العالم والوافد
[امتحان للوافد]
بسم الله الرحمن الرحيم
روي بالإسناد الصحيح أن وافدا (وهو محمد بن الإمام القاسم) وفد على عالم من علماء آل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (وهو الإمام القاسم)، فلما نظر الوافد إليه رأى رجلا جسمه لا يشبه اسمه: فسلم عليه، فرد السلام، فأطال الوافد الوقوف، وأطال العالم السكوت.
فقال الوافد: إن لكل طالب حاجة.
فقال العالم: ولكل حديث جواب.
فقال الوافد: صدقت، لأن الله تعالى يقول :{ فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون } [النحل: 43، الأنبياء: 7]. فعلم العالم أن الوافد يريد منه علما.
فقال: إن العلم بحر عميق.
فقال: ولكل بحر سفينة ينجو بها راكبها.
قال العالم: وما سفينة بحر العلوم ؟
فقال الوافد: المعرفة.
فقال العالم: المعرفة اسم أم رسوم ؟
فقال الوافد: اسم ورسوم.
مخ ۲۵۳
[النفس]
فقال العالم: كم رسوم المعرفة ؟
قال الوافد: تعرف نفسك، وتعرف ربك، وتعرف دينك، وتعرف دنياك، وتعرف آخرتك، فإذا عرفت ذلك فلا حاجة لك إلى غيرك.
قال العالم : كيف تعرف نفسك ؟
فقال الوافد : أعرف حدثها، وأعرف ضعفها، وأعرف فاقتها، وأعرف عجزها، فأجهدها في طاعة ربها، وأحملها على الخوف لخالقها، كي أرى خوفها، واحتمال الأذى، وأروضها وأحثها على الطلب لما فيه نجاتها، وأصرفها من الكذب إلى الصدق، ومن الطمع إلى الورع، ومن الشك إلى اليقين، ومن الشرك إلى الإخلاص، وأخرجها من محبوبها في الدنيا، وأريضها في السفر حتى تنال كرامة الله تعالى في الآخرة.
مخ ۲۵۴
[معرفة الله]
قال العالم: وكيف تعرف ربك ؟
قال الوافد: أعرفه بما عرف به نفسه من الوحدانية، ولا أشبهه بشيء من البرية، لا يحد بالحدود، ولا يوصف بالصفات، إذ هو سبحانه وتعالى خالق كل صفة وموصوف.
مخ ۲۵۵
[الدين]
قال العالم: وكيف تعرف دينك ؟
قال: الوافد أعرفه بالشريعة التي سنها الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وصدقها المحكم من التنزيل، وشهدت لها قرائن العقول. وهي على ثلاثة وجوه: قول وعمل واعتقاد، وسبيلها واضح، وطالبها رابح، قد بهر دليلها، وشهد لها بالصدق من ذوي العلم عقولها، فقد كفونا مؤنة الطلب بهذا الإحتجاج ، وقطعوا عنا علائق الإعوجاج، حتى ما بقي في ذلك شك ولا اختلاج. فقصدت عند ذلك بينة صحيحة حتى عرفت الأصل والفرع، وبحثت بغائص عقلي، فوجدت ذلك واضحا مبينا، وفي كتبهم مشروحا معينا، كلاما مبرهنا، قد حملوا صلوات الله عليهم عبء ذلك وثقله، وأوضحوا فرع ذلك وأصله، حافظين فيه الأمانة، مجتنبين الغش والخيانة، قد شيدوا بنيانه، وعظموا سلطانه، وأثبتوا في العقول برهانه، فليس لأحد من بعدهم مطلب، ولا لمسترشد من دونهم مذهب، ولا عاقل في غير مذهبهم يرغب.
مخ ۲۵۶
[الدنيا]
قال العالم : فيكف عرفت دنياك ؟
قال الوافد: عرفت فناها وتقلبها، وغدرها وخدائعها فحذرتها، ونظرت وميزت، فإذا الدنيا تغر طالبها، وتقتل صاحبها، تفرق ما جمع، وتغير ما صنع، فعرفت أنها تفعل بي مثل ما فعلت بالأولين.
مخ ۲۵۷
[الآخرة]
قال [العالم]: فكيف عرفت آخرتك ؟
قال الوافد: عرفت أنها دار باقية فيها الحساب والعقاب، والمجازاة والثواب، يبلغ أمدها، ويطول أبدها، فريق في الجنة وفريق في السعير، فمن كان في أصحاب الجنة فشآب لا يكبر، وغني لا يفتقر، وقادر لا يعجز، وعزيز لا يذل، وحي لا يموت، في دار قرار ونعيم مقيم، وسرور وقصور، وأبكار راضية، وقطوف دانية، وأنهار جارية، وملك لا تحد سعته، ونعيم لا تحصى صفته. ومن كان من أهل النار فحمل ثقيل، ومقام طويل، وبكاء وعويل، وخشوع ضفيف، وقلب حفيف، في دار جهد وبلية، وغم ورزية، وضيق لا يتسع، وعذاب لا ينقطع، حيث السلاسل والأغلال، والقيود والأكبال، والضرب والنكال، والصياح والأعوال، وأكل الزقوم، وشراب الحميم، ولفحات السموم، وظهور المكتوم، ولباس القطران، وزفرات النيران، والخزي والهوان، داخلها محسور، وواردها مضرور، وساكنها مدحور، وصاحبها مقهور، واللابث فيها مهجور.
مخ ۲۵۸
[الجنة والنار]
قال العالم: كيف يصنع من وعد بهذين الدارين ؟
قال الوافد: ينبغي لمن وعد بهذين الدارين أن ينظر إليهما، ويتصور ما وعد الله فيهما لأهلهما، ثم ينظر إلى الجنة وقصورها، وما وصف الله فيها من النعيم المقيم، والفواكه والأزواج من الحور الحسان، والأكاليل والتيجان، والأنهار الجارية، والأثمار الدانية، والسرر المصفوفة، والزرابي المبثوثة، وأسبابها ولباسها، وفراشها وحجراتها، وطعامها وشرابها، ونعيمها ودوام ذلك فيها، فيخاف أن لا يكون من أهلها، فهنالك تتتابع زفراته، وتكثر حسراته، وتفيض عبراته، ويطيع ربه ويعصي هواه، ويترك دنياه، ويطلب آخرته، ويعلم يقينا أن إلى الله مصيره.
مخ ۲۵۹
[معارف الحكماء]
قال: فلما انتهى الكلام منهما إلى هذا الحد، وعلم العالم أنه ذو فطنة ونباهة ونبالة، ونظر وتمييز، ورغبة في طلب العلم سأله لينظر معرفته.
قال العالم: من أين ؟
قال الوافد: من فوق الأرض ومن تحت السماء.
قال العالم: كم لك ؟
قال: كذا وكذا سنة.
قال له العالم: ما ترى ؟
قال: أرى أرضا وسماء، وما بينهما.
قال: فما ترى في السماء ؟
قال: أرى شمسا تحرق، وقمرا يشرق، ونجوما تزهر، وماء يمطر، ورياحا تذري، وسحابا يجري، وطيرا يهوي، وليلا ونهارا، وأياما مختلفة.
قال العالم: فما ترى في الأرض ؟
قال الوافد: أرى برا وبحارا، وسهولا وأوعارا، وترابا وأحجارا، وأثمارا وأشجارا، وأنهارا وقرارا.
قال العالم: فكم الدنيا ؟
قال الوافد: ليل ونهار.
قال العالم: فكم الخلق ؟
قال: ذكر وأنثى.
قال العالم: فكم الناس ؟
قال الوافد: الناس أربعة: واحد فيه خير وشر، والثاني شر بلا خير، والثالث خير بلا شر، والرابع لا خير فيه ولا شر.
قال العالم: فكم الناس وما هم بعد ذلك ؟
قال الوافد: نبل وسفل، فلا النبل لهم قدر عند السفل، ولا السفل لهم قدر عند النبل.
قال العالم: فكم الكلام ؟
قال الوافد: أربعة: خطاب، وجواب، وخطأ، وصواب.
قال العالم: ففيم العجب ؟
قال الوافد: في سبعة.
قال العالم: من هم ؟
قال الوافد: عبد عرف الله وعصاه، وعرف الشيطان وأطاعه، وعرف الدنيا فجمع لها، وذكر الموت فطابت نفسه، وعرف الآخرة فبغضها، وعرف الجنة فلم يرغب إليها، وعرف النار فلم يرهبها.
مخ ۲۶۰
[الإيمان]
قال العالم: فما خير الأشياء ؟
قال الوافد: خير الأشياء الإيمان بالله، والملائكة، والكتاب، والنبيين.
قال العالم: كم شهود الإيمان ؟
قال الوافد: أربعة شهود: محكم الكتاب، ومحكم السنة، وحجة العقول، وإجماع الأمة.
قال العالم: وما هو ؟
قال الوافد: عمل، وقول، واعتقاد.
قال العالم: وكيف ذلك ؟
فقال الوافد: قول باللسان، واعتقاد بالجنان، وعمل بالأركان.
قال العالم: فما ضد الصدق ؟
قال: ضده الكذب.
قال: فما ضد العمل ؟
قال: ضده النفاق.
قال: فما ضد الإعتقاد ؟
قال: ضده التشبيه.
قال العالم: فما أعظم الأشياء ؟
قال: معرفة الله على الحقيقة، وهي: التوحيد والتعديل، والتصديق، وذكر الله على كل حال، في الليل والنهار.
قال العالم: فما أفضل الأشياء ؟
قال الوافد: أفضل الأشياء: طلب العلم من العلماء، حتى يعرف الطالب الحق فيعمل به، فمن زهر مصباح الهدى في قلبه أخلص العمل والنية الصادقة لربه، وأنطقه الله بالحكمة.
قال العالم: فما أخبث الأشياء ؟
قال الوافد: الجهل. لأن بالجهل الهلاك والعطب، وأن الجاهل إذا أراد أن يصلح شيئا أفسده بجهله وقلة علمه، وهو يجلب جميع الآفات، ويتولد منه الكبر والطمع والحسد، والحرص والشهوة والبخل والسخرية.
قال العالم: فما أقبح الأشياء ؟
قال الوافد: اللهو، والغيبة، والنميمة، والخيانة، والكذب، والزنا، والرياء، وحب المدح، وحب الفاسق، وصحبة المنافق، والتهمة وسوء الظن.
قال العالم: فما أدنس الأشياء ؟
قال الوافد: السؤال للناس، ومقاربة الأنجاس، والثقة بكل الناس، ومفارقة الأكياس.
قال العالم: فما أنفع الأشياء ؟
قال الوافد: حسنة تكون بعشر أمثالها.
قال العالم: وما هي هذه الحسنة ؟
مخ ۲۶۱
قال الوافد: تطعم أخاك المؤمن من جوع، أو تكسوه من عري، أو تقضي عنه دينا، أو تفرج عنه غما، أو تكشف عنه هما، فمن فعل هذا لأخيه المؤمن جاء يوم القيامة ولوجهه نور يضيء كنور القمر، وتتلقاه الملائكة بالبشارة، وتدخله الجنة آمنا، وأعطاه الله من الثواب ما لا يصفه واصف، ولا يحيط بمعرفته عارف.
قال العالم: فما أضر الأشياء ؟
قال الوافد: سيئة تتبعها سيئة، ولا يكون عليها ندامة، ولا يرجع صاحبها إلى توبة.
قال العالم: فما أطيب الأشياء ؟
قال الوافد: العافية مع المعرفة، ووضع الأشياء في مواضعها، وفي مجالسة العلماء، ومدارسة الحكماء، وحضور مجالس الذكر، والتفكر في الصنع، والمبادرة في أعمال البر، وإصلاح ذات البين، والتجهيز للرحلة، والإستعداد للموت.
قال العالم: فما أهول الأشياء وأعظمها فزعا ؟
قال الوافد: إذا نفخ في الصور، وبعثر ما في القبور، واجتمعت الخلائق إلى الموقف المتضايق، فهنالك الفزع العظيم، والخطب الجسيم، كل إنسان يقول: نفسي نفسي، لا يسئل ذلك اليوم والد عن ولده، ولا أخ عن أخيه، كل نفس بما كسبت رهينة.
مخ ۲۶۲
[نجاح الوافد في الإمتحان]
قال: فلما انتهى الكلام بالعالم والوافد إلى هذا الحد عرف العالم أن الوافد حسن المعرفة، جيد الفطنة، رصين الدين، صحيح اليقين، متين الورع، كثير الفزع، أقبل عليه العالم بوجهه وقال: أيها الوافد الصالح، والتاجر الرابح، والخليل الصالح الناصح: اسأل عما بدا لك يرحمك الله.
مخ ۲۶۳
[مكنون الحكمة]
فقال الوافد: أيها العالم الحكيم الناطق، والبر الشفيق الصادق، انشر علي من مكنون حكمتك علما، وزدني من نوادر معرفتك ما أزداد به فهما، فلعل الرين الذي على قلبي أن يخلص ببركتك، وينجلي عني بجود صحبتك.
قال العالم: جر لك الصلاح، ووفق لك الفلاح، ويسر لك النجاح، وعليك بستة أشياء فالزمها واعمل بها، واحرص فيها وحافظ عليها.
مخ ۲۶۴
[معرفة الله]
قال الوافد: وما هي بينها لي يرحمك الله ؟
قال العالم: أولها المعرفة بالمعروف فهو الله عز وجل، والإيمان به، والإسلام، والطاعة، والعلم، والعمل. ثم تعرف المعرفة ما هي إذا صرت عارفا، رددت المعرفة إلى المعرفة فلحقت من المعرفة ما قدرت عليه. ثم تعرف الإيمان ما هو وكيف هو ؟ حتى إذا صرت مؤمنا أسلمت للذي آمنت به، حتى إذا صرت مسلما احتجت أن تطيع للذي أسلمت له، حتى إذا صرت مطيعا احتجت إلى علم تطيع به، وتعرف العلم ما هو وكيف هو، حتى إذا صرت عالما احتجت أن تعمل بما علمت، ثم تعرف العمل ما هو وكيف هو وما ثمرته، وإلى ما يوصلك وما عائدة نفعه.
قال الوافد: أيها العالم بين لي المعرفة ما هي وكيف هي ؟
قال العالم: أما ما هي فإصابة الأشياء بأعيانها، ووضعها في مواضعها، ومعرفتها على حقائقها، وأما كيف هي فإصابة المعاني، فما من شيء إلا له معنى يرجع إليه، فإصابة الأشياء بالنظر والتفكر والتمييز والسمع والبصر، وإصابة المعاني بالتفكر والإعتبار والعقل.
قال الوافد: فما معرفة الله تعالى ؟
مخ ۲۶۵
قال العالم : هو أن تعلم أن الله سبحانه وتعالى واحد أحد فرد صمد، لا تدركه الأبصار ولا يحويه مكان، ولا يحيط به علم، ولا يتوهمه جنان، ولا يحويه الفوق ولا التحت، ولا الخلف ولا الأمام، ولا اليمين ولا الشمال، فتعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، لا يعلم كيف هو إلا هو. فتعرفه بهذه المعرفة، فما توهمه قلبك فربك بخلافه عز وجل، وذلك قوله في محكم كتابه العزيز لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم :{قل هو الله أحد، الله الصمد، لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحدا} [الإخلاص:1 - 4]. فتقول كما أمرت، وتعمل كما قلت، وتشهد بما علمت، وتعمل كما شهدت، أن الله الواحد القهار الملك الجبار المحيي المميت الحي الذي لا يموت، خالق كل شيء ( ومالك كل شيء، الكائن قبل كل شيء، الباقي بعد فناء كل شيء، { ليس كمثله شيء وهو السميع البصير } [الشورى: 11] ). وهو على كل شيء قدير، فهذه معرفة الله تعالى بالذكر.
وأما المعرفة بالتفكر والنظر بالقلوب، والتمييز بالألباب، فهي في عظيم قدرة الله تعالى وارتفاعه، وعلوه وبقائه، ونفاذ أمره، وبيان حكمته، وإحاطة علمه، وكثرة خلقه، وسعة رزقه، وقرب رحمته، وجود كرمه، وكريم تطوله، وبيان حكمه، وحسن رأفته، وجميل ستره، وطيب عافيته، فلله الحمد على ذلك كثيرا.
مخ ۲۶۶
[الإيمان]
قال الوافد: فما وراء ذلك يرحمك الله ؟
قال العالم: الإيمان بالله والإقرار به، وبما جاءت به الرسل من عند الله تعالى، وتؤمن جوارحك حتى لا تستعملها في شيء مما يكرهه منك خالقها، فتكون قد أمنتها من عذاب النار. ومن الإيمان أن يأمن الناس من يدك ولسانك وظنون قلبك، فإذا فعلت ذلك فأنت مؤمن. ومن الإيمان الرضى بالقضاء، والشكر على العطاء، والصبر على البلاء. ومن الإيمان المحافظة على الفرائض والسنن، والقيام بالنوافل والفضائل.
ومن الإيمان تعلم أن الله حق، وقوله حق، والجنة حق، والنار حق، والبعث حق، والثواب حق، والحشر حق، والقيامة حق، والعرض حق، والحساب حق، وأن الله على كل شيء قدير، وأنك منتقل من هذه الدار الفانية إلى الآخرة الباقية . مسئول عن أعمالك، موقوف على فعالك وأقوالك، وإقلالك وإكثارك، وإعلانك وإسرارك، فتجد ما فعلت قد أحضر إليك . وأنت اليوم في دار المهلة، ومكان الفسحة، فلا تذهب أيامك سدى، واعمل فيها بطاعة ربك، وعلق قلبك في ملكوت إلهك، واجعل دليلك القرآن، وقرينك الأحزان، وفعلك الإحسان، وطعامك الفكر، وحديثك الذكر، وحليتك الصبر، وقرينك الفكر، وهمك الحساب، وسعيك الثواب، وجليسك الكتاب، وأملك الرجاء، وسريرتك الوفاء، وسيرتك الحياء، وفاقتك الرحمة، وعملك الطاعة، وطلبك النجاة، وسؤالك المغفرة، وسبيلك الرضى، وخوفك العقاب، ورغبتك الثواب، وخلقك العفاف، وعزيمتك الكفاف، فمن سلك هذه الطريق سبق، ومن تكلم بمثل هذه صدق، وهي عروة فمن تعلق بها استوثق، والحمد لله رب العالمين.
مخ ۲۶۷
[الإسلام]
قال الوافد: فما وراء ذلك يرحمك الله ؟
قال العالم: الإسلام، وهو أن تسلم للذي آمنت به. ومن الإسلام أن تسلم كليتك إلى أعمال الطاعات، فإذا بلغت ذلك سلمت من العقاب، وسلم الخلق منك، ويكون إسلامك بالظاهر والباطن، حتى لا يخالف قولك فعلك ولا فعلك يخالف قولك، فيكون ظاهرك باطنك، وباطنك ظاهرك، وتكون موقنا بالوحدانية، مقرا بالربوبية، معترفا بالعبودية، مجللا بالعظمة، هائبا للجلالة، فرحا بالمكروه، محبا للطاعة، طالبا للرضى، خائفا للبعث، راغبا في الجزاء، راهبا للعذاب، مؤديا للشكر، مداوما على الذكر، معتصما بالصبر، عاملا بالفكر، فهذا عمل الباطن.
وأما عمل الظاهر: فالإجتهاد في أداء الفرائض والسنن والفضائل والنوافل، منها الصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، والجهاد، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وقراءة القرآن.
ومن السنن الختان، وصلاة العيدين، وحلق العانة، وتقليم الأظفار، ونتف الإبطين، وقص الشارب، والسواك.
ومن الفضائل صيام رجب، وشعبان، والأيام البيض، ويوم عاشوراء، ويوم عرفة والإثنين والخميس.
قال الوافد: فما وراء ذلك يرحمك الله ؟
مخ ۲۶۸
قال العالم: وراء ذلك المواصلة والمعاونة والمؤاساة والمؤاخاة في الله، والمحبة لأولياء الله تعالى، والبغضة لأعداء الله، وصلة الرحم، وبر الوالدين، ورحمة اليتيم، ومعاونة الضعيف، وتعليم الأولاد وتأديبهم، وإنصاف الزوجة فيما تسألك عنه وهي ناظرة إليك، والعناية في تعليمها، والأمر لها فيما لا بد لها منه، والنهي لها عما لا حاجة لها إليه ، ولزومها لمنزلها، وطول الحجاب، وتصفيد الأبواب، وتعليم الحكمة والصواب، مع لزوم العفاف، والرضى بالكفاف، والصيانة لها عن التبرج في الفرج والأبواب، والتشرف إلى أهل الفحش والإرتياب، ومنع الداخلات إلى دار المسلمات، ممن لا يشاركهن في الدين والأحساب، فأولئك هاتكات الستور، ومبيحات كل محظور، والناقلات الكلام الزور، الجالبات للفحشاء والفجور، والمبغضات للنعمة، والمدخلات على المسلمات التهمة، والمفرقات للألفة، والداعيات للكشفة.
ولقد روي عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام قال : أحب إلي أن أجد في منزلي مائة لص يسرقونه أهون علي من أن أجد فيه عجوزا لا أعرفها. ومن ذلك إنصاف الخادم فيما لا يقدر عليه، والنهي له عن مالا حاجة له فيه، والرفق به فيما لا يقدر عليه به، والنظر له فيما لا يدري، ( وصيانة الدآبة فيما تحتاج إليه، والرفق بها فيما لا تقدر عليه )، فهذا الأمر بالمعروف.
وأما النهي عن المنكر: فمن المنكر القول السيء، والقول بالفواحش، والكذب.
ومن الفعل: القتل، والربا، والزنا.
ومن النية: الرياء، والكبر، والحسد، والبغضاء، والشحناء، والفحشاء.
ومن الفعل: أخذ أموال الناس سرا وجهرا، ومن القول الغيبة، والنميمة، وشهادة الزور. فهذا من النهي عن المنكر.
مخ ۲۶۹
[مراتب العرفان]
قال الوافد: فما وراء ذلك يرحمك الله ؟
قال العالم: تطيع الله الذي أسلمت له.
قال الوافد: وما هي الطاعة بينها لي - يرحمك الله تعالى - حتى أعرفها وأعمل بها ؟
قال العالم: الطاعة اتباعك لما أمرك الله به، واجتنابك لما نهاك الله عنه، وذلك على وجهين: شيء قد علمته، وشيء لم تعلمه.
قال الوافد: فما وراء ذلك يرحمك الله ؟
قال العالم: اجتناب ما نهاك الله عنه، وهو على وجهين: شيء قد عرفته، وشيء لم تعرفه، فتعرف مالك وما عليك، فيما نهاك الله عنه، فعليك بما قد علمت به، التوبة والرجوع والإنابة والتضرع، ولك في ذلك المغفرة. فإنك إذا خفت ربك تبت إليه، وتعرف الخوف ما هو وكيف هو.
قال الوافد: ما هو يرحمك الله ؟
قال العالم: أما ما هو فمعرفة الذنب، وشهادة الرب. وأما كيف هو: فوجل القلب ، ودمع العين. فإن لم تكن كذلك فلست بخائف فيما قد علمت. وأما الذي لم تعلمه فعليك منه الرهبة والتقوى، فإذا اتقيت الله لم يجدك حيث نهاك، وإذا خفته لم يفقدك حيث أمرك، فإن الله يراك، ويعلم سرك ونجواك، ويسمع كلامك، فهنالك ترهبه وتخافه حتى كأنك تراه.
قال الوافد: فما وراء ذلك يرحمك الله ؟
قال العالم: وراء ذلك التقوى.
قال الوافد: وما التقوى ؟
قال العالم: تحفظ لسانك وعينك ويدك ورجلك وفرجك وظنون قلبك، فلا تنظر بعينك إلى مالا يحل لك، فإن النظرة الواحدة تزرع في القلب الشهوة، وهي سهم من سهام إبليس، وتحفظ لسانك عن الكلام فيما لا يعنيك، فإن اللسان سبع إذا أطلقته أكلك، وهلاكك في طرف لسانك، فلا تقل مالا يحل لك، ولا تمدد يدك إلى ما لا يحل لك، فإن لم تفعل فما اتقيت الله تعالى، وإن فعلت فقد اتقيت، ولك في ذلك المغفرة والرحمة وذلك قوله سبحانه: { وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى } [طه: 82].
قال الوافد: فما وراء ذلك يرحمك الله ؟
مخ ۲۷۰
قال العالم: القيام بما أمرك الله به، حتى تعرف عملك، وتضع كل شيء منه في موضعه، وتعرف خطأه وصوابه، ويكون ذلك العمل تابعا للعلم مطابقا له، ويكون فيه الرغبة واليقين والإخلاص والمحبة والحياء والإستقامة، وتعرف الرجاء ما هو، وكيف هو، ومن ترجو.
قال الوافد: بين لي ذلك يرحمك الله ؟
قال العالم: هو أن يكون رجاؤك الله في كل أمورك، لدنياك وآخرتك، ولا يكون رجاؤك للخلق أكثر من رجائك للخالق، فتحبط عملك، ويبطل أجرك، فإن الله تعالى يقول وقوله الحق : { فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا } [الكهف: 110]. فتقوم بما أمرك الله به ظاهرا وباطنا، فيصح ظاهرك وباطنك، فإن الظاهر الجلي، يدل على الباطن الخفي. ويكون قلبك متعلقا بذكر من ناصيتك بيده، ورزقك عليه، ورجاؤك له وشدتك وعافيتك وبلواك ومحياك ومماتك ودنياك وآخرتك، وترجوه للشدة كما ترجوه للرخاء، وترجوه للآخرة كما ترجوه للدنيا، وتخافه كما تخاف الفقر.
قال الوافد: فما وراء لك يرحمك الله ؟
قال العالم : الرغبة، تعرفها ما هي وكيف هي ؟
قال الوافد: بينها لي يرحمك الله تعالى ؟
قال العالم: إن الرغبة في التطوع بعد الوفاء بما أمرك الله به، فإنك إذا رغبت ازددت إلى الخير خيرا، وإن لم ترغب لم تزدد وأنت متطوع ولست براغب. وأما كيف هي: فالتضرع عند الدعاء، فإنك إذا رغبت تضرعت، وإذا لم ترغب كان دعاؤك بلا رغبة، وذلك قوله عز وجل: { ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين } [الأعراف: 55]. فمن خاف تضرع، ورحمه الله وأجابه.
قال الوافد: فما وراء ذلك يرحمك الله ؟
قال العالم: وراء ذلك اليقين.
قال الوافد: وما هو اليقين ؟
قال العالم: صاحب اليقين ذنبه لا يكتب، وتوبته لا تحجب.
قال الوافد: بين لي ذلك ؟
مخ ۲۷۱
قال العالم: صاحب اليقين يعلم أن العلم متصل بالنية، فكلما خطر خاطر في قلبه، علم أن الله قد علمه فيلحقه الخوف، ويبادر بالتوبة قبل أن يعمل الذنب، فتوبته مقبولة، وذنبه غير مكتوب، وإنما يكتب ذنبه لو أصر عليه ولم يتب منه.
قال الوافد: فما وراء ذلك يرحمك الله ؟
قال العالم: الإخلاص في الدين، وهو في القول والعمل والإعتقاد، قول خير، وعمل خير، واعتقاد خير، أما سمعت ما قال الله تعالى: { ألا لله الدين الخالص } [الزمر: 3].
قال الوافد: بين لي ذلك يرحمك الله ؟
قال العالم: هو أن يعلم العبد أنه بين يدي الله عز وجل، يراه ويسمع كلامه، ويعلم ما في نفسه، فيجعله أمله، وتكون الطاعة عمله، ولا يغيب عن مشاهدته، ولا يزول إلى معاندته، زالت الدنيا من عينه، وتعلقت الآخرة في قلبه، فقيامه طاعة، وقوله نفاعة، وكلامه ذكر، وسكوته فكر، قد قطع قوله بعمله، وقطع أمله بأجله، وخرج من الشك إلى اليقين، فقلبه وجل، ودمعه عجل، وصوته ضعيف، وكلامه لطيف، وثقله خفيف، وحركته إحسان، وتقلبه إيمان، وسكوته أمان.
قال الوافد: فما وراء ذلك يرحمك الله ؟
قال العالم: حب الحق، وبغض الباطل، وحب من أطاع الله قريبا كان أو بعيدا، وبغض من عصى الله قريبا كان أو بعيدا، فإن حب الباطل يدخل النار، وحب من أحب الله قريبا كان أو بعيدا يدخل الجنة.
قال الوافد: كيف أحب من أطاع الله قريبا كان أو بعيدا ؟
قال العالم: يسوؤك ما يسوءه، ويضرك مايضره، ويسرك ما يسره، وتدخل السرور عليه، فإن كان أعلم منك تعلمت منه، وإن كنت أعلم منه فعلمه، وحفظته في محضره ومغيبه، وواسيته وأعنته، ورعيت صحبته، وجعلت ذلك لله وفي الله، ولا يكون في ذلك من ولا أذى.
قال الوافد: فما وراء ذلك يرحمك الله ؟
قال العالم: الحياء من الله.
قال الوافد: بينه لي ؟
قال العالم: ذلك على ثلاثة وجوه:
مخ ۲۷۲