هل يمكن القول إذن بوجود صلة مماثلة بين ثقافة العصر «الجديد» وتقليد مقدوني قديم؟ وهل تتلاشى العناصر المميزة لمقدونيا القديمة مع استخدام اللغة والثقافة الإغريقيتين كخيط ناظم يتيح قدرا ما من الوحدة، في البيئة الشديدة التنوع التي اتسمت بها إمبراطورية الإسكندر؟ لا يمكن إنكار أن نجاح الإسكندر كان الأساس لتطورات أعقبت وفاته المبكرة؛ فالصراع على خلافته أعطانا ممالك العصر الهلنستي، لا إمبراطورية مقدونية ولا فارسية جديدة. لكن تفاعل العناصر الإغريقية والمقدونية لم يكن جديدا، واستنتجنا من تأملنا التفاعل الأسبق بين اليونان ومقدونيا أن تبني اللغة والديانة والعادات والمؤسسات الإغريقية كان مستقرا تماما قبل حكم الإسكندر. والواقع أن في اعتماد أبيه على المعاونين الإغريق شهادة إثبات، وهو اعتماد لم يقتصر على البشر بل امتد إلى الآلهة أيضا. تلقى الإسكندر تعليمه على يد أرسطو، ونال دعم زيوس أيضا. ولا شك أن هيلينية مقدونيا تشابكت مع العادات والمعتقدات المقدونية القديمة، وهكذا كان الخيط الثقافي الناظم لإمبراطورية الإسكندر الجديدة هو الهيلينية على الطراز المقدوني، بل ازداد أيضا تقارب الثقافتين ببلوغ الممالك التي خلفت الإسكندر في مصر وآسيا ومقدونيا ذاتها السنوات الأولى من أعمارها. ويفترض هذا التقارب ضمنا وجود فترة تفاعل أطول من عمر الإسكندر الثالث الذي عاش 32 سنة.
الخريطة 5: إمبراطورية الإسكندر.
لا يوجد في وصف الأثر الذي أحدثته أحوال العالم الذي شهد مولد الإسكندر وشكل حياته؛ ما يرمي إلى التقليل من قدرته وإنجازاته؛ فالتفاعل بين المجتمع وأفراده الآحاد متبادل، ومن ثم فإن قواعد الثقافة وهياكلها ترسم الحدود، وأما ردود الأفعال الفردية تجاه الأوضاع القائمة فيمكنها إحداث تغييرات كبيرة، ولبعض الناس تأثير أكبر على عوالمهم من بعضهم الآخر. وينتمي الإسكندر إلى الصنف الأول.
إن تقدير طبيعة عوالم الإسكندر المتعددة يحسن فهمنا هذا الشاب النشيط الذي لم يتسن لأحد سبر أفكاره وانفعالاته؛ فقد اجتمعت تأثيرات البيئة المادية المقدونية، ومنزلته كأحد أفراد السلالة الأرغية الحاكمة، وتدريبه ليكون وريثا محتملا لفيليب الثاني، لتنتج شابا مدفوعا ليبذ الجميع. كان لزاما أن يكون جسمه في تمام لياقته، وقد درب عقله على جميع مهام القيادة من أجل استجابة حكيمة وسريعة. وكان في أسلافه، ومن بينهم هرقل وآخيل بل زيوس أيضا، تطمين على أنه سينجح، ومن الجائز تماما أن إنجازه هو شخصيا أعمالا بطولية تضاهي أعمال أسلافه في عظمتها أو تفوقها، اعتمد على إيمانه بأنه ذو منزلة خاصة. كانت المهام التي تنتظره لدى مقتل أبيه محددة، فلا بد من أن يعلم الأعداء التقليديون على الفور أن الملك الجديد ينتوي الحفاظ على الملك الذي ورثه، لكن عليه أيضا الاضطلاع بمسئولية الحرب ضد الفرس. وقد ورث بالإضافة إلى هذه المهام الأدوات اللازمة، من جيش ممتاز ومعرفة بحالة العدو الراهنة.
مع تغلغل المقدونيين تغلغلا أعمق في الأراضي الفارسية، اكتشف الإسكندر سمات مشتركة عديدة بين مقدون وفارس، وبهذا أمكن أن تصير الدولتان مملكة واحدة تحت حاكم واحد. كانت كلتا الدولتين تنيط السلطة بالملك، ومع أن جهاز مقدون الإداري لم يكن يضاهي جهاز فارس، كان تقسيم المسئولية في ازدياد في مقدونيا؛ فقد أبرم الملوك الأرغيون قبل ذلك معاهدات وتحالفات بأسمائهم، وولي فيليب مناصب رسمية في الأقاليم التي ضمت إلى السيطرة المقدونية، وعكف الإسكندر على توسيع الممارسة المقدونية الراسخة. لم يوافق الجميع على المزج، ولم يكن يتهاون مع المعارضين. كان القضاء على التهديدات المتصورة سمة أصيلة من سمات أي ملك مقدوني، ونفعه هذا الإرث كثيرا فأمكنه الزحف أكثر فأكثر داخل الإمبراطورية الفارسية، ولو استطاع إقناع رجاله المقدونيين لزحف فيما وراء حدودها الشرقية.
تصف المصادر مختلف الخطط التي صاغها الإسكندر بعد عودته إلى بابل سنة 324، لكن موته في السنة التالية وضع حدا لأي نوايا في نفسه، فلدى موته انتهت القيادة المؤكدة بالمراوغة على السلطة بين ورثته. ومع ذلك يمكن استبانة الشكل العام لخططه المستقبلية؛ فبما أن القدرة العسكرية المقدونية كانت أداة إنشاء المملكة وتوسيعها، فقد ظل الجيش الأداة الأساسية، وسيحتفظ بشكله المقدوني حتى مع إلحاق غير مقدونيين بصفوفه. كانت وحدات من الجيش تتمركز في الحاميات، وأما لب الجيش فكان في حالة حركة، عاملا على تعزيز تلاحم المملكة وتوسيع حدودها، وكان يقود هذا الجيش الملك نفسه أو يقوده صاحب أهل ثقة عندما تقتضي الضرورة تقسيمه. كان الإسكندر، الذي نادت به جمعية الجيش ملكا، قد أدرك ضرورة أن يكون واحدا من أفراد الجيش، فقاده قيادة مباشرة، وعرف أسماء رفاقه، وعقد المجالس مع كبار معاونيه، وعاقر الخمر واصطاد معهم بانتظام، ومارس الطقوس الدينية. لا شك أن أهورا مزدا ما كان ليحل محل زيوس والآلهة الكبار الآخرين. كان يدرك - وكانوا هم أيضا يدركون - تفوق الإسكندر بكل هذه المناصب، وهو ما يتضح من فهمه التكتيكات والاستراتيجية، فضلا عن تألقه في القتال.
بالإضافة إلى القاعدة العسكرية أبقى الإسكندر على المراكز القائمة، وأنشأ منشآت جديدة كما فعل في السنوات الأولى من حكمه، ولبت هذه المنشآت الحاجات الإدارية التي كانت تلبيها بيلا في مقدون، وساهمت بها بابل وشوشان وإكباتان في الإمبراطورية الفارسية، وأمكنها فوق ذلك تعزيز المزيج الثقافي المتنوع للمملكة الجديدة، وكانت هذه أيضا من وظائف مراكز الدولة في كل من مقدون وفارس قبل ضم المملكتين.
خلاصة القول أن الإسكندر الثالث المقدوني يمكن فهمه فهما أتم كرجل صاحب دوافع قوية طوال حياته بأكملها. كانت حياته معرضة للخطر منذ ميلاده كواحد من أبناء الفرع الحاكم من السلالة الأرغية، والواقع أنه كانت تحيق بالصبي تهديدات من داخل هذا الفرع ذاته، منبعها أبناء عمومته وإخوته غير الأشقاء من زوجات أبيه الكثيرات. كابن صحيح عاقل، دفعه أبوه الملك إلى تنمية المهارات المطلوبة من ملك مستقبلي؛ أما أمه، غير المقدونية، فصقلت مهاراته بطرق أخرى، ومنها مثلا اختيارها قريبها ليونيداس ليكون معلمه في سنوات عمره المبكرة. لقد عرف من كلا أبويه أن نسبه يبشر بأن بإمكانه الطموح إلى إنجازات آخيل وهرقل وديونيسيوس وزيوس.
كانت الدراية بطبيعة مقدونيا والمناطق المجاورة ضرورية للدفاع عن حدودها، وكانت تلك الطبيعة قاسية، وتستدعي لياقة بدنية رفيعة لتسلق الجبال وخوض الأنهار والدفاع عن الممرات الضيقة. كان تنافسه مع الشباب الآخرين في التدريب في بيلا دافعا إضافيا للتفوق عليهم إذا كان يحدوه أي أمل في الفوز باحترامهم كملك. ولأن غلمان الملك كانوا من أصل أرستقراطي، فلا بد من أن آباءهم كانوا مهرة في ركوب الخيل، وهكذا فكان لا بد للإسكندر أيضا من أن يتفوق عليهم في ركوب الخيل.
مع النجاح في توسيع المملكة جاءت الحاجات الإدارية، وهذا صنف آخر من أصناف التعليم الذي تلقاه الإسكندر؛ فمن حياته في بيلا تعرف على الوحدات الإدارية العديدة، ومن فيليب اكتسب معرفته بالمعاهدات التي يبرمها الملك، والمناصب الرسمية المتعددة التي اكتسبها بفتح دول أخرى. ويوجد بعد آخر أضافه معلمه المتأخر أرسطو، الذي تناول حتما جوانب الحكم النظرية في كتابه «عن الملكية»، مع أنه ضاع كما سبق أن نوهنا.
ناپیژندل شوی مخ