
أيضا يؤكد نقش للفرعون المصري مرنبتاح صرح فيه قائلا: «جعلت الحبوب تؤخذ في السفن، لإبقاء أهل بلاد خاتي على قيد الحياة.» حدوث مجاعة في بلاد الحيثيين قبيل نهاية القرن الثالث عشر قبل الميلاد.
19
وتشهد مراسلات أخرى مرسلة من عاصمة الحيثيين على الأزمة الجارية أثناء العقود التالية، وتشمل هذه المراسلات رسالة يسأل فيها الكاتب بطريقة بلاغية: «هل تعلم أنه كان ثمة مجاعة ألمت ببلادي؟»
20
تتعلق بعض الرسائل التي عثر عليها في أوغاريت بالشحن الفوري لكميات كبيرة من الحبوب إلى الحيثيين. وتتعلق رسالة خطية رسمية، مرسلة من ملك الحيثيين إلى ملك أوغاريت، تحديدا بشحنة من ألفي وحدة من الشعير (أو ببساطة الحبوب). يختم ملك الحيثيين رسالته بطريقة مؤثرة مصرحا: «إنها مسألة حياة أو موت!»
21
وبالمثل تتعلق رسالة أخرى بشحن الحبوب، ولكنها أيضا تطلب بالإضافة إلى ذلك إرسال قوارب كثيرة. قاد هذا المنقبون الأوائل إلى افتراض أنها كانت رد فعل لغارات شعوب البحر، وربما كانت كذلك أو لا .
22
بل إن آخر ملوك أوغاريت، أمورابي، تلقى رسائل عديدة من الملك الحيثي سابيليوليوما الثاني في أوائل القرن الثاني عشر قبل الميلاد، من بينها رسالة فيها تأنيب له على التأخر في إرسال شحنة ضرورية للغاية من الغذاء إلى بلاد الحيثيين في وقت ما في السنوات التي سبقت مباشرة عمليات التدمير النهائية.
23
كان إيتامار سنجر من جامعة تل أبيب مقتنعا بأن مدى المجاعة أثناء الأعوام الأخيرة من القرن الثالث عشر والعقود الأولى من القرن الثاني عشر قبل الميلاد كان غير مسبوق، وأنها أحدثت تأثيرا في مناطق أكثر بكثير من مجرد منطقة الأناضول. وحسب تقديره، تشير الأدلة النصية وكذلك الأثرية إلى أن «التغيرات المناخية العنيفة أثرت على سائر منطقة شرق المتوسط قرب نهاية الألفية الثانية قبل الميلاد.»
24
وربما كان مصيبا؛ لأن إحدى الرسائل التي عثر عليها في منزل أورتينو في أوغاريت في شمال سوريا تشير إلى مجاعة اجتاحت مدينة إيمار في الداخل السوري في الوقت الذي دمرت فيه في 1185ق.م تقول السطور ذات الصلة في هذه الرسالة، التي أرسلها على ما يبدو شخص من شركة أورتينو التجارية التي كان مقرها في تلك المدينة: «يوجد مجاعة في منزلك [يقصد منزلنا]؛ وسنموت جميعنا جوعا. إذا لم تصل إلى هنا سريعا، فسنموت نحن أنفسنا من الجوع. لن ترى نفسا حية من بلادك.»
25
ويبدو أن أوغاريت نفسها لم تكن بمنأى عن ذلك؛ إذ إن رسالة من مرنبتاح عثر عليها في منزل أورتينو تذكر تحديدا «شحنات الحبوب المرسلة من مصر للتخفيف من المجاعة في أوغاريت»
26
وكتب أحد ملوك أوغاريت إلى مراسل غير محدد، ولكنه ربما كان من العائلة الملكية أو شخصا رفيع المستوى، يقول: «معي [هنا]، الوفرة [تحولت إلى] مجاعة.»
27
يوجد أيضا نص من ملك صور، الواقعة على المنطقة الساحلية لما يعرف حاليا بلبنان، إلى ملك أوغاريت. تبلغ الرسالة الملك الأوغاريتي بأن سفينته، التي كانت في طريق عودتها من مصر محملة بالحبوب، قد علقت في عاصفة: «سفينتك التي أرسلتها إلى مصر، قضت نحبها [تحطمت] في عاصفة عاتية بالقرب من صور. استعيدت السفينة وأخذ مسئول [أو ربان] الإنقاذ كل الحبوب من جرارها، ولكني أخذت كل حبوبهم، وكل رجالهم، وكل متعلقاتهم من مسئول [أو ربان] الإنقاذ، وأعدت [كل شيء] إليهم. و[الآن] تتلقى سفينتك الرعاية في عكا، بدون حمولة.» بعبارة أخرى، إما أن السفينة كانت قد التمست ملاذا وإما أن حمولتها قد أنقذت بنجاح. في كلتا الحالتين، كان طاقم السفينة والحبوب التي كانت تحملها في مأمن وفي انتظار أوامر الملك الأوغاريتي.
28
ويبدو أن السفينة نفسها كانت راسية في ميناء مدينة عكا، حيث يمكن للمرء في زمننا الحالي أن يجلس في مطعم لطيف على شاطئ البحر ويتخيل الأنشطة الصاخبة التي كانت تجري هناك منذ أكثر من ثلاثة آلاف عام.
ولكن لا يزال غير مؤكد العامل، أو توليفات العوامل، التي يمكن أن تكون قد تسببت في المجاعة (أو المجاعات) في شرق المتوسط أثناء هذه العقود. تتضمن العناصر التي يمكن النظر فيها الحرب وأوبئة الحشرات، ولكن ثمة احتمالا كبيرا في أن يكون التغير المناخي المصحوب بالجفاف قد حول بلادا كانت ذات يوم خصيبة وارفة إلى منطقة شبه صحراوية قاحلة. غير أنه حتى وقت قريب، لم يكن ثمة أدلة محتملة على التغير المناخي أو الجفاف سوى الوثائق النصية الأوغاريتية والشرق متوسطية الأخرى التي تتضمن تقارير عن المجاعة، وحتى تلك الأدلة لم تكن مباشرة. نتيجة لذلك، ظلت المسألة لعقود محل جدل من حين لآخر بين الباحثين.
29
غير أن الموضوع استمد مؤخرا زخما جديدا نتيجة لاكتشافات نشرها فريق دولي من الباحثين، يضم ديفيد كانيوسكي وإليز فان كامبو من جامعة تولوز في فرنسا وهارفي وايس من جامعة ييل، الذين يقترحون أنهم ربما يكون لديهم أدلة علمية مباشرة على التغير المناخي والجفاف في إقليم البحر المتوسط في نهاية القرن الثالث عشر وبداية القرن الثاني عشر قبل الميلاد؛ إذ إن بحثهم، الذي كان يقترح في البداية أن انتهاء العصر البرونزي المبكر في بلاد الرافدين، قرب نهاية الألفية الثالثة قبل الميلاد، ربما نتج عن تغير مناخي، قد توسع حاليا ليقترح أن نفس الأمر يمكن أن يكون قد حدث في نهاية العصر البرونزي المتأخر أيضا.
30
باستخدام بيانات من موقع تل تويني (جيبالا القديمة) في شمال سوريا، أشار الفريق إلى أنه ربما كان ثمة «عدم استقرار في المناخ وفترة من الجفاف الشديد» في المنطقة في نهاية الألفية الثانية قبل الميلاد.
31
بالتحديد، درسوا حبوب لقاح مأخوذة من رواسب طمي بالقرب من الموقع، تدل على أن «ظروفا مناخية أكثر جفافا حدثت في حزام سوريا المتوسطي من أواخر القرن الثالث عشر وأوائل القرن الثاني عشر قبل الميلاد وحتى القرن التاسع قبل الميلاد.»
32
كذلك نشر فريق كانيوسكي مؤخرا أدلة إضافية على جفاف محتمل في قبرص في نفس هذا الوقت، باستخدام تحليل حبوب لقاح مأخوذة من نظام البحيرات الشاطئية المعروف باسم «مجمع بحيرات لارناكا الملحية»، الواقع عند موقع تكية هالة سلطان.
33
تشير بياناتهم إلى أن «تغيرات بيئية كبرى» وقعت في هذه المنطقة أثناء نهاية العصر البرونزي المتأخر وبداية العصر الحديدي، أي أثناء الفترة من 1200 إلى 850ق.م في هذا الوقت، المنطقة الواقعة حول موقع تكية هالة سلطان، الذي كان في السابق ميناء قبرصيا رئيسيا في العصر البرونزي المتأخر «تحولت إلى مشهد أكثر جفافا [و] من المحتمل أن هطول الأمطار والمياه الجوفية أصبحا غير كافيين للحفاظ على زراعة مستدامة في هذا المكان.»
34
إذا كان كانيوسكي وفريقه على صواب، فقد حصلوا على الأدلة العلمية المباشرة التي كان الباحثون يسعون إليها على أن الجفاف يمكن أن يكون قد أسهم في نهاية العصر البرونزي المتأخر. لقد خلصوا، في الواقع، إلى أن البيانات المأخوذة من كل من ساحل سوريا وساحل قبرص تشير بقوة إلى أن «أزمة العصر البرونزي المتأخر تزامنت مع بداية حدوث جفاف استمر طيلة ما يقرب من 300 عام منذ 3200 عام مضت. تسبب هذا التحول المناخي في تلف المحاصيل، ونقص الغذاء والمجاعة، مما عجل أو سرع من الأزمات الاجتماعية الاقتصادية وفرض نزوحا بشريا إقليميا في نهاية العصر البرونزي المتأخر في شرق المتوسط وجنوب غرب آسيا.»
35
قدم براندون دريك من جامعة نيو مكسيكو ، الذي يعمل بشكل مستقل، بيانات علمية إضافية تمثل إضافة إلى بيانات كانيوسكي وفريقه. وهو يستشهد في بحثه المنشور في دورية «جورنال أوف أركيولوجيكال ساينس» بثلاثة خيوط إضافية من الأدلة تدعم كلها الرأي القائل بأن العصر الحديدي المبكر كان أكثر جفافا من العصر البرونزي السابق عليه. أولا : تدل بيانات نظائر الأكسجين من الرواسب المعدنية (الترسبات الكهفية) داخل مغارة سوريك في شمال إسرائيل على حدوث معدل هطول أمطار سنوي منخفض أثناء الفترة الانتقالية من العصر البرونزي إلى العصر الحديدي. ثانيا: يتبين من بيانات النظائر المستقرة للكربون في عينات لب حبوب اللقاح من بحيرة فولكاريا في غرب اليونان أن النباتات كانت تتأقلم مع بيئات جافة في هذا الوقت. ثالثا: تكشف عينات رسوبية من البحر المتوسط عن حدوث انخفاض في درجة حرارة سطح البحر، الأمر الذي يمكن أن يكون قد تسبب بدوره في انخفاض في هطول الأمطار على البر (عن طريق تقليل الفارق الحراري بين البر والبحر)
36
ويشير إلى أنه بالرغم من أنه «من الصعب أن نحدد مباشرة فترة زمنية معينة ازداد فيها المناخ جفافا»، فإن التغير قد حدث على الأرجح قبل 1250-1197ق.م،
37
وهي بالضبط الفترة الزمنية التي نحن بصدد مناقشتها هنا.
ويشير أيضا إلى أنه لم يحدث ارتفاع حاد فحسب في درجات حرارة نصف الكرة الأرضية الشمالي مباشرة قبل انهيار مراكز القصور الميسينية، الأمر الذي يحتمل أنه تسبب في موجات جفاف، وإنما حدث أيضا انخفاض حاد في درجة الحرارة أثناء هجر هذه المراكز، مما يعني أن المناخ أصبح أكثر حرارة أولا ثم صار فجأة أكثر برودة، وهو ما نتج عنه «ظروف أكثر برودة وجفافا أثناء العصور المظلمة اليونانية.» وعلى حد قول دريك، فإن هذه التغيرات المناخية، بما فيها الانخفاض في درجة حرارة سطح البحر المتوسط قبل 1190ق.م الذي نتج عنه هطول أقل للأمطار (أو الجليد)، يمكن أن تكون قد أثرت تأثيرا جذريا على مراكز القصور، وخاصة تلك التي كانت معتمدة على مستويات مرتفعة من الإنتاجية الزراعية، مثلما في اليونان الميسينية.
38
حاليا أضاف إسرائيل فنكلشتاين ودافنا لانجوت من جامعة تل أبيب، بالاشتراك مع توماس ليت من جامعة بون في ألمانيا، بيانات إضافية إلى الصورة. إنهم يشيرون إلى أن جسيمات حبوب اللقاح الأحفورية من عينة لب بطول عشرين مترا استخرجت من رواسب في قاع بحر الجليل تدل هي الأخرى على فترة من الجفاف الشديد تبدأ من حوالي 1250ق.م في جنوب الشام. وقدمت عينة لب ثانية استخرجت من الشاطئ الغربي للبحر الميت نتائج مماثلة، ولكن العينتين تدلان أيضا على أن الجفاف في هذه المنطقة ربما يكون قد انتهى بالفعل بحلول حوالي عام 1100ق.م، مما سمح باستئناف الحياة في المنطقة، وإن كان يحتمل أن يكون ذلك قد حدث عن طريق استقرار أناس جدد.
39
مع ذلك، ومع كون هذه الاكتشافات مثيرة للاهتمام بالفعل، علينا في هذه المرحلة أن نقر أيضا بأن موجات الجفاف كانت متكررة في هذه المنطقة عبر التاريخ، وأنها لم تتسبب دوما في انهيار الحضارات. مجددا يبدو أن عوامل التغير المناخي، والجفاف، والمجاعة، حتى وإن «أحدثت توترات اجتماعية وأدت في نهاية الأمر إلى التنافس على الموارد المحدودة»، فإنها في حد ذاتها ليست كافية لأن تكون هي التي تسببت في نهاية العصر البرونزي المتأخر من دون أن تكون عوامل أخرى قد تدخلت، حسبما يحرص دريك على أن يوضح.
40 (3) التمرد الداخلي
اقترح بعض الباحثين أن أعمال تمرد داخلية يمكن أن تكون قد أسهمت في الاضطراب الذي حدث قرب نهاية العصر البرونزي المتأخر. يمكن أن يكون فتيل أعمال التمرد هذه قد أشعل بسبب المجاعة، التي تسبب فيها الجفاف أو غير ذلك، أو الزلازل أو كوارث طبيعية أخرى، أو حتى قطع طرق التجارة الدولية، فيمكن لأي من هذه العوامل أو كلها أن تكون قد أحدثت تأثيرا جذريا على الاقتصاد في المناطق المتضررة وأن تكون قد قادت الفلاحين غير الراضين أو الطبقات الدنيا إلى التمرد على الطبقة الحاكمة، في ثورة أشبه بتلك التي جرت عام 1917 في روسيا القيصرية.
41
يمكن اللجوء إلى هذا السيناريو لتفسير التدمير الملحوظ، على سبيل المثال، في حاصور في كنعان، حيث لا يوجد دليل على وقوع زلازل، ولا يوجد دليل محدد على حروب أو غزاة. وعلى الرغم من أن يادين وبن تور، وهما من المنقبين الرئيسيين في الموقع، اقترحا كلاهما حدوث تدمير ناتج عن حرب، ربما يكون قد شنها الإسرائيليون ، فإن المديرة المشاركة في عمليات التنقيب الحالية، شارون زوكرمان من الجامعة العبرية في القدس، قد اقترحت مؤخرا أن تدمير الطبقة الأولى 1إيه في حاصور، الذي يرجع تاريخه إلى وقت ما بين عام 1230 والعقود الأولى للقرن الثاني عشر قبل الميلاد، نتج عن تمرد داخلي لسكان المدينة، وليس عن غزو قامت به شعوب خارجية. وحسبما تصرح ببساطة: «ليس ثمة دليل أثري على حرب، مثل ضحايا بشرية أو أسلحة، في أي مكان في الموقع ... إن الاعتقاد بأن التدمير النهائي لمدينة حاصور في العصر البرونزي المتأخر كان نتيجة هجوم فجائي غير متوقع على مملكة قوية مزدهرة لا يتفق مع الأدلة الأثرية.»
42
وتقترح بدلا من ذلك أن «التصور القائل بأن صراعات داخلية متصاعدة وحالة من الانحدار التدريجي، انتهت بهجوم نهائي على البؤر السياسية والدينية الكبرى لنخبة المدينة، يقدم الإطار البديل الأكثر معقولية لتفسير تدمير حاصور والنزوح منها.»
43
على الرغم من أنه ليس ثمة شك في عمليات التدمير الملحوظة في مراكز قصور ميسينية ومدن كنعانية متعددة، فإنه، بصراحة، لا يوجد طريقة للتكهن بما إذا كان فلاحون متمردون هم المسئولون. ومع ذلك تظل هذه فرضية معقولة، ولكنها تفتقر إلى إثبات. ونقول مجددا إن حضارات كثيرة قد نجت بنجاح من أعمال تمرد داخلية، بل إنها غالبا ما تزدهر في ظل نظام جديد؛ لذلك فإن فرضية أعمال التمرد الداخلية في حد ذاتها ليست كافية لأن تكون مسئولة عن انهيار حضارات العصر البرونزي المتأخر في منطقتي إيجه وشرق المتوسط. (4) غزاة (محتملون) وانهيار التجارة الدولية
من ضمن الأحداث التي يمكن أن تكون قد قادت إلى تمرد داخلي، ألقينا لمحة سريعة على مشهد قطع غزاة خارجيين لطرق التجارة الدولية وإرباك اقتصاديات هشة ربما كانت معتمدة اعتمادا مفرطا على المواد الخام الأجنبية . وقد تكون مقارنة كارول بيل بين الأهمية الاستراتيجية للقصدير في العصر البرونزي والأهمية الاستراتيجية للنفط الخام في عالمنا المعاصر؛ مقارنة في محلها فيما يتعلق بهذا الوضع الافتراضي.
44
ومع ذلك، حتى وإن لم تكن النتيجة هي تمرد داخلي، فإن قطع طرق التجارة يمكن أن يكون قد أثر تأثيرا شديدا وفوريا على ممالك ميسينية مثل بيلوس، وتيرنز، وميسيناي، التي كانت تحتاج إلى استيراد كل من النحاس والقصدير لإنتاج البرونز، والتي يبدو أنها كانت تستورد كميات هائلة من مواد خام إضافية أيضا، منها الذهب، والعاج، والزجاج، وخشب الأبنوس، والراتينج التربنتيني المستخدم في صنع العطور. وبينما يمكن لكوارث طبيعية مثل الزلازل أن تتسبب في تعطيل مؤقت للتجارة، الأمر الذي يمكن أن يؤدي إلى ارتفاع الأسعار وربما إلى ما ندعوه اليوم بالتضخم، فمن المرجح أن تكون تعطيلات أكثر استدامة قد نتجت عن استهداف غزاة خارجيين للمناطق المتضررة، ولكن من كان هؤلاء الغزاة؟ أم أننا سنلجأ هنا إلى استحضار شعوب البحر؟
وبدلا من شعوب البحر، اعتقد اليونانيون القدماء، من مؤرخين مثل هيرودوت وثوسيديديس في أثينا في القرن الخامس ق.م وحتى الرحالة باوسانياس الأحدث عهدا بكثير، أن مجموعة تعرف باسم الدوريين قد أتت غازية من الشمال في نهاية العصر البرونزي، مستهلة بذلك العصر الحديدي.
45
هذه الفكرة كانت يوما ما محل كثير من النقاش بين أوساط الأثريين والمؤرخين القدماء في إيجه في العصر البرونزي؛ إذ كان من بين اعتباراتهم نوع جديد من الأواني الفخارية يسمى «الأواني اليدوية المصقولة» أو «الأواني البربرية». ومع ذلك، بات واضحا في العقود الأخيرة أنه لم يحدث غزو من هذا النوع من الشمال في هذا الوقت ولا يوجد سبب يدعونا إلى قبول فكرة أن «غزوا دوريا» قضى على الحضارة الميسينية. وبصرف النظر عن تراث اليونانيين القدماء اللاحقين، من الواضح أن الدوريين لم يكن لهم أي علاقة بالانهيار الذي حدث في نهاية العصر البرونزي المتأخر وأنهم لم يدخلوا اليونان إلا بعد وقت طويل من وقوع تلك الأحداث.
46
إضافة إلى ذلك، تشير دراسات أجريت مؤخرا إلى أنه حتى أثناء انحدار العالم الميسيني وفي الأعوام الأولى من العصر الحديدي التالي، ربما كان البر الرئيسي لليونان لا يزال محافظا على صلاته التجارية مع شرق المتوسط. غير أنه من المحتمل أن هذه الصلات لم تعد حينئذ تحت سيطرة طبقات النخبة التي كانت تسكن قبل ذلك قصور العصر البرونزي.
47
على الجانب الآخر، لدينا في شمال سوريا وثائق عديدة تشهد بحقيقة أن غزاة من البحر هاجموا أوغاريت أثناء هذه الفترة الزمنية. وعلى الرغم من قلة ما لدينا من أدلة ثابتة بشأن أصول هؤلاء الغزاة، ليس بوسعنا إغفال أنه كان من بينهم شعوب البحر. إضافة إلى ذلك، أشار باحثون مؤخرا إلى أن كثيرا من دويلات المدن في شرق المتوسط، وأوغاريت تحديدا، ربما تكون قد تضررت تضررا بالغا جراء انهيار طرق التجارة الدولية، التي ربما كانت عرضة لأعمال نهب من الغزاة القادمين من البحر.
اقترح إيتامار سنجر، على سبيل المثال، أن سقوط أوغاريت ربما كان راجعا إلى «الانهيار المفاجئ للهياكل التقليدية للتجارة الدولية، التي كانت تمثل شريان الحياة للاقتصاد الأوغاريتي الذي كان آخذا في الازدهار في العصر البرونزي.» وضع كريستوفر مونرو من جامعة كورنيل هذا الأمر ضمن إطار أكبر، مشيرا إلى أن دويلات المدن الأغنى في شرق المتوسط كانت الأكثر تضررا جراء الأحداث التي وقعت أثناء القرن الثاني عشر قبل الميلاد؛ لأنها لم تمثل الأهداف الأكثر استقطابا للغزاة فحسب بل أيضا كانت الأكثر اعتمادا على شبكة التجارة الدولية. ويقترح أن الاعتماد، أو ربما الاعتماد المفرط، على المشاريع الرأسمالية، وتحديدا التجارة البعيدة المدى، يمكن أن يكون قد أسهم في انعدام الاستقرار الاقتصادي الملاحظ في نهاية العصر البرونزي المتأخر.
48
ومع ذلك، ينبغي ألا نتجاهل حقيقة أنه كان من شأن أوغاريت أن تمثل هدفا مغريا لغزاة خارجيين وأيضا قراصنة محليين، بالإضافة إلى مجموعات محتملة أخرى. وفي هذا الصدد، ينبغي أن ننظر مجددا في الرسالة المأخوذة من الأرشيف الجنوبي، التي عثر عليها في الساحة 5 في قصر أوغاريت (ولكن ليس بداخل قمين)، والتي تذكر سبع سفن للأعداء كانت تعيث فسادا في الأراضي الأوغاريتية. سواء كان لهذه السفن بعينها علاقة بالتدمير النهائي لأوغاريت أم لا، فقد كان من شأن سفن كهذه أن تعطل التجارة الدولية التي كانت أوغاريت تعتمد عليها اعتمادا حيويا.
عندما يحدث وضع مأساوي كهذا في وقتنا الحالي، يبدو وكأن لدى الجميع نصيحة يقدمونها. ولم تكن الأمور مختلفة حينئذ، أثناء العصر البرونزي المتأخر. تقدم رسالة عثر عليها في أوغاريت، ربما كانت مرسلة من النائب الحيثي لملك كركميش، نصيحة للملك الأوغاريتي بشأن كيفية التعامل مع سفن الأعداء تلك. ويستهلها بقوله: «لقد كتبت لي تقول: «لقد شوهدت سفن الأعداء في البحر»!» ثم ينصحه قائلا: «حسنا، عليك أن تظل ثابت الجنان. عجبا، من ناحيتك، أين قواتك، وعجلاتك الحربية؟ أليست بالقرب منك؟ ... طوق مدنك بأسوار. وضع قوات مشاتك وفرق عجلاتك الحربية [فيها]. كن متأهبا للعدو وتحل ببأس شديد!»
49
وثمة رسالة أخرى، عثر عليها في منزل رابانو وأرسلها رجل يسمى إيشوارا والذي كان الحاكم الأكبر لقبرص، لا شك في أن لها صلة بنفس الأمر. في هذه الرسالة، يقول الحاكم إنه ليس مسئولا عن أي ضرر ألحقته السفن بأوغاريت أو أراضيها المحيطة، وخاصة، بحسب زعمه، كون سفن تابعة لأوغاريت ورجال منها هم الذين يرتكبون هذه الفظائع، وإن أوغاريت ينبغي أن تكون مستعدة للدفاع عن نفسها: «وأما بشأن المسألة المتعلقة بأولئك الأعداء؛ [فلقد كان] أناس من بلدكم [و] سفنكم [هم الذين] فعلوا هذا! و[كان] أناس من بلدكم [هم الذين] ارتكبوا هذه الاعتداءات ... أنا أكتب إليك لأخبرك وأحميك. لتكن على حذر!» ثم يضيف أنه يوجد عشرون سفينة للأعداء، ولكنها أبحرت مغادرة إلى جهة غير معلومة.
50
أخيرا، رسالة في أرشيف أورتينو من مسئول في كركميش، الواقعة في الداخل الشمالي السوري، تصرح بأن ملك كركميش كان في طريقه قادما من الأراضي الحيثية إلى أوغاريت ومعه تعزيزات، وأن الأشخاص المتعددين المذكورين في الرسالة، ومن ضمنهم أورتينو وشيوخ المدينة، ينبغي أن يحاولوا الصمود حتى يصلوا.
51
من غير المرجح أن يكونوا قد وصلوا في الوقت المناسب. وإن فعلوا ، فقد كانوا بغير فائدة تذكر؛ إذ إن رسالة خاصة إضافية، كان يعتقد غالبا أنها أحد آخر الاتصالات الآتية من أوغاريت، تصف وضعا منذرا بالخطر: «عندما وصل رسولك، كان الجيش قد تعرض للإذلال ونهبت المدينة. أحرق طعامنا الذي كان في البيادر ودمرت أيضا بساتين الكروم. لقد نهبت مدينتنا. أرجو أن تعرف ذلك! أرجو أن تعرف ذلك!»
52
كما أشرنا أعلاه، يورد المنقبون في أوغاريت أن المدينة أحرقت، وأن مستوى التدمير يصل إلى مترين ارتفاعا في بعض الأماكن، وأنه عثر على العديد من رءوس السهام متناثرة في أنحاء الأطلال.
53
كان يوجد أيضا عدد من الذخائر التي عثر عليها مدفونة في المدينة؛ والتي احتوى بعضها على أغراض ثمينة من الذهب والبرونز، من بينها تماثيل صغيرة، وأسلحة، وأدوات، بعضها عليه نقوش. ويبدو أنها كانت كلها أغراضا خبئت قبل وقوع التدمير مباشرة؛ وأن مالكيها لم يعودوا لاستعادتها قط.
54
ومع ذلك فإن حتى تدميرا شديدا وكاملا للمدينة لا يفسر السبب في أن الناجين لم يعيدوا إعمارها، إلا إذا لم يكن ثمة ناجون.
قد يمثل قطع طرق التجارة، وانهيار النظام التجاري الدولي برمته، وليس الإبادة الكاملة، التفسير الأكثر منطقية واكتمالا للسبب وراء أن الناس لم يعاودوا مطلقا الاستقرار في أوغاريت بعد تدميرها. وعلى حد قول أحد الباحثين: «حقيقة أن أوغاريت لم تقم لها قائمة من جديد قط، كما فعلت مدن أخرى في الشام في العصر البرونزي المتأخر كانت قد تعرضت لمصير مماثل، لا بد أن تستند على أسباب أكثر وجاهة من التدمير الذي لحق بالمدينة.»
55
ومع ذلك، فإنه يوجد حجة مضادة لهذا الطرح؛ إذ يبدو أن صلات أوغاريت الدولية استمرت حتى النهاية الفجائية للمدينة؛ وذلك لأنه يوجد رسالة مرسلة من ملك بيروت إلى مسئول أوغاريتي (الوالي) وصلت بعد أن كان ملك أوغاريت قد فر بالفعل من المدينة.
56
بعبارة أخرى، دمر الغزاة أوغاريت ولم يعد بناؤها قط، رغم حقيقة أن الصلات التجارية الدولية كانت قائمة، على الأقل جزئيا إن لم تكن قد بقيت بصورة كاملة وقت التدمير.
في الواقع ، يتضح جليا من المواد التي يضمها أرشيفا رابانو وأورتينو القدر الهائل من الاتصال الدولي الذي يبدو أنه ظل قائما في شرق المتوسط حتى في نهاية العصر البرونزي المتأخر. إضافة إلى ذلك، من الواضح من النصوص القليلة المنشورة من أرشيف أورتينو أن هذه الصلات الدولية استمرت حتى اللحظة الأخيرة تقريبا قبل تدمير أوغاريت. يبدو هذا دلالة واضحة على أن النهاية ربما كانت فجائية، ولم تكن على هيئة انحدار تدريجي بعد قطع طرق التجارة أو بسبب الجفاف والمجاعة، وأن أوغاريت تحديدا كانت قد دمرت على يد غزاة، بصرف النظر عما إذا كانت هذه القوات قد قطعت أيضا طرق التجارة الدولية أم لا. (5) اللامركزية وصعود التجارة الخاصة
ثمة نقطة أخرى يتعين أخذها في الاعتبار، وهي نقطة طرحت منذ عهد قريب نسبيا وقد تكون انعكاسا للتفكير الحالي بشأن دور اللامركزية في عالمنا اليوم.
في مقال نشر في عام 1998، خلصت سوزان شيرات، التي تعمل حاليا في جامعة شيفلد، إلى أن شعوب البحر تمثل الخطوة الأخيرة في مسألة استبدال الأنظمة الاقتصادية اللامركزية الجديدة في العصر الحديدي بالأنظمة الاقتصادية السياسية المركزية القديمة التي كانت قائمة في العصر البرونزي؛ أي التحول من الممالك والإمبراطوريات التي كانت تتحكم في التجارة الدولية إلى دويلات المدن الأصغر ورواد الأعمال الأفراد الذين كانوا يمارسون الأعمال لحسابهم الشخصي. وتقترح أن شعوب البحر يمكن «أن يكون من المفيد اعتبارهم ظاهرة هيكلية، نتاجا للتطور الطبيعي وتوسيع التجارة الدولية في الألفية الثالثة وأوائل الألفية الثانية، حملت في طياتها بذور إسقاط الاقتصاديات الموجهة المعتمدة على القصور، والتي كانت قد بدأت هذا النوع من التجارة في بادئ الأمر.»
57
ومن ثم، فمع إقرارها بأن طرق التجارة الدولية ربما تكون قد انهارت، وبأن بعضا من شعوب البحر على الأقل ربما كانوا غزاة مهاجرين، فإنها تخلص في نهاية المطاف إلى أنه لا يهم في الحقيقة من أين جاءت شعوب البحر، ولا حتى من كانت أو ماذا فعلت. الأهم من ذلك بكثير هو التغير الاجتماعي السياسي والاقتصادي الذي تمثله تلك الشعوب، من اقتصاد كان يخضع لسيطرة شبه كاملة من القصور إلى اقتصاد حظي فيه التجار الذين كانوا يعملون لحسابهم الخاص والكيانات الأصغر بقدر أكبر بكثير من الحرية الاقتصادية.
58
على الرغم من أن حجة شيرات مسرودة على نحو رائع، فقد سبق لباحثين آخرين أن أبدوا اقتراحات مشابهة. على سبيل المثال، كتب كلاوس كيليان، المنقب عن تيرنز، ذات مرة: «بعد سقوط القصور الميسينية، عندما كان الاقتصاد «الخاص» قد تأسس في اليونان، استمرت الاتصالات مع البلدان الأجنبية. وخلف نظام القصور الحسن التنظيم أنظمة حكم محلية أصغر، كانت بالتأكيد أقل قوة في توسعها الاقتصادي.»
59
بل إن ميكال آرتزي، من جامعة حيفا، أطلقت اسما على بعض التجار الذين كانوا يعملون لحسابهم الخاص حسب تصور شيرات، ناعتة إياهم «بدو البحر» واقترحت أنهم كانوا نشطين كوسطاء نفذوا الكثير من العمليات التجارية البحرية أثناء القرنين الرابع عشر والثالث عشر قبل الميلاد.
60
ومع ذلك فإن دراسات أحدث عهدا عارضت بشدة نمط الرؤية الانتقالية العالمية الذي اقترحته شيرات. على سبيل المثال، تعترض كارول بيل باحترام، قائلة: «إنه لمن قبيل التبسيط ... أن ننظر إلى التغير الذي حدث بين العصر البرونزي المتأخر والعصر الحديدي على أنه إحلال لتجارة أصحاب الأعمال محل التبادل الذي كان يدار بواسطة القصور. إن الاستبدال الإجمالي لنموذج بآخر ليس تفسيرا جيدا لهذا التغيير ولإعادة الهيكلة تلك.»
61
ومع أنه ليس ثمة شك في أن الخصخصة ربما تكون قد بدأت على هيئة منتج ثانوي لتجارة القصور، فمن غير الواضح بالمرة أن هذه الخصخصة بعد ذلك قوضت في نهاية المطاف نفس الاقتصاد الذي كانت قد نبعت منه.
62
في أوغاريت، على سبيل المثال، أشار الباحثون إلى أنه رغم أنه كان واضحا أن المدينة أحرقت وأخليت من سكانها، فليس ثمة دليل، لا في النصوص التي عثر عليها في الموقع ولا في البقايا نفسها، على أن التدمير والانهيار كانا بسبب أصحاب أعمال لا مركزيين قوضوا الدولة وسيطرتها على التجارة الدولية.
63
في الواقع، بالمزج بين الملاحظات النصية وحقيقة أنه من الواضح أن أوغاريت دمرت جراء حريق، وأنه يوجد أسلحة في الحطام، يجوز لنا بكل ثقة أن نكرر أنه على الرغم من أن بذور اللامركزية كانت موجودة في أوغاريت، فمن شبه المؤكد أن الحرب والقتال هما ما تسببا في التدمير النهائي، مع اعتبار الغزاة الخارجيين الجناة المحتملين. يختلف هذا السيناريو اختلافا كبيرا للغاية عن ذلك الذي تصورته شيرات وزملاؤها الذين يشاطرونها الرأي. ومع ذلك، ليس من المؤكد أن هؤلاء الغزاة كانوا شعوب البحر، على الرغم من أنه من المثير للفضول أن أحد النصوص التي عثر عليها في أوغاريت يذكر تحديدا الشيكيلا/الشيكليش، المعروفين من نقوش شعوب البحر المنسوبة لمرنبتاح ورمسيس الثالث.
على أي حال، حتى لو كانت مسألتا اللامركزية والتجار المستقلين الذين كانوا يعملون لحسابهم الخاص من المسائل المطروحة، فيبدو من غير المرجح أن يكونا قد تسببا في انهيار العصر البرونزي المتأخر، بمفردهما على الأقل. وبدلا من تقبل فكرة تقويض التجار الذين كانوا يعملون لحسابهم الخاص ومشاريعهم لاقتصاد العصر البرونزي، ربما ينبغي أن نأخذ في الاعتبار الاقتراح البديل الذي مفاده أنهما انبثقا ببساطة عن الفوضى الناجمة عن الانهيار، كما اقترح جيمس مولي من جامعة بنسلفانيا منذ عشرين عاما. لم يعتبر مولي القرن الثاني عشر قبل الميلاد عالما يسيطر عليه «غزاة البحر، والقراصنة، والمرتزقة اللصوص»، وإنما اعتبر أنه كان عالما يضم «أربابا لمشاريع المال والتجارة، الذين يستغلون فرصا اقتصادية جديدة، وأسواقا جديدة، ومصادر جديدة للمواد الخام.»
64
من قلب الفوضى، تنبع الفرصة، على الأقل للقلة المحظوظة، كما هو الحال دائما. (6) هل كانت شعوب البحر هي الفاعلة؟ ومن أين جاءت؟
نصل، أخيرا، إلى النظر بشأن مسألة شعوب البحر، التي تظل غامضة ومحيرة كما هو حالها دائما. سواء نظر إلى أولئك القوم على أنهم كانوا غزاة بحر أو سكانا نازحين، فإن الأدلة الأثرية وكذلك النصية تشير إلى أن شعوب البحر، بصرف النظر عن لقبهم، ارتحلوا على الأرجح برا وبحرا؛ أي بأي وسيلة ممكنة.
وعلى الأرجح أن أولئك الذين انطلقوا بحرا ارتحلوا بمحاذاة الساحل، بل حتى كانوا يرسون على مرفأ آمن كل مساء . غير أنه لا يزال ثمة تساؤلات فيما يتعلق بما إذا كانت سفن الأعداء المذكورة في الرسائل الأوغاريتية تخص شعوب البحر أم تخص أعضاء متمردين من مملكتهم، كما أوحت الرسالة التي أرسلها إيشوارا، حاكم ألشية.
65
في هذا الصدد، ينبغي أن نأخذ في الحسبان الرسالة المذكورة آنفا، من منزل أورتينو في أوغاريت، التي تذكر «شعب الشيكيلا»، الذين يمكن على الأرجح تحديد هويتهم على أنهم الشيكليش الوارد ذكرهم في السجلات المصرية. أرسلت الرسالة من الملك الحيثي، ربما كان سابيليوليوما الثاني، إلى حاكم أوغاريت، وتشير إلى ملك شاب لأوغاريت، الذي تصفه بأنه «لا يعرف أي شيء.» يرى سنجر، وباحثون آخرون، هذا على أنه إشارة محتملة إلى أمورابي، الذي كان ملكا حديث العهد لأوغاريت في ذلك الوقت. في الرسالة، يقول الملك الحيثي إنه يود مقابلة رجل يسمى إبنادوشو، الذي كان قوم شيكيلا «الذين يعيشون على متن السفن» قد أسروه، من أجل أن يتوصل إلى المزيد من المعلومات عن هؤلاء الشيكيلا/الشيكليش.
66
ومع ذلك، لا نعرف إذا كانت المقابلة قد جرت أم لا، ولا ماهية الأمور الأخرى التي كانت يمكن أن يعرفها من إبنادوشو.
من المتفق عليه بوجه عام أن هذه الوثيقة تحتوي على الذكر المحدد الوحيد بالاسم لشعوب البحر خارج السجلات المصرية، على الرغم من أنه اقترح أيضا أنه ربما كان يوجد وثائق أخرى. من المحتمل أن «العدو القادم من أرض ألشية» الذي هاجم الملك الحيثي الأخير، سابيليوليوما الثاني، على اليابسة بعد أن قاتل القوات الألشية (أي القبرصية) في ثلاث معارك بحرية، هو إشارة إلى شعوب البحر. وهو ما ينطبق أيضا على نقش عثر عليه في حاتوسا في عام 1988، والذي ربما يتضمن إشارة إلى أن سابيليوليوما الثاني كان بالفعل يقاتل شعوب البحر التي رست على الساحل الجنوبي للأناضول وكانت تتقدم شمالا.
67
مع ذلك، تحتوي معظم الوثائق والنقوش، بخلاف السجلات المصرية، ببساطة على العبارة الأكثر تعميما «سفن الأعداء»، ولا تذكر شعوب البحر تحديدا بالاسم.
من المحتمل، وربما من المرجح، أن أولئك المنتمين إلى شعوب البحر الذين جاءوا برا انطلقوا معظم الوقت بمحاذاة الطريق الساحلي، حيث من شأن تدمير مدن محددة أن يكون قد فتح لهم مناطق جديدة تماما، بنفس الطريقة تقريبا التي فتحت بها معارك الإسكندر الأكبر عند نهر جرانيكوس، وإسوس، وجوجاميلا أجزاء معينة من الشرق الأدنى القديم أمام جيشه بعد ذلك بألف سنة تقريبا. اقترح عساف ياسور-لانداو من جامعة حيفا أن بعض شعوب البحر يمكن أن يكونوا قد بدءوا رحلتهم من اليونان ومروا عبر مضيق الدردنيل إلى غرب تركيا/الأناضول. ويمكن أن يكون آخرون - يحتمل أنهم كانوا معظمهم، على حد قوله - قد بدءوا رحلتهم من هذه النقطة، وربما يكونون قد انضموا إلى أولئك الذين جاءوا من منطقة إيجه، متخذين الطريق الذي استمر بطول الساحل الجنوبي لتركيا إلى كيليكية عند طرفها الشرقي، ثم وصولا إلى جنوب الشام عبر طريق يمتد بطول الساحل. إذا كانوا قد تبعوا هذا الطريق، فمن شأنهم أن يكونوا قد صادفوا مدينة طروادة، ومملكتي أرزاوا وتارهونتاسا في الأناضول، ومدينتي طرسوس وأوغاريت في جنوب شرق الأناضول وشمال سوريا، على الترتيب. تظهر في بعض أو كل هذه المواقع بالفعل علامات للتدمير و/أو علامات على هجر لاحق لسكانها لها، حدث زهاء الوقت الذي يفترض أن شعوب البحر كانت نشطة فيه، ولكن ليس واضحا إن كانت مسئولة بالفعل عن ذلك أم لا.
68
في الحقيقة، يبدو أن الأدلة الأثرية تشير حاليا إلى أن معظم المواقع في الأناضول كانت ببساطة مهجورة تماما أو معظمها مهجور في هذا الوقت، ولم تحرقها شعوب البحر. يمكننا التكهن بأنه إذا كانت طرق التجارة والنقل والاتصال الدولية قد تعطلت جراء الحروب، أو المجاعات، أو غير ذلك، فربما تكون المدن التي كانت معتمدة على هذه الطرق قد اضمحلت وآلت إلى الفناء، وهو ما من شأنه أن يكون قد أدى إلى مغادرة سكانها لها تدريجيا أو فرارهم منها على وجه السرعة، حسب سرعة الانحدار التجاري والثقافي. كما قال أحد الباحثين مؤخرا: «مع أنه من المنطقي أن نفترض أن كيليكية والساحل السوري قد تأثرا بأفعال شعوب البحر، فإنه حتى الآن لا يوجد دليل تاريخي ولا أثري على أي نوع من النشاط لشعوب البحر في بلاد الحيثيين يشهد على ذلك ... يبدو أن الأسباب الحقيقية لانهيار الدولة الحيثية هي أسباب داخلية وليست خارجية.»
69
ثمة مثال واضح على إلقاء اللائمة دون إثبات وهو الادعاء الحديث العهد المتعلق بالتأريخ بالكربون المشع لموقع تل تويني، موقع بلدة ومرفأ جيبالا من العصر البرونزي في نطاق مملكة أوغاريت. في هذه الحالة، قادت النتائج المعملية المنقبين وزملاءهم إلى استنتاج أنهم قد عثروا على دليل على تدمير تسببت فيه شعوب البحر، ويحددون تاريخه بالفترة ما بين 1192-1190ق.م
70
ويصرحون، دون محاذير: «كانت شعوب البحر عبارة عن خصوم بحريين من أصول مختلفة. بدأت تلك الشعوب غزوا بريا وبحريا مختلطا زعزع استقرار أساس نفوذ إمبراطوريات وممالك في العالم القديم الذي كان قد ضعف بالفعل، وسعت إلى دخول الأراضي المصرية أو السيطرة عليها. تمثل شعوب البحر الخطوة الأخيرة لدوامة طويلة ومعقدة من التدهور في عالم منطقة البحر المتوسط القديم.»
71
على الرغم من أنه ليس ثمة شك كبير في أن المدينة قد دمرت في الوقت ذاته تقريبا الذي حدده المنقبون، كما أكدت تواريخ الكربون المشع، فإن إسناد المسئولية إلى شعوب البحر باعتبارهم الفاعلين المسئولين عن التدمير هو أمر قائم على التخمين، مع أنه محتمل للغاية بالتأكيد. لم يقدم المنقبون أي إثباتات قطعية فيما يتعلق بدور شعوب البحر؛ فهم ببساطة يشيرون إلى أن الثقافة المادية للمستوطنة التي أقيمت على التل بعد التدمير تشمل «ظهور نمط عمارة إيجي، وأواني فخارية مصنوعة محليا من الحقبة المسينية 3سي المبكرة، وأواني فخارية مصقولة مصنوعة يدويا، وأوزانا من الطمي على النمط الإيجي.»
72
وعلى حد قولهم فإن «هذه المواد، المعروفة أيضا من المستوطنات الفلستية، هي علامات ثقافية على مستوطنين أجانب، هم على الأرجح شعوب البحر.»
73
ومع أن تل تويني يمكن أن يكون خير مثال حتى الآن على موقع من المحتمل أن تكون شعوب البحر قد دمرته واستوطنته مجددا، فإنه ليس بوسعنا أن نقول ذلك بتيقن مطلق. علاوة على ذلك، كما لاحظت آني كوبيت، لا يمكن للمرء أن يكون متأكدا دوما من أن القوم الذين أعادوا استيطان موقع ما بعد تدميره هم بالضرورة نفس أولئك الذين دمروه في المقام الأول.
يمكننا أيضا أن نخمن أنه في بعض الحالات على الأقل ربما تكون مجموعات توصف بأنها شعوب البحر قد دخلت الفراغ الذي نشأ عن التدمير و/أو هجر المدن، سواء كانوا هم أو آخرين من تسببوا في ذلك، واستقروا ولم يتابعوا المضي، مخلفين وراءهم مصنوعاتهم اليدوية، كما ربما كان الحال في تل تويني. في ظروف كتلك، من المرجح أن تكون شعوب البحر هذه قد احتلت في المقام الأول، وإن لم يكن حصرا، المدن الساحلية، التي تشمل مواقع مثل تارسين ومرسين على الساحل الجنوبي الشرقي للأناضول. الأمر نفسه قد ينطبق على المنطقة الموجودة حاليا على الحدود بين جنوب غرب تركيا وشمال سوريا، في منطقة تل طعينات، التي تشير الأدلة المكتشفة مؤخرا أنها كانت تعرف باسم «أرض باليستين» أثناء العصر الحديدي.
74
في الواقع، يوجد تقاليد، وبخاصة تقاليد أدبية، تذكر تحديدا أن شعوب البحر استقرت في تل دور، في شمال ما يعرف حاليا باسم إسرائيل الحديثة. على سبيل المثال، تشير القصة المصرية التي يطلق عليها «تقرير ون آمون»، التي يرجع تاريخها إلى النصف الأول من القرن الحادي عشر قبل الميلاد، إلى تل دور باعتباره مدينة التجيكر أو السيكيلز (الشيكليش). يدرج نص مصري آخر، هو «قائمة أسماء أعلام أمينيموب» الذي يرجع تاريخه إلى حوالي 1100ق.م، الشاردانا، والتجيكر، والفلستيين، ويذكر أيضا مواقع أشقلون، وأشدود وغزة (وهي ثلاثة مواقع من خمسة تعتبر جزءا من «مدن الفلستيين الخمس»). اقترح الباحثون أن شعوب البحر استقرت في مواقع على امتداد ساحل الكرمل وفي وادي عكا، ربما أيضا إلى جانب تل دان، مثل شعبي الشاردانا والدانونا. في كثير من هذه المواقع، بما فيها تلك التي لها مستويات إشغال توصف بأنها «فلستية»، مثل أشدود، وأشقلون، وغزة، وعقرون، وأماكن أخرى، عثر على أوان فخارية على نمط إيجي ومحددات هوية ثقافية أخرى .
75
ربما تكون هذه هي البقايا المادية الوحيدة التي لدينا لشعوب البحر المحيرة، ولكن يبدو أن للبقايا الأثرية في كثير من هذه المواقع، وحتى أبعد شمالا، صلات مباشرة بقبرص أكثر من منطقة إيجه. ومع ذلك، يوجد روابط واضحة مع شعوب غير كنعانية في القرن الثاني عشر قبل الميلاد.
76
من المثير للاهتمام، أنه لا يوجد بقايا كتلك، ولا أي نوع من التدمير، في المنطقة التي عرفت لاحقا باسم فينيقية، فيما يعرف الآن بلبنان الحديثة. وعلى الرغم من النقاشات الأكاديمية، لا يزال من غير الواضح السبب وراء ذلك، أو ما إذا كان ذلك مجرد وهم ناجم عن الافتقار النسبي إلى التنقيب في هذه المنطقة، مقارنة بالمناطق الساحلية الأخرى في الشرق الأدنى.
77
من بين سيناريوهات كثيرة مقترحة لتفسير الأيام الأخيرة للعصر البرونزي المتأخر في منطقتي إيجه وشرق المتوسط، لا يزال يبدو المقترح الذي طرحه إسرائيل فنكلشتاين من جامعة تل أبيب منذ عقد مضى هو الأكثر رجوحا؛ إذ يدفع بحجة مفادها أن نزوح شعوب البحر ليس واقعة منفردة وإنما عملية طويلة تشمل مراحل عديدة، بدأت المرحلة الأولى فيها في السنوات الأولى لحكم رمسيس الثالث، في حوالي 1177ق.م، وانتهت المرحلة الأخيرة أثناء زمن رمسيس السادس، في حوالي 1130ق.م ويقول تحديدا:
على الرغم من وصف النصوص المصرية لواقعة منفردة، فإن نزوح شعوب البحر كان عملية مدتها نصف قرن على الأقل وكان لها مراحل عديدة ... ربما تكون قد بدأت بمجموعات نشرت الدمار على امتداد الساحل الشامي، بما في ذلك شمال فلستيا، في بداية القرن الثاني عشر وهزمت على يد رمسيس الثالث في عام حكمه الثامن. نتيجة لذلك، استقر بعضها في ثكنات عسكرية مصرية في الدلتا. ونجحت مجموعات لاحقة من شعوب البحر، في النصف الثاني من القرن الثاني عشر، في القضاء على الحكم المصري في جنوب كنعان. وبعد تدمير المعاقل المصرية ... استقرت تلك المجموعات في فلستيا وأقامت مراكزها الرئيسية في أشدود، وأشقلون، وتل مقنع، وأماكن أخرى. يسهل التعرف على هؤلاء الناس، الفلستيين المذكورين في النص التوراتي اللاحق، عن طريق العديد من السمات المأخوذة من الإيجيين في ثقافتهم المادية.
78
يتفق معظم الباحثين مع فنكلشتاين في أنه يبدو أن الأدلة الأثرية تدل على أننا ينبغي أن ننظر في المقام الأول إلى الإقليم الإيجي، ربما عبر آلية التدقيق التي تعتبر أن غرب الأناضول وقبرص نقطتا توقف وسيطتان للبعض أو للغالبية على طول الطريق،
79
وليس صقلية، وسردينيا، وغرب المتوسط فيما يتعلق بأصل الكثير من شعوب البحر. ومع ذلك، يقترح ياسور-لانداو أنهم إذا كانوا ميسينيين، فإنهم لم يكونوا أولئك الذين فروا من أنقاض قصورهم، في ميسيناي وفي أماكن أخرى، بعد أن دمرت تلك القصور مباشرة. ويشير إلى أنه لم يعثر على نصوص مكتوبة بالنظام الخطي بي أو أي جوانب أخرى من حقبة القصور الثرية من القرن الثالث عشر قبل الميلاد على البر الرئيسي لليونان في هذه المواقع الأناضولية والكنعانية. عوضا عن ذلك، تدل الثقافة المادية لهؤلاء المستوطنين على أنهم كانوا من «الثقافة الأكثر تواضعا نسبيا التي أتت [على الفور] بعد ذلك» أثناء أوائل القرن الثاني عشر ق.م ويلاحظ أيضا أن البعض ربما كانوا مزارعين، وليسوا محاربين غزاة، يسعون إلى تحسين حياتهم بالانتقال إلى منطقة جديدة. مهما يكن من أمر، فقد كانوا «مجموعة سكانية من الأسر التي كانت تتنقل بحثا عن وطن جديد.»
80
وعلى أي حال، فهو يعتقد أن هؤلاء النازحين لم يكونوا سبب انهيار حضارات العصر البرونزي المتأخر في هذه المنطقة وإنما كانوا بدلا من ذلك «نهازي فرص» استغلوا الانهيار ليبحثوا لأنفسهم عن أوطان جديدة.
81
في هذا الشأن يعترض ياسور-لانداو بشدة على الصورة التقليدية للاستيلاء العسكري للفلستيين على كنعان. ويقول: «لا تعكس ملابسات الاستيطان حدوث اجتياح عنيف. وتظهر الاكتشافات الأخيرة في أشقلون أن النازحين استقروا [في واقع الأمر] في موقع خال من السكان، فوق البقايا غير المكتملة لثكنة عسكرية مصرية ... لا توجد علامات واضحة على أي تدمير عنيف في أشدود ... قد لا تزيد علامات التدمير التي وصفها المنقبون [هناك] عن كونها دليلا على طهي طعام ... في عقرون، القرية الكنعانية الصغيرة ... قد دمرت بالفعل بالنيران، ولكن ... حل محلها قرية كنعانية أخرى ... قبل وصول النازحين.»
82
بدلا من استيلاء عدائي عسكري الطابع، يرى ياسور-لانداو عوضا عن ذلك حدوث زيجات بين ثقافات متباينة وأسر متعددة الثقافات، تحتفظ بالتقاليد الكنعانية وكذلك الإيجية، غالبا على المستوى المحلي. وعلى حد تعبيره فإن «البقايا المادية من فلستيا في العصر الحديدي المبكر تكشف عن وجود تفاعلات متشعبة، وسلمية في أغلبها، بين النازحين والسكان المحليين ... ولذلك أجرؤ على أن أقترح أن الغياب العام للعنف فيما يتصل بتأسيس المدن الفلستية ... والتعايش بين كل من التقاليد الثقافية الإيجية والمحلية يدلان على أن تأسيس تلك المدن كان مشتركا بين النازحين الإيجيين والسكان المحليين، ولم تكن مشاريع استعمارية.»
83
يتفق باحثون آخرون مع ذلك، ويشيرون إلى أن الفلستيين، في الأغلب، لم يدمروا سوى الأجزاء الخاصة بالنخبة في بعض المواقع، كالقصر والمنطقة المحيطة به، على سبيل المثال، وأن العناصر التي نحدد هويتها حاليا على أنها فلستية كانت «ذات طبيعة مختلطة وتشتمل على سمات من إيجه، وقبرص، والأناضول، وجنوب شرق أوروبا وغيرها.»
84
لا يظهر أن عناصر أجنبية بالكامل حلت ببساطة محل الثقافة المادية الكنعانية السابقة برمتها (فيما يتعلق بالأواني الفخارية، وممارسات البناء، وما إلى ذلك)؛ بل إن ما نتعرف عليه حاليا على أنه ثقافة فلستية ربما كان نتيجة لعملية تهجين ومزج لثقافات مختلفة، تحتوي على العناصر الكنعانية الأقدم وكذلك على العناصر الدخيلة الأجنبية الأحدث.
85
بعبارة أخرى، على الرغم من أنه لا شك في أنه كان يوجد شعوب جديدة تدخل وتستقر في كنعان في ذلك الوقت، فإنه في عملية إعادة التمثيل هذه استبدل بشبح الغول المخيف المتمثل في شعوب البحر/الفلستيين الغزاة صورة أكثر سلمية نوعا ما لمجموعة مختلطة من النازحين بحثا عن بداية جديدة في أرض جديدة. وبدلا من كونهم غزاة مسلحين عازمين فقط على التدمير، كانوا على الأرجح لاجئين، لم يكونوا بالضرورة يهاجمون دوما السكان المحليين ويخضعونهم، ولكن غالبا ما كانوا يستقرون ببساطة بينهم. في كلتا الحالتين، من غير المرجح أن يكونوا قد قضوا بمفردهم على الحضارة في منطقتي إيجه وشرق المتوسط.
86 (7) الحجج الخاصة بانهيار الأنظمة
في عام 1985، عندما نشرت نانسي ساندرز طبعة منقحة من كتابها الفريد عن شعوب البحر، كتبت: «في البلاد التي يحيط بها البحر المتوسط، كانت تحدث «دوما» زلازل ، ومجاعات، وموجات جفاف وفيضانات، وفي حقيقة الأمر يتكرر نوع من العصور المظلمة بصورة دورية.» وقالت أيضا: «تتخلل الكوارث تاريخ الإنسان، ولكنه بوجه عام ينجو منها دون الكثير من الخسائر. وعادة ما يستتبعها جهد أكبر بكثير يؤدي إلى نجاح أكبر.»
87
إذن ما وجه الاختلاف بشأن هذه الفترة، فترة نهاية العصر البرونزي المتأخر؟ لماذا لم تسترد الحضارات عافيتها وتتابع المضي؟
كما خمنت ساندرز: «جربت تفسيرات كثيرة وثبتت صحة القليل منها. سلسلة لا مثيل لها من الزلازل، انتشار واسع النطاق لتلف المحاصيل، والمجاعة، وغزو هائل من السهوب، ونهر الدانوب، والصحراء؛ كل هذه الأمور يمكن أن تكون قد لعبت دورا ما؛ ولكنها ليست كافية.»
88
وقد كانت مصيبة في قولها. يجب الآن أن نتحول إلى فكرة انهيار الأنظمة، قصور مستحكم في الأنظمة ينطوي على تأثير تعاقبي وكذلك مضاعف، والذي لم يكن ممكنا أن تتعافى منه شبكة دولية عالمية حيوية كتلك التي كانت قائمة أثناء العصر البرونزي المتأخر.
كان كولين رينفرو من جامعة كامبريدج، وهو أحد أكثر الباحثين تبجيلا على الإطلاق في مجال دراسة منطقة إيجه فيما قبل التاريخ، قد اقترح بالفعل فكرة انهيار الأنظمة في عام 1979. في ذلك الوقت، وضعها في قالب نظرية الكوارث، حيث «تسبب قصور في عنصر ثانوي في بدء تفاعل متسلسل تداعت آثاره على نطاق أكبر وأكبر، حتى انهارت بنية النظام بأكملها.»
89
يخطر على البال صورة مجازية يمكن أن تكون مفيدة وهي ما يطلق عليه تأثير الفراشة، والتي يمكن فيها للرفرفة الأولية لأجنحة فراشة أن تؤدي في النهاية إلى زوبعة أو إعصار بعد بضعة أسابيع في الناحية الأخرى من العالم.
90
يمكننا، على سبيل المثال، أن نستشهد بالهجوم الذي شنه الملك الآشوري توكولتي نينورتا الأول على القوات الحيثية المزهوة بقوتها. ربما تكون هزيمته لجيشهم، في نهاية القرن الثالث عشر قبل الميلاد أثناء حكم توداليا الرابع، قد شجعت بدورها قبائل الكاشكا المجاورة على أن تهاجم بعد ذلك العاصمة الحيثية حاتوسا وتحرقها.
أشار رينفرو إلى السمات العامة لانهيار الأنظمة، وفصلها على النحو التالي: (1) انهيار التنظيم الإداري المركزي. (2) واختفاء طبقة النخبة التقليدية. (3) وانهيار الاقتصاد المركزي. (4) وتغير مكان الاستيطان وتناقص السكان. وقال إن الأمر قد يستغرق مدة تصل إلى قرن لتكتمل كل جوانب الانهيار، وأشار إلى أنه لا يوجد سبب واحد، واضح، للانهيار. بالإضافة إلى ذلك، فإنه في أعقاب انهيار كهذا، يمكن أن يحدث انتقال إلى مستوى أدنى من الاندماج السياسي الاجتماعي وظهور أساطير العصر المظلم «الخيالية الحالمة» عن الفترة السابقة. ولا يتوافق هذا مع إقليم إيجه وشرق المتوسط في حوالي 1200ق.م فحسب، بل إنه، كما أشار، يصف أيضا انهيار حضارة المايا، والمملكة المصرية القديمة، وحضارة وادي السند في مراحل زمنية مختلفة.
91
وكما سبق وأن ذكرنا، فإن هذه الموضوعات والنقاشات عن «الانهيارات» عبر التاريخ، وعن البزوغ والأفول المحتملين لنجم إمبراطوريات، تبناها فيما بعد باحثون آخرون، أشهرهم وأحدثهم جارد دايموند.
92
ولا غرابة في أنه ليس كل الباحثين يتفقون مع نظرية انهيار الأنظمة في نهاية العصر البرونزي المتأخر. روبرت دروز من جامعة فاندربيلت، على سبيل المثال، يستبعدها لأنه لا يعتقد أنها تفسر السبب في أن القصور والمدن دمرت وأحرقت.
93
ومع ذلك، فإنه، كما رأينا، بعد عام 1200ق.م بوقت قصير، انهارت حضارات العصر البرونزي في إيجه، وشرق المتوسط، والشرق الأدنى، مظهرة كل السمات التقليدية التي حددها رينفرو، من اختفاء لطبقة النخبة التقليدية وانهيار للإدارات المركزية والاقتصاديات المركزية إلى تغير مكان الاستيطان، وتناقص السكان، والانتقال إلى مستوى أدنى من الاندماج السياسي الاجتماعي، فضلا عن ظهور قصص مثل تلك القصص عن حرب طروادة التي كتبها هوميروس لاحقا في القرن الثامن قبل الميلاد. ما نراه يتجاوز مجيء شعوب البحر في 1207 و1177ق.م، ويتجاوز سلسلة الزلازل التي ضربت اليونان وشرق المتوسط أثناء فترة امتدت لخمسين عاما من 1225 إلى 1175ق.م، ويتجاوز الجفاف والتغير المناخي اللذين ربما كانا يجتاحان هذه المناطق أثناء هذه الفترة، فما نراه هو نتائج «عاصفة مثالية» أدت إلى انهيار ثقافات وشعوب العصر البرونزي المزدهرة؛ من الميسينيين والمينويين إلى الحيثيين، والآشوريين، والكيشيين، والقبارصة، والميتانيين، والكنعانيين، وحتى المصريين.
94
في رأيي، ورأي ساندرز من قبلي، لم يكن من الممكن لأي عامل من هذه العوامل المنفردة أن يكون قويا بما يكفي لأن يقوض بمفرده حتى حضارة واحدة من هذه الحضارات، فضلا عنها كلها. ومع ذلك يمكن أن تكون قد أنتجت مجتمعة سيناريو تعاظمت فيه المردودات السلبية لكل عامل من تلك العوامل، فيما أطلق عليه بعض الباحثين «تأثيرا مضاعفا.»
95
قد يكون انهيار جزء من النظام قد أحدث تأثيرا تعاقبيا، مؤديا إلى حالات انهيارات في مواضع أخرى. «انهيار الأنظمة» الذي أعقب ذلك يمكن أن يكون قد أدى إلى تفكك مجتمع تلو الآخر؛ وذلك جزئيا بسبب تفتت الاقتصاد العالمي وانهيار العلاقات المتبادلة التي كانت كل حضارة معتمدة عليها.
في عام 1987، ألقى ماريو ليفيراني من جامعة روما، باللائمة على تركز القوة والسيطرة في القصور؛ لذلك عندما انهارت، تعاظمت جسامة الكارثة. وكما كتب فإن «تركيز كل عناصر التنظيم، والتحويل، والمقايضة، إلخ، في القصر بالتحديد، وهو تركيز يبدو أنه يصل إلى أقصى حدوده في العصر البرونزي المتأخر، ترتب عليه تحويل الانهيار المادي للقصر إلى كارثة عامة في عموم المملكة.»
96
بعبارة أخرى، إن أردنا أن نصوغ الأمر بصيغة الاستثمار المعاصر، كان ينبغي على حكام العصر البرونزي في إيجه والشرق الأدنى أن ينوعوا محافظهم الاستثمارية، ولكنهم لم يفعلوا.
بعد ذلك بعقدين من الزمن، استشهد كريستوفر مونرو بعمل ليفيراني واقترح أن اقتصاد العصر البرونزي المتأخر صار غير مستقر بسبب اعتماده المتزايد على البرونز والسلع الكمالية الأخرى. وتحديدا، رأى أن «المؤسسة الرأسمالية» التي أدرج فيها التجارة بعيدة المدى، والتي سيطرت على نظام القصر الذي كان قائما في العصر البرونزي المتأخر، قد غيرت أنماط العصر البرونزي التقليدي من مقايضة، وإنتاج، واستهلاك لدرجة أنه عندما اجتمعت عمليات الغزو الخارجي مع الكوارث الطبيعية في «تأثير مضاعف»، لم يتمكن النظام من الصمود.
97
في إطار الكتابة حول الوضع في نهاية العصر البرونزي المتأخر في كتابه «موازين المصير»، يصف مونرو التفاعلات المتبادلة بين القوى المختلفة في إيجه وشرق المتوسط بأنها «شبكة بين مجتمعية»، والتي تتفق مع الصورة المعروضة في كتابنا هذا. ويشير، كما فعلت أنا أيضا، إلى أن هذه الفترة هي فترة «استثنائية فيما يتعلق بالمعاهدات، والقوانين، والدبلوماسية، والتبادل؛ لدرجة أنها أنشأت أول حقبة دولية كبرى في تاريخ العالم.»
98
ومع ذلك، فإن الأمر الأكثر إثارة للاهتمام أن مونرو يشير كذلك إلى أن تلك الشبكات تمتلك طرقا لتأجيل الانهيار المحتم، الذي يصيب كل المجتمعات في النهاية. وكما يقول: «تقمع أعمال التمرد، وتكتشف المواد الخام، وتفتح أسواق جديدة، وتوضع ضوابط على الأسعار موضع التنفيذ، وتصادر ممتلكات التجار، وتطبق تدابير الحظر، وتشن الحرب.»
99
ويقول أيضا مع ذلك إن «قادة القوة أو القوى الكبرى يعالجون بوجه عام أعراض لا أسباب عدم الاستقرار.» ويخلص إلى أن «التدمير العنيف لحضارة القصور في العصر البرونزي المتأخر، على النحو الذي يشهد عليه السجل النصي والأثري، كان، مثل حالات انهيار كثيرة، هو النتيجة الحتمية لبصيرة محدودة.»
100
وأنا أتفق مع مونرو فيما سبق عدا هذه النقطة الأخيرة؛ وذلك لأنني لا أعتقد أننا محقون في إلقاء لائمة الانهيار ببساطة على «البصيرة المحدودة»، بالنظر إلى العوامل المحتملة المتعددة التي استكشفناها أعلاه، والتي من المحتمل أن القادة القدماء لم يكن بوسعهم التنبؤ بها. إن انهيارا غير متوقع للأنظمة - من المحتمل جدا أن يكون قد أفضى إليه تغير مناخي، كما افترض مؤخرا براندون دريك والفريق الذي قاده ديفيد كانيوسكي،
101
أو عجلت به الزلازل أو الغزو - ليبدو أكثر ترجيحا، ولكن كلمات مونرو يمكن أن تكون بمثابة تحذير لنا نحن الذين نعيش في وقتنا الحاضر؛ لأن هذا الوصف للعصر البرونزي المتأخر، وبخاصة من ناحية اقتصاده وتفاعلاته، يمكن أن ينطبق انطباقا جيدا على مجتمعنا الحالي القائم على العولمة، والذي يلمس أيضا تأثيرات التغير المناخي. (8) استعراض للاحتمالات ونظرية التعقيد
كما أشرنا في بداية هذا الفصل، ناقش الباحثون باستفاضة ما يسمى بالانهيار أو الكارثة التي وقعت في نهاية العصر البرونزي المتأخر. وحاول روبرت دروز التصدي لهذه المسألة بطريقة منهجية، مكرسا كل فصل من فصول كتابه، الذي نشر في عام 1993، لمناقشة مسبب محتمل مختلف. ومع ذلك، فربما يكون قد أخفق في الحكم على بعض هذه المسببات وقلل من شأنها؛ فعلى سبيل المثال، نفى جملة وتفصيلا فكرة انهيار الأنظمة، لصالح نظريته القائلة بأن التغيرات في أساليب الحرب كانت في الواقع هي المسئولة؛ وهي فرضية لا يوافق عليها كل الباحثين.
102
حاليا، بعد عشرين عاما من نشر كتاب دروز، وحتى بعد كل النقاشات المستمرة والفيض المتواصل من المنشورات الأكاديمية في هذا الموضوع، ما زال لا يوجد اتفاق عام بشأن هوية، أو ماهية، المتسبب في تدمير أو هجر كل موقع من المواقع الرئيسية في الحضارات التي انتهت في آخر أيام العصر البرونزي. ويمكن تلخيص المسألة بإيجاز فيما يلي:
الملاحظات الرئيسية (1)
لدينا عدد من الحضارات المنفصلة التي كانت مزدهرة أثناء الفترة من القرن الخامس عشر وحتى القرن الثالث عشر قبل الميلاد في إيجه وشرق المتوسط، من الميسينيين والمينويين وحتى الحيثيين، والمصريين، والبابليين، والآشوريين، والكنعانيين، والقبارصة. كانت هذه الحضارات مستقلة عن بعضها ولكنها كانت تتفاعل مع بعضها تفاعلا مستمرا، وبخاصة عبر طرق التجارة الدولية. (2)
من الواضح أن مدنا كثيرة دمرت، وأن حضارات العصر البرونزي المتأخر والحياة بالكيفية التي كان يعرفها السكان في إيجه، وشرق المتوسط، ومصر، والشرق الأدنى قد انتهت في حوالي 1177ق.م أو بعد ذلك بفترة وجيزة. (3)
لم يقدم دليل قاطع بشأن هوية أو ماهية ما تسبب في هذه الكارثة، التي أدت إلى انهيار هذه الحضارات ونهاية العصر البرونزي المتأخر.
مناقشة الاحتمالات
يوجد عدد من المسببات المحتملة التي يمكن أن تكون قد أدت إلى، أو أسهمت في، الانهيار الذي حدث في نهاية العصر البرونزي المتأخر، ولكن لا يبدو أن بمقدور أي منها أن يكون قد تسبب في الكارثة بمفرده. (أ)
من الواضح أنه كان يوجد زلازل أثناء هذه الفترة، ولكن عادة ما كان بوسع المجتمعات أن تتعافى منها. (ب)
يوجد أدلة نصية على حدوث مجاعات، ويوجد حاليا أدلة علمية على حدوث موجات جفاف وتغير مناخي، في كل من إيجه وشرق المتوسط، ولكن مجددا تعافت المجتمعات من هذه الأمور مرة تلو الأخرى. (ج)
ربما يكون ثمة وجود لأدلة ظرفية على أعمال تمرد داخلية في اليونان وأماكن أخرى، ومنها الشام، غير أن هذا ليس مؤكدا. ومجددا، صمدت المجتمعات أمام أعمال التمرد تلك. فضلا عن ذلك، من غير المعتاد أن تحدث أعمال التمرد على مساحة واسعة كهذه ولفترة زمنية ممتدة كتلك (بصرف النظر عن أن التجربة الأخيرة في الشرق الأوسط تتعارض مع ذلك). (د)
يوجد أدلة أثرية على غزاة، أو على الأقل وافدين جدد ربما أتوا من منطقة إيجه، أو غرب الأناضول، أو قبرص، أو من كل المناطق السالفة الذكر، عثر عليها في الشام من أوغاريت في الشمال وحتى لخيش في الجنوب. بعض المدن دمر ثم هجر؛ والبعض أعيد إعماره؛ وبقي البعض الآخر دون أن يمس بسوء. (ه)
من الواضح أن طرق التجارة الدولية تضررت، إن لم تقطع كليا، لفترة من الوقت، ولكن مدى التأثير الذي كان من شأن هذا أن يحدثه على الحضارات الفردية المختلفة ليس واضحا على الإطلاق؛ حتى وإن كان بعضها معتمدا اعتمادا مفرطا في بقائه على البضائع الأجنبية، كما أشرنا في حالة الميسينيين.
صحيح أن في بعض الأحيان لا يكون بوسع حضارة ما أن تسترد عافيتها من هجمات غزاة أو زلزال، أو أن تنجو من موجة جفاف أو تمرد، ولكن في الوقت الحالي، بسبب الافتقار إلى تفسير أفضل، يبدو أن أفضل حل هو أن نقترح أن كل هذه العوامل مجتمعة أسهمت في انهيار ممالك ومجتمعات العصر البرونزي المتأخر التي كانت سائدة في هذه المناطق؛ ومن ثم استنادا إلى الأدلة المتاحة حاليا، ربما يكون ما نراه هو نتيجة انهيار للأنظمة تسببت فيه سلسلة من الأحداث التي ارتبطت معا عبر «تأثير مضاعف»، أثر فيه عامل في العوامل الأخرى، مضخما بذلك من تأثيرات كل عامل من تلك العوامل. ربما كان بمقدور السكان أن يصمدوا أمام كارثة واحدة، كزلزال أو موجة جفاف، ولكن ليس بمقدورهم أن يصمدوا أمام الآثار المجتمعة لزلزال، وموجة جفاف، وغزو والتي تحدث كلها في تعاقب سريع. تبع ذلك «تأثير تعاقبي»، أدى فيه تفكك حضارة إلى سقوط الحضارات الأخرى. ونظرا للطبيعة العالمية لعالمهم، كان من شأن التأثير الواقع على طرق التجارة الدولية والاقتصاديات من انهيار ولو مجتمعا واحدا أن يكون مدمرا بما يكفي لدرجة أنه ربما يكون قد أدى إلى زوال المجتمعات الأخرى. إن كان الأمر كذلك، فإن تلك المجتمعات لم تكن أكبر من أن تنهار.
مع ذلك، وبصرف النظر عن تعليقاتي السالفة، ربما يكون انهيار الأنظمة مجرد تفسير مبسط أكثر مما ينبغي بحيث يقبل باعتباره السبب الأساسي لنهاية العصر البرونزي المتأخر في إيجه، وشرق المتوسط، والشرق الأدنى.
103
من المحتمل أننا نحتاج إلى أن نلجأ إلى ما يطلق عليه علم التعقيد، أو ربما على نحو أكثر دقة، نظرية التعقيد، حتى نتمكن من فهم ما يمكن أن يكون قد أدى إلى انهيار هذه الحضارات.
علم التعقيد أو نظرية التعقيد هو دراسة لنظام معقد أو أنظمة معقدة، بهدف تفسير «الظاهرة التي تنبثق من مجموعة من الأشياء المتفاعلة.» استخدم هذا العلم في محاولة لتفسير، وفي بعض الأحيان حل، مشكلات متنوعة مثل ازدحام حركة المرور، وانهيار البورصة، والأمراض مثل السرطان، والتغير البيئي، وحتى الحروب، حسبما كتب نيل جونسون من جامعة أكسفورد مؤخرا.
104
وفي حين أن هذا العلم قد شق طريقه من عالم الرياضيات وعلم الحوسبة إلى العلاقات الدولية، والأعمال، ومجالات أخرى على مدى العقود القليلة الأخيرة، فإنه نادرا ما استخدم في مجال علم الآثار. ومن المثير للفضول، وربما من قبيل الاستبصار، أن كارول بيل استكشفت هذا الموضوع بإيجاز في كتابها المنشور في عام 2006 عن تطور العلاقات التجارية البعيدة المدى، وتغيراتها، في بلاد الشام من العصر البرونزي المتأخر إلى العصر الحديدي؛ إذ أشارت إلى أنه كان نهجا نظريا واعدا قد يكون مفيدا كنموذج تفسيري لسبب الانهيار وما تلاه من إعادة الهيكلة.
105
من أجل أن تصبح مشكلة ما مرشحا محتملا لنهج نظرية التعقيد، يذكر جونسون أنه يتعين أن تكون متعلقة بنظام «يحتوي على مجموعة من الكثير من العناصر أو «العوامل» المتفاعلة.»
106
في حالتنا، تلك العوامل ستكون عبارة عن الحضارات المختلفة التي كانت نشطة أثناء العصر البرونزي المتأخر: حضارات الميسينيين، والمينويين، والحيثيين، والمصريين، والكنعانيين، والقبارصة، وغيرها من الحضارات. في أحد جوانب نظرية التعقيد، يتأثر سلوك تلك العناصر بذكرياتها و«معلوماتها المستقاة» مما حدث في الماضي. ويكون بمقدورها تكييف استراتيجياتها، مستندة جزئيا على معرفتها بتاريخها السابق. فنجد بوجه عام أن مالكي السيارات، على سبيل المثال، يعرفون جيدا أنماط حركة المرور في مناطق سكنهم وبمقدورهم توقع أسرع طريق يسلكونه للعمل أو للعودة إلى البيت مجددا. وإذا نشأ ازدحام مروري، بمقدورهم أن يسلكوا طرقا بديلة لتجنب المشكلة.
107
وبالمثل، قبيل نهاية العصر البرونزي المتأخر، ربما اتخذ التجار الذين كانوا يرتادون البحار من أوغاريت أو من أماكن أخرى؛ تدابير لتجنب سفن الأعداء أو الأماكن التي كانت السفن وأولئك الغزاة يتمركزون فيها في كثير من الأحيان، بما فيها الأجزاء الساحلية من أرض اللكا (ويقصد بذلك المنطقة التي عرفت فيما بعد باسم ليكية، في جنوب غرب الأناضول).
أيضا يذكر جونسون أن النظام عادة ما يكون «حيا»، وهو ما يعني أنه يتطور بطريقة غير عادية وغالبا معقدة، وأنه يكون أيضا «منفتحا»، بمعنى أنه يمكن أن يتأثر بمحيطه. وهذا يعني، على حد قوله، أن أسواق الأسهم المعقدة الحالية، التي عادة ما يتحدث عنها المحللون كما لو كانت كائنات عضوية حية تتنفس، يمكن أن تتأثر أو تتحرك تبعا للأخبار الخارجية عن مكاسب شركة معينة أو حدث معين في الناحية الأخرى من العالم. بالمثل وصفت شيرات، في قياسها التناظري الذي نشر منذ عقد مضى، والمقتبس أعلاه في التصدير، أوجه التشابه بين عالم العصر البرونزي المتأخر و«اقتصادنا وثقافتنا العالميين المتجانسين ولكن الخارجين عن السيطرة بشكل متزايد، واللذين يمكن فيهما لتقلبات سياسية في ناحية من العالم أن تؤثر تأثيرا كبيرا في اقتصاديات مناطق تبعد عنها آلاف الأميال.»
108
ربما تكون تلك المؤثرات أو الضغوطات على «النظام» في إيجه وشرق المتوسط في نهاية العصر البرونزي المتأخر هي العوامل المحتملة، والممكنة، والمعقولة من زلازل، ومجاعات، وموجات الجفاف، وتغير في المناخ، وتمرد داخلي، وغزو خارجي، وقطع لطرق التجارة، وذلك كما ناقشناها أعلاه.
يمكننا أن نقول إن الأمر الأهم هو أن جونسون يؤكد أن النظام من هذا النوع يبدي ظواهر تتسم بأنها «مفاجئة عموما، وربما تكون عنيفة للغاية.» وكما يقول، فإن هذا «يعني بالأساس أن شيئا يمكن أن يحدث؛ وإذا انتظرت وقتا طويلا بما يكفي، فسوف يحدث بوجه عام.» على سبيل المثال، كما يشير، سوف ينتهي الأمر بكل أسواق الأسهم إلى أن يقع فيها انهيار من نوع ما، وسوف ينتهي الأمر بكل أنظمة حركة المرور إلى أن تصاب بفوضى مرورية من نوع ما. عموما ما تكون هذه الأمور غير متوقعة عندما تنشأ، ولم يكن من الممكن على وجه الخصوص توقعها مسبقا، على الرغم من أن المرء كان يعرف تمام المعرفة أنها يمكن أن تحدث وأن من شأنها أن تحدث.
109
في حالتنا، بما أنه لم يكن ثمة وجود مطلقا لحضارة في تاريخ العالم لم ينته بها الأمر إلى الانهيار، وبما أن الأسباب كثيرا ما تكون متشابهة، كما أشار جارد دايموند ومجموعة من الباحثين الآخرين، فإن انهيار حضارات العصر البرونزي المتأخر في نهاية المطاف كان أمرا قابلا للتوقع، ولكن كان من المستبعد أن نتمكن من توقع توقيته، أو من توقع انهيار كل الحضارات في نفس الوقت، حتى ولو استعنا بكل المعرفة العملية لكل حضارة من تلك الحضارات. كما يكتب جونسون: «حتى المعرفة التفصيلية بمواصفات محرك أي سيارة، ولونها وهيئتها، هي أمور عديمة الفائدة عند محاولة توقع المكان والتوقيت اللذين ستحدث فيهما حالات الازدحام المروري في نظام طرق جديد. وبالمثل، فإن فهم طبائع شخصيات أفراد في حانة مزدحمة لن يعطي مؤشرا فيما يتعلق بماهية المشاجرات الواسعة النطاق التي يمكن أن تنشأ فيها.»
110
إذن ما الجدوى التي ترجى من نظرية التعقيد في سياق الجهد المبذول لتفسير الانهيار الذي حدث في نهاية العصر البرونزي المتأخر، إذا لم تتمكن من أن تساعدنا في تحديد توقيته أو مسبباته؟ تشير كارول بيل إلى أن شبكات التجارة لإيجه وشرق المتوسط هي أمثلة على الأنظمة المعقدة؛ ومن ثم استشهدت بالجهد البحثي لكين دارم، من جامعة ريدنج، الذي أشار إلى أنه «مع ازدياد تلك الأنظمة تعقيدا، ومع تزايد درجة الاعتمادية المتبادلة بين الأجزاء المكونة لها، يصبح أمر إبقاء النظام المجمل مستقرا أكثر صعوبة.»
111
يحدث ما يعرف باسم «التلاحم المفرط»، كما يقول دارك، «عندما يصبح كل جزء من أجزاء النظام معتمدا بشدة على الأجزاء الأخرى لدرجة أن التغير في أي جزء يمكن أن ينتج عنه عدم استقرار في النظام بكامله.»
112
لذلك، إذا كانت حضارات العصر البرونزي المتأخر متسمة حقا بالعولمة ومعتمدة على بعضها البعض فيما يتعلق بالبضائع والخدمات، ولو حتى لدرجة معينة، فإن التغير في واحدة من الممالك ذات الصلة، مثل الميسينيين أو الحيثيين، من المحتمل أن يؤثر عليها جميعا ويفقدها الاستقرار.
علاوة على ذلك، من المهم بوجه خاص إمكانية أن ينظر إلى ممالك، وإمبراطوريات، ومجتمعات العصر البرونزي المتأخر في إيجه وشرق المتوسط باعتبار كل واحد منها نظاما سياسيا اجتماعيا مستقلا. وكما يقول دارك، فإن تلك «الأنظمة السياسية الاجتماعية المعقدة سوف تبدي ديناميكية داخلية تؤدي بها إلى أن تزداد تعقيدا ... فكلما ازداد تعقيد نظام ما، صار أكثر عرضة للانهيار.»
113
لذلك، في إيجه وشرق المتوسط في العصر البرونزي المتأخر، لدينا أنظمة سياسية اجتماعية مستقلة، هي الحضارات المختلفة، كانت تزداد تعقيدا؛ ومن ثم صارت على ما يبدو أكثر عرضة للانهيار. في الوقت نفسه، لدينا أنظمة معقدة، هي شبكات التجارة، كانت تتسم بالاعتمادية المتبادلة وكذلك بالتعقيد في علاقاتها؛ ومن ثم كانت عرضة لعدم الاستقرار ما إن حدث تغيير في واحد من الأجزاء المتكاملة. وهنا يمكن لترس معطوب واحد، في آلة تعمل بصورة جيدة، أن يحول الآلة كلها إلى كومة من الخردة، مثلما يمكن لذراع توصيل مخلوعة أن تدمر محرك سيارة في وقتنا الحالي.
لذلك، بدلا من تصور نهاية مروعة عموما، على الرغم من أنه من المحتمل أن مدنا وممالك معينة مثل أوغاريت واجهت نهاية مأساوية خاطفة وملتهبة، ربما من الأفضل أن نتخيل أن نهاية العصر البرونزي المتأخر كانت بالأحرى عبارة عن مسألة تفكك عشوائي، رغم كونه تدريجيا، لمناطق وأماكن كانت يوما ما مناطق وأماكن كبرى وكانت متصلة بعضها ببعض، لكنها بعدئذ تضاءلت وانعزلت، مثل ميسيناي، بسبب تغيرات داخلية و/أو خارجية أثرت في واحد أو أكثر من الأجزاء المتكاملة للنظام المعقد. من الواضح أن ذلك الضرر كان من شأنه أن يؤدي إلى تعطيل الشبكة. يمكننا أن نتصور شبكة طاقة كهربائية تعطلت، ربما جراء عاصفة أو زلزال، حيث يظل بمقدور شركة الكهرباء أن تنتج الطاقة ولكن ليس بوسعها أن تخرجها إلى الأفراد المستهلكين؛ نرى أحداثا كتلك سنويا في الولايات المتحدة، والتي تنجم عن كل شيء وأي شيء من زوابع في أوكلاهوما إلى عواصف ثلجية في ماساتشوستس. إذا كان التعطيل مستداما، كما قد يكون الحال في كارثة كبرى، مثل انفجار نووي في يومنا هذا، فسينتهي الأمر بتوقف إنتاج الكهرباء. قد يصدق هذا التشبيه على العصر البرونزي المتأخر، وإن كان بمستوى تقني أدنى.
وعلاوة على ذلك، كما تشير بيل، فإن عاقبة عدم الاستقرار ذاك هي أنه عندما ينهار النظام المعقد، «ينقسم إلى كيانات أصغر»، وهو بالضبط ما نراه في العصر الحديدي الذي يلي نهاية حضارات العصر البرونزي هذه.
114
لذلك، يبدو أن استخدام نظرية التعقيد، التي تسمح لنا بأن نخطو خطوة إلى الأمام بكل من نظرية الكارثة وانهيار الأنظمة، قد يكون أفضل نهج لتفسير نهاية العصر البرونزي المتأخر في إيجه وشرق المتوسط في الأعوام التي تلت 1200ق.م لا تتعلق الأسئلة الحقيقية ب «من فعل ذلك؟» ولا «ما الحدث الذي تسبب في ذلك؟» لأنه يبدو أن عددا كبيرا من العناصر والأشخاص كان منخرطا في الأمر، بقدر ما تتعلق ب «لماذا حدث ذلك؟» و«كيف حدث؟» وثمة سؤال مطروح آخر مختلف تماما، وهو السؤال الذي يتعلق بما لو كان ممكنا تفادي الأمر.
ومع ذلك، فباقتراح أنه ينبغي استخدام نظرية التعقيد في تحليل أسباب انهيار العصر البرونزي المتأخر، ربما يكون جل ما نفعله هو أننا نطبق مصطلحا علميا (أو ربما كان زائفا من الناحية العلمية) على وضع لا يشتمل على معلومات كافية من أجل استخلاص نتائج قاطعة. يبدو الأمر جيدا، ولكن هل يؤدي حقا إلى تعزيز فهمنا؟ هل يتعدى مجرد كونه طريقة جذابة لقول حقيقة واضحة تماما؛ ألا وهي أن الأمور المعقدة يمكن تفكيكها بطرق شتى؟
مما لا شك فيه أن انهيار حضارات العصر البرونزي المتأخر كان أمرا معقدا بالنظر إلى جذوره. ونعرف أن العديد من المتغيرات المحتملة ربما كان لها دور مساهم في الانهيار، ولكننا لسنا حتى متيقنين من أننا نعرف كل المتغيرات ومما لا شك فيه أننا لا نعرف أيها كان له دور رئيسي؛ أو إذا ما كان بعض المتغيرات مهما على الصعيد المحلي ولكن لم يكن له تأثير يذكر على النظام ككل. من باب المضي خطوة أخرى في تشبيهنا المتعلق بازدحام الحركة المرورية؛ نقول إننا نعرف معظم المتغيرات في حالة ازدحام الحركة المرورية؛ إذ نملك بعض المعلومات عن عدد السيارات والطرق التي تنتقل فيها (سواء كانت واسعة أو ضيقة) ولدينا بالتأكيد القدرة على أن نتوقع إلى حد كبير تأثير بعض المتغيرات الخارجية؛ ومنها، مثلا، عاصفة ثلجية على طريق سريع رئيسي. أما في حالة العصر البرونزي المتأخر، فنحن نعتقد، وإن كنا لا نعرف يقينا، أنه كان يوجد مئات من المتغيرات أكثر مما يشتمل عليه نظام حركة مرورية حديث.
إضافة إلى ذلك، فإن الحجة القائلة بأن حضارات العصر البرونزي المتأخر كانت تزداد تعقيدا؛ ومن ثم كانت عرضة للانهيار في الواقع ليست حجة منطقية بقدر كبير، وخاصة عندما يأخذ المرء في الاعتبار «تعقيدها» بالمقارنة بالتعقيد الذي اشتملت عليه الحضارات الأوروبية الغربية في الثلاثمائة سنة الأخيرة. لذلك، فمع أنه من المحتمل أن نظرية التعقيد قد تكون طريقة مفيدة لمعالجة مسألة انهيار العصر البرونزي المتأخر ما إن يصبح بحوزتنا المزيد من المعلومات فيما يتعلق بالتفاصيل الخاصة بكل الحضارات المعنية، فقد لا تكون ذات جدوى كبيرة في هذه المرحلة، باستثناء كونها طريقة مثيرة للاهتمام لإعادة تشكيل رؤيتنا بأن طائفة كبيرة من العوامل كانت قائمة في نهاية العصر البرونزي المتأخر، والتي يمكن أن تكون قد ساعدت في زعزعة استقرار، وأدت في النهاية إلى انهيار النظام الدولي الذي كان قائما، ويعمل بصورة جيدة للغاية على مستويات شتى، طيلة قرون عديدة سابقة.
ومع ذلك، لا تزال المنشورات الأكاديمية مستمرة في اقتراح متوالية خطية لانهيار العصر البرونزي المتأخر، على الرغم من حقيقة أنه ليس من الدقيق أن نقول ببساطة إن جفافا تسبب في مجاعة، والتي بدورها تسببت في جعل شعوب البحر تبدأ في التحرك وإحداث الفوضى، مما تسبب في الانهيار.
115
لم تكن المتوالية خطية لهذه الدرجة؛ فالواقع كان أكثر فوضوية بكثير. من المحتمل أنه لم يكن ثمة قوة دافعة واحدة أو سبب واحد، وإنما بالأحرى عدد من عوامل الضغط المختلفة، التي أجبر كل واحد منها الناس على الاستجابة بطرق مختلفة للتكيف مع الوضع المتغير (أو الأوضاع المتغيرة). لذلك فإن نظرية التعقيد، وبخاصة من ناحية تصور متوالية غير خطية وسلسلة من عوامل الضغط بدلا من عامل ضغط واحد، مفيدة في تفسير الانهيار الذي حدث في نهاية العصر البرونزي المتأخر، وكذلك في تقديم سبيل للمضي قدما في متابعة دراسة هذه الكارثة.
خاتمة
ما بعد الكارثة
رأينا أنه طيلة أكثر من ثلاثمائة سنة أثناء العصر البرونزي المتأخر، تقريبا من زمن حكم حتشبسوت الذي يبدأ حوالي 1500ق.م وحتى الوقت الذي انهار فيه كل شيء بعد عام 1200ق.م، استضافت منطقة البحر المتوسط عالما دوليا معقدا تفاعل فيه المينويون، والميسينيون، والحيثيون، والآشوريون، والبابليون، والميتانيون، والكنعانيون، والقبارصة، والمصريون جميعا بعضهم مع بعض، فشكلوا نظاما اتسم بطابع عالمي وعولمي لم ير مثله إلا نادرا قبل وقتنا الحالي. ربما كانت تلك النزعة العالمية ذاتها هي التي أسهمت في الكارثة الساحقة التي قضت على العصر البرونزي. يبدو أن حضارات الشرق الأدنى، ومصر، واليونان كانت متشابكة ومعتمدة بعضها على بعض بشدة بحلول عام 1177ق.م لدرجة أن سقوط واحدة منها أدى في النهاية إلى سقوط الحضارات الأخرى، حيث دمرت الحضارات المزدهرة، واحدة تلو الأخرى، بفعل البشر أو بفعل الطبيعة، أو بفعل خليط مميت من كليهما.
ومع ذلك، حتى بعد كل ما قيل، علينا أن نقر بعدم قدرتنا على أن نحدد يقينا السبب المحدد (الأسباب المتعددة) لانهيار الحضارات والانتقال من نهاية العصر البرونزي المتأخر إلى العصر الحديدي في إيجه وشرق المتوسط، أو حتى أن نحدد بشكل قاطع أصول ودوافع شعوب البحر. ومع ذلك، إذا ما جمعنا خيوط الأدلة التي طرحت من بداية مناقشاتنا إلى نهايتها، فثمة بعض الأمور التي يمكننا قولها بثقة نسبية بشأن هذه الفترة المحورية.
على سبيل المثال، لدينا أدلة جيدة بقدر معقول على أن على الأقل بعض الصلات الدولية وربما التجارة استمرت حتى وقت النهاية المفاجئة للحقبة، وربما حتى بعد ذلك (إن كان للدراسات التي أجريت مؤخرا أي دلالة).
1
يظهر ذلك، على سبيل المثال، من الرسائل الأخيرة في سجلات أوغاريت التي توثق الاتصالات مع قبرص، ومصر، والحيثيين، وإيجه، وكذلك من الهدايا المرسلة من الفرعون المصري مرنبتاح إلى ملك أوغاريت قبل عقود قليلة فحسب، على الأكثر، من تدمير المدينة. على أقل تقدير، لا يوجد دليل على انخفاض ملحوظ في الاتصال والتجارة، عدا تذبذبات مؤقتة ربما في الكثافة، عبر إيجه وشرق المتوسط حتى بدأت القلاقل.
ولكن بعدئذ، انهار العالم كما كانوا يعرفونه لأكثر من ثلاثة قرون وتلاشى أصلا. كما رأينا، كانت نهاية العصر البرونزي المتأخر في إقليمي إيجه وشرق المتوسط، وهي منطقة امتدت من إيطاليا واليونان إلى مصر وبلاد الرافدين، عبارة عن حدث مستمر، جرى على مدى عقود عديدة وربما حتى استغرق ما يصل إلى قرن، وليس واقعة مرتبطة بعام معين، ولكن يحتل العام الثامن من حكم الفرعون المصري رمسيس الثالث، وهو عام 1177ق.م، على وجه التحديد، حسب التسلسل الزمني الذي يستخدمه حاليا معظم علماء المصريات في العصر الحديث، مكانة بارزة وهو الأكثر تمثيلا للانهيار بكامله؛ وذلك لأن ذلك العام، حسب السجلات المصرية، هو العام الذي شهد مجيء شعوب البحر مكتسحة عبر المنطقة، لتعيث الفساد مرة ثانية. كان عاما جرت فيه معارك برية وبحرية كبرى في دلتا نهر النيل؛ عاما ناضلت فيه مصر من أجل بقائها نفسه؛ عاما كانت بعض الحضارات الناجحة للغاية في العصر البرونزي قد وصلت بحلوله بالفعل إلى نهاية فجائية.
في الواقع، قد يجادل المرء قائلا إن عام 1177ق.م بالنسبة إلى نهاية العصر البرونزي المتأخر يماثل سنة 476 ميلادية بالنسبة لنهاية روما والإمبراطورية الرومانية الغربية. بعبارة أخرى، يمثل العامان كلاهما تاريخين يمكن للباحثين المعاصرين بسهولة أن يشيروا إليهما باعتبارهما نهاية لحقبة كبرى. تعرضت إيطاليا للغزو ونهبت روما مرات عديدة أثناء القرن الخامس الميلادي، بما في ذلك عام 410 ميلادية على يد ألاريك والقوط الغربيين وفي عام 455 ميلادية على يد جيسيريك وقبائل الوندال. كان يوجد أيضا أسباب كثيرة أخرى وراء سقوط روما، بالإضافة إلى هذه الهجمات، والقصة أكثر تعقيدا بكثير، كما سيشهد أي مؤرخ روماني دونما تردد. ومع ذلك، فإنه من المناسب، ويعتبر اختزالا أكاديميا مقبولا، أن يربط بين الغزو الذي قام به أودواكر والقوط الشرقيون في عام 476 ميلادية ونهاية أيام مجد روما.
نهاية العصر البرونزي المتأخر والانتقال إلى العصر الحديدي هي حالة مشابهة؛ نظرا لأن الانهيار والانتقال كان حدثا متدرجا، جرى ما بين 1225 و1175ق.م تقريبا، أو، في بعض الأماكن، في وقت متأخر في 1130ق.م ومع ذلك، يعد الغزو الثاني لشعوب البحر، الذي انتهى بقتالهم الرهيب في مواجهة المصريين بقيادة رمسيس الثالث أثناء العام الثامن من حكمه، في 1177ق.م، حدثا مرجعيا معقولا ويتيح لنا أن نضع تاريخا محددا للحظة محورية محيرة نوعا ما ولنهاية عصر. يمكننا أن نقول عن يقين إن الحضارات الواسعة النطاق التي كانت لا تزال مزدهرة في إيجه والشرق الأدنى القديم في 1225ق.م كانت قد بدأت تتلاشى بحلول عام 1177ق.م وزالت تماما تقريبا بحلول 1130ق.م أثناء العصر الحديدي المبكر التالي، حلت دويلات مدن أصغر تدريجيا محل ممالك وإمبراطوريات العصر البرونزي القوية. وبناء على ذلك، فإن التصور الذي لدينا عن عالم البحر المتوسط والشرق الأدنى في عام 1200ق.م يختلف كثيرا عن تصورنا لذلك العالم في عام 1100ق.م ويختلف اختلافا كاملا عن تصورنا لذلك العالم في عام 1000ق.م.
لدينا أدلة قاطعة على أن الأمر استغرق من الناس في هذه الأقاليم عقودا، بل قرونا أيضا في بعض المناطق، لإعادة بناء مجتمعاتهم واستعادتها، ولتشكيل حياة جديدة من شأنها أن تردهم خارج الظلام الذي كانوا قد غرقوا فيه. أشار جاك ديفيز من جامعة سينسيناتي، على سبيل المثال، إلى أن «تدمير قصر نسطور حوالي 1180ق.م كان فائق التأثير لدرجة أنه لم تقم للقصر ولا للمجتمع قائمة من جديد ... ظل عدد السكان في منطقة بيلوس التابعة للمملكة الميسينية، بكاملها في الواقع، منخفضا انخفاضا كبيرا قرابة ألف سنة.»
2
وأشار جوزيف ماران، من جامعة هايدلبرج، كذلك إلى أنه، على الرغم من أننا لا نعرف إلى أي مدى في الواقع كانت عمليات التدمير الأخيرة متزامنة في اليونان، فمن الواضح أنه بعد انتهاء الأحداث الكارثية «لم يكن ثمة قصور، وانتهى استخدام الكتابة وكذلك كل الهياكل الإدارية، واختفى مفهوم الحاكم الأعلى، من نطاق المؤسسات السياسية التابعة لليونان القديمة.»
3
من ناحية القراءة والكتابة، ينطبق الأمر نفسه على أوغاريت وعلى الكيانات الأخرى التي كانت قد ازدهرت في شرق المتوسط أثناء العصر البرونزي المتأخر؛ لأنه بنهايتها حلت أيضا نهاية الكتابة المسمارية في الشام، واستبدل بها أنظمة كتابة أخرى، ربما كانت أكثر نفعا أو ملاءمة.
4
بالإضافة إلى ما لدينا من أدلة من خلال القطع الأثرية، فإنه من خلال الكتابة نمتلك أدلة ملموسة وواضحة على الترابط البيني والعولمة في هذه الأقاليم أثناء تلك السنوات، وخاصة من ناحية العلاقات الواضحة بين أفراد محددين مذكورين في الرسائل. ومن الأهمية بمكان أرشيف رسائل العمارنة في مصر، من زمن الفرعونين أمنحتب الثالث وإخناتون في منتصف القرن الرابع عشر قبل الميلاد، وسجلات أوغاريت في شمال سوريا أثناء أواخر القرن الثالث عشر وأوائل القرن الثاني عشر قبل الميلاد، والسجلات الموجودة في حاتوسا في الأناضول أثناء الفترة ما بين القرنين الرابع عشر والثاني عشر قبل الميلاد. توثق الرسائل في هذه السجلات المختلفة حقيقة أن أنواعا متعددة من الشبكات كانت موجودة على نحو متزامن في إقليم إيجه وشرق المتوسط أثناء العصر البرونزي المتأخر، بما في ذلك شبكات دبلوماسية، وشبكات تجارية، وشبكات نقل، وشبكات اتصال، والتي كان ثمة حاجة إليها كلها للحفاظ على مواصلة عمل الاقتصاد المعولم لذلك الوقت وتدفقه بسلاسة. يمكن للقطع، أو حتى التفكيك الجزئي، لتلك الشبكات ذات الصلة أن يكون قد أحدث تأثيرا كارثيا في ذلك الوقت، مثلما يمكن أن يفعل في عالمنا اليوم.
ومع ذلك، كما كان الحال فيما يتعلق بسقوط الإمبراطورية الرومانية الغربية، لم تكن نهاية إمبراطوريات العصر البرونزي في شرق المتوسط نتيجة لغزو أو سبب واحد، وإنما حدثت بسبب غارات كثيرة وأسباب متعددة. كان كثير من الغزاة أنفسهم المسئولين عن عمليات التدمير في عام 1177ق.م نشطين أثناء حكم الفرعون مرنبتاح في عام 1207ق.م، أي قبل هذا بثلاثين عاما. كذلك كانت زلازل، وموجات جفاف، وكوارث طبيعية أخرى قد ألحقت لعقود الخراب بإيجه وشرق المتوسط. لذلك، لا يمكن بالفعل تخيل أن واقعة منفردة يمكن أن تكون قد أدت إلى نهاية العصر البرونزي؛ وإنما لا بد وأن النهاية جاءت نتيجة لسلسلة معقدة من الأحداث التي ترددت أصداؤها في سائر الممالك والإمبراطوريات التي كان فيما بينها علاقات ترابط في إيجه وشرق المتوسط، والتي قادت في نهاية الأمر إلى انهيار النظام بكامله، كما رأينا.
بالإضافة إلى الخسارة السكانية وانهيار المباني العادية والقصور على حد سواء، يبدو من المرجح أنه كان ثمة فقدان، أو على الأقل انخفاض كبير، للعلاقات بين ممالك الإقليم المختلفة. وحتى إن لم تكن كل الأماكن قد سقطت وانهارت في نفس الوقت بالضبط، فبحلول منتصف القرن الثاني عشر قبل الميلاد كانت قد فقدت جانبي الترابط والعولمة اللذين كانا موجودين فيما بينها، خاصة أثناء القرنين الرابع عشر والثالث عشر قبل الميلاد. وكما قال مارك فان دي ميروب من جامعة كولومبيا، فقدت النخب الإطار الدولي والصلات الدبلوماسية التي كانت قد شكلت لها دعما في السابق، في نفس وقت انقطاع وصول البضائع والأفكار الأجنبية.
5
وكان عليها حينئذ أن تبدأ من جديد.
عندما خرج العالم من انهيار العصر البرونزي، كان عصر جديد قد حل بالفعل، بما في ذلك فرص جديدة للنمو، وتحديدا مع زوال الحيثيين واضمحلال المصريين، اللذين كانا، بالإضافة إلى حكم أقاليمهما، يسيطران فيما بينهما على معظم سوريا وكنعان طيلة الشطر الأكبر من العصر البرونزي المتأخر.
6
وعلى الرغم من أنه كان يوجد قدر معين من الاستمرارية في بعض المناطق، وتحديدا في حالة الآشوريين الجدد في بلاد الرافدين؛ ففي المجمل كان قد حان وقت مجموعة جديدة من القوى وبداية جديدة لحضارات ناشئة، من بينها الحيثيون الجدد في جنوب شرق الأناضول، وشمال سوريا، ونقاط أبعد شرقا؛ والفينيقيون، والفلستيون، والإسرائيليون فيما كان يوما ما كنعان؛ واليونانيون في اليونان الهندسية، واليونان العتيقة، ثم اليونان الكلاسيكية. من رماد العالم القديم خرجت الأبجدية ومخترعات أخرى، فضلا عن زيادة هائلة في استخدام الحديد، الذي أطلق اسمه على الحقبة الجديدة؛ العصر الحديدي. إنها دورة شهدها العالم مرارا، وصار كثيرون يعتقدون أنها عملية حتمية تتمثل في بزوغ وأفول إمبراطوريات، يتبعها بزوغ إمبراطوريات جديدة، تسقط في نهاية الأمر وتستبدل بها إمبراطوريات أحدث، في إيقاع متكرر من النشأة، والنمو والتطور، والاضمحلال أو التدمير، وفي نهاية المطاف التجدد في شكل جديد.
أحد أكثر المجالات البحثية الحالية حول العالم القديم إثارة للاهتمام وأخصبها يتمثل في النظر فيما يحدث بعد انهيار الحضارات، أو ما يعرف باسم «ما بعد الانهيار»، ولكن هذا موضوع لكتاب آخر.
7
ومن الأمثلة على هذا الجهد البحثي عمل ويليام ديفر، الأستاذ الفخري في جامعة أريزونا والأستاذ المتميز لآثار الشرق الأدنى بكلية ليكومينج، الذي قال بشأن الفترة التي تلت الانهيار في منطقة كنعان: «ربما يكون أهم استنتاج يمكن استخلاصه حول «العصر المظلم» ... هو أنه لم يكن هكذا على الإطلاق. بالأحرى تبرز [هذه الفترة]، التي توضحها تدريجيا عمليتا الاكتشاف والبحث الأثريتان، بمثابة المحفز لعصر جديد؛ عصر من شأنه أن يستند على أنقاض الحضارة الكنعانية ويورث العالم الغربي الحديث إرثا ثقافيا، بخاصة من خلال الفينيقيين والإسرائيليين، والذي لا نزال ننهل منه.»
8
علاوة على ذلك، كما صرح كريستوفر مونرو، فإن «كل الحضارات تتعرض في نهاية الأمر لإعادة هيكلة عنيفة للحقائق المادية والأيديولوجية من قبيل التدمير أو إعادة التشكيل.»
9
نشهد هذا في البزوغ والأفول المستمرين للإمبراطوريات عبر الزمن، بما في ذلك الأكاديون، والآشوريون، والبابليون، والحيثيون، والآشوريون الجدد، والبابليون الجدد، والفرس، والمقدونيون، والرومان، والمغول، والعثمانيون، وغيرهم، ولا ينبغي أن نعتقد أن عالمنا الحالي بمنأى عن ذلك؛ لأننا أكثر عرضة لذلك في واقع الأمر مما قد نود أن نعتقد. وبينما يتضاءل انهيار بورصة وول ستريت في عام 2008 في الولايات المتحدة بالمقارنة بانهيار عالم منطقة البحر المتوسط في العصر البرونزي المتأخر برمته، فإنه كان ثمة من حذروا من إمكانية وقوع شيء مماثل إذا لم يجر إنقاذ المؤسسات المصرفية ذات البعد العالمي على الفور. على سبيل المثال، نقلت صحيفة «ذا واشنطن بوست» عن روبرت بي زوليك، الذي كان حينئذ رئيس البنك الدولي، قوله «ربما يكون النظام المالي العالمي قد وصل إلى «نقطة تحول حاسمة».» عرفها بأنها «اللحظة التي تتحول فيها أزمة ما تدريجيا إلى انهيار كامل ويصبح صعبا للغاية على الحكومات أن تحتويها.»
10
في نظام معقد مثل عالمنا اليوم، هذا كل ما يمكن أن يستلزم ليصبح النظام بكامله مزعزعا، مما يؤدي إلى الانهيار. (1) ماذا لو؟
اعتبرت فترة العصر البرونزي المتأخر بحق أحد العصور الذهبية في تاريخ العالم، وفترة ازدهر خلالها بنجاح اقتصاد عالمي مبكر. لذا قد نتساءل، هل كان تاريخ العالم سيأخذ منعطفا مختلفا، أو كان سيتبع مسارا مختلفا، لو لم تنته الحضارات في هذه المناطق؟ ماذا لو لم تكن سلسلة الزلازل في اليونان وفي شرق المتوسط قد حدثت؟ ماذا لو لم يكن ثمة موجات جفاف، ولا مجاعات، ولا نازحون ولا غزاة؟ هل كانت نهاية العصر البرونزي المتأخر ستأتي في نهاية المطاف على أي حال، بما أنه يبدو أن كل الحضارات تبزغ وتأفل؟ هل كان أي من التطورات التي تلت ذلك ستحدث في نهاية الأمر أيا كان الأمر؟ هل كان التقدم سيستمر؟ هل كان سيتحقق المزيد من التقدم في التكنولوجيا، والأدب، والسياسة قبل قرون من الوقت الذي حدث فيه بالفعل؟
بالطبع هذه الأسئلة هي أسئلة بلاغية، وهي أسئلة لا يمكن الإجابة عنها؛ لأن حضارات العصر البرونزي انتهت «بالفعل» وتعين «بالفعل» أن يبدأ التطور بداية جديدة تماما في مناطق من اليونان وحتى الشام وما بعدها. ونتيجة لذلك، تمكنت شعوب جديدة و/أو دويلات مدن جديدة مثل الإسرائيليين، والآراميين، والفينيقيين في شرق المتوسط، ولاحقا الأثينيين والإسبرطيين في اليونان، من ترسيخ وجودها. ومن تلك الشعوب أتت في نهاية الأمر تطورات جديدة وأفكار مبتكرة، مثل الأبجدية، وديانة التوحيد، وأخيرا الديمقراطية. في بعض الأحيان يتطلب الأمر حرائق غابات واسعة النطاق للمساعدة على تجديد النظام البيئي لغابة معمرة والسماح لها بأن تزدهر من جديد.
كلمة أخيرة بحثا عن دليل دامغ
لا بد أن أقر بأنني فوجئت وسررت للغاية، وغمرتني المشاعر الطيبة، للاستقبال الإيجابي عموما لهذا الكتاب، ولكن من ناحية أخرى، لطالما مثل العصر البرونزي المتأخر الفترة المفضلة لي في التاريخ القديم. إنني أعتبره واحدة من أهم الحقب في العصور القديمة واعتقدت، أنا ومحرري في دار نشر جامعة برينستون، أنها إذا ما عرضت بالطريقة الصحيحة، فسيجدها الآخرون مذهلة كذلك. الأمر الوحيد الذي آسف له حقا بشأن هذا الكتاب هو أنني لم أحك المزيد عن القرون التي سبقت النهاية، بما في ذلك قصص إضافية مستقاة من رسائل ماري والعمارنة بالإضافة إلى النصوص المأخوذة من أوغاريت، ولكن ربما سيكون ثمة مجال لذلك في نسخة منقحة وموسعة في المستقبل.
أذهلت أوجه التشابه بين عالم العصر البرونزي المتأخر وعالمنا الحالي الكثير من النقاد والمحاورين والقراء. ودون أن أحاول التوسع في الحديث عن وجاهة هذا الطرح، أقول إنني أتفق معهم. أعتقد بالفعل أنه يوجد أوجه تشابه أكثر مما يمكن للمرء أن يتوقع، وبخاصة من ناحية العلاقات، على المستويين الشخصي والدولي؛ إذ كان لديهم، كما حاولت أن أوضح في الكتاب، علاقات زواج وطلاق، وبعثات دبلوماسية وتدابير حظر، وعمليات نزوح ونزاعات مسلحة. وكان لديهم أيضا مشكلات مع التغير المناخي ومشكلات أمنية على المستوى الدولي، كما أشرت في مقال للرأي في صحيفة «ذا نيويورك تايمز».
1
وهذه الأمور لا ننفرد نحن وهم فحسب بها بالضرورة، ولكن مزيج المشكلات المتشابهة - تغير المناخ والجفاف، والزلازل، والحرب، والمشكلات الاقتصادية - في نفس الوقت قد يكون أمرا ننفرد به نحن وهم فحسب.
كانت الفكرة التي لاقت الصدى الأكبر لدى القراء هي فكرة أن التغير المناخي ربما كان أحد عوامل الانهيار. سخر بعض النقاد في فضاء المدونات من الفكرة - كقول أحدهم: «ماذا؟ هل كان الحيثيون يقودون سيارات دفع رباعي؟» - ولكن لا سبيل لإنكار ذلك. فقد حدث تغير مناخي في ذلك الوقت، حتى وإن كان بفعل الطبيعة وليس البشر.
أكدت الدراسات العلمية الحديثة التي أجراها كانيوسكي، ودريك، ولانجوت، وفنكلشتاين، وآخرون، ما اقترحه ريس كاربنتر لأول مرة في ستينيات القرن العشرين، وهو أنه كان ثمة فترة طويلة من الجفاف بدأت في حوالي 1200ق.م أو نحوه، ودامت قرنا على الأقل، إن لم يكن أطول من ذلك، في منطقة إيجه وشرق المتوسط. وأكدت النصوص المأخوذة من أماكن مثل أوغاريت على الساحل الشمالي لسوريا أن مع الجفاف جاءت مجاعة، جعلت الناس يتضورون جوعا. ومع المجاعة حدث اضطراب، على صورة موجات نزوح، وأعمال تمرد، وعمليات غزو.
2
ولكن الأمر لم يتخذ بالضرورة دائما هيئة تسلسل منطقي في كل الأماكن. إذ كان أكثر اضطرابا وفوضى، كما قلت في الكتاب؛ لأنه إلى جانب كل الضغوطات والدوافع المذكورة أعلاه، علينا أيضا أن نضع في الحسبان الزلازل، التي، على حد علمنا، ليست نتيجة لأي من العوامل السابقة، ولا صلة لها بها.
إذن من الواضح أن عدم الاستقرار الذي نجم عن تغير مناخي (وعوامل أخرى) قد حدث قبل ذلك. ولكن ثمة اختلافا. كما قلت في مقابلة إذاعية، من المحتمل أن الحيثيين القدماء لم يكن لديهم أدنى فكرة عما كان يحدث لهم. ولم يعرفوا كيف يوقفون موجة جفاف. ربما تضرعوا إلى الآلهة؛ وربما قدموا بعض القرابين. ولكن في النهاية، كانوا بالأساس عاجزين عن إيقاف أي شيء. نحن مع ذلك أكثر تقدما من الناحية التكنولوجية، وثمة الكثير لنتعلمه من دروس التاريخ، إن كان لدينا الرغبة في أن ننصت ونتعلم.
إذا رأينا أمورا تحدث حاليا من نفس قبيل الأمور التي حدثت في الماضي، بما في ذلك الجفاف والمجاعات، والزلازل وأمواج تسونامي، وما إلى ذلك، أليس من المستحسن عندئذ أن نتأمل العالم القديم ونرى ما حدث لحضاراته؟ سألني آدم فرانك من الإذاعة الوطنية العامة: «إذا كنا لا نريد تكرار التاريخ، فما الدروس التي ينبغي علينا أن نتعلمها من أخطائهم؟» أجبت، وسأقولها هنا مجددا، أننا ينبغي أن نعي أنه لا يوجد مجتمع بمنأى عن الانهيار وأن كل مجتمع في تاريخ العالم قد انهار في النهاية. وحقيقة أن الحضارات المتشابكة على نحو مماثل انهارت مباشرة بعد 1200ق.م ينبغي أن تكون تحذيرا لنا؛ لأن الأمر إذا حدث مرة، يمكن بالتأكيد أن يحدث مجددا. وكما قلت في هذا الكتاب، وقلته منذئذ في مواضع أخرى أيضا، نحن، في الحقيقة، أكثر عرضة لهذا مما قد نرغب في أن نعتقد. في نفس الوقت، علينا أيضا أن نكون ممتنين لأننا في الواقع متقدمون بما يكفي لنفهم ما يحدث وبوسعنا أن نأخذ خطوات لإصلاح الأمور، بدلا من مجرد أن نتقبل الأمور بسلبية عند حدوثها.
من المثير للاهتمام أن الأمر الوحيد الذي لا نملكه، والذي تساءل بشأنه العديد من النقاد والكثير من الجمهور، هو الدليل على حدوث تفش واسع النطاق للأمراض بالاقتران مع كل شيء آخر في نهاية العصر البرونزي المتأخر. إنهم، بالتأكيد، يتساءلون: ألا يتوقع المرء أن يصاحب الجفاف، والمجاعة، والزلازل، والكوارث الأخرى تفشيا للطاعون ولأمراض أخرى مميتة؟ وبالفعل، قد يتوقع المرء أن ثمة دليلا على حدوث أمراض وأوبئة، ولكن لا يوجد دليل على ذلك. فلم يعثر على مقابر جماعية؛ ولا ذكر في النصوص لأمراض؛ ولا يوجد ما يمكن استخدامه كإثبات لكارثة أخرى في «العاصفة المثالية» التي كانت تجري.
أقرب ما يمكننا التوصل إليه هو تفشي الطاعون الذي حل ببلاد الحيثيين في القرن الرابع عشر قبل الميلاد ، عن طريق أسرى الحرب المصريين، وأودى بحياة سابيليوليوما وكثيرين في العائلة الملكية الحيثية بالإضافة إلى الكثير من عامة السكان. غير أن ذلك حدث قبل 150 سنة تقريبا من مجيء النهاية. وثمة أيضا احتمال، لاحقا في القرن الثاني عشر، حوالي 1140ق.م، أن يكون رمسيس الخامس قد أصيب بالجدري، ولكن يبدو أن تلك كانت حالة فردية. ولذلك لا يوجد فصل، أو جزء من فصل، مخصص للأمراض في الكتاب؛ لأنه لا يوجد ما يستدعي المناقشة. ومع ذلك أقر بأنه كان ينبغي أن أشير على الأقل إلى ذلك.
من ناحية أخرى، يوجد الكثير من الأمور التي ربما كان ينبغي أن أدرجها أيضا. وحيث إن من متع علم الآثار أننا نتوصل باستمرار إلى اكتشافات جديدة؛ فربما سيكشف في وقت ما قريب عن الدليل الدامغ الذي سيميط لنا جميعا اللثام بشكل قاطع عن سبب الانهيار. وحتى يحين ذلك، ليس بوسعنا سوى أن نناقش الاحتمالات، و، كما قال شيرلوك هولمز، «أن نوازن بين الاحتمالات ونختار الأرجح منها.»
الشخوص الدرامية
يتبع التسلسل الزمني لتواريخ حكم الملوك المصريين المنهج الأشيع والأكثر قبولا، والذي يمكنك الاطلاع عليه في كتابي كيتشن 1982 وكلايتون 1994، على سبيل المثال. القائمة التالية لا تشمل كل الأسماء المذكورة في النص، وإنما بالأحرى أسماء الحكام الرئيسيين والشخصيات ذات الصلة.
أداد نيراري الأول:
ملك آشور؛ حكم من 1307 إلى 1275ق.م أخضع مملكة ميتاني.
أحمس:
ملكة مصرية، الأسرة الثامنة عشرة؛ حوالي 1520ق.م زوجة تحتمس الأول وأم حتشبسوت.
أحمس الأول:
فرعون ومؤسس الأسرة الثامنة عشرة؛ حكم من 1570 إلى 1546ق.م مسئول، إلى جانب شقيقه كامس، عن طرد الهكسوس الغرباء من مصر.
إخناتون:
فرعون مهرطق، الأسرة الثامنة عشرة؛ حكم من 1353 إلى 1334ق.م حظر عبادة كل الآلهة والإلهات عدا أتون؛ يحتمل كونه موحدا. زوج نفرتيتي؛ والد توت عنخ آمون.
أمنحتب الثالث:
فرعون، الأسرة الثامنة عشرة؛ حكم من 1391 إلى 1353ق.م عثر في موقع العمارنة على مراسلات كثيرة بينه وبين أقرانه من الحكام الملكيين؛ أقام صلات تجارية وصلت إلى بلاد الرافدين ومنطقة إيجه.
أميستامرو الأول:
ملك أوغاريت؛ حكم حوالي 1360ق.م تراسل مع الفراعنة المصريين.
أميستامرو الثاني:
ملك أوغاريت؛ حكم من 1260 إلى 1235ق.م كان في سدة الحكم خلال الوقت الذي أرسل فيه سينارانو سفينته من أوغاريت إلى كريت.
أمورابي:
آخر ملوك أوغاريت؛ حكم من حوالي 1215 إلى 1190 / 1185ق.م.
عنخ إسن آمون:
ملكة مصرية؛ الأسرة الثامنة عشرة؛ حوالي 1330ق.م ابنة إخناتون وزوجة توت عنخ آمون.
أبوفيس:
ملك من ملوك الهكسوس؛ حكم في مصر حوالي 1574ق.م بوصفه جزءا من الأسرة الخامسة عشرة. تنازع مع سقنن رع، الفرعون المصري الذي حكم في نفس الوقت في موضع آخر من البلاد.
آشور أوباليط الأول:
ملك آشور؛ حكم من 1363 إلى 1328ق.م تراسل مع فراعنة العمارنة؛ كان طرفا فاعلا رئيسيا في عالم السياسة الواقعية.
آي:
فرعون، الأسرة الثامنة عشرة؛ حكم من 1325 إلى 1321ق.م رجل عسكري أصبح فرعونا بالزواج من عنخ إسن آمون بعد وفاة توت عنخ آمون.
بورنا بورياش الثاني:
ملك من ملوك بابل الكيشيين؛ حكم من 1359 إلى 1333ق.م تراسل مع فراعنة العمارنة.
حمورابي:
ملك بابل؛ حكم من 1792 إلى 1750ق.م يشتهر بشريعته.
حتشبسوت:
ملكة فرعونية مصرية، الأسرة الثامنة عشرة؛ حكمت من 1504 إلى 1480ق.م اعتلت العرش بصفتها وصية على ابن زوجها تحتمس الثالث؛ حكمت بوصفها فرعون لمدة عشرين عاما تقريبا.
حاتوسيلي الأول:
ملك حيثي؛ حكم من 1650 إلى 1620ق.م من المحتمل أنه كان مسئولا عن نقل العاصمة الحيثية إلى حاتوسا.
حاتوسيلي الثالث:
ملك حيثي؛ حكم من 1267 إلى 1237ق.م وقع معاهدة سلام مع الفرعون المصري رمسيس الثاني.
إيدادا:
ملك من ملوك قطنة؛ يفترض أنه هزم على يد هانوتي، القائد الأعلى للجيش الحيثي تحت حكم سابيليوليوما الأول، حوالي 1340ق.م.
كادشمان إنليل الأول:
ملك من ملوك بابل الكيشيين؛ حكم من حوالي 1374 إلى 1360ق.م تراسل مع فراعنة العمارنة؛ تزوجت ابنته من الفرعون المصري أمنحتب الثالث.
كامس:
فرعون؛ آخر ملوك الأسرة السابعة عشرة؛ حكم من 1573 إلى 1570ق.م مسئول، إلى جانب شقيقه أحمس، عن طرد الهكسوس الغرباء من مصر.
كشتيلياش الرابع:
ملك من ملوك بابل الكيشيين؛ حكم من حوالي 1232 إلى 1225ق.م هزم على يد توكولتي نينورتا الأول ملك آشور.
خيان:
ملك من ملوك الهكسوس، الأسرة الخامسة عشرة؛ حكم حوالي 1600ق.م واحد من أشهر ملوك الهكسوس؛ عثر على أغراض منقوش عليها اسمه في الأناضول، وبلاد الرافدين، ومنطقة إيجه.
كوكولي:
ملك من ملوك أسوا في شمال غرب الأناضول؛ حكم حوالي 1430ق.م بدأ تمردا أسوي على الحيثيين.
كوريجالزو الأول:
ملك من ملوك بابل الكيشيين؛ حكم من حوالي 1400 إلى 1375ق.م تراسل مع فراعنة العمارنة؛ تزوجت ابنته من الفرعون المصري أمنحتب الثالث.
كوريجالزو الثاني:
ملك من ملوك بابل الكيشيين؛ حكم من حوالي 1332 إلى 1308ق.م ملك دمية وضعه آشور أوباليط الأول، ملك آشور، على العرش.
كوشميشوشا:
ملك قبرص؛ حكم في أوائل القرن الثاني عشر قبل الميلاد؛ عثر على رسالة من هذا الملك في منزل أورتينو في أوغاريت.
مانيتون:
كاهن مصري عاش وكتب أثناء الفترة الهلينستية، في القرن الثالث قبل الميلاد.
مرنبتاح:
فرعون، الأسرة التاسعة عشرة؛ حكم من 1212 إلى 1202ق.م يشتهر بلوحه الذي يذكر إسرائيل وبقتاله الموجة الأولى لشعوب البحر.
مورسيلي الأول:
ملك حيثي؛ حكم من 1620 إلى 1590ق.م دمر بابل في عام 1595ق.م، وقضى بذلك على أسرة حمورابي.
مورسيلي الثاني:
ملك حيثي؛ حكم من 1321 إلى 1295ق.م ابن سابيليوليوما الأول؛ كتب «صلوات الطاعون» ووثائق أخرى ذات أهمية تاريخية.
مواتالي الثاني:
ملك حيثي؛ حكم من 1295 إلى 1272ق.م تقاتل مع الفرعون المصري رمسيس الثاني في معركة قادش.
نفرتيتي:
ملكة مصرية، الأسرة الثامنة عشرة؛ حكمت حوالي 1350ق.م تزوجت من إخناتون، الفرعون المهرطق؛ ربما كانت ذات تأثير خفي كبير على مقاليد الحكم.
نيقمادو الثاني:
ملك أوغاريت؛ حكم من حوالي 1350 إلى 1315ق.م تراسل مع الفراعنة المصريين أثناء حقبة العمارنة.
نيقمادو الثالث:
ملك أوغاريت قبل الأخير؛ حكم من حوالي 1225 إلى 1215ق.م.
نقمبا:
ملك أوغاريت؛ حكم من حوالي 1313 إلى 1260ق.م ابن نيقمادو الثاني ووالد أميستامرو الثاني.
رمسيس الثاني:
فرعون، الأسرة التاسعة عشرة؛ حكم من 1279 إلى 1212ق .م غريم الملك الحيثي مواتالي الثاني في معركة قادش والموقع لاحقا على معاهدة سلام مع حاتوسيلي الثالث.
رمسيس الثالث:
فرعون، الأسرة العشرون؛ حكم من 1184 إلى 1153ق.م قاتل الموجة الثانية لشعوب البحر؛ اغتيل في مؤامرة للحريم.
شوشتاتار:
ملك من ملوك ميتاني؛ حكم حوالي 1430ق.م وسع مملكة ميتاني بمهاجمة الآشوريين وربما يكون قد قاتل الحيثيين.
سقنن رع:
فرعون، الأسرة السابعة عشرة؛ حكم حوالي 1574ق.م من المحتمل أن يكون قد قتل في المعارك، حيث يتضح وجود جرح مميت واحد على الأقل في رأسه.
شاتيوازا:
ملك من ملوك ميتاني؛ حكم حوالي 1340ق.م ابن توشراتا.
شوشجاموا:
ملك من ملوك عمورو، على الساحل الشمالي لسوريا؛ حكم حوالي 1225ق.م وقع معاهدة مع الحيثيين في أواخر القرن الثالث عشر قبل الميلاد، مذكور فيها أخياوا.
شوتروك ناخونته:
ملك عيلامي في جنوب غرب إيران؛ حكم من 1190 إلى 1155ق.م رغم وجود نسب بينه وبين الأسرة الكيشية التي كانت تحكم بابل، فقد هاجم المدينة وأطاح بملكها في عام 1158ق.م.
شوتارنا الثاني:
ملك من ملوك ميتاني؛ حكم حوالي 1380ق.م تراسل مع فراعنة العمارنة؛ تزوجت ابنته من الفرعون المصري أمنحتب الثالث.
سينارانو:
تاجر في أوغاريت؛ حوالي 1260ق.م أرسل سفينة (أو سفنا) إلى كريت المينوية؛ وأعفي من الضرائب.
سابيليوليوما الأول:
ملك حيثي؛ حكم من حوالي 1350 إلى 1322ق.م ملك ذو بأس؛ وسع الأراضي الواقعة تحت سيطرة الحيثيين لتشمل معظم منطقة الأناضول حتى شمال سوريا. تراسل مع ملكة مصرية طلبت واحدا من أبنائه زوجا لها.
سابيليوليوما الثاني:
آخر ملوك الحيثيين؛ حكم من حوالي 1207ق.م وما بعده. خاض معارك بحرية عديدة وغزا قبرص أثناء حكمه.
تارخوندارادو:
ملك من ملوك أرزاوا، التي كانت تقع في جنوب غرب الأناضول؛ حكم حوالي 1360ق.م تراسل مع فراعنة العمارنة؛ تزوجت ابنته الفرعون المصري أمنحتب الثالث.
تحتمس الأول:
فرعون، الأسرة الثامنة عشرة؛ حكم من 1524 إلى 1518ق.م والد حتشبسوت وتحتمس الثاني.
تحتمس الثاني:
فرعون، الأسرة الثامنة عشرة؛ حكم من 1518 إلى 1504ق.م الأخ غير الشقيق لحتشبسوت وزوجها؛ والد تحتمس الثالث.
تحتمس الثالث:
فرعون، الأسرة الثامنة عشرة؛ حكم من 1479 إلى 1450ق.م أحد أقوى الفراعنة المصريين؛ خاض معركة مجدو أثناء العام الأول لحكمه.
تيي:
ملكة مصرية، الأسرة الثامنة عشرة؛ حكمت حوالي 1375ق.م زوجة أمنحتب الثالث؛ أم إخناتون.
توداليا الأول أو الثاني:
ملك حيثي؛ حكم حوالي 1430ق.م أخمد التمرد الأسوي، واهبا للآلهة سيفا (أو سيوفا) ميسينية عثر عليها لاحقا في حاتوسا.
توداليا الرابع:
ملك حيثي؛ حكم من 1237 إلى 1209ق.م مسئول عن بناء بانثيون للآلهة في يازليكايا، بالقرب من حاتوسا.
توكولتي نينورتا الأول:
ملك آشور؛ حكم من 1243 إلى 1207ق.م.
توشراتا:
ملك من ملوك ميتاني؛ حكم حوالي 1360ق.م ابن شوتارنا الثاني؛ تراسل مع فراعنة العمارنة؛ تزوجت ابنته من الفرعون المصري أمنحتب الثالث.
توت عنخ آمون:
فرعون، الأسرة الثامنة عشرة؛ حكم من 1336 إلى 1327ق.م الملك الصبي الشهير الذي مات في سن صغيرة، والذي كانت مقبرته تحتوي على كنوز رائعة.
توسرت:
ملكة مصرية، آخر حكام الأسرة التاسعة عشرة؛ أرملة الفرعون سيتي الثاني؛ يعرف عنها أنها حكمت من 1187 إلى 1185ق.م.
زانانزا:
أمير حيثي، ابن سابيليوليوما الأول؛ عاش حوالي 1324ق.م؛ خطب لملكة مصرية أرملة ولكنه اغتيل وهو في طريقه إلى مصر.
زمري ليم:
ملك ماري فيما يعرف الآن بسوريا المعاصرة؛ حكم من 1776 إلى 1758ق.م معاصر لحمورابي ملك بابل وكاتب بعض من «رسائل ماري»، التي تقدم لنا فكرة عن الحياة في بلاد الرافدين أثناء القرن الثامن عشر قبل الميلاد.
مصادر الصور والجداول
(1) مصادر الصور
خريطة حضارات العصر البرونزي المتأخر في إيجه وشرق المتوسط. (1) تصوير لشعوب البحر على هيئة أسرى في مدينة هابو (نقلا عن كتاب «مدينة هابو»، المجلد الأول، اللوح الجداري رقم 44؛ بإذن من معهد الدراسات الشرقية التابع لجامعة شيكاجو). (2) معركة بحرية مع شعوب البحر في مدينة هابو (نقلا عن كتاب «مدينة هابو»، المجلد الأول، اللوح الجداري رقم 37؛ بإذن من معهد الدراسات الشرقية التابع لجامعة شيكاجو). (1-1) «آسيويون» في منطقة بني حسن (نقلا عن نيوبيري 1893، اللوحان رقم 30 و31؛ بإذن من جمعية استكشاف مصر). (1-2) مقبرة رخميرع، وتصوير لأشخاص من منطقة إيجه (نقلا عن ديفيز 1943، اللوح رقم 20؛ بإذن من متحف المتروبوليتان للفنون). (2-1) أ، ب: تمثالا ممنون والقائمة الإيجية لأمنحتب الثالث (تصوير إي إتش كلاين وجيه سترينج). (2-2) لوحة خزفية لأمنحتب الثالث، عثر عليها في ميسيناي (تصوير إي إتش كلاين). (2-3) شبكة اجتماعية للعلاقات التي تشير إليها رسائل العمارنة (من إنشاء دي إتش كلاين). (3-1) إعادة بناء لسفينة أولوبورون (روزالي سيدلر/ناشيونال جيوجرافيك ستوك؛ بإذن من جمعية ناشيونال جيوجرافيك). (4-1) رسائل ملكية في أرشيف أورتينو في أوغاريت (الشكل توضيحي وليس شاملا؛ نقاط التفرع تمثل أفرادا أرسلوا أو تلقوا رسالة (رسائل)؛ ورءوس الأسهم/الخطوط تمثل ثنائيات أرسلت بينهما الرسالة (الرسائل)؛ وأحجام الدوائر تمثل أعداد الرسائل؛ من إنشاء دي إتش كلاين). (4-2) المواقع المدمرة في حوالي 1200ق.م. (4-3) حافظة أقلام رمسيس الثالث العاجية من مجدو (نقلا عن لاود 1939، اللوح رقم 62؛ بإذن من معهد الدراسات الشرقية التابع لجامعة شيكاجو). (2) مصادر الجداول (1) ملوك العصر البرونزي المتأخر في مصر والشرق الأدنى المذكورين في النص، مرتبين حسب الدولة/المملكة والتسلسل الزمني. (2) المناطق المعاصرة وأسماؤها المحتملة في العصر البرونزي المتأخر.
ملاحظات
تصدير
تمهيد
الفصل
الفصل
الفصل
الفصل
الفصل
خاتمة
كلمة أخيرة بحثا عن دليل دامغ
المراجع
Abt, J. 2011.
American Egyptologist: The Life of James Henry Breasted and the Creation of His Oriental Institute.
Chicago: University of Chicago Press.
Adams, M. J., and M. E. Cohen. 2013. Appendix: The “Sea Peoples” in Primary Sources. In
The Philistines and Other “Sea Peoples” in Text and Archaeology,
ed. A. E. Killebrew and G. Lehmann, 645-64. Atlanta: Society of Biblical Literature.
Ahrens, A., H. Dohmann-Pfälzner, and P.
the Northern Levant. A Clay Sealing with the Throne Name of Amenhotep IV/Akhenaten from the Royal Palace at Tall Misrife/Qatna.
Zeitschrift für Orient-Archäologie
5: 232-48.
Allen, J. P. 2005. After Hatshepsut: The Military Campaigns of Thutmose III. In
Hatshepsut: From Queen to
ed. C. Roehrig, 261-62. New Haven: Yale University Press.
Allen, S. H. 1999.
Finding the Walls of Troy: Frank Calvert and Heinrich Schliemann at Hisarlik.
Berkeley: University of California Press.
Andronikos, M. 1954. E 'dorike Eisvole’ kai ta archaiologika Euremata.
Hellenika
13: 221-40. (in Greek)
Anthony, D. W. 1990. Migration in Archaeology: The Baby and the Bathwater.
American Anthropologist
92: 895-914.
Anthony, D. W. 1997. Prehistoric Migrations as a Social Process. In
Migrations and Invasions in Archaeological Explanation,
ed. J. Chapman and H. Hamerow, 21-32. Oxford: Tempus Reparatum.
Artzy, M. 1998. Routes, Trade, Boats and “Nomads of the Sea.” In
Mediterranean Peoples in Transition: Thirteenth to Early Tenth Centuries BCE,
ed. S. Gitin, A. Mazar, and E. Stern, 439-48. Jerusalem: Israel Exploration Society.
Artzy, M. 2013. On the Other “Sea
The Philistines and Other “Sea Peoples” in Text and Archaeology,
ed. A. E. Killebrew and G. Lehmann, 329-44. Atlanta: Society of Biblical Literature.
Aruz, J., ed. 2008.
Beyond Babylon: Art, Trade, and Diplomacy in the Second Millennium B.C. Catalogue of an Exhibition at the Metropolitan Museum of Art, New York.
New York: Metropolitan Museum of Art.
Ashkenazi, E. 2012. A 3,400-Year-Old Mystery: Who Burned the Palace of Canaanite Hatzor? Archaeologists Take on the Bible during Tel Hatzor Excavations, When Disagreements Arise over the Destroyer of the City.
Haaretz,
July 23, 2012,
http://www.haaretz.com/news/national/a-3-400-year-old-mystery-who- burned-the-palace-of-canaanite-hatzor.premium-1.453095 (last accessed August 6, 2012).
Astour, M. C. 1964. Greek Names in the Semitic World and Semitic Names in the Greek World.
Journal of Near Eastern Studies
23: 193-201.
Astour, M. C. 1965. New Evidence on the Last Days of Ugarit.
American Journal of Archaeology
69: 253-58.
Astour, M. C. 1967.
HellenoSemitica.
2nd Edition. Leiden: E. J. Brill.
Åström, P. 1998. Continuity or Discontinuity: Indigenous and Foreign Elements in Cyprus around 1200BCE. In
Mediterranean Peoples in Transition: Thirteenth to Early Tenth Centuries BCE,
ed. S. Gitin, A. Mazar, and E. Stern, 80-86. Jerusalem: Israel Exploration Society.
Bachhuber, C. 2006. Aegean Interest on the Uluburun Ship.
American Journal of Archaeology
110: 345-63.
Bachhuber, C., and R. G. Roberts. 2009.
Forces of Transformation: The End of the Bronze Age in the Mediterranean.
Oxford: Oxbow Books.
Badre, L. 2003. Handmade Burnished Ware and Contemporary Imported Pottery from Tell Kazel. In
Sea Routes ...: Interconnections in the Mediterranean 16th-6th c. BC. Proceedings of the International Symposium Held at Rethymnon, Crete in September 29th-October 2nd 2002,
ed. N. Chr. Stampolidis and V. Karageorghis, 83-99. Athens: University of Crete and the A. G. Leventis Foundation.
Badre, L. 2006. Tell Kazel-Simyra: A Contribution to a Relative Chronological History in the Eastern Mediterranean during the Late Bronze Age.
Bulletin of the American Schools of Oriental Research
343: 63-95.
Badre, L. 2011. Cultural Interconnections in the Eastern Mediterranean: Evidence from Tell Kazel in the Late Bronze Age. In
Intercultural Contacts in the Ancient Mediterranean. Proceedings of the International Conference at the Netherlands-Flemish Institute in Cairo, 25th to 29th October 2008,
ed. K. Duistermaat and I. Regulski, 205-23. Leuven: Uitgeveru
Badre, L., M.-C. Boileau, R. Jung, and H. Mommsen. 2005. The Provenance of Aegean and Surian-type Pottery Found at Tell Kazel (Syria).
Egypt and the Levant
15: 15-47.
Bakry, H. 1973. The Discovery of a Temple of Mernptah at On.
Aegyptus
53: 3-21.
Barako, T. J. 2000. The Philistine Settlement as Mercantile Phenomenon?
American Journal of Archaeology
104/3: 513-30.
Barako, T. J. 2001.
The Seaborne Migration of the
Harvard University.
Barako, T. J. 2003a. One If by Sea ... Two If by Land: How Did the Philistines Get to Canaan? One: by Sea-A Hundred Penteconters Could Have Carried 5000 People Per Trip.
Biblical Archaeology Review
29/2: 26-33, 64-66.
Barako, T. J. 2003b. The Changing
Invasion or Cultural Diffusion? In
Sea Routes ...: Interconnections in the Mediterranean 16th-6th c. BC. Proceedings of the International Symposium Held at Rethymnon, Crete in September 29th-October 2nd 2002,
ed. N. Chr. Stampolidis and V. Karageorghis, 163-69. Athens: University of Crete and the A. G. Leventis Foundation.
Barako, T. J. 2013. Philistines and Egyptians in Southern Coastal Canaan during the Early Iron Age. In
The
Archaeology,
ed. A. E. Killebrew and G. Lehmann, 37-51. Atlanta: Society of Biblical Literature.
Barkay, G., and D. Ussishkin. 2004. Area S: The Late Bronze Age Strata. In
The Renewed Archaeological Excavations at Lachish (1973-1994),
ed. D. Ussishkin, 316-407. Tel Aviv: Tel Aviv University.
Bass, G. F. 1967.
Cape Gelidonya.
Transactions of the American Philosophical Society, vol. 57, pt. 8. Philadelphia: American Philosophical Society.
Bass, G. F. 1973. Cape Gelidonya and Bronze Age Maritime Trade. In
Orient and Occident,
ed. H. A. Hoffner, Jr., 29-38. Neukirchener-Vluyn: Neukirchener Verlag.
Bass, G. F. 1986. A Bronze Age Shipwreck at Ulu Burun (Kas): 1984 Campaign.
American Journal of Archaeology
90/3: 269-96.
Bass, G. F. 1987. Oldest Known Shipwreck Reveals Splendors of the Bronze Age.
National Geographic
172/6: 693-733.
Bass, G. F. 1988. Return to Cape Gelidonya.
INA Newsletter
15/2: 3-5.
Bass, G. F. 1997. Prolegomena to a Study of Maritime Traffic in Raw Materials to the Aegean during the Fourteenth and Thirteenth Centuries B.C. In
Techne: Craftsmen, Craftswomen and Craftsmanship in the Aegean Bronze Age. Proceedings of the 6th International Aegean Conference, Philadelphia, Temple University, 18-21 April 1996,
ed. R. Laffineur and P. P. Betancourt, 153-70. Liège: Université de Liège.
Bass, G. F. 1998. Sailing between the Aegean and the Orient in the Second Millennium BC. In
The Aegean and the Orient in the Second Millennium. Proceedings of the 50th Anniversary Symposium, Cincinnati, 18−20 April 1997,
ed. E. H. Cline and D. H. Cline, 183-91. Liège: Université de Liège.
Bass, G. F. 2013. Cape Gelidonya Redux. In
Cultures in Contact: From Mesopotamia to the Mediterranean in the Second Millennium B.C.,
ed. J. Aruz, S. B. Graff, and Y. Rakic, 62-71. New York: Metropolitan Museum of Art.
Bauer, A. A. 1998. Cities of the Sea: Maritime Trade and the Origin of Philistine Settlement in the Early Iron Age Southern Levant.
Oxford Journal of Archaeology
17/2: 149-68.
Baumbach, L. 1983. An Examination of the Evidence for a State of Emergency at
In
Res Mycenaeae,
ed. A. Heubeck and G. Neumann, 28-40. Göttingen: Vandenhoeck and Ruprecht.
Beckman, G. 1996a. Akkadian Documents from Ugarit. In
Sources for the History of Cyprus,
vol. 2,
Near Eastern and Aegean Texts from the Third to the First Millennia BC,
ed. A. B. Knapp, 26-28. Altamont, NY: Greece and Cyprus Research Center.
Beckman, G. 1996b. Hittite Documents from Hattusa. In
Sources for the History of Cyprus,
vol. 2,
Near Eastern and Aegean Texts from the Third to the First Millennia BC,
ed. A. B. Knapp, 31-35. Altamont, NY: Greece and Cyprus Research Center.
Beckman, G., T. Bryce, and E. H. Cline. 2011.
The Ahhiyawa Texts.
Atlanta: Society of Biblical Literature. Reissued in hardcopy, Leiden: Brill, 2012.
Bell, C. 2006.
The Evolution of Long Distance Trading Relationships across the LBA/Iron Age Transition on the Northern Levantine Coast: Crisis, Continuity and Change.
BAR International Series 1574. Oxford: Archaeopress.
Bell, C. 2009. Continuity and Change: The Divergent Destinies of Late Bronze Age Ports in Syria and Lebanon across the LBA/Iron Age Transition. In
Forces of Transformation: The End of the Bronze Age in the Mediterranean,
ed. C. Bachhuber and R. G. Roberts, 30-38. Oxford: Oxbow Books.
Bell, C. 2012. The Merchants of Ugarit: Oligarchs of the Late Bronze Age Trade in Metals? In
Eastern Mediterranean Metallurgy and Metalwork in the Second Millennium BC: A Conference in Honour of James D. Muhly; Nicosia, 10th-11th October 2009,
ed. V. Kassianidou and G.
Books.
Ben Dor Evian, S. 2011. Shishak’s Karnak Relief-More Than Just Name-Rings. In
Egypt, Canaan and Israel: History, Imperialism, Ideology and Literature: Proceedings of a Conference at the University of Haifa, 3-7 May 2009,
ed. S. Bar, D. Kahn, and J. J. Shirley, 11-22. Leiden: Brill.
Ben-Shlomo, D., I. Shai, A. Zukerman, and A. M. Maeir. 2008. Cooking Identities: Aegean-Style Cooking Jugs and Cultural Interaction in Iron Age Philistia and Neighboring Regions.
American Journal of Archaeology
112/2: 225-46.
Ben-Tor, A. 1998. The Fall of Canaanite Hazor-The “Who” and “When” Questions. In
Mediterranean Peoples in Transition: Thirteenth to Early Tenth Centuries BCE,
ed. S. Gitin, A. Mazar, and E. Stern, 456-68. Jerusalem: Israel Exploration Society.
Ben-Tor, A. 2006. The Sad Fate of Statues and the Mutilated Statues of Hazor. In
Confronting the Past: Archaeological and Historical Essays on Ancient Israel in Honorthe Second Millennium BC of William G. Dever,
ed. S. Gitin, J. E. Wright, and J. P. Dessel, 3-16. Winona Lake, IN: Eisenbrauns.
Ben-Tor, A. 2013. Who Destroyed Canaanite Hazor?
Biblical Archaeology Review
39/4: 26-36, 58-60.
Ben-Tor, A., and M. T. Rubiato. 1999. Excavating Hazor, Part Two: Did the Israelites Destroy the Canaanite City?
Biblical Archaeology Review
25/3: 22-39.
Ben-Tor, A., and S. Zuckerman. 2008. Hazor at the End of the Late Bronze Age: Back to Basics.
Bulletin of the American Schools of Oriental Research
350: 1-6.
Bernhardt, C. E., B. P. Horton, and J.-D. Stanley. 2012. Nile Delta Vegetation Response to Holocene Climate Variability.
Geology
40/7: 615-18.
Bietak, M. 1992. Minoan Wall-Paintings Unearthed at Ancient Avaris.
Egyptian Archaeology
2: 26-28
Bietak, M. 1996.
Avaris: The Capital of the Hyksos. Recent Excavations at Tell el-Dab'a.
London: British Museum Press.
Bietak, M. 2005. Egypt and the Aegean: Cultural Convergence in a Thutmoside Palace at Avaris. In
Hatshepsut: From Queen to Pharaoh,
ed. C. Roehrig, 75-81. New Haven: Yale University
Bietak, M., N. Marinatos, and C.
Taureador Scenes in Tell El-Dab'a (Avaris) and Knossos.
Vienna: Austrian Academy of Sciences.
Blegen, C. W. 1955. The Palace of Nestor Excavations of 1954.
American Journal of Archaeology
59/1: 31-37.
Blegen, C. W., C. G. Boulter, J. L. Caskey, and M. Rawson. 1958.
Troy IV: Settlements VIIa, VIIb and VIII.
Blegen, C. W., and K. Kourouniotis. 1939. Excavations at Pylos, 1939.
American Journal of Archaeology
43/4: 557-76.
Blegen, C. W., and M. Lang. 1960. The
American Journal of Archaeology
64/2: 153-64.
Blegen, C. W., and M. Rawson. 1966.
The Palace of Nestor at
Vol. 1,
The Buildings and Their Contents.
Text.
Bordreuil, P., ed. 1991.
Une bibliothèque au sud de la ville: Les textes de la 34
e
campagne (1973).
Ras Shamra-Ougarit VII.
Civilisations.
Bordreuil, P., and F. Malbran-Labat. 1995. Les archives de la maison d’Ourtenou.
Comptes-rendus des séances de l’Académie des Inscriptions et Belles-Lettres
139/2: 443-51.
Bordreuil, P., D. Pardee, and R. Hawley. 2012.
Une bibliothèque au sud de la ville ⋆⋆⋆ . Textes 1994-2002 en cunéiforme alphabétique de la maison d’Ourtenou Ras Shamra-Ougarit XVIII.
RSO 18. Lyon: Maison de l’Orient et de la Méditerranée-Jean
Bounni, A., A. and J. Lagarce, and N. Saliby. 1976. Rapport préliminaire sur la première campagne de fouilles (1975) à Ibn Hani (Syrie).
Syria
55: 233-79.
Bounni, A., A. and J. Lagarce, and N. Saliby. 1978. Rapport préliminaire sur la deuxième campagne de fouilles (1976) à Ibn Hani (Syrie).
Syria
56: 218-91.
Bouzek, J. 2011. Bird-Shaped Prows of Boats, Sea Peoples and the Pelasgians. In
Exotica in the Prehistoric Mediterranean,
ed. A. Vianello, 188-93. Oxford: Oxbow Books.
Braudel, F. 2001.
The Mediterranean in the Ancient World.
London: Allen Lane, Penguin Books.
Breasted, J. H. 1906.
Ancient Records of Egypt.
Urbana: University of Illinois
Breasted, J. H. 1930. Foreword. In
Medinet Habu,
vol. 1,
Earlier Historical Records of Ramses III,
ed. The Epigraphic Survey, ix-xi. Chicago: University of Chicago Press.
Bretschneider J., and K. Van Lerberghe, eds. 2008.
In Search of Gibala: An Archaeological and Historical Study Based on Eight Seasons of Excavations at Tell Tweini (Syria) in the A and C Fields (1999-2007).
Aula Orientalis-Supplementa 24. Barcelona: Sabadell.
Bretschneider, J., and K. Van Lerberghe. 2011. The Jebleh Plain through History: Tell Tweini and Its Intercultural Contacts in the Bronze and Early Iron Age. In
Intercultural Contacts in the Ancient Mediterranean. Proceedings of the International Conference at the Netherlands-Flemish Institute in Cairo, 25th to 29th October 2008,
ed. K. Duistermaat and I. Regulski, 183-203. Leuven: Uitgeveru
Bretschneider, J., A.-S. Van Vyve,, and G. Jans. 2011. Tell Tweini: A Multi-Period Harbour Town at the Syrian Coast. In
Egypt and the Near East-the Crossroads:
the Relations of Egypt and the Near East in the Bronze Age, Prague, September 1-3, 2010,
ed. J. Mynářová, 73-87. Prague: Charles University in Prague.
Bryce, T. R. 1985. A Reinterpretation of the Milawata Letter in the Light of the New Join
Anatolian Studies
35: 13-23.
Bryce, T. R. 1989a. The Nature of Mycenaean Involvement in Western Anatolia.
Historia
38: 1-21.
Bryce, T. R. 1989b. Ahhiyawans and Mycenaeans-An Anatolian Viewpoint.
Oxford Journal of Archaeology
8: 297-310.
Bryce, T. R. 2002.
Life and Society in the Hittite World.
Oxford: Oxford University
Bryce, T. R. 2005.
The Kingdom of the Hittites.
New Edition. Oxford: Oxford University Press.
Bryce, T. R. 2009.
The Routledge Handbook of the
the Early Bronze Age to the Fall of the Persian Empire.
London: Routledge.
Bryce, T. R. 2010. The Hittite Deal with the Hiyawa-Men. In
on the Hittites and Their Neighbours in Honor of Itamar Singer,
ed. Y. Cohen, A. Gilan, and J. L. Miller, 47-53. Wiesbaden: Harrassowitz Verlag.
Bryce, T. R. 2012.
The World of the Neo-Hittite Kingdoms.
Oxford: Oxford University
Bunimovitz, S. 1998. Sea Peoples in Cyprus and Israel: A Comparative Study of Immigration Processes. In
Mediterranean Peoples in Transition: Thirteenth to Early Tenth Centuries BCE,
ed. S. Gitin, A. Mazar, and E. Stern, 103-13. Jerusalem: Israel Exploration Society.
Butzer, K. W. 2012. Collapse, Environment, and Society.
109/10: 3632-39.
Butzer, K. W., and G. H. Endfield. 2012. Critical Perspectives on Historical Collapse.
the National Academy of Sciences
109/10: 3628-31.
Callot, O. 1994.
Ras Shamra-Ougarit X: La tranchée “Ville sud”. Études d’architecture domestique.
Civilisations.
Callot, O., and M. Yon. 1995. Urbanisme et architecture. In
Le Pays d’Ougarit autour de 1200 av. J.-C.: Historie et archéologie. Actes du Colloque International; Paris, 28 juin-1
er
juillet 1993,
ed. M. Yon, M. Sznycer, and P. Bordreuil, 155-68. Paris: Éditions Recherche sur les Civilisations.
Carmi, I., and D. Ussishkin. 2004.
14
C Dates. In
The Renewed Archaeological Excavations at Lachish (1973-1994),
ed. D. Ussishkin, 2508-13. Tel Aviv: Tel Aviv University.
Carpenter, R. 1968.
Discontinuity in Greek Civilization.
New York: W. W. Norton & Co.
Carruba, O. 1977. Beitrage zur mittelhethitischen Geschichtc, I: Die Tuthalijas und die Arnuwandas.
Studi micenei ed egeo-anatolici
18: 137-74.
Castleden, R. 1993.
Minoan Life in Bronze Age Crete.
London: Routledge.
Caubet, A. 1992. Reoccupation of the Syrian Coast after the Destruction of the “Crisis Years.” In
The Crisis Years: The 12th Century B.C.,
ed. W. A. Ward and M. S. Joukowsky, 123-30. Dubuque, IA: Kendall/Hunt Publishing Co.
Caubet, A. 2000. Ras Shamra-Ugarit before the Sea Peoples. In
The Sea Peoples and Their World: A Reassessment,
ed. E. D. Oren, 35-49.
Caubet, A., and V. Matoian. 1995. Ougarit et l’Égée. In
Le
Historie et archéologie.
Actes du Colloque International; Paris, 28 juin-1
er
juillet 1993,
ed. M. Yon, M. Sznycer, and P. Bordreuil, 99-112. Paris: Éditions Recherche sur les Civilisations.
Cho, D., and B. Appelbaum. 2008. Unfolding Worldwide Turmoil Could Reverse Years of
Washington
October 7, 2008, A1.
Cifola, B. 1991. The Terminology of Ramses III’s Historical Records with a Formal Analysis of the War Scenes.
Orientalia
60: 9-57.
Cifola, B. 1994. The Role of the Sea
Reassessment of Textual and Archaeological Evidence.
Oriens Antiqvi Miscellanea
1: 1-57.
Clayton, P. A. 1994.
Chronicle of the Pharaohs: The Reign-by-Reign Record of the Rulers and Dynasties of Ancient Egypt.
London: Thames and Hudson.
Cline, E. H. 1987. Amenhotep III and the Aegean: A Reassessment of Egypto-Aegean Relations in the 14th Century BC.
Orientalia
56/1: 1-36.
Cline, E. H. 1990. An Unpublished Amenhotep III Faience Plaque from Mycenae.
Journal of the American Oriental Society
110/2: 200-212.
Cline, E. H. 1991a. Hittite Objects in the Bronze Age Aegean.
Anatolian Studies
41: 133-43.
Cline, E. H. 1991b. A Possible Hittite Embargo against the Mycenaeans.
Historia
40/1: 1-9.
Cline, E. H. 1994.
Sailing the Wine-Dark Sea: International Trade and the Late Bronze Age Aegean.
Oxford: Tempus Reparatum. Republished 2009.
Cline, E. H. 1995a. 'My Brother, My Son’: Rulership and Trade between the LBA Aegean, Egypt and the Near East. In
The Role of the Ruler in the Prehistoric Aegean,
ed. P. Rehak, 143-50. Aegaeum 11. Liège: Université de Liège.
Cline, E. H. 1995b. Tinker, Tailor, Soldier, Sailor: Minoans and Mycenaeans Abroad. In
State in the Aegean Bronze Age,
ed. W.-D. Niemeier and R. Laffineur, 265-87. Aegaeum 12. Liège: Université de Liège.
Cline, E. H. 1996. Aššuwa and the Achaeans: The 'Mycenaean’ Sword at Hattušas and Its
Annual of the British School at Athens
91: 137-51.
Cline, E. H. 1997a. Achilles in Anatolia: Myth, History, and the Aššuwa Rebellion. In
Crossing Boundaries and Linking Horizons: Studies in Honor of Michael Astour on His 80th Birthday,
ed. G. D. Young, M. W. Chavalas, and R. E. Averbeck, 189-210. Bethesda, MD: CDL
Cline, E. H. 1997b. Review of R. Drews,
The End of the Bronze Age (Princeton 1993).
Journal of Near Eastern Studies
56/2: 127-29.
Cline, E. H. 1998. Amenhotep III, the Aegean and Anatolia. In
Amenhotep III: Perspectives on His Reign,
ed. D. O’Connor and E. H. Cline, 236-50. Ann Arbor: University of Michigan
Cline, E. H. 1999a. The Nature of the Economic Relations of Crete with Egypt and the Near East during the Bronze Age. In
From Minoan Farmers to Roman Traders: Sidelights on the Economy of Ancient Crete,
ed. A. Chaniotis. 115-43. Munich: G. B. Steiner.
Cline, E. H. 1999b. Coals to Newcastle, Wallbrackets to Tiryns: Irrationality, Gift Exchange, and Distance Value. In
Meletemata: Studies in Aegean Archaeology Presented to Malcolm H. Wiener As He Enters His 65th Year,
ed. P. P. Betancourt, V. Karageorghis, R. Laffineur, and W.-D. Niemeier, 119-23. Aegaeum 20. Liège: Université de Liège.
Cline, E. H. 2000.
The Battles of Armageddon: Megiddo and the Jezreel Valley from the Bronze Age to the Nuclear Age.
Ann Arbor: University of Michigan Press.
Cline, E. H. 2005. Cyprus and Alashiya: One and the Same!
Archaeology Odyssey
8/5: 41-44.
Cline, E. H. 2006. A Widow’s Plea and a Murder Mystery.
Dig
magazine, January 2006, 28-30.
Cline, E. H. 2007a. Rethinking Mycenaean International Trade. In
Rethinking Mycenaean
ed. W. Parkinson and M. Galaty, 190-200. 2nd Edition. Los Angeles: Cotsen Institute of Archaeology.
Cline, E. H. 2007b.
From Eden to Exile: Unraveling Mysteries of the Bible.
Washington, DC: National Geographic Books.
Cline, E. H. 2009a.
Biblical Archaeology: A Very Short Introduction.
New York: Oxford University Press.
Cline, E. H. 2009b. The Sea Peoples’
In
Doron: Festschrift for Spyros E. Iakovidis,
ed. D. Danielidou, 191-98. Athens: Athens Academy.
Cline, E. H. 2010. Bronze Age Interactions between the Aegean and the Eastern Mediterranean Revisited: Mainstream, Margin, or
Archaic State Interaction: The Eastern Mediterranean in the Bronze Age,
ed. W. Parkinson and M. Galaty, 161-80. Santa Fe, NM: School for Advanced Research.
Cline, E. H., ed. 2010.
The Oxford Handbook of the Bronze Age Aegean.
New York: Oxford University Press.
Cline, E. H. 2011. Whole Lotta Shakin’ Going On: The Possible Destruction by Earthquake of Megiddo Stratum VIA. In
The Fire Signals of Lachish: Studies in the Archaeology and History of Israel in the Late Bronze Age, Iron Age, and Persian Period in Honor of David Ussishkin,
ed. I. Finkelstein and N. Na’aman, 55-70. Tel Aviv: Tel Aviv University.
Cline, E. H. 2013.
The Trojan War: A Very Short Introduction.
Oxford: Oxford University Press.
Cline, E. H., and M. J. Cline. 1991. Of Shoes and Ships and Sealing Wax: International Trade and the Late Bronze Age Aegean.
Expedition
33/3: 46-54.
Cline, E. H., and D. Harris-Cline, eds. 1998.
The Aegean and the Orient in the Second Millennium. Proceedings of the 50th Anniversary Symposium, Cincinnati, 18-20 April 1997.
Aegaeum 18. Liège: Université de Liège.
Cline, E. H., and D. O’Connor. 2003. The Mystery of the 'Sea Peoples’. In
Mysterious Lands,
ed. D. O’Connor and S. Quirke, 107-38. London: UCL
Cline, E. H., and D. O’Connor, eds. 2006.
Thutmose III: A New Biography.
Ann Arbor: University of Michigan Press.
Cline, E. H., and D. O’Connor, eds. 2012.
Ramesses III: The Life and Times of Egypt’s Last Hero.
Ann Arbor: University of Michigan
Cline, E. H., and S. M. Stannish. 2011. Sailing the Great Green Sea: Amenhotep III’s “Aegean List” from Kom el-Hetan, Once More.
Journal of Ancient Egyptian Interconnections
3/2: 6-16.
Cline, E. H., and A. Yasur-Landau. 2007. Musings from a Distant Shore: The Nature and Destination of the Uluburun Ship and Its Cargo.
Tel Aviv
34/2: 125-41.
Cline, E. H., and A. Yasur-Landau. 2013. Aegeans in Israel: Minoan Frescoes at Tel Kabri.
Biblical Archaeology Review
39/4 (July/August 2013) 37-44, 64, 66.
Cline, E. H., A. Yasur-Landau, and N. Goshen. 2011. New Fragments of Aegean-Style Painted
American Journal of Archaeology
115/2: 245-61.
Cohen, C., J. Maran, and M. Vetters, 2010. An Ivory Rod with a Cuneiform Inscription, Most Probably Ugaritic, from a Final Palatial Workshop in the Lower Citadel of Tiryns.
Archäologischer Anzeiger
2010/2: 1-22.
Cohen, R., and R. Westbrook., eds. 2000.
Amarna Diplomacy: The Beginnings of International Relations.
Baltimore: Johns Hopkins University Press.
Cohen, Y., and I. Singer. 2006. A Late Synchronism between Ugarit and Emar. In
Essays on Ancient Israel in Its Near Eastern Context: A Tribute to Nadav Na’aman:
123-39, ed. Y. Amit, E. Ben Zvi, I. Finkelstein, and O. Lipschits. Winona Lake, IN: Eisenbrauns.
Collins, B. J. 2007.
The Hittites and Their World.
Atlanta: Society of Biblical Literature.
Courbin, P. 1990. Bassit Poidaeion in the Early Iron Age. In
Greek Colonists and Native
Classical Archaeology in Honour of A. D. Trendall,
ed. J.-P. Descoeudres, 504-9. Oxford: Clarendon
Curtis, A.H.W. 1999. Ras Shamra, Minet el-Beida and Ras Ibn Hani: The Material Sources. In
Handbook of Ugaritic Studies,
ed. W.G.E. Watson and N. Wyatt, 5-27. Leiden: Brill.
Dalley, S. 1984.
Mari and Karana: Two Old Babylonian Cities.
London: Longman.
Dark, K. R. 1998.
Waves of Time: Long Term Change and International Relations.
New York: Continuum.
Darnell, J. C., and C. Manassa. 2007.
Tutankhamun’s Armies: Battle and Conquest during Ancient Egypt’s Late Eighteenth Dynasty.
Hoboken, NJ: John Wiley & Sons.
Davies, N. de G. 1943.
The Tombs of Rekh-mi-Re’ at Thebes (= PMMA, 11). New York: Metropolitan Museum of Art.
Davis, J. L., ed. 1998.
Sandy Pylos. An Archaeological History from Nestor to Navarino.
Austin: University of Texas
Davis, J. L. 2010. Pylos. In
The Oxford Handbook of the Bronze Age Aegean,
ed. E. H. Cline, 680-89. New York: Oxford University
Deger-Jalkotzy, S. 2008. Decline, Destruction, Aftermath. In
The Cambridge Companion to the Aegean Bronze Age,
ed. C. W. Shelmerdine, 387-415. Cambridge: Cambridge University
Demand, N. H. 2011.
The Mediterranean Context of Early Greek History.
Oxford: Wiley-Blackwell.
Dever, W. G. 1992. The Late Bronze-Early Iron I Horizon in Syria-Palestine: Egyptians, Canaanites, 'Sea Peoples,’ and
The Crisis Years: The 12th Century B.C.,
ed. W. A. Ward and M. S. Joukowsky, 99-110. Dubuque, IA: Kendall/Hunt Publishing Co.
Diamond, J. 2005.
Collapse: How Societies Choose to Fail or Succeed.
New York: Viking.
Dickinson, O. 2006.
The Aegean from Bronze Age to Iron Age. Continuity and Change between the Twelfth and Eighth Centuries BC.
New York: Routledge.
Dickinson, O. 2010. The Collapse at the End of the Bronze Age. In
The Oxford Handbook of the Bronze Age Aegean,
ed. E. H. Cline, 483-90. New York: Oxford University
Dietrich, M., and O. Loretz. 1999. Ugarit, Home of the Oldest Alphabets. In
Handbook of Ugaritic Studies,
ed. W.G.E. Watson and N. Wyatt, 81-90. Leiden: Brill.
Dietrich, M., and O. Loretz. 2002. Der Untergang von Ugarit am 21. Januar 1192 v. Chn? Der astronomisch-hepatoskopische Bericht KTU 1.78 (RS 12.061).
Ugarit-Forschungen
34: 53-74.
Dorman, P. F. 2005a. Hatshepsut:
Hatshepsut: From Queen to
ed. C. Roehrig, 87-89. New Haven: Yale University Press.
Dorman, P. F. 2005b. The Career of Senenmut. In
Hatshepsut: From Queen to Pharaoh,
ed. C. Roehrig, 107-9. New Haven: Yale University
Dothan, M. 1971.
Ashdod II-III. The Second and Third Season of Excavations 1963, 1965, Sounding in 1967. Text and Plates. 'Atiqot 9-10. Jerusalem: Israel Antiquities Authority.
Dothan, M. 1993. Ashdod. In
The New Encyclopedia of Archaeological Excavations in the Holy Land,
ed. E. Stern, 93-102. Jerusalem: Carta.
Dothan, M., and Y. Porath. 1993.
Ashdod V. Excavations of Area G. The Fourth-Sixth Season of Excavations 1968-1970. 'Atiqot 23. Jerusalem: Israel Antiquities Authority.
Dothan, T. 1982.
The Philistines and Their Material Culture.
New Haven: Yale University Press.
Dothan, T. 1983. Some Aspects of the Appearance of the Sea Peoples and Philistines in Canaan. In
Griechenland, die Ägäis und die Levante während der “Dark Ages,”
ed. S. Deger-Jalkotzy, 99-117. Vienna: Österreichische Akademie der Wissenschaft.
Dothan, T. 1990. Ekron of the Philistines, Part 1: Where They Came From, How They Settled Down and the Place They Worshiped In.
Biblical Archaeology Review
18/1: 28-38.
Dothan, T. 1998. Initial Philistine Settlement: From Migration to Coexistence. In
Mediterranean Peoples in Transition: Thirteenth to Early Tenth Centuries BCE,
ed. S. Gitin, A. Mazar, and E. Stern, 148-61. Jerusalem: Israel Exploration Society.
Dothan, T. 2000. Reflections on the Initial Phase of Philistine Settlement. In
The Sea Peoples and Their World: A Reassessment,
ed. E. D. Oren, 146-58.
Dothan, T., and M. Dothan. 1992.
Search for the Philistines.
New York: Macmillan Publishing Company.
Drake, B. L. 2012. The Influence of Climatic Change on the Late Bronze Age Collapse and the Greek Dark Ages.
Journal of Archaeological Science
39: 1862-70.
Drews, R. 1992. Herodotus 1.94, the Drought ca. 1200 B.C., and the Origin of the Etruscans.
Historia
41: 14-39.
Drews, R. 1993.
The End of the Bronze Age: Changes in Warfare and the Catastrophe ca. 1200 B.C.
Drews, R. 2000. Medinet Habu: Oxcarts, Ships, and Migration Theories.
Journal of Near Eastern Studies
59: 161-90.
Durard, J.-M. 1983.
Textes administratifs des salles 134 et 160 du Palais de Mari.
ARMT XX. Paris: Librairie Orientaliste Paul Geuthner.
Edel, E. 1961. Ein kairener fragment mit einem Bericht über den libyerkrieg Merneptahs,
Zeitschrift für Ägyptische Sprache und Altertumskunde
86: 101-3.
Edel, E. 1966.
Die Ortsnamenlisten aus dem Totentempel Amenophis III.
Bonn: Peter Hanstein Verlag.
Edel, E., and M. Görg. 2005.
Die Ortsnamenlisten im nördlichen Säulenhof des Totentempels Amenophis’ III.
Wiesbaden: Harrassowitz Verlag.
Edgerton, W. F., and J. A. Wilson. 1936.
Historical Records of Ramses III: The Texts in Medinet Habu.
Vols. 1 and 2. Chicago: University of Chicago Press.
Emanuel, J. P. 2013. '
ŠRDN
from the Sea’: The Arrival, Integration, and Acculturation of a 'Sea
Journal of Ancient Egyptian Interconnections
5/1: 14-27.
Enverova, D. A. 2012.
The Transition from Bronze Age to Iron Age in the Aegean: An Heterarchical Approach.
M.A. Thesis, Bilkent University
http://www.thesis.bilkent.edu.tr/0006047.pdf (last accessed September 11, 2013).
Ertekin, A., and I. Ediz. 1993. The Unique Sword from Bogazkoy/Hattusa. In
Aspects of Art and Iconography: Anatolia and Its Neighbors. Studies in Honor of Nonet Ozguc,
ed. M. J. Mellink, E. Porada, and T. Ozguc, 719-25. Ankara: Türk Tarih Kurumu Basimevi.
Evans, A. J. 1921-35.
The Palace of Minos at Knossos.
Vols. 1-4. London: Macmillan and Co.
Fagles, R. 1990.
Homer: The Iliad.
New York:
Faust, A., and J. Lev-Tov. 2011. The Constitution of Philistine Identity: Ethnic Dynamics in Twelfth to Tenth Century Philistia.
Oxford Journal of Archaeology
30: 13-31.
Feldman, M. 2002. Luxurious Forms: Redefining a Mediterranean “International Style,” 1400-1200 B.C.E.
Art Bulletin
84/1: 6-29.
Feldman, M. 2006.
Diplomacy by Design: Luxury Arts and an “International Style” in the Ancient Near East, 1400-1200BCE.
Chicago: University of Chicago Press.
Feldman, M. 2009. Hoarded Treasures: The Megiddo Ivories and the End of the Bronze Age.
Levant
41/2: 175-94.
Finkelstein, I. 1996. The Stratigraphy and Chronology of Megiddo and Beth-Shean in the 12th-11th Centuries BCE.
Tel Aviv
23: 170-84.
Finkelstein, I. 1998. Philistine Chronology: High, Middle or Low? In
Mediterranean Peoples in Transition: Thirteenth to Early Tenth Centuries BCE,
ed. S. Gitin, A. Mazar, and E. Stern, 140-47. Jerusalem: Israel Exploration Society.
Finkelstein, I. 2000. The Philistine Settlements: When, Where and How Many? In
The Sea Peoples and Their World: A Reassessment,
ed. E. D. Oren, 159-80.
Finkelstein, I. 2002. El-A
ḥ
wat: A Fortified Sea People City?
Israel Exploration Journal
52/2: 187-99.
Finkelstein, I. 2007. Is the Philistine
The Synchronisation of Civilisations in the Eastern Mediterranean in the Second Millennium B.C. III, Proceedings of the SCIEM 2000-2nd EuroConference, Vienna, 28th of May-1st of June 2003,
ed. M. Bietak and E. Czerny, 517-23. Vienna: Verlag der Österreichischen Akademie der Wissenschaften.
Fitton, J. L. 2002.
Minoans.
London: British Museum Press.
Frank. A. G. 1993. Bronze Age World System and Its Cycles.
Current Anthropology
34: 383-429.
Frank, A. G., and B. K. Gillis. 1993.
The World System: Five Hundred Years or Five Thousand?
London: Routledge.
Frank, A. G., and W. R. Thompson. 2005. Afro-Eurasian Bronze Age Economic Expansion and Contraction Revisited.
Journal of World History
16: 115-72.
Franken, H. J. 1961. The Excavations at Deir 'Alla, Jordan.
Vetus Testamentum
11: 361-72.
French, E. 2009. The Significance of Changes in Spatial Usage at Mycenae. In
Forces of Transformation: The End of the Bronze Age in the Mediterranean,
ed. C. Bachhuber and R. G. Roberts, 108-10. Oxford: Oxbow Books.
French, E. 2010. Mycenae. In
The Oxford Handbook of the Bronze Age Aegean,
ed. E. H. Cline, 671-79. New York: Oxford University
Friedman, K. E. 2008. Structure, Dynamics, and the Final Collapse of Bronze Age Civilizations in the Second Millennium. In
Historical Transformations: The Anthropology of Global Systems,
ed. K. E. Friedman and J. Friedman, 163-202. Lanham, MD: Altamira Press.
Galil, G., A. Gilboa, A. M. Maeir, and D. Kahn, eds. 2012.
The Ancient Near East in the 12th-10th Centuries BCE: Culture and History. Proceedings of the International Conference Held at the University of Haifa, 2-5 May, 2010.
AOAT 392. Münster: Ugarit-Verlag.
Genz, H. 2013. “No Land Could Stand before Their Arms, from Hatti ... On ...”? New Light on the End of the Hittite Empire and the Early Iron Age in Central Anatolia. In
The
Archaeology,
ed. A. E. Killebrew and G. Lehmann, 469-77. Atlanta: Society of Biblical Literature.
Gilboa, A. 1998. Iron I-IIA Pottery Evolution at Dor-Regional Contexts and the Cypriot Connection. In
Mediterranean
Centuries BCE,
ed. S. Gitin, A. Mazar, and E. Stern, 413-25. Jerusalem: Israel Exploration Society.
Gilboa, A. 2005. Sea Peoples and
Reconciliation: An Interpretation of Šikila (SKL) Material Culture.
Bulletin of the American Schools of Oriental Research
337: 47-78.
Gilboa, A. 2006-7. Fragmenting the Sea
Egypt: A Tel Dor Perspective.
Scripta Mediterranea
27-28: 209-44.
Gillis, C. 1995. Trade in the Late Bronze Age. In
Trade and
Trade,
ed. C. Gillis, C. Risberg, and B. Sjöberg, 61-86. Jonsered: Paul Åström Förlag.
Gilmour, G., and K. A. Kitchen. 2012.
with Canaan at the End of the Late Bronze Age.
Israel Exploration Journal
62/1: 1-21.
Gitin, S. 2005. Excavating Ekron. Major Philistine City Survived by Absorbing Other Cultures.
Biblical Archaeology Review
31/6: 40-56, 66-67.
Giveon, R., D. Sweeney, and N. Lalkin. 2004. The Inscription of Ramesses III. In
The Renewed Archaeological Excavations at Lachish (1973-1994),
ed. D. Ussishkin, 1626-28. Tel Aviv: Tel Aviv University.
Grundon, I. 2007.
The Rash Adventurer: A Life of John Pendlebury.
London: Libri
Güterbock, H. G. 1992. Survival of the Hittite Dynasty. In
The Crisis Years: The 12th Century B.C.,
ed. W. A. Ward and M. S. Joukowsky, 53-55. Dubuque, IA: Kendall/Hunt Publishing Co.
Habachi, L. 1972.
The Second Stele of Kamose.
Gluckstadt: J. J. Augustin.
Halpern, B. 2006-7. The Sea-Peoples and Identity.
Scripta Mediterranea
27-28: 15-32.
Hankey, V. 1981. The Aegean Interest in El Amarna.
Journal of Mediterranean Anthropology and Archaeology
1: 38-49.
Harrison, T. P. 2009. Neo-Hittites in the “Land of Palistin.” Renewed Investigations at Tell Ta’yinat on the Plain of Antioch.
Near Eastern Archaeology
72/4: 174-89.
Harrison, T. P. 2010. The Late Bronze/Early Iron Age Transition in the North Orontes Valley. In
Societies in Transition: Evolutionary Processes in the Northern Levant between Late Bronze Age II and Early Iron Age. Papers Presented on the Occasion of the 20th Anniversary of the New Excavations in Tell Afis. Bologna, 15th November 2007,
ed. F. Venturi, 83-102. Bologna: Clueb.
Hawass, Z. 2005.
Tutankhamun and the Golden Age of the Pharaohs.
Washington, DC: National Geographic Society.
Hawass, Z. 2010. King Tut’s Family Secrets.
National Geographic,
September 2010, 34-59.
Hawass, Z., et al. 2010. Ancestry and
Journal of the American Medical Association
303/7 (2010): 638-47.
Hawkins, J. D. 2009. Cilicia, the Amuq and Aleppo: New Light in a Dark Age.
Near Eastern Archaeology
72/4: 164-73.
Hawkins, J. D. 2011. The Inscriptions of the Aleppo Temple.
Anatolian Studies
61: 35-54.
Heimpel, W. 2003.
Letters to the King of Mari: A New Translation, with Historical Introduction, Notes, and Commentary.
Winona Lake, IN: Eisenbrauns.
Heltzer, M. 1988. Sinaranu, Son of Siginu, and the Trade Relations between Ugarit and Crete.
Minos
23: 7-13.
Heltzer, M. 1989. The Trade of Crete and Cyprus with Syria and Mesopotamia and Their Eastern Tin-Sources in the XVIII-XVII Centuries B.C.
Minos
24: 7-28.
Hirschfeld, N. 1990.
Incised Marks on LH/LM III
M.A. Thesis, Institute of Nautical Archaeology, Texas A&M University.
Hirschfeld, N. 1992. Cypriot Marks on Mycenaean Pottery. In
Mykenaïka: Actes du IX
e
Colloque international sur les textes mycéniens et égéens, Athènes, 2-6 octobre 1990,
ed. J.-P. Olivier, 315-19. Paris: Diffusion de Bocard.
Hirschfeld, N. 1996. Cypriots in the Mycenaean Aegean. In
Atti e Memorie del Secondo Congresso Internazionale di Micenologia, Roma-Napoli, 14-20 Ottobre 1991,
ed. E. De Miro, L. Godart, and A. Sacconi, 1:289-97. Rome/Naples: Gruppo Editoriale Internatzionale.
Hirschfeld, N. 1999.
Eastern Mediterranean.
Dissertation, University of Texas at Austin.
Hirschfeld, N. 2010. Cypro-Minoan. In
The Oxford Handbook of the Bronze Age Aegean,
ed. E. H. Cline, 373-84. New York: Oxford University
Hitchcock, L. A. 2005. 'Who will personally invite a foreigner, unless he is a craftsman?’: Exploring Interconnections in Aegean and Levantine Architecture. In
Emporia. Aegeans in the Central and Eastern Mediterranean. Proceedings of the 10th International Aegean Conference. Athens, Italian School of Archaeology, 14-18 April 2004,
ed. R. Laffineur and E. Greco, 691-99. Aegaeum 25. Liège: Université de Liège.
Hitchcock, L. A. 2008. 'Do you see a man skillful in his work? He will stand before kings’: Interpreting Architectural Influences in the Bronze Age Mediterranean.
Ancient West and East
7: 17-49.
Hitchcock, L. A. 2011. 'Transculturalism’ as a Model for Examining Migration to Cyprus and Philistia at the End of the Bronze Age.
Ancient West and East
10: 267-80.
Hitchcock, L. A. In press. 'All the Cherethites, and all the Pelethites, and all the Gittites’: A Current Assessment of the Evidence for the Minoan Connection with the Philistines. To be published in the
of the 11th International Congress of Cretan Studies, 21-27 October 2011, Rethymnon, Crete.
Hitchcock, L. A., and A. M. Maeir. 2013. Beyond Creolization and Hybridity: Entangled and Transcultural Identities in Philistia.
Archaeological Review from Cambridge
28/1: 51-74.
Hoffmeier, J. K. 2005.
Ancient Israel in Sinai: The Evidence for the Authenticity of the Wilderness Tradition.
Oxford: Oxford University
Hoffner, H. A., Jr. 1992. The Last Days of Khattusha. In
The Crisis Years: The 12th Century B.C.,
ed. W. A. Ward and M. S. Joukowsky, 46-52. Dubuque, IA: Kendall/Hunt Publishing Co.
Hoffner, H. A., Jr. 2007. Hittite Laws. In
Law Collections from Mesopotamia and Asia Minor,
ed. M. T. Roth, 213-40. 2nd Edition. Atlanta: Scholars
Hooker, J. T. 1982. The End of Pylos and the Linear B Evidence.
Studi micenei ed egeoanatolici
23: 209-17.
Houwink ten Cate, P.H.J. 1970.
The Records of the Early Hittite Empire (c. 1450-1380B.C.).
Istanbul: Nederlands Historisch-Archaeologisch Instituut in het Nabije Oosten. Huehnergard, J. 1999. The Akkadian Letters. In
Handbook of Ugaritic Studies,
ed. W.G.E. Watson and N. Wyatt, 375-89. Leiden: Brill.
Iacovou, M. 2008. Cultural and
Sequel to a Protohistoric Episode.
American Journal of Archaeology
112/4: 625-57.
Iacovou, M. 2013. Aegean-Style Material Culture in Late Cypriot III: Minimal Evidence, Maximal Interpretation. In
The Philistines and Other “Sea Peoples” in Text and Archaeology,
ed. A. E. Killebrew and G. Lehmann, 585-618. Atlanta: Society of Biblical Literature.
Iakovidis, Sp. E. 1986. Destruction Horizons at Late Bronze Age Mycenae. In
Mylonan, v. A,
233-60. Athens: Library of the Archaeological Society of Athens.
Janeway, B. 2006-7. The Nature and Extent of Aegean Contact at Tell Ta’yinat and Vicinity in the Early Iron Age: Evidence of the Sea
Scripta Mediterranea
27-28: 123-46.
Jennings, J. 2011.
Globalizations and the Ancient World.
Cambridge: Cambridge University Press.
Johnson, N. 2007.
Simply Complexity: A Clear Guide to Complexity Theory.
Oxford: OneWorld Publications.
Jung, R. 2009. '“Sie vernichteten sie, als ob sie niemals existiert hätten”- Was blieb von den Zerstörungen der Seevölker?’ In
Schlachtfeldarchäologie/Battlefield Archaeology. 1. Mitteldeutscher Archäologentag vom 09. Bis 11. Oktober 2008 in Halle (Saale) (Tagungen des Landesmuseums für Vorgeschichte Halle 2),
ed. H. Meller, 31-48. Halle (Saale): Landesmuseum für Vorgeschichte.
Jung, R. 2010. End of the Bronze Age. In
The Oxford Handbook of the Bronze Age Aegean,
ed. E. H. Cline, 171-84. New York: Oxford University
Jung, R. 2011. Innovative Cooks and New Dishes: Cypriote Pottery in the 13th and 12th Centuries BC and Its Historical Interpretation. In
On Cooking Pots, Drinking Cups, Loomweights and Ethnicity in Bronze Age Cyprus and Neighbouring Regions. An International Archaeological Symposium Held in Nicosia, November 6th-7th 2010,
ed. V. Karageorghis and O. Kouka, 57-85. Nicosia: A. G. Leventis Foundation.
Jung, R. 2012. Can We Say, What’s behind All Those Sherds? Ceramic Innovations in the Eastern Mediterranean at the End of the Second Millennium. In
Materiality and Social Practice: Transformative Capacities of Intercultural Encounters,
ed. J. Maran and P. W. Stockhammer, 104-20. Oxford: Oxbow Books.
Kahn, D. 2011. One Step Forward, Two Steps Backward: The Relations between Amenhotep III, King of Egypt and Tushratta, King of Mitanni. In
Egypt, Canaan and Israel: History, Imperialism, Ideology and Literature:
Haifa, 3-7 May 2009,
ed. S. Bar, D. Kahn, and J. J. Shirley, 136-54. Leiden: Brill.
Kahn, D. 2012. A Geo-Political and Historical Perspective of Merneptah’s Policy in Canaan. In
The Ancient Near East in the 12th-10th Centuries BCE: Culture and History. Proceedings of the International Conference Held at the University of Haifa, 2-5 May, 2010,
ed. G. Galil, A. Gilboa, A. M. Maeir, and D. Kahn, 255-68. AOAT 392. Münster: Ugarit-Verlag.
Kammenhuber, A. 1961.
Hippologia hethitica.
Wiesbaden: O. Harrassowitz.
Kamrin, J. 2013. The Procession of “Asiatics” at Beni Hasan. In
Cultures in Contact: From Mesopotamia to the Mediterranean in the Second Millennium B.C.,
ed. J. Aruz, S. B. Graff, and Y. Rakic, 156-69. New York: Metropolitan Museum of Art.
Kaniewski, D., E. Paulissen, E. Van Campo, H. Weiss, T. Otto, J. Bretschneider, and K. Van Lerberghe. 2010. Late Second-Early First Millennium BC Abrupt Climate Changes in Coastal Syria and Their Possible Significance for the History of the Eastern Mediterranean.
Quaternary Research
74: 207-15.
Kaniewski, D., E. Van Campo, K. Van Lerberghe, T. Boiy, K. Vansteenhuyse, G. Jans, K. Nys, H. Weiss,C. Morhange, T. Otto, and J. Bretschneider. 2011. The Sea Peoples, from Cuneiform Tablets to Carbon Dating.
6/6: e20232,
http://www.plosone.org/article/info
3Adoi
2F10.1371
2Fjournal.pone.0020232 (last accessed August 25, 2013).
Kaniewski, D., E. Van Campo, J. Guiot, S. Le Burel, T. Otto, and C. Baeteman. 2013. Environmental Roots of the Late Bronze Age Crisis.
8/8: e71004,
http://www.plosone.org/article/info
3Adoi
2F10.1371
2Fjournal.pone.0071004 (last accessed August 25, 2013).
Kaniewski, D., E. Van Campo, and H. Weiss. 2012. Drought Is a Recurring Challenge in the Middle East.
the National Academy of Sciences
109/10: 3862-67.
Kantor, H. J. 1947.
The Aegean and the Orient in the Second Millennium BC.
AIA Monograph no. 1. Bloomington, IN: Principia
Karageorghis, V. 1982.
Cyprus: From the Stone Age to the Romans.
London: Thames and Hudson.
Karageorghis, V. 1992. The Crisis Years: Cyprus. In
The Crisis Years: The 12th Century B.C.,
ed. W. A. Ward and M. S. Joukowsky, 79-86. Dubuque, IA: Kendall/Hunt Publishing Co.
Karageorghis, V. 2011. What Happened in Cyprus c. 1200BC: Hybridization, Creolization or Immigration? An Introduction. In
On Cooking Pots, Drinking Cups, Loomweights and Ethnicity in Bronze Age Cyprus and Neighbouring Regions. An International Archaeological Symposium Held in Nicosia, November 6th-7th 2010,
ed. V. Karageorghis and O. Kouka, 19-28. Nicosia: A. G. Leventis Foundation.
Kelder, J. M. 2010.
The Kingdom of Mycenae: A Great Kingdom in the Late Bronze Age Aegean.
Bethesda, MD: CDL
Kelder, J. M. 2012. Ahhiyawa and the World of the Great Kings: A Re-evaluation of My cenaean Political Structures.
Talanta
44: 1-12.
Keller, C. A. 2005. The Joint Reign of Hatshepsut and Thutmose III. In
Hatshepsut: From Queen to
ed. C. Roehrig, 96-98. New Haven: Yale University Press.
Kempinski, A. 1989.
Megiddo: A City-State and Royal Centre in North Israel.
Munich: Verlag C. H. Beck.
Kilian, K. 1990. Mycenaean Colonization: Norm and Variety. In
Greek Colonists and Native
Congress of Classical Archaeology Held in Honour of Emeritus Professor A. D. Trendall,
ed. J.-P. Descoeudres, 445-67. Oxford: Clarendon
Kilian, K. 1996. Earthquakes and Archaeological Context at 13th Century BC Tiryns. In
Archaeoseismology,
ed. S. Stiros and R. E. Jones, 63-68. Fitch Laboratory Occasional
Athens.
Killebrew, A. E. 1998. Ceramic Typology and Technology of Late Bronze II and Iron I Assemblages from Tel Miqne-Ekron: The Transition from Canaanite to Philistine Culture. In
Mediterranean Peoples in Transition: Thirteenth to Early Tenth Centuries BCE,
ed. S. Gitin, A. Mazar, and E. Stern, 379-405. Jerusalem: Israel Exploration Society.
Killebrew, A. E. 2000. Aegean-Style Early Philistine Pottery in Canaan during the Iron I Age: A Stylistic Analysis of Mycenaean IIIC:1b
The Sea Peoples and Their World: A Reassessment,
ed. E. D. Oren, 233-53.
Killebrew, A. E. 2005.
Biblical Peoples and Ethnicity. An Archaeological Study of Egyptians, Canaanites,
B.C.E.
Atlanta: Society of Biblical Literature.
Killebrew, A. E. 2006-7. The
Appropriation of Mycenaean-Style Culture in the East Aegean, Southeastern Coastal Anatolia, and the Levant.
Scripta Mediterranea
27-28: 245-66.
Killebrew, A. E. 2013. Early Philistine
for the Late Bronze-Early Iron Age Transition in the Eastern Mediterranean. In
The Philistines and Other “Sea Peoples” in Text and Archaeology,
ed. A. E. Killebrew and G. Lehmann, 77-129. Atlanta: Society of Biblical Literature.
Killebrew, A. E. and G. Lehmann. 2013. Introduction: The World of the Philistines and Other “Sea Peoples.” In
The
Archaeology,
ed. A. E. Killebrew and G. Lehmann, 1-17. Atlanta: Society of Biblical Literature.
Killebrew, A. E. and Lehmann, G., eds. 2013.
The Philistines and Other “Sea Peoples” inText and Archaeology.
Atlanta: Society of Biblical Literature.
Kitchen, K. A. 1965. Theban Topographical Lists, Old and New.
Orientalia
34: 5-6.
Kitchen, K. A. 1966. Aegean Place Names in a List of Amenophis III.
Bulletin of the American Schools of Oriental Research
191: 23-24.
Kitchen, K. A. 1982.
Times of Ramesses II.
Warminster: Aris & Phillips.
Kitchen, K. A. 2012. Ramesses III and the Ramesside Period. In
Ramesses III: The Life and Times of Egypt’s Last Hero,
ed. E. H. Cline and D. O’Connor, 1-26. Ann Arbor: University of Michigan
Knapp, A. B. 1991. Spice, Drugs, Grain and Grog: Organic Goods in Bronze Age East Mediterranean Trade. In
Bronze Age Trade in the Aegean,
ed. N. H. Gale, 21-68. Jonsered: Paul Åström Förlag.
Knapp, A. B. 2012. Matter of Fact: Transcultural Contacts in the Late Bronze Age Eastern Mediterranean. In
Materiality and Social Practice: Transformative Capacities of Intercultural Encounters,
ed. J. Maran and P. W. Stockhammer, 32-50. Oxford: Oxbow Books.
Kochavi, M. 1977.
Aphek-Antipatris: Five Seasons of Excavation at Tel Aphek-Antipatris (1972-1976).
Tel Aviv: The Israel Exploration Society.
Kostoula, M., and J. Maran. 2012. A Group of Animal-Headed Faience Vessels from Tiryns. In
All the Wisdom of the East: Studies in Near Eastern Archaeology and History in Honor of Eliezer D. Oren,
ed. M. Gruber, S. Ahituv, G. Lehmann, and Z. Talshir, 193-234. Orbis Biblicus et Orientalis 255. Fribourg: Vandenhoeck & Ruprecht Göttingen.
Kuhrt, A. 1995.
The Ancient Near East c. 3000-330B.C.
Vol. 1. London: Routledge.
Lackenbacher, S. 1995a. La correspondence international dans les archives d’Ugarit.
Revue d’assyriologie et d’archéologie orientale
89: 67-75.
Lackenbacher, S. 1995b. Une correspondance entre l’Administration du Pharaon Merneptah et le Roi d’Ougarit. In
Le Pays d’Ougarit autour de 1200 av. J.-C.: Historie et archéologie. Actes du Colloque International; Paris, 28 juin-1
er
juillet 1993,
ed. M. Yon, M. Sznycer, and P. Bordreuil, 77-83. Paris: Éditions Recherche sur les Civilisations.
Lackenbacher, S., and F. Malbran-Labat. 2005. Ugarit et les Hittites dans les archives de la “Maison d’Urtenu.”
Studi micenei ed egeo-anatolici
47: 227-40.
Lagarce, J., and E. Lagarce. 1978. Découvertes archéologiques à Ras Ibn Hani près de Ras Shamra: un palais du roi d’Ugarit, des tablettes inscrites en caractères cuneiforms, un petit établissement des peoples de la mer et une ville hellénistique.
Comptes rendus de l’Académie des inscriptions et belles-lettres
1978: 45-64.
Langgut, D., I. Finkelstein, and T. Litt. 2013. Climate and the Late Bronze Collapse: New Evidence from the Southern Levant.
Tel Aviv
40: 149-75.
Latacz, J. 2004.
Troy and Homer: Towards a Solution of an Old Mystery.
Oxford: Oxford University Press.
Leach, J. W., and E. Leach, eds. 1983.
The Kula: New
Cambridge: Cambridge University
Lebrun, R. 1995. Ougarit et le Hatti à la fin du XIII
e
siècle av. J.-C. In
Le Pays d’Ougarit autour de 1200 av. J.-C.: Historie et archéologie. Actes du Colloque International; Paris, 28 juin-1
er
juillet 1993,
ed. M. Yon, M. Sznycer, and P. Bordreuil, 85-88. Paris: Éditions Recherche sur les Civilisations.
Lehmann, G. 2013. Aegean-Style Pottery in Syria and Lebanon during Iron Age I. In
The Philistines and Other “Sea
ed. A. E. Killebrew and G. Lehmann, 265-328. Atlanta: Society of Biblical Literature.
Lemaire, A. 2012. West Semitic Epigraphy and the History of the Levant during the 12th-10th Centuries BCE. In
The Ancient Near East in the 12th-10th Centuries BCE: Culture and History. Proceedings of the International Conference Held at the University of Haifa, 2-5 May, 2010,
ed. G. Galil, A. Gilboa, A. M. Maeir, and D. Kahn, 291-307. AOAT 392. Münster: Ugarit-Verlag.
Liverani, M. 1987. The Collapse of the Near Eastern Regional System at the End of the Bronze Age: The Case of Syria. In
Centre and Periphery in the Ancient World,
ed. M. Rowlands, M. Larsen, and K. Kristiansen, 66-73. Cambridge: Cambridge University Press.
Liverani, M. 1990.
International Relations in the Near East ca. 1600-1100B.C.
Liverani, M. 1995. La Fin d’Ougarit: Quand? Pourquoi? Comment? In
Le Pays d’Ougarit autour de 1200 av. J.-C.: Historie et archéologie. Actes du Colloque International; Paris, 28 juin-1
er
juillet 1993,
ed. M. Yon, M. Sznycer, and P. Bordreuil, 113-17. Paris: Éditions Recherche sur les Civilisations.
Liverani, M. 2001.
International Relations in the Ancient Near East, 1600-1100BC.
London: Palgrave.
Liverani, M. 2003. The Influence of
East (Late Bronze to Early Iron Ages). In
Mercanti e politica nel Mondo Antico,
ed. C. Zaccagnini, 119-37. Rome: L’Erma di Bretschneider.
Liverani, M. 2009. Exploring Collapse. In
Scienze dell’antichità: Storia Archeologia Antropologia
15: 15-22.
Loader, N. C. 1998.
Building in Cyclopean Masonry: With Special Reference to the Mycenaean Fortifications on Mainland Greece.
Jonsered: Paul Åströms Förlag.
Lolos, Y. G. 2003. Cypro-Mycenaean Relations ca. 1200BC: Point Iria in the Gulf of Argos and Old Salamis in the Saronic Gulf. In
Sea Routes ...: Interconnections in the Mediterranean 16th-6th c. BC. Proceedings of the International Symposium Held at Rethymnon, Crete in September 29th-October 2nd 2002,
ed. N. Chr. Stampolidis and V. Karageorghis, 101-16. Athens: University of Crete and the A. G. Leventis Foundation.
Lorenz, E. N. 1969. Atmospheric
Analogues.
Journal of the Atmospheric Sciences
26/4: 636-46.
Lorenz, E. N. 1972. Predictability: Does the Flap of a Butterfly’s Wings in Brazil Set Off a Tornado in Texas? Paper presented at the annual meeting of the American Association for the Advancement of Science.
Loud, G. 1939.
Megiddo Ivories.
Chicago: University of Chicago Press.
Loud, G. 1948.
Megiddo II: Season of 1935-39.
Chicago: University of Chicago Press.
Maeir, A. M., L. A. Hitchcock, and L. K. Horwitz. 2013. On the Constitution and Transformation of Philistine Identity.
Oxford Journal of Archaeology
32/1: 1-38.
Malbran-Labat, F. 1995. La découverte épigraphique de 1994 à Ougarit (Les textes Akkadiens).
Studi micenei ed egeo-anatolici
36: 103-11.
Malinowski, B. 1922.
Argonauts of the Western
New York: Dutton.
Mallowan, A. C. (Agatha Christie). 1976.
Come, Tell Me How You Live.
New York: HarperCollins.
Manning, S. W. 1999.
A Test of Time: The Volcano of Thera and the Chronology and History of the Aegean and East Mediterranean in the Mid-second Millennium BC.
Oxford: Oxbow Books.
Manning, S. W. 2010. Eruption of Thera/Santorini. In
The Oxford Handbook of the Bronze Age Aegean,
ed. E. H. Cline, 457-74. New York: Oxford University
Manning S. W., C. Pulak, B. Kromer, S. Talamo, C. Bronk Ramsey, and M. Dee. 2009. Absolute Age of the Uluburun Shipwreck: A Key Late Bronze Age Time-Capsule for the East Mediterranean. In
Tree-Rings, Kings, and Old World Archaeology and Environment,
ed. S. W. Manning and M. J. Bruce, 163-87. Oxford: Oxbow Books.
Maqdissi, al-, M., M. Badawy, J. Bretschneider, H. Hameeuw, G. Jans, K. Vansteenhuyse, G. Voet, and K. Van Lerberghe. 2008. The Occupation Levels of Tell Tweini and Their Historical Implications. In
Assyriologique Internationale Held at the Oriental Institute of the University of Chicago, July 18-22, 2005,
ed. R. D. Biggs, J. Myers, and M. T. Roth, 341-50. Chicago: University of Chicago Press.
Maran, J. 2004. The Spreading of Objects and Ideas in the Late Bronze Age Eastern Mediterranean: Two Case Examples from the Argolid of the 13th and 12th Centuries B.C.
Bulletin of the American Schools of Oriental Research
336: 11-30.
Maran, J. 2009. The Crisis Years? Reflections on Signs of Instability in the Last Decades of the Mycenaean Palaces. In
Scienze dell’antichità: Storia Archeologia Antropologia
15: 241-62.
Maran, J. 2010. Tiryns. In
The Oxford Handbook of the Bronze Age Aegean,
ed. E. H. Cline, 722-34. New York: Oxford University
Marom, N., and S. Zuckerman. 2012. The Zooarchaeology of Exclusion and Expropriation: Looking Up from the Lower City in Late Bronze Age Hazor.
Journal of Anthropological Archaeology
31: 573-85.
Master, D. M., L. E. Stager, and A. Yasur-Landau. 2011. Chronological Observations at the Dawn of the Iron Age in Ashkelon.
Egypt and the Levant
21: 261-80.
Mauss, M. 1990.
The Gift: The Form and Reason for Exchange in Archaic Societies.
New York: W. W. Norton.
McAnany, P. A., and N. Yoffee. 2010.
Questioning Collapse: Human Resilience, Ecological Vulnerability, and the Aftermath of Empire.
Cambridge: Cambridge University Press.
McCall, H. 2001.
The Life of Max Mallowan: Archaeology and Agatha Christie.
London: British Museum
McClellan, T. L. 1992. Twelfth Century B.C. Syria: Comments on H. Sader’s Paper. In
The Crisis Years: The 12th Century B.C.,
ed. W. A. Ward and M. S. Joukowsky, 164-73. Dubuque, IA: Kendall/Hunt
McGeough, K. M. 2007.
Exchange Relationships at Ugarit.
Leuven:
McGeough, K. M. 2011.
Ugaritic Economic Tablets: Text, Translation and Notes.
Edited by Mark S. Smith. Leuven: Peeters.
Merola, M. 2007. Messages from the Dead.
Archaeology
60/1: 20-27.
Middleton, G. D. 2010.
The Collapse of Palatial Society in LBA Greece and the Postpalatial
BAR International Series 2110. Oxford: Archaeopress.
Middleton, G. D. 2012. Nothing Lasts Forever: Environmental Discourses on the Collapse of
Journal of Archaeological Research
20: 257-307.
Millard, A. 1995. The Last Tablets of Ugarit. In
Le Pays d’Ougarit autour de 1200 av. J.-C.: Historie et archéologie. Actes du Colloque International; Paris, 28 juin-1
er
juillet 1993,
ed. M. Yon, M. Sznycer, and P. Bordreuil, 119-24. Paris: Éditions Recherche sur les Civilisations.
Millard, A. 2012. Scripts and Their Uses in the 12th-10th Centuries BCE. In
The Ancient Near East in the 12th-10th Centuries BCE: Culture and History.
at the University of Haifa, 2-5 May, 2010,
ed. G. Galil, A. Gilboa, A. M. Maeir, and D. Kahn, 405-12. AOAT 392. Münster: Ugarit-Verlag.
Miller, J. M., and J. H. Hayes. 2006.
A History of Ancient Israel and Judah.
2nd Edition. Louisville, KY: Westminster John Knox
Momigliano, N. 2009.
Duncan Mackenzie: A Cautious Canny Highlander and the Palace of Minos at Knossos.
Bulletin of the Institute of Classical Studies Supplement no. 72. London: University of London.
Monroe, C. M. 2009.
Scales of Fate: Trade, Tradition, and Transformation in the Eastern Mediterranean ca. 1350-1175BCE.
Münster: Ugarit-Verlag.
Monroe, C. M. 2010. Sunk Costs at Late Bronze Age Uluburun.
Bulletin of the American Schools of Oriental Research
357: 19-33.
Moran, W. L. 1992.
The Amarna Letters.
Baltimore: Johns Hopkins University Press.
Morandi Bonacossi, D. 2013. The Crisis of Qatna at the Beginning of the Late Bronze Age II and the Iron Age II Settlement Revival Towards the Collapse of the Late Bronze Age
Across the Border: Late BronzeIron Age Relations between Syria and Anatolia.
Center of Anatolian Studies, Koç University, Istanbul May 31-June 1, 2010,
ed. K.A. Yener, 113-46. Leuven:
Mountjoy, P. A. 1997. The Destruction of the Palace at Pylos Reconsidered.
Annual of the British School at Athens
92: 109-37.
Mountjoy, P.A. 1999a. The Destruction of Troia VIh.
Studia Troica
9: 253-93.
Mountjoy, P. A. 1999b. Troia VII Reconsidered.
Studia Troica
9: 295-346.
Mountjoy, P. A. 2005. The End of the Bronze Age at Enkomi, Cyprus: The Problem of Level IIIB.
Annual of the British School at Athens
100: 125-214.
Mountjoy, P. A. 2006. Mykenische Keramik in Troia-Ein Überblick. In
Troia: Archäologie eines Siedlungshügels und seiner Landschaft,
ed. M. O. Korfman, 241-52. Mainz am Rhein: Philipp von Zabern.
Mountjoy, P. A. 2013. The Mycenaean IIIC Pottery at Tel Miqne-Ekron. In
The Philistines and Other “Sea
ed. A. E. Killebrew and G. Lehmann, 53-75. Atlanta: Society of Biblical Literature.
Muhlenbruch, T. 2007. The Post-Palatial Settlement in the Lower Citadel of Tiryns. In
LH IIIC Chronology and Synchronisms II: LH IIIC Middle. Proceedings of the International Workshop Held at the Austrian Academy of Sciences at Vienna, October 29th and 30th, 2004,
ed. S. Deger-Jalkotzy and M. Zavadil, 243-51. Vienna: Verlag der Österreichischen Akademie der Wissenschaften.
Muhlenbruch, T. 2009. Tiryns-The Settlement and Its History in LH IIIC. In
LH IIIC Chronology and Synchronisms III: LH IIIC Late and the Transition to the Early Iron Age. Proceedings of the International Workshop Held at the Austrian Academy of Sciences at Vienna, February 23rd and 24th, 2007,
ed. S. Deger-Jalkotzy and E. Bächle, 313-26. Vienna: Verlag der Österreichischen Akademie der Wissenschaften.
Muhly, J. D. 1984. The Role of the Sea
Cyprus at the Close of the Late Bronze Age,
ed. V. Karageorghis and J. D. Muhly, 39-56. Nicosia: Leventis.
Muhly, J. D. 1992. The Crisis Years in the Mediterranean World: Transition or Cultural Disintegration? In
The Crisis Years: The 12th Century B.C.,
ed. W. A. Ward and M. S. Joukowsky, 10-22. Dubuque, IA: Kendall/Hunt Publishing Co.
Murray, Sarah C. 2013.
Trade, Imports and Society in Early Greece.
Stanford University.
Mynářová, J. 2007.
Language of Amarna-Language of Diplomacy: Perspectives on the Amarna Letters.
Egyptology.
Neve, P. J. 1989. Bogazkoy-Hattusha. New Results of the Excavations in the Upper City.
Anatolica
16: 7-19.
Newberry, P. E. 1893.
Beni Hasan,
vol. 1.
Archaeological Survey of Egypt
1. London: Egypt Exploration Fund.
Nibbi, A. 1975.
The Sea Peoples and Egypt.
Ridge, NJ: Noyes Press.
Niemeier, W.-D. 1991. Minoan Artisans Travelling Overseas: The Alalakh Frescoes and the
Galilee). In
Thalassa: L’Égée prehistorique et la mer,
ed. R. Laffineur and L. Basch, 189-201. Aegaeum 7. Liège: Université de Liège.
Niemeier, W.-D. 1999. Mycenaeans and Hittites in War in Western Asia Minor. In
Égée a l’âge du Bronze,
ed. R. Laffineur, 141-55. Liège: Université de Liège.
Niemeier, W.-D., and B. Niemeier. 1998. “Minoan Frescoes in the Eastern Mediterranean.” In
The Aegean and the Orient in the Second Millennium,
ed. E. H. Cline and D. Harris-Cline, 69-97. Aegaeum 18. Liège: Université de Liège; Austin: University of Texas at Austin.
Nougayrol, J. 1956.
Textes accadiens des archives Sud.
Le Palais Royal d’Ugarit 4.
Klincksieck.
Nougayrol, J., E. Laroche, C. Virolleaud, and C.F.A. Schaeffer. 1968.
Ugaritica
5. Mission de Ras Shamra 16. Paris: Geuthner.
Nur, A., and D. Burgess. 2008.
Apocalypse: Earthquakes, Archaeology, and the Wrath of God.
Nur, A., and E. H. Cline. 2000.
Storms in the Late Bronze Age Aegean and Eastern Mediterranean.
Journal of Archaeological Science
27: 43-63.
Nur, A., and E. H. Cline. 2001. What Triggered the Collapse? Earthquake Storms.
Archaeology Odyssey
4/5: 31-36, 62-63.
Nur, A., and H. Ron. 1997. Armageddon’s Earthquakes.
International Geology Review
39: 532-41.
Nyland, A. 2009.
The Kikkuli Method of Horse Training.
2009 Revised Edition. Sydney: Maryannu Press.
O’Connor, D., and E. H. Cline, eds. 1998.
Amenhotep III:
Ann Arbor: University of Michigan Press.
Oldfather, C. H. 1961.
Diodorus Siculus:
Library of History.
Loeb Classical Library, vol. 303. Cambridge, MA: Harvard University
Oren, E. D., ed. 1997.
The Hyksos: New Historical and Archaeological Perspectives.
Oren, E. D., ed. 2000.
The Sea Peoples and Their World: A Reassessment.
University of Pennsylvania.
in the Linear B Tablets. In
Thalassa: L’Égée préhistorique et la mer,
ed. R. Laffineur and L. Basch, 273-310. Aegaeum 7. Liège: Université de Liège.
the Pylos Polity. In
Bronze Age,
ed. W.-D. Niemeier and R. Laffineur, 265-87. Aegaeum 12. Liège: Université de Liège.
Egypt in the Time of Hatshepsut and Thutmose III. In
Thutmose III: A New Biography,
ed. E. H. Cline and D. O’Connor, 370-412. Ann Arbor: University of Michigan Press.
The Context of Scripture,
vol. 3,
Archival Documents from the Biblical World,
ed. W. W. Hallo, 87-116. Leiden: E. J. Brill.
Bronze Age Aegean Influence in the Mediterranean: Dissecting Reflections of Globalization in Prehistory.
MA Thesis, George Washington University.
Writing-Board Set.
Anatolian Studies
41: 99-106.
J.D.S. 1930.
Aegyptiaca: A Catalogue of Egyptian Objects in the Aegean Area.
Cambridge: Cambridge University
and Syria: The Wall Paintings from the Royal Palace of Qatna. In
Fundstellen Gesammelte Schriften zur Archäologie und Geschichte Altvorderasiens ad honorem Hartmut Kühne,
ed. D. Bonatz, R. M. Czichon, and F. J. Kreppner, 95-118. Wiesbaden: Harrassowitz.
Qatna: Power and Prestige in the Late Bronze Age. In
Beyond Babylon: Art, Trade, and Diplomacy in the Second Millennium B.C. Catalogue of an Exhibition at the Metropolitan Museum of Art, New York,
ed. J. Aruz, 219-21. New York: Metropolitan Museum of Art.
eds. 1999.
The Point Iria Wreck: Interconnections in the Mediterranean ca. 1200BC.
Athens: Hellenic Institute of Marine Archaeology.
Aegyptiaca on the Island of Crete in Their Chronological Context: A Critical Review.
Vols.1 and 2. Vienna: Verlag der Österreichischen Akademie der Wissenschaften/Austrian Academy of Sciences
Amenhotep III and Mycenae: New Evidence. In
Autochthon: Papers
of His Retirement,
ed. A. Dakouri-Hild and E. S. Sherratt, 317-28. BAR International Series 1432. Oxford: Archaeopress.
Sources: 2. The Alphabetic Ugaritic Tablets. In
Handbook of Ugaritic Studies,
ed. W.G.E. Watson and N. Wyatt, 46-57. Leiden: Brill.
Brotherhood of Kings: How International Relations Shaped the Ancient Near East.
New York: Oxford University
Found at Thebes in Boeotia.
Archiv für Orientforschung
28: 1-70, 77.
the 13th and 12th Centuries B.C. in Assyria. In
The Crisis Years: The 12th Century B.C.,
ed. W. A. Ward and M. S. Joukowsky, 182-87. Dubuque, IA: Kendall/Hunt
The Archaeology of Elam: Formation and Transformation of an Ancient Iranian State.
Cambridge: Cambridge University Press.
Ancient Near Eastern Texts Relating to the Old Testament.
Shipwreck at Ulu Burun, Turkey: 1985 Campaign.
American Journal of Archaeology
92: 1−37.
An Overview.
International Journal of Nautical Archaeology
27/3: 188-224.
3000-Year-Old Cargo.
Archaeology Odyssey
2/4: 18-29, 59.
Aboard the Uluburun Ship? In
Emporia. Aegeans in the Central and Eastern Mediterranean. Proceedings of the 10th International Aegean Conference. Athens, Italian School of Archaeology, 14-18 April 2004,
ed. R. Laffineur and E. Greco, 295-310. Aegaeum 25. Liège: Université de Liège.
Raban, A., and R. R. Stieglitz. 1991. The Sea Peoples and Their Contributions to Civilization.
Biblical Archaeology Review
17/6: 35-42, 92-93.
Redford, D. B. 1967.
History and Chronology of the Eighteenth Dynasty of Egypt: Seven Studies.
Toronto: University of Toronto Press.
Redford, D. B. 1992.
Egypt, Canaan, and Israel in Ancient Times.
Redford, D. B. 1997. Textual Sources for the Hyksos Period. In
The Hyksos: New Historical and Archaeological
ed. E. Oren, 1-44.
Redford, D. B. 2006. The Northern Wars of Thutmose III. In
Thutmose III: A New Biography,
ed. E. H. Cline and D. O’Connor, 325-41. Ann Arbor: University of Michigan Press.
Redford, S. 2002.
The Harem Conspiracy: The Murder of Ramesses III.
DeKalb: Northern Illinois University Press.
Reeves, N. 1990.
The Complete Tutankhamun.
London: Thames and Hudson.
Rehak, P. 1998. Aegean Natives in the Theban Tomb Paintings: The Keftiu Revisited. In
The Aegean and the Orient in the Second Millennium,
ed. E. H. Cline and D. HarrisCline, 39-49. Aegaeum 18. Liège: Université de Liège.
Renfrew, C. 1979. Systems Collapse as Social Transformation. In
Transformations, Mathematical Approaches to Culture Change,
ed. C. Renfrew and K. L. Cooke, 481-506. New York: Academic
Richter, T. 2005. Qatna in the Late Bronze Age: Preliminary Remarks. In
Studies on the Civilization and Culture of Nuzi and the Hurrians,
vol. 15, ed. D. L. Owen and G. Wilhelm, 109-26. Bethesda, MD: CDL Press.
Richter, T., and S. Lange. 2012.
Das Archiv des Idadda: Die Keilschrifttexte aus den deutsch-syrischen Ausgrabungen 2001-2003 im Königspalast von Qat≥na.
QatnaStudien. Ergebnisse der Ausgrabungen 3. Wiesbaden: Harrassowitz.
Robbins, M. 2003.
Collapse of the Bronze Age: The Story of Greece, Troy, Israel, Egypt, and the
San Jose, CA: Authors Choice Press.
Roberts, R. G. 2008.
The Sea Peoples and Egypt.
of Oxford.
Roberts, R. G. 2009. Identity, Choice, and the Year 8 Reliefs of Ramesses III at Medinet Habu. In
Forces of Transformation: The End of the Bronze Age in the Mediterranean,
ed. C. Bachhuber and R. G. Roberts, 60-68. Oxford: Oxbow Books.
Roehrig, C., ed. 2005.
Hatshepsut: From Queen to
75-81. New Haven: Yale University Press.
Rohling, E. J., A. Hayes, P. A. Mayewski, and M. Kucera. 2009. Holocene Climate Variability in the Eastern Mediterranean, and the End of the Bronze Age. In
Forces of Transformation: The End of the Bronze Age in the Mediterranean,
ed. C. Bachhuber and R. G. Roberts, 2-5. Oxford: Oxbow Books.
Roth, A. M. 2005. Hatshepsut’s Mortuary Temple at Deir el-Bahri. In
Hatshepsut: From Queen to Pharaoh,
ed. C. Roehrig, 147-51. New Haven: Yale University
Routledge, B., and K. McGeough. 2009. Just What Collapsed? A Network Perspective on 'Palatial’ and 'Private’ Trade at Ugarit. In
Forces of Transformation: The End of the Bronze Age in the Mediterranean,
ed. C. Bachhuber and R. G. Roberts, 22-29. Oxford: Oxbow Books.
Rubalcaba, J., and E. H. Cline. 2011.
Digging for Troy: From Homer to Hisarlik.
Watertown, MA: Charlesbridge.
Rutter, J. B. 1992. Cultural Novelties in the Post-Palatial Aegean: Indices of Vitality or Decline? In
The Crisis Years: The 12th Century B.C.,
ed. W. A. Ward and M. S. Joukowsky, 61-78. Dubuque, IA: Kendall/Hunt Publishing Co.
Ryan, D. P. 2010.
Beneath the Sands of Egypt: Adventures of an Unconventional Archaeologist.
New York: HarperCollins Publishers.
Sandars, N. K. 1985.
The Sea Peoples: Warriors of the Ancient Mediterranean.
Revised Edition. London: Thames and Hudson.
Schaeffer, C.F.A. 1948.
Stratigraphie comparée et chronologie de l’Asie occidentale.
London: Oxford University
Schaeffer, C.F.A. 1962.
Ugaritica
4. Mission de Ras Shamra 15. Paris: Geuthner.
Schaeffer, C.F.A. 1968. Commentaires sur les lettres et documents trouvés dans les bibliothèques privées d’Ugarit. In
Ugaritica
5, 607-768. Paris: Geuthner.
Schliemann, H. 1878.
Mycenae.
Leipzig: F. A. Brockhaus.
Schulman, A. R. 1979. Diplomatic Marriage in the Egyptian New Kingdom.
Journal of Near Eastern Studies
38: 177-93.
Schulman, A. R. 1988. Hittites, Helmets and Amarna: Akhenaten’s First Hittite War. In
The Akhenaten Temple
vol. 2,
Rwd-Mnw, Foreigners and Inscriptions,
ed. D. B. Redford, 54-79. Toronto: Akhenaten Temple
Schwartz, G. M., and J. J. Nichols. 2006.
After Collapse: The Regeneration of Complex Societies.
Tucson: University of Arizona
Seeher, J. 2001. Die Zerstörung der Stadt Hattusa. In
Akten IV. Internationalen Kongresses für Hethitologie. Würzburg, 4-8. Oktober 1999,
ed. G. Wilhelm, 623-34. Wiesbaden: Harrassowitz.
Sharon, I., and A. Gilboa. 2013. The SKL Town: Dor in the Early Iron Age. In
The Philistines and Other “Sea
ed. A. E. Killebrew and G. Lehmann, 393-468. Atlanta: Society of Biblical Literature.
Shelmerdine, C. W. 1998a. Where Do We Go from Here? And How Can the Linear B Tablets Help Us Get There? In
The Aegean and the Orient in the Second Millennium.
Cincinnati, 18-20 April 1997,
ed. E. H. Cline and D. Harris-Cline, 291-99. Aegaeum 18. Liège: Université de Liège.
Shelmerdine, C. W. 1998b. The Palace and Its Operations. In
Sandy Pylos. An Archaeological History from Nestor to Navarino,
ed. J. L. Davis, 81-96. Austin: University of Texas Press.
Shelmerdine, C. W. 1999. Pylian
In
Égée à l’âge du Bronze. Actes la 7
e
Rencontre égéenne internationale (Liège 1998),
ed. R. Laffineur, 403-8. Aegaeum 19. Liège: Université de Liège.
Shelmerdine, C. W. 2001. The
Greek Mainland. In
Aegean
ed. T. Cullen, 329-82. Boston: Archaeological Institute of America.
Shelmerdine, C. W., ed. 2008.
The Cambridge Companion to the Aegean Bronze Age.
Cambridge: Cambridge University Press.
Sherratt, S. 1998. “Sea Peoples” and the Economic Structure of the Late Second Millennium in the Eastern Mediterranean. In
Mediterranean Peoples in Transition: Thirteenth to Early Tenth Centuries BCE,
ed. S. Gitin, A. Mazar, and E. Stern, 292-313. Jerusalem: Israel Exploration Society.
Sherratt, S. 2003. The Mediterranean Economy: “Globalization” at the End of the Second Millennium B.C.E. In
Symbiosis, Symbolism, and the Power of the
Neighbors from the Late Bronze Age through Roman
Symposium W. F. Albright Institute of Archaeological Research and American Schools of Oriental Research, Jerusalem, May 29-31, 2000,
ed. W. G. Dever and S. Gitin, 37-54. Winona Lake, IN: Eisenbrauns.
Sherratt, S. 2013. The Ceramic
The Philistines and Other “Sea Peoples” in Text and Archaeology,
ed. A. E. Killebrew and G. Lehmann, 619-44. Atlanta: Society of Biblical Literature.
Shrimpton, G. 1987. Regional Drought and the Economic Decline of Mycenae.
Echos du monde classique
31: 133-77.
Silberman, N. A. 1998. The Sea Peoples, the Victorians, and Us: Modern Social Ideology and Changing Archaeological Interpretations of the Late Bronze Age Collapse. In
Mediterranean Peoples in Transition: Thirteenth to Early Tenth Centuries BCE,
ed. S. Gitin, A. Mazar, and E. Stern, 268-75. Jerusalem: Israel Exploration Society.
Singer, I. 1999. A Political History of Ugarit. In
Handbook of Ugaritic Studies,
ed. W.G.E. Watson and N. Wyatt, 603-733. Leiden: Brill.
Singer, I. 2000. New Evidence on the End of the Hittite Empire. In
The Sea Peoples and Their World: A Reassessment,
ed. E. D. Oren, 21-33.
Singer, I. 2001. The Fate of Hattusa during the Period of Tarhuntassa’s Supremacy. In
Kulturgeschichten: altorientalistische Studien für Volkert Haas zum 65. Geburtstag,
395-403. Saarbrücken: Saarbücker Druckerei und Verlag.
Singer, I. 2002.
Hittite Prayers.
Atlanta: Society of Biblical Literature.
Singer, I. 2006. Ships Bound for Lukka: A New Interpretation of the Companion Letters RS 94.2530 and RS 94.2523.
Altorientalische Forschungen
33: 242−62.
Singer, I. 2012. The Philistines in the North and the Kingdom of Taita. In
The Ancient Near East in the 12th-10th Centuries BCE: Culture and History.
at the University of Haifa, 2-5 May, 2010,
ed. G. Galil, A. Gilboa, A. M. Maeir, and D. Kahn, 451-72. AOAT 392. Münster: Ugarit-Verlag.
Smith, P. 2004. Skeletal Remains from Level VI. In
The Renewed Archaeological Excavations at Lachish (1973-1994),
ed. D. Ussishkin, 2504-7. Tel Aviv: Tel Aviv University.
Snape, S. R. 2012. The Legacy of Ramesses III and the Libyan Ascendancy. In
Ramesses III: The Life and Times of Egypt’s Last Hero,
ed. E. H. Cline and D. O’Connor, 404-41. Ann Arbor: University of Michigan
Sørensen, A. H. 2009. Approaching Levantine Shores. Aspects of Cretan Contacts with Western Asia during the MM-LM I Periods. In
Danish Institute at Athens
6, ed. E. Hallager and S. Riisager, 9-55. Athens: Danish Institute at Athens.
Sourouzian, H. 2004. Beyond Memnon: Buried for More Than 3300 Years, Remnants of Amenhotep III’s Extraordinary Mortuary Temple at Kom el-Hettan Rise from beneath the Earth.
ICON
magazine, Summer 2004, 10-17.
Sourouzian, H., R. Stadelmann, N. Hampikian, M. Seco Alvarez, I. Noureddine, M. Elesawy, M. A. López Marcos, and C. Perzlmeier. 2006. Three Seasons of Work at the Temple of Amenhotep III at Kom El Hettan. Part III: Works in the Dewatered Area of the Peristyle Court and the Hypostyle Hall.
Annales du Service des antiquités de l’Egypte
80: 401-88.
Stager, L. E. 1995. The Impact of the Sea Peoples in Canaan. In
The Archaeology of Society in the Holy Land,
ed. T. E. Levy, 332-48. London: Leicester University Press.
Steel, L. 2004.
Cyprus before History: From the Earliest Settlers to the End of the Bronze Age.
London: Gerald Duckworth & Co.
Steel, L. 2013.
Materiality and Consumption in the Bronze Age Mediterranean.
New York: Routledge.
Stern, E. 1994.
Dor, Ruler of the Seas: Twelve Years of Excavations at the Israelite-Phoenician Harbor Town on the Carmel Coast.
Jerusalem: Israel Exploration Society.
Stern, E. 1998. The Relations between the Sea Peoples and the
BCE. In
Mediterranean
Centuries BCE,
ed. S. Gitin, A. Mazar, and E. Stern, 345-52. Jerusalem: Israel Exploration Society.
Stern, E. 2000. The Settlement of the Sea Peoples in Northern Israel. In
The Sea Peoples and Their World: A Reassessment,
ed. E. D. Oren, 197-212. Philadelphia: University of
Stern, E. 2012. Archaeological Remains of the Northern Sea People along the Sharon and Carmel Coasts and the Acco and Jezreel Valleys. In
The Ancient Near East in the 12th-10th Centuries BCE: Culture and History. Proceedings of the International Conference Held at the University of Haifa, 2-5 May, 2010,
ed. G. Galil, A. Gilboa, A. M. Maeir, and D. Kahn, 473-507. AOAT 392. Münster: Ugarit-Verlag.
Stiros, S. C., and R. E. Jones, eds. 1996.
Archaeoseismology.
Fitch Laboratory Occasional Paper no. 7. Athens: British School at Athens.
Stockhammer, P. W. 2013. From Hybridity to Entanglement, from Essentialism to Practice.
Archaeological Review from Cambridge
28/1: 11-28.
Strange, J. 1980.
Caphtor/Keftiu.
Leiden: E. J. Brill.
Strauss, B. 2006.
The Trojan War: A New History.
New York: Simon & Schuster.
Strobel, K. 2013. Qadesh, Sea Peoples, and Anatolian-Levantine Interactions. In
Across the Border: Late Bronze-Iron Age Relations between Syria and Anatolia. Proceedings of a Symposium Held at the Research Center of Anatolian Studies, Koç University, Istanbul May 31-June 1, 2010,
ed. K. A. Yener, 501-38. Leuven: Peeters.
Tainter, J. A. 1988.
The Collapse of Complex Societies.
Cambridge: Cambridge University Press.
Taylour, W. D. 1969. Mycenae, 1968.
Antiquity
43: 91-97.
Troy, L. 2006. Religion and Cult during the Time of Thutmose III. In
Thutmose III: A New Biography,
ed. E. H. Cline and D. O’Connor, 123-82. Ann Arbor: University of Michigan Press.
Trumpler, C. 2001.
Agatha Christie and Archaeology.
London: British Museum
Tsountas, C., and J. I. Manatt. 1897.
The Mycenaean Age.
London: Macmillan and Co.
Tyldesley, J. 1998.
Hatchepsut: The Female Pharaoh.
London: Penguin Books.
Uberoi, J. P. Singh. 1962.
Ring.
Manchester: Manchester University Press.
Unal, A., A. Ertekin, and I. Ediz. 1991. The Hittite Sword from Bogazkoy-Hattusa, Found 1991, and Its Akkadian Inscription.
Muze
4: 46-52.
Ussishkin, D. 1987. Lachish: Key to the Israelite Conquest of Canaan?
Biblical Archaeology Review
13/1: 18-39.
Ussishkin, D. 1995. The Destruction of Megiddo at the End of the Late Bronze Age and Its Historical Significance. In
Mediterranean Peoples in Transition: Thirteenth to Early Tenth Centuries BCE,
ed. S. Gitin, A. Mazar, and E. Stern, 197-219. Jerusalem: Israel Exploration Society.
Ussishkin, D. 2004a.
The Renewed Archaeological Excavations at Lachish (1973-1994).
Tel Aviv: Tel Aviv University.
Ussishkin, D. 2004b. A Synopsis of the Stratigraphical, Chronological and Historical Issues. In
The Renewed Archaeological Excavations at Lachish (1973-1994),
ed. D. Ussishkin, 50-119. Tel Aviv: Tel Aviv University.
Ussishkin, D. 2004c. Area P: The Level VI Temple. In
The Renewed Archaeological Excavations at Lachish (1973-1994),
ed. D. Ussishkin, 215-81. Tel Aviv: Tel Aviv University.
Ussishkin, D. 2004d. A Cache of Bronze Artefacts from Level VI. In
The Renewed Archaeological Excavations at Lachish (1973-1994),
ed. D. Ussishkin, 1584-88. Tel Aviv: Tel Aviv University.
Vagnetti, L. 2000. Western Mediterranean Overview: Peninsular Italy, Sicily and Sardinia at the Time of the Sea Peoples. In
The Sea Peoples and Their World: A Reassessment,
ed. E. D. Oren, 305-26. Philadelphia: University of
Van De Mieroop, Marc. 2007.
A History of the Ancient Near East ca. 3000-323BC.
2nd Edition. Malden, MA: Blackwell Publishing.
van Soldt, W. 1991.
Studies in the Akkadian of Ugarit: Dating and Grammar.
Neukirchen: Neukirchener Verlag.
van Soldt, W. 1999. The Written Sources: 1. The Syllabic Akkadian Texts. In
Handbook of Ugaritic Studies,
ed. W.G.E. Watson and N. Wyatt, 28-45. Leiden: Brill.
Vansteenhuyse, K. 2010. The Bronze to Iron Age Transition at Tell Tweini (Syria). In
Societies in Transition: Evolutionary Processes in the Northern Levant between Late Bronze Age II and Early Iron Age.
Anniversary of the New Excavations in Tell Afis. Bologna, 15th November 2007,
ed. F. Venturi, 39-52. Bologna: Clueb.
Voskos, I., and A. B. Knapp. 2008. Cyprus at the End of the Late Bronze Age: Crisis and Colonization, or Continuity and Hybridization?
American Journal of Archaeology
112: 659-84.
Wachsmann, S. 1987.
Aegeans in the Theban Tombs.
Orientalia Lovaniensia Analecta 20. Leuven: Uitgeverij
Wachsmann, S. 1998.
Seagoing Ships & Seamanship in the Bronze Age Levant.
College Station: Texas A&M University
Wallace, S. 2010.
Ancient Crete. From Successful Collapse to Democracy’s Alternatives, Twelfth to Fifth Centuries BC.
Cambridge: Cambridge University Press.
Ward, W. A., and M. S. Joukowsky, eds. 1992.
The Crisis Years: The 12th century B.C. from beyond the Danube to the Tigris.
Dubuque, IA: Kendall/Hunt
Wardle, K. A., J. Crouwel, and E. French. 1973. A Group of Late Helladic IIIB 2
Causeway Deposit.’
Annual of the British School at Athens
68: 297-348.
Weinstein, J. 1989. The Gold Scarab of Nefertiti from Ulu Burun: Its Implications for Egyptian History and Egyptian-Aegean Relations.
American Journal of Archaeology
93: 17-29.
Weinstein, J. 1992. The Collapse of the Egyptian Empire in the Southern Levant. In
The Crisis Years: The 12th Century B.C.,
ed. W. A. Ward and M. S. Joukowsky, 142-50. Dubuque, IA: Kendall/Hunt Publishing Co.
Weiss, H. 2012. Quantifying Collapse: The Late Third Millennium BC. In
Seven Generations since the Fall of Akkad,
ed. H. Weiss, vii-24. Wiesbaden: Harrassowitz.
Wente, E. F. 2003a. The Quarrel of Apophis and Seknenre. In
The Literature of Ancient Egypt,
ed. W. K. Simpson, 69-71. New Haven: Yale University
Wente, E. F. 2003b. The Report of Wenamun. In
The Literature of Ancient Egypt,
ed. W. K. Simpson, 116-24. New Haven: Yale University Press.
Wilson, J. 1969. The War against the
Ancient Near Eastern Texts Relating to the Old Testament,
3rd Edition with Supplement, ed. J. Pritchard, 262-63. Princeton, NJ:
Wood, M. 1996.
In Search of the Trojan War.
2nd Edition. Berkeley: University of California
Yakar, J. 2003. Identifying Migrations in the Archaeological Records of Anatolia. In
Identifying Changes: The Transition from Bronze to Iron Ages in Anatolia and Its Neighbouring Regions. Proceedings of the International Workshop, Istanbul, November 8-9, 2002,
ed. B. Fischer, H. Genz, E. Jean, and K. Köroğlu, 11-9. Istanbul: Türk Eskiçağ Bilimleri Enstitüsü Yayınları.
Yalçin, S. 2013. A Re-evaluation of the Late Bronze to Early Iron Age Transitional Period: Stratigraphic Sequence and Plain Ware of Tarsus-Gözlükule.
In Across the Border: Late Bronze-Iron Age Relations between Syria and Anatolia. Proceedings of a Symposium held at the Research Center of Anatolian Studies, Koç University, Istanbul May 31-June 1, 2010,
ed. K. A. Yener, 195-211. Leuven: Peeters.
Yasur-Landau, A. 2003a. One If by Sea ... Two If by Land: How Did the Philistines Get to Canaan? Two: By Land-the Trek through Anatolia Followed a Well-Trod Route.
Biblical Archaeology Review
29/2: 34-39, 66-67.
Yasur-Landau, A. 2003b. The Many Faces of Colonization: 12th Century Aegean Settlements in Cyprus and the Levant.
Mediterranean Archaeology and Archaeometry
3/1: 45-54.
Yasur-Landau, A. 2003c. Why Can’t We Find the Origin of the Philistines? In Search of the Source of a Peripheral Aegean Culture. In
The 2nd International Interdisciplinary Colloquium: The Periphery of the Mycenaean World. 26-30 September, Lamia 1999,
ed. N. Kyparissi-Apostolika and M.
Culture.
Yasur-Landau, A. 2003d. The Absolute Chronology of the Late Helladic IIIC Period: A View from the Levant. In
LH IIIC Chronology and Synchronisms. Proceedings of the International Workshop Held at the Austrian Academy of Sciences at Vienna, May 7th and 8th, 2001,
ed. S. Deger-Jalkotzy and M. Zavadil, 235-44. Vienna: Verlag der Österreichischen Akademie der Wissenschaften.
Yasur-Landau, A. 2007. Let’s Do the Time Warp Again: Migration Processes and the Absolute Chronology of the Philistine Settlement. In
The Synchronisation of Civilisations in the Eastern Mediterranean in the Second Millennium B.C. III, Proceedings of the SCIEM 2000-2nd EuroConference, Vienna, 28th of May-1st of June 2003,
ed. M. Bietak and E. Czerny, 610-17. Vienna: Verlag der Österreichischen Akademie der Wissenschaften.
Yasur-Landau, A. 2010a.
The Philistines and Aegean Migration at the End of the Late Bronze Age.
Cambridge: Cambridge University
Yasur-Landau, A. 2010b. On Birds and Dragons: A Note on the Sea Peoples and Mycenaean Ships. In
Studies on the Hittites and Their Neighbours in Honor of Itamar Singer,
ed. Y. Cohen, A. Gilan, and J. L. Miller, 399-410. Wiesbaden: Harrassowitz Verlag.
Yasur-Landau, A. 2012a. The Role of the Canaanite Population in the Aegean Migration to the Southern Levant in the Late Second Millennium BCE. In
Materiality and Social
Intercultural Encounters,
ed. J. Maran and P. W. Stockhammer, 191-97. Oxford: Oxbow Books.
Yasur-Landau, A. 2012b. Chariots, Spears and Wagons: Anatolian and Aegean Elements in the Medinet Habu Land Battle Relief. In
The Ancient Near East in the 12th-10th Centuries BCE: Culture and History.
at the University of Haifa, 2-5 May, 2010,
ed. G. Galil, A. Gilboa, A. M. Maeir, and D. Kahn, 549-67. AOAT 392. Münster: Ugarit-Verlag.
Yener, K. A. 2013a. New Excavations at Alalakh: the 14th-12th Centuries BC. In
Across the Border: Late Bronze-Iron Age Relations between Syria and Anatolia. Proceedings of a Symposium held at the Research Center of Anatolian Studies, Koç University, Istanbul May 31-June 1, 2010,
ed. K.A. Yener, 11-35. Leuven:
Yener, K. A. 2013b. Recent Excavations at Alalakh: Throne Embellishments in Middle Bronze Age Level VII. In
Cultures in Contact: From Mesopotamia to the Mediterranean in the Second Millennium B.C.,
ed. J. Aruz, S. B. Graff, and Y. Rakic, 142-53. New York: Metropolitan Museum of Art.
Yoffee, N., and G. L. Cowgill, eds. 1988.
The Collapse of Ancient States and Civilization.
Tucson: University of Arizona.
Yon, M. 1992. The End of the Kingdom of Ugarit. In
The Crisis Years: The 12th Century B.C.,
ed. W. A. Ward and M. S. Joukowsky, 111-22. Dubuque, IA: Kendall/Hunt Publishing Co.
Yon, M. 2003. The Foreign Relations of Ugarit. In
Sea Routes ...: Interconnections in the Mediterranean 16th-6th c. BC. Proceedings of the International Symposium Held at Rethymnon, Crete in September 29th-October 2nd 2002,
ed. N. Chr. Stampolidis and V. Karageorghis, 41-51. Athens: University of Crete and the A. G. Leventis Foundation.
Yon, M. 2006.
The City of Ugarit at Tell Ras Shamra.
Winona Lake, IN: Eisenbrauns.
Yon, M., and D. Arnaud. 2001.
Études Ougaritiques I: Travaux 1985-1995.
sur les Civilisations.
Yon, M., M. Sznycer, and P. Bordreuil. 1955.
Le Pays d’Ougarit autour de 1200 av. J.-C.: Historie et archéologie. Actes du Colloque International; Paris, 28 juin-1
er
juillet 1993.
les Civilisations.
Zaccagnini, C. 1983. Patterns of Mobility among Ancient Near Eastern Craftsmen.
Journal of Near Eastern Studies
42: 250-54.
Zeiger, A. 2012. 3000-Year-Old Wheat Traces Said to Support Biblical Account of Israelite Conquest; Archaeologist Amnon Ben-Tor Claims Find at Tel Hazor Is a Remnant of Joshua’s Military Campaign in 13th Century BCE.
Times of Israel,
July 23, 2012,
http://www.timesofisrael.com/3000-year-old-wheat-corroborates- biblical-narrative-archaeologist-claims/ (last accessed August 6, 2012).
Zertal, A. 2002. Philistine Kin Found in Early Israel.
Biblical Archaeology Review
28/3: 18-31, 60-61.
Zettler, R. L. 1992. 12th Century B.C. Babylonia: Continuity and Change. In
The Crisis Years: The 12th Century B.C.,
ed. W. A. Ward and M. S. Joukowsky, 174-81. Dubuque, IA: Kendall/Hunt
Zink, A. R., et al. 2012. Revisiting the Harem Conspiracy and Death of Ramesses III: Anthropological, Forensic, Radiological, and Genetic Study.
British Medical Journal
345 (2012): 345:e8268,
http://www.bmj.com/content/345/bmj.e8268 (last accessed August 25, 2013).
Zivie, A. 1987.
The Lost Tombs of Saqqara.
Cairo: American University in Cairo Press.
Zuckerman, S. 2006. Where Is the Hazor Archive Buried?
Biblical Archaeology Review
32/2 (2006): 28-37.
Zuckerman, S. 2007a. Anatomy of a Destruction: Crisis Architecture, Termination Rituals and the Fall of Canaanite Hazor.
Journal of Mediterranean Archaeology
20/1: 3-32.
Zuckerman, S. 2007b. Dating the Destruction of Canaanite Hazor
without
Mycenaean Pottery? In
The Synchronisation of Civilisations in the Eastern Mediterranean in the Second Millennium B.C. III,
EuroConference, Vienna, 28th of May-1st of June 2003,
ed. M. Bietak and E. Czerny, 621-29. Vienna: Verlag der Österreichischen Akademie der Wissenschaften.
Zuckerman, S. 2009. The Last Days of a Canaanite Kingdom: A View from Hazor. In
Forces of Transformation: The End of the Bronze Age in the Mediterranean,
ed. C. Bachhuber and R. G. Roberts, 100-107. Oxford: Oxbow Books.
Zuckerman, S. 2010. “The City, Its Gods Will Return There ...”: Toward an Alternative Interpretation of Hazor’s Acropolis in the Late Bronze Age.
Journal of Near Eastern Studies
69/2: 163-78.
Zwickel, W. 2012. The Change from Egyptian to Philistine Hegemony in South-Western
The Ancient Near East in the 12th-10th Centuries BCE: Culture and History. Proceedings of the International Conference Held at the University of Haifa, 2-5 May, 2010,
ed. G. Galil, A. Gilboa, A. M. Maeir, and D. Kahn, 595-601. AOAT 392. Münster: Ugarit-Verlag.
ناپیژندل شوی مخ