ساهم التعليم الذي تلقاه المقدونيون، بمن فيهم الإسكندر، على أرض مقدونيا، في عبقرية الإسكندر. دارت رحى المعارك التي خاضها المقدونيون وانتصروا فيها تحت قيادة الإسكندر غالبا عند أنهار؛ ففي اللقاء الأول عند نهر جرانيكوس في شمال غرب الأناضول، قاد الإسكندر، ممتطيا صهوة جواده الأيقوني بوسيفالوس، جيشه عبر النهر للكر على الجيش الفارسي الذي اصطف على الضفة الأخرى. واندلعت شرارة معركة إيسوس والجيشان على ضفتي نهر بيناروس، فانقض المقدونيون من جديد بقيادة الإسكندر على عدوهم عبر النهر. ومع أن جاوجاميلا افتقرت إلى عنصر النهر، فإن الجيش اضطر إلى عبور نهر دجلة بتياره السريع (آريانوس، الكتاب الثالث، 7، 5). واقتضت الهزيمة التي ألحقها المقدونيون بالجيش الهندي بقيادة بوروس معرفة دقيقة بنهر هايداسبيس المترع بمياه الأمطار الموسمية. ثم سار المقدونيون بعد هذا النجاح الأولي جنوبا بمحاذاة نهر السند حتى مصبه في بحر العرب في قوارب أمر الإسكندر ببنائها. يروي آريانوس أن الإسكندر نفسه استكشف مصبي نهر السند أولا، ثم قضى بصحبة قسم من خيالته ثلاثة أيام في استكشاف الساحل قبل الرحلة البحرية التي أقلت قسما من المقدونيين من الهند إلى رأس الخليج الفارسي. كان ما اكتسبه من معرفة بأهمية الممرات المائية لأغراض الاتصال والتوحيد ناتجا ثانويا ثمينا لإرثه المقدوني.
شكل 7-4: معركة إيسوس. المصدر: جيه بي ماهافي، «إمبراطورية الإسكندر»، لندن: تي فيشر أنوين، 1887، 3، الصفحة 25.
أحسنت مقدونيا أيضا تعليمه كيف يتعامل مع الجبال، مما كان ضروريا لشن حملة مظفرة في آسيا الوسطى؛ ففي قلعة سوقديانا في باخترا اكتشف الإسكندر أنها شديدة الانحدار من كل جوانبها ومغطاة بالجليد، وأن المدافعين عنها يمتلكون من المؤن ما يكفيهم لحصار طويل، ومع ذلك عقد العزم على مهاجمتها؛ فصاح عدوه قائلا إن عليه العثور على بعض الجنود المجنحين إن كان يرجو الفوز، وقد وجد 300 رجل من هؤلاء، دقوا أوتادا حديدية في الجليد، واستعانوا بها في تسلق المنحدر ليلا، ويقال إن 30 فقط منهم لقوا حتفهم. وعندما رأى محتلو المرتفعات هؤلاء الجنود المجنحين عند الفجر استسلموا (آريانوس، الكتاب الرابع، 18، 5-19، 4). وفيما بعد نجح المقدونيون بقيادته في الاستيلاء على صخرة أرونوس، وهي موقع استطاع ذات يوم الصمود في وجه هرقل الجبار (آريانوس، الكتاب الرابع، 30، 1-4).
شكل 7-5: نهر السند عند ملتقى نهري السند وغلغت. وتظهر في الصورة نهاية جبال الهيمالايا شرقا وجبال قرة قورم شمالا. صورة بعدسة البرفسور دانيال وا وبإذن منه.
بالإضافة إلى المهارات التي طورتها الخدمة في مقدونيا، كان الجنود المقدونيون قد اكتسبوا مهارة كبيرة في الحصار؛ فعندما أشارت حسابات المهندسين إلى أن تحصينات غزة أعلى من أن تجدي معها آلات الحصار نفعا، لم يوافقهم الإسكندر الرأي، واستولي على غزة بمساعدة تلك الآلات (آريانوس، الكتاب الثاني، 25، 2). كان الجنود العاديون أيضا متمرسين على الحصار؛ إذ بدأ المقدونيون في مدينة سانغالا في الهند يقوضون السور حتى قبل قصف أي جزء منه بالآلات (آريانوس، الكتاب الخامس، 24، 4).
كان الزعماء المقدونيون يثمنون قيمة من نادوا بهم ملوكا. كانت الضغوط على نواة المملكة مستمرة وموجودة على كل الحدود، وكان الجنود المدربون لصد الإليريين والتراقيين والإغريق والغارات الأخرى - والمأمول التغلب عليهم - مفتاح سلامة أراضي المملكة. نشئ هؤلاء الجنود الواعدون في ظروف صقلت لياقتهم البدنية، كرعاة يسوقون قطعانهم من مراعي الشتاء الوطيئة إلى المراعي الصيفية في الجبال، وكصيادي وحوش برية، ومزارعين؛ ومن شأن أمثال هؤلاء الرجال أن يكونوا محاربين أشاوس، والحاكم الحكيم سيقدر قيمة هؤلاء الجنود. وعندما سعى الإسكندر إلى مواصلة الزحف شرقا في الهند، وصف رجاله المقدونيون اشتياقهم المنهك إلى الأهل والوطن (آريانوس، الكتاب السادس، 27، 2-9). كان الإسكندر يعتقد أنهم سيغيرون عقلهم الجماعي، لكن لما لم يحدث هذا، أعلن في الجيش بوضوح قراره العودة.
كان موقع مقدونيا المتوسط، بقربها من الآخرين وبما تحتوي عليه من عناصر جذب للآخرين، يقدم المزيد من الأفكار الثاقبة للحملة الفارسية. كان اعتزال الآخرين مستحيلا، ومن ثم فالتعرف على الأعداء المحتملين سيكون ميزة مهمة. سبق أن بينا أن الإسكندر شاهد توسع رقعة مقدون وتفاعلها المتزايد مع الشعوب الأخرى. ويروي بلوتارخس أن حديثا دار بين الإسكندر الصبي الصغير ورسل الملك الفارسي في غياب الملك فيليب، ويفترض أن أسئلته عنيت بشبكات الطرق وشخصية الملك وعدد الجنود الفرس. وحتى إن كانت هذه الرواية غير دقيقة، فإن بيلا كانت قد تحولت إلى خلية للنشاط الدولي أثناء طفولة الإسكندر، وكذا امتد عالمه إلى ما وراء النطاق المقدوني التقليدي.
لا شك أن هذه معرفة ضرورية لشخص كان يلزمه التعامل مع ثقافات أخرى، بل ربما أيضا يلزمه ذلك بطرق تفهمها تلك الثقافات. كان فيليب قد عرف طبيعة المؤسسات الإغريقية وقيمتها مع اتساع سيطرته جنوبا في عمق اليونان؛ إذ لم يل بعض المناصب الإغريقية الرسمية فحسب، بل أنشأ أيضا تنظيمات جديدة على الطراز الإغريقي. ورث الإسكندر هذه المناصب والتنظيمات، ومع نجاحه في الإمبراطورية الفارسية، أقحم نفسه في الهيكل الفارسي أيضا. تتجلى مؤشرات استيعاب الإسكندر هذه المعرفة في حفاظه على المؤسسات القائمة، بمعنى المرزبانات والمرازبة والآلية الضخمة المستخدمة في الخزانة والتسجيل في بابل. وأسند أيضا إلى الأهالي مناصب السلطة في الأقاليم المفتوحة حديثا، ونذكر مثلا أن صداقته مع أرتبازوس، الذي سبق أن لجأ إلى بيلا، أبقت على أرتبازوس وأبنائه في مناصب رفيعة في نظام الحكم الجديد في الإمبراطورية الفارسية (آريانوس، الكتاب الثالث، 23، 7). وبهذا يكون الإسكندر سار على خطى فيليب؛ إذ احتفظت الدول-المدن الإغريقية بطريقتها في الحياة، وإن كانت تحت إشراف مقدونيا، وواصلت العائلة الإبيروسية المالكة حكم المملكة تحت الإشراف ذاته. وربما توقع الفرس الموالون للإسكندر حظوظا مماثلة.
من ناحية أخرى، كانت المبالغة في البعد عن «طريقة الحياة المقدونية» تنطوي على خطورة، على نحو ما تبين حالة مشاعر كلايتوس صاحب الإسكندر؛ إذ عندما اتهم الرجل الذي أنقذ حياة الإسكندر في معركة جرانيكوس ملكه بادعاء فضل أكثر مما ينبغي لنفسه فيما حقق من انتصارات، مات على يده. وفيما بعد أجبر الإسكندر على تغيير خطته للسير شرقا في الهند، عندما رفض رجاله المقدونيون المواصلة. ويجدر بنا أن نتذكر أنه بينما تم تسريح الفرقة الإغريقية في جيش الإسكندر في إكباتان سنة 330، لم يتلق الجنود المقدونيون عرضا مماثلا.
من جديد نقول إن ميراث الإسكندر لا يفسر نجاحه بالكلية؛ فلا شيء في التدريب الذي تلقاه هيأه للتعامل مع الفيلة، وكان الهيكل الإداري في بيلا بسيطا مقارنة بما هو موجود في بابل، ولم يكن في مقدونيا طريق يضاهي الطريق الملكي الفارسي في طوله وملاءمته للسفر السريع. كان تكييف أدواته بقوة وسرعة ضروريا، وكان نجاحه في ذلك مؤشرا على قدراته التي تثير الإعجاب.
ناپیژندل شوی مخ