4
وإن الله ليأذن له في الهجرة، وإنه ليترك مكة طريدا ليعود إليها منتصرا مظفرا. انظري! إنه ليقيم الآن في يثرب بين أنصاره الذين آووه، وبين رفاقه الذين لعب معهم صبيا، وأنت ترمقينه وترعينه من قريب حينا، ومن بعيد حينا آخر. انظري! أتستطيعين فراقه؟ لقد ضقت بالظئر حين نقلته إلى البادية. كلا! كلا! إن أصحابه ليهاجرون ليلحقوا به ويعيشوا معه، فكيف لا تهاجر أمه! ومتى صبرت أم مثلها على فراق ابن مثله! ها هي ذي قد تركت مكة مهاجرة إلى الله ورسوله، وابنها وصفيها. إنها لتقطع الطريق بين مكة والمدينة يؤنسها ما يملأ قلبها من الإيمان، وما يعمره من الحب. إنها لتحمل مشقة الطريق وجهد السفر صابرة عليهما. وما كان أصبرها على المشقة والجهد! إنها لتستلذ المشقة والجهد، وتستعذب الألم والضراء. إنها لتسافر صائمة. إنها لتستأنس في رحلتها بهذين الصديقين اللذين يحبهما المؤمنون: الظمأ والجوع، وأنعم بهما رفيقين! وأنعم بهما معينين على الهجرة في سبيل الله! إنها لتقطع أكثر الطريق وتصبح من المدينة غير بعيد. إن النهار ليتقدم بطيئا مسرفا في البطء، وإن الشمس لترسل على الأرض أشعة من اللهب، وإن الأرض لتضطرم من شدة القيظ، وإن الجو ليتوهج من اللهب الذي يضطرم فيه، وإن هذه المرأة الضعيفة لتسعى في هذه النار المحرقة إلى حيث تنعم بالحياة في ظل ابنها وصفيها ومخرجها من الرق إلى الحرية، ومخرجها من الظلمة إلى النور! إنها لتسعى ما وسعها السعي. ولكن الأمد بعيد، والجهد شديد، والماء منقطع والظمأ محرق، وجسمها ضعيف لا يثبت لهذه العاديات التي لا تثبت لها أجسام الناس! ولكنها تسعى لا يائسة ولا بائسة ولا مستسلمة، حتى يبلغ الجهد بها أقصاه، وحتى يتراءى لها هذا الشبح المنكر المخيف الذي يتراءى لمن تنقطع بهم أسباب الحياة في الصحراء: شبح الموت. ولكنها مع ذلك لا تيأس ولا تستسلم، ولا تفارق ما ألفت من الرضا. انظري أمامك ماذا ترين؟ إنه رشاء أبيض ناصع البياض ينزل إليك من السماء، وقد علقت فيه دلو قد ملئت ماء. من أرسل إليك هذه الدلو؟ من قدم إليك هذا الماء؟ لما أرسلت إليك هذه الدلو؟ لم قدم إليك هذا الماء؟ هلم اشربي! فإنما تذوقين اليوم هذا الماء العذب ماء الخلود الذي ستشربينه بعد حين طويل أو قصير حتى يسكنك الله دارك من الجنة! أرأيت أن ابنك لم يكن متكلفا ولا مغررا حين قال لأصحابه: «من سره أن يتزوج امرأة من أهل الجنة فليتزوج أم أيمن»! اشربي من هذا الماء، فلن تظمئي بعد هذه الشربة أبدا!
وتشرب أم أيمن من هذا الماء، وتنفق أم أيمن بعد هذه الشربة أعواما طوالا، فيها الشدة واللين، وفيها البؤس والنعيم، وفيها الجهد والعناء، ولكنها لا تعرف الظمأ ولا تحسه ولا تشكوه، وكيف يظمأ من شرب ماء الخلود!
أسرعي الآن يا أم أيمن إلى يثرب؛ فإن ابنك ينتظرك فيها، قد أمن بعد خوف، واطمأن بعد قلق.
وتبلغ أم أيمن المدينة، فيلقاها ابنها حفيا بها عطوفا عليها، وتلقاه هي بما عودته أن تلقاه به من هذا الحب السمح والعطف الباسم.
وتقضي معه أيامها في المدينة، لا تكاد تفارقه إلا حين لا تستطيع أن ترافقه. انظر إليها يوم أحد وقد شهدت الحرب مع المسلمين، وإنها لتطوف بالماء تسقي الجرحى ومن مسهم الجهد. ولم لا وقد عرفت حر الظمأ وبرد الري! ومن يدري! لعل هذه القطرات التي كانت تصبها في أفواه الجرحى قطرات قد مستها رحمة الله ففقدت جوهرها الفاني، واستحالت إلى هذا الجوهر الخالد الذي شربت منه أم أيمن حين تدلت إليها الدلو من السماء! وانظر إليها وقد شهدت خيبر مع ابنها تواسي المسلمين وتمنحهم من عطفها ورعايتها ورحمتها فضل ما يمتلئ به قلبها الساذج الكريم! وانظر إليها في أيام السلم تغدو على ابنها وتروح إليه، فيلقاها مبتسما دائما، مبتهجا دائما، مداعبا لها من حين إلى حين. تسأله مرة أن يحملها، فيقول لها: «أحملك على ولد الناقة» فلا تفهم منه، فتقول: يا رسول الله، إنه لا يطيقني ولا أريده. فيقول متضاحكا: «لا أحملك إلا على ولد الناقة!»
وكان ابنها يمزح ولكنه لم يكن يقول إلا حقا. وكان يحب أن يداعبها ويعبث بها في رفق؛ فهو يقول ذات يوم: «غطي قناعك يا أم أيمن.» وتلقاه يوم حنين قبل الموقعة، فتريد أن تدعو للمسلمين بخير فتقول: «ثبت الله أقدامكم.» فيقول ابنها: «اسكتي يا أم أيمن فإنك عسراء اللسان!»
وقد سمع لها الله فثبت أقدام المسلمين. وقد امتحنها الله فاختار ابنها أيمن وآثره بالشهادة يوم حنين.
إيه أيتها الأم الرءوم؛ إنك لتمنحين ابنك وصفيك اليوم شيئا جديدا لم تمنحيه من قبل، إنك لتبذلين في سبيل الله وفي سبيله دم ابنك العزيز. ولكنك تلقين الثكل صابرة آملة راضية، كما لقيت الظمأ من قبل صابرة محتملة واثقة. ولئن فقدت أيمن يوم حنين، إن لك لخلفا منه في ابنك أسامة بن زيد، أثير النبي وحبيبه، وقائد جيش المسلمين بأمر النبي وإن كان بعد لحدثا ناشئا. هذا جيش ابنك أسامة مرابطا يتأهب للرحيل. وهذا ابنك وصفيك في بيته قد ثقل عليه المرض، وفتحت له أبواب السماء وأقبلت عليه الملائكة أفواجا تحمل إليه روح الله ورحمته وتبشره بجوار الله. انظري! لقد اختار الله لنبيه جواره الأعلى، وصعدت نفسه الكريمة إلى حيث أريد لها أن تكون مع الصدقين والشهداء والصالحين وأصفياء الله وأنبيائه. ماذا؟! إنك لتبكين! وما يبكيك يا أم أيمن؟ قالت لمن ألقى عليها هذا السؤال: أي والله! لقد علمت أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
ناپیژندل شوی مخ