لا يقتصر الخلاف بين الباحثين على طبيعة هذا التعليم، بل يطول حتى دقة وصف أرسطو بأنه معلم الإسكندر. وربما تعزز صحة هذا الوصف قائمة كتابات أرسطو، التي ضمت كتابا بعنوان «عن المستعمرات»، وآخر بعنوان «عن الملكية» يزعم أنه ألفهما خصوصا للإسكندر، وربما تعززه كذلك سجلات خطابات أرسطو التي أرسلها إلى فيليب وإلى الإسكندر (أربعة كتب)، وإلى أوليمبياس (كتاب واحد)، وإلى هفايستيون (كتاب واحد)، وإلى أنتيباتروس (تسعة كتب)، وهو آخر من جاء ذكر اسمه من معاوني فيليب الأعظم نفوذا، والذي عينه أرسطو كمنفذ لوصيته. ارتبط أرسطو ارتباطا وثيقا بأهم الشخصيات في بيلا في أواخر أربعينيات القرن الرابع، واستند ذلك الارتباط إلى أساس بعينه، وربما أسس متعددة.
ينقل ديوجانس اللايرتي في تأريخه لحياة أرسطو، الذي كتبه على الراجح في القرن الثالث بعد الميلاد، عن الفيلسوف اعتقاده أن الحكيم يقع في الغرام ويشارك في السياسة، بل فوق ذلك أيضا يتزوج ويعيش في بلاط الملوك (سير مشاهير الفلاسفة ومذاهبهم وأقوالهم، الكتاب الحادي والثلاثون). فلا نستغرب اشتغال الفيلسوف بتعليم الآخرين أثناء عيشه في بلاط الملك في ضوء أنشطة الحكماء الآخرين. ويدل حماس الملوك الأرغيين المتصاعد تجاه الثقافة الإغريقية ومعرفتهم بها يقينا على قيمة تعليم ورثة العرش المحتملين العلوم الإغريقية. وربما استندت دعوة فيليب أرسطو إلى معرفة شخصية بين الرجلين تعود قديما إلى فترة شبابهما، عندما كان أرسطو يعيش في بيلا مع والديه، وحديثا إلى اتصالاتهما الثنائية مع هيرمياس ملك أتارنيوس.
لا نعرف إلا قليلا عن طبيعة طريقة تعليم أرسطو، سواء في مقدونيا أم في مدرسته فيما بعد. ويعطينا ديوجانس اللايرتي فكرة في هذا الشأن بإيراده ما يحدده الفيلسوف من سمات ضرورية للتعليم السليم، وهي الموهبة الطبيعية والدراسة والممارسة المستمرة (سير مشاهير الفلاسفة ومذاهبهم وأقوالهم، الكتاب الحادي والثلاثون). ويقول الكاتب المتأخر أيضا إن أرسطو كان يعلم تلاميذه الحديث عن أطروحة محددة بالإضافة إلى ممارسة القدرة الخطابية. ومن واقع كمية أعمال أرسطو المكتوبة (يعدد ديوجانس 400 عمل كأعمال أصلية)، يمكننا القول مطمئنين إنه كان يدرب تلاميذه أيضا على الكتابة. ومن الجائز تماما أن البحث العلمي كان عنصرا آخر من عناصر هذا التعليم، هذا لو صحت القصة التي تقول إن الإسكندر أمر صيادي الحيوانات والطيور والأسماك المقدونيين بتقديم معلومات عما شاهدوه أو اصطادوه. يمكن إضافة سمة أخرى من سمات طريقة أرسطو في التعليم على أساس طبيعة المدرسة التي أسسها في أثينا في منتصف الثلاثينيات؛ إذ كان اكتساب المعرفة شأنا مدرسيا من حيث المنهج الأكاديمي وفيما يتعلق بالنواحي الاجتماعية. كانت المدرسة الواقعة في بستان مكرس لأبولو ليكيوس تحتوي أيضا على جمنازيوم، ومبنى يضم مكانا للمحاضرات ومجموعات الكتب والخرائط والمقتنيات، ومكان لتناول الطعام. ومن الجائز تماما أن التقليد الذي اتبعه أرسطو بتعليم عدد من الشباب في ميزا كان إرهاصة للممارسات التي اتبعت في الليسيوم في أثينا.
حالت حياة الإسكندر دون انصرافه إلى التعليم بحلول سنة 340، التي عمل فيها كوصي على عرش أبيه. ولا أحد يعرف على وجه الضبط أين عاش أرسطو بين عامي 340 و335، وربما عاد إلى أسطاغيرا، لكنه عاد إلى أثينا بحلول سنة 335 لتأسيس مدرسته التي أسلفنا الحديث عنها. قد لا تكون مصادفة أن عودته جاءت إبان خضوع أثينا للإسكندر؛ إذ كانت طيبة قد استولي عليها مؤخرا وأبيدت بعد ثورتها على الهيمنة المقدونية، وكان الأثينيون يخشون انتقاما مماثلا، لكن جرى التعامل مع أثينا دبلوماسيا من خلال معاهدة، لا بانتقام عسكري. ظل أرسطو في أثينا حتى 323، وعندها رحل إلى خالكيذا في جزيرة وابية المجاورة. ومرة أخرى، ربما كان الدافع إلى ذلك صلته بمقدون؛ إذ كان ذلك بعد موت الإسكندر واستدعاء وصيه على العرش أنتيباتروس إلى آسيا؛ فالشخص الذي تربطه علاقات قوية بأعداء أثينا التقليديين هؤلاء يحق له كل الحق أن يخشى على حياته. وتروي المصادر المتأخرة أن أرسطو كتب قبل موته بفترة قصيرة إلى أنتيباتروس عن خطر العيش في أثينا لو كان المرء أجنبيا، وسيتضح هذا بوجه خاص في موقف أرسطو بعد أن مات الإسكندر وكان أنتيباتروس على ما يفترض في طريقه إلى الشرق. وليست مفاجأة كبيرة أن نعلم أن المجلس الأثيني صوت لمصلحة الحرب ضد مقدون لدى علمه بموت الإسكندر؛ إذ توافق تحالف جديد أقيم مع أيتوليا وسيكيون وتيساليا وشمال غرب بيوتيا وميسينيا وأرجوس وأجزاء من جزيرة وابية، على تأمين حرية الإغريق. وبعد أن حقق هذا الائتلاف نجاحا أوليا، هزم سنة 322 بعد عودة 10 آلاف محارب مخضرم مع القائد المقدوني كراتيروس. ولا شك أن أرسطو كان حكيما في رحيله عن أثينا، وقد مات متأثرا بمرضه في خالكيذا سنة 322.
شكل 4-5: موقع نمفايون في ميزا. بإذن من د. إي كفاليدو، متحف الآثار في سالونيك.
خلاصة القول أن ارتباط أرسطو بمقدونيا يكشف عن العديد من سمات الثقافة المقدونية، على الأقل ثقافة بيلا الأرغية. تباطأ استقطاب إغريق بارزين إلى مقدونيا منذ حكم الإسكندر الأول إلى حكم الملك أرخيلاوس، لكن لم يتوقف أثناء حكم أمينتاس الثالث المضطرب، فوجدت في الطبيب نيقوماخوس الأسطاغيري، الذي رحل إلى بيلا مع زوجته وابنه الصغير أرسطو، خبرة ملائمة تماما لمملكة في حرب دائمة. انتهى هذا الارتباط بموت نيقوماخوس وفايستس في سن مبكرة نسبيا، علما أنه لا يوجد ما ينم عن فعل جنائي. ومع أن أرسطو لم يواصل إقامته في مقدونيا، فإنه عاد إليها بعد سنواته العشرين التي قضاها كتلميذ في أكاديمية أفلاطون في أثينا. التفسير المعتاد لعودة أرسطو سنة 343 / 342 هو تعليم الإسكندر الثالث، ومع أن دوره كمعلم محل شك من بعض الباحثين المحدثين، يتضح اهتمامه بالتعليم من تأسيسه مدرسة له في أثينا سنة 335. ومن الجائز تماما أن مسئوليات أخرى أسندت إلى هذا الفيلسوف؛ إذ عاش كما نوهنا في مركز مملكة أتارنيوس الصغيرة في الأناضول من 348 / 347 إلى 345 / 343، وعاش على مدى السنتين التاليتين في جزيرة ليسبوس قبالة ساحل الأناضول. ومن المهم أن ننوه إلى اهتمام فيليب ذاته بأتارنيوس مع ازدياد نشاط الملك المقدوني في بحر بروبونتيس والبحر الأسود، وهما الحدود الشمالية للإمبراطورية الفارسية. وخلال هذه الفترة الزمنية ذاتها، سكن مرزبان فارسي متمرد من الأناضول العاصمة المقدونية بأسرته.
كان أرسطو لدى عودته إلى أثينا في وضع يسمح له بمساعدة فيليب في شروط تسوية الشئون الإغريقية في أعقاب الانتصار المقدوني في خيرونية؛ إذ يقال كما أسلفنا أن أرسطو وتلاميذه رسموا حدود الدول الإغريقية دولة دولة. وربما تشير عودته أيضا إلى صلات دائمة بالملك الأرغي الحاكم الإسكندر الثالث. ولدى مقتل فيليب ارتأى أعداء مقدون التقليديون أن الوضع سانح للثورة على السيطرة المقدونية، وباستدراج الإسكندر للتعامل مع الأعداء الشماليين، تمرد العديد من الدول الإغريقية، فسارع الإسكندر لدى عودته إلى التعامل مع المتمردين، فأبيدت طيبة، وأما أثينا فعوملت بسخاء مع مساهمتها في الثورة الطيبية، وربما حدث هذا بشفاعة أرسطو.
الحجة التي تقول بدور أرسطو كمبعوث ووسيط وعميل ليست مؤكدة، لكن يؤيدها دور فلاسفة ذلك الجيل ذاته وما تلاه؛ فمثلا زينوقراط، رئيس الأكاديمية من 339 إلى 314، كان عضوا في وفد سفراء أثيني أرسل للتفاوض مع فيليب، وكان فيما بعد مبعوثا إلى أنتيباتروس لحضه على إطلاق سراح أسرى الحرب التي نشبت لدى موت الإسكندر سنة 323. وكان كاليسثينيس (ابن أخت أرسطو) وأناكساجوراس وتلميذه بيرو، المعروف كمؤسس المدرسة الشكية الفلسفية، ممن صاحبوا الإسكندر في حملته. ودعي ثيوفراستوس ، خليفة أرسطو على رئاسة الليسيوم، إلى مصر من قبل بطليموس الأول، وكان الرواقيون جزءا من بلاط أنتيغونس غوناتاس، ملك مقدون في أوائل القرن الثالث. وفي وقت متأخر من ذلك القرن، لعب الفيلسوف الرواقي سفايروس دورا في برنامج للملوك الإسبرطيين، وأما الفيلسوف الكلبي كيركيداس فعمل سفيرا إلى الملك المقدوني آنذاك في محاولة لوقف النجاح الإسبرطي. وخدم رياضياتي أبيقوري ثلاثة ملوك سلوقيين في القرن الثاني، وفي منتصف ذلك القرن أرسل وفد سفراء مؤلف من ثلاثة فلاسفة يمثلون ثلاث مدارس مختلفة للتعامل مع مجلس الشيوخ الروماني.
لدور أرسطو أهميته لا في الكشف عن ضلوع المثقفين سياسيا فحسب، بل أيضا في إثبات نباهة الملوك الأرغيين العقلية؛ إذ تفهموا الثقافة الإغريقية جيدا، واستخدموها بقوة بفضل قيمتها ولأغراضهم الخاصة على السواء. وتعطينا الصلات الفردية أيضا أفكارا عن الطبيعة الحقيقية للحياة في الأرض التي لم يكن يستطيع المرء حتى شراء عبد صالح منها، على حد قول ديموستيني. جلب يومينس، ابن أحد ضيوف/أصدقاء فيليب من بلدة كارديا الإغريقية في شبه جزيرة كيرسونيسوس التراقية، إلى بيلا ليعمل رئيسا لأمانة السر لسبع سنوات، واستمر بهذه الصفة في عهد الإسكندر، لكن في الهند عين في منصب قائد عسكري، وفي حفل زفاف الإسكندر وصحبه في شوشان سنة 324 زوج بأخت بارسين محظية الإسكندر. ويدل ارتقاؤه إلى هذه المكانة الرفيعة على الأهمية التي اكتسبها حفظ السجلات في مقدونيا بحلول عهد فيليب إن لم يكن قبل ذلك. ربما كان الإغريق أقدر في مهارات القراءة والكتابة، لكن شخصا يسمى مارسيا البيلي، وهو معاصر للإسكندر الثالث، وضع سردا في 10 كتب لتاريخ لمقدونيا، بداية من نشأة المملكة وحتى صيف 331 قبل الميلاد. كان أي ملك أرغي ينصح بأن يثمن مهارات الإغريق (ومهارات غيرهم بالطبع) ويستقطب هذه المهارات وأصحابها إلى مملكته. كانت الدول الإغريقية مصدر إزعاج، لكن أدوات الإغريق كانت ضرورية للنشاط المقدوني ، وفي النهاية صارت تلك الأدوات والأعراف جزءا لا يتجزأ من الثقافة المقدونية. كانت الخطوط الفاصلة بين الثقافتين المقدونية والإغريقية قد بدأت تنطمس قبل العصر الهلنستي بزمن طويل.
الفصل الخامس
ناپیژندل شوی مخ