فلما عرفت من الحاكم ومن هذا العربي جلية الأمر لم أطل التفكير، وإنما عدت إلى الحاكم بعد ساعات وقلت له: لا عليك! إني أريد أن أنهض بهذا الأمر، وأن أجد فيه وحدي، وأن أريح الدولة مما قد تتكلف في سبيله من الجند والمال والمشقة. فهذا النجاشي لا يريد إلا سفنا تجيز جنده إلى اليمن، فدعني أهيئ هذه السفن. قال الحاكم وهو يبتسم: لا أرى بذلك بأسا؛ فهو يريح الدولة، وهو ينفعك وينفع صاحبيك؛ فما أرى أن هذه السفن ستعود فارغة، وما أرى إلا أن قوافل الصحراء ستتعب في عبورها إلى الشام في العام المقبل، وما أرى إلا أن أهل البادية سيحسون لذع الجوع. قلت: وإن أهل مصر والإسكندرية سيجدون الثروة والغنى إن وفقنا في هذه الرحلة، وإن أصحاب هذه السفن إن عادت سالمة موفورة. سيعرفون للدولة ورجالها ما ينبغي من الحق قال الحاكم: فهو ذاك.
ولست أستطيع أن أصور لكم تلك الخواطر التي لم تكن تحصى والتي كانت تضطرب في نفسي اضطرابا كاد يذهلها عن كل شيء. فقد كنت أرى نفسي قائدا عظيما على رأس أسطول ضخم، يبعد في البحر ليرفع أعلام قيصر على أرض لم تبلغها جنودنا من قبل. وكنت أرى نفسي سائحا عظيما يسجل في كل يوم ما شهد وما رأى من غرائب البر والبحر، ومن أطوار الناس وضروب الحيوان والنبات. وكنت أقارن بين نفسي وبين إكسينوفون، وأرى أن الكتاب الذي سأكتبه عن هذه الرحلة لن يكون أقل جمالا ولا روعة ولا خطرا من كتاب إكسينوفون بعد أن عاد من رحلته المشئومة. وكنت أرى نفسي ثائرا للدين، منتقما للنصرانية، مؤيدا للمسيح، ظافرا بإكبار القسس والرهبان والبطارقة في جميع أقطار الأرض. ثم كنت أرى نفسي بعد هذا كله مثريا عظيما قد ملك البحر، وقاد مائة سفينة فارغة، ثم عاد بها مثقلة بخير ما تنتج الهند وبلاد العرب السعيدة وبلاد الإثيوبيين من ضروب التجارة والعروض، حتى إذا انتهى إلى مصر نشر تجارته هذه في الشرق والغرب، وغمر الأرض كلها بهذه البضاعة فيسر على الناس من أمرهم كل عسير، وأتاح للأغنياء المترفين والفقراء والبائسين من وسائل الترف واللذة ما لم يكونوا يحلمون به، وربح من هذا كله مالا لم أفكر في إحصائه وتقديره؛ لأن ذلك كان يسلط على رأسي شيئا من الدوار لم أكن أستطيع أن أثبت له.
ومنذ ذلك اليوم أعرضت عن كل شيء إلا تدبير هذه السفن وتهيئتها للرحيل. فما أكثر ما اشتريت من سفن، وما أكثر ما ابتنيت منها، وما أسرع ما بثثت أعواني في أقطار مصر يجمعون لي من أنواع التجارة والعروض ما كنت أريد أن أحمله! فلم تطب نفسي عن ذهاب السفن فارغة إلى بلاد النجاشي. ولم تمض ستة أشهر حتى أقلع الأسطول العظيم بعد أن بارك عليه رجال الدين، وبمشهد حافل من رجال السياسة والأعمال، ومن جماعات الشعب الذين كانوا ينظرون إلينا مبتهجين مستبشرين، والذين لم يملكوا أنفسهم أن دفعوا في الجو صيحة هائلة ملؤها البشر والإعجاب حين اندفعت سفننا تشق عباب الموج. وقضينا في البحر أياما طوالا تطيب لنا الريح أحيانا، وتتنكر لنا فيها أحيانا أخرى. ونحن على كل حال مبتهجون مستبشرون، نستمتع بما نرى من جمال الطبيعة في هذا البحر الذي لم يألفه اليونان، ولم يذلوه لسفنهم بعد.
لست أريد أن أسوأكم بأن أصور لكم حياتي في تلك الأيام التي قضيتها قائدا عظيما للأسطول العظيم، والتي كنت أراها أسعد ما كان ينتظر الإنسان من دهره، فأصبحت أراها الآن أيام شقوة ونقمة وتعس، وأستغفر الله جاهدا مما حملت فيها من أوزار وأثقال. وأعتقد أني مهما أتكلف من مشقة في العبادة، ومن حرمان في ذات الله، فلن أكفر عن بعض ما جنيت فيها من إثم وذنب. وحسبي أن تعلموا أني كنت كغيري من أهل طبقتي ومنزلتي في الإسكندرية وغيرها من المدن التي كانت تزهر فيها الحضارة، ويسود فيها سلطان الفلسفة والعلم، رقيق الدين، قد اتخذت من المسيحية ستارا لا يكاد يخفي ما بقي لي من عادات آبائي الوثنيين. فقد كنت أحب اللذة وأتهالك عليها، وقد كنت أبسط سلطان عقلي على كل شيء، فينتهي بي إلى الشك في كل شيء. وكنت أحب وثنية اليونان القدماء، ولكني لا أؤمن بها، وأتكلف مسيحية اليونان المحدثين، ولكني لا أطمئن إليها. وكنت قد اتخذت لنفسي دينا قد اتخذه أشرافنا وسادتنا لأنفسهم في هذه الأيام. وقوام هذا الدين الشك في كل شيء، والإيمان بإلهين اثنين، هما اللذة والغنى. وعلى اللذة والغنى وقفت حياتي في الإسكندرية، وعلى اللذة والغنى وقفت حياتي حين كنت قائدا عظيما لأسطول عظيم. فكم استصحبت من القيان والمغنين والشعراء والمضحكين؛ وكم حملت من الكتب والنبيذ! وكم أنفقت من الحيلة لأتخذ من ألوان الزهر والشجر ما يستطيع الاحتفاظ بجماله ونضرته على بعد العهد واختلاف الجو والإقليم! وتستطيعون بعد ذلك أن تصوروا لأنفسكم كيف قضيت تلك الأيام الطوال منذ أبحرت من مصر إلى أن بلغت بلاد الإثيوبيين.
هنالك استقبلنا الناس استقبال الفاتحين الظافرين؛ فقد كانوا يتحرقون غيظا على هذا الملك العربي اليهودي ومن حوله من اليهود. وكانت قلوبهم تدمى حزنا على إخوانهم المسيحيين الذين فتنوا عن دينهم، واستشهدوا في سبيل هذا المسيح. ولم تكن النار التي كان يثيرها الغيظ والحزن في صدورهم أقل من النار التي أذكاها ذلك الملك العربي اليهودي وحرق فيها إخوانهم في الدين. وما أظن أن أحدا كره البحر وضاق به، وتمنى لو غار ماؤه والتقى ساحلاه، كما كره أولئك الناس بحرهم ذلك الذي كان يحول بينهم وبين عدوهم من اليهود. على أننا أنفقنا أياما قبل أن نجيز بالجند إلى بلاد العرب؛ فلم يكن بد من أن ألقى الملك وأقدم إليه تحية قيصر وهديته. ولم يكن بد من أن أصرف تجاربي واستوثق لما حملت من العروض.
وما هي إلا أيام حتى كانت السفن قد شحنت بالجند وما يحتاج إليه من عدة وسلاح وفيلة. ولم يكن عبور البحر عسيرا، ولم يكن النزول إلى أرض اليمن شاقا، ولم يحتج الجند إلى كبير قتال؛ فإن الملك العربي لم يكد يرى هذا الجيش الضخم مجهزا بما كان قد جهز به من العدة والسلاح، ولم يكد يرى هذه الفيلة المروعة المخيفة حتى خاف وارتاع، ووجه فرسه نحو البحر فاقتحمه ولم يعرف الناس له خبرا. وتفرق من كان حوله من الجند وعلى رءوسهم أقيال اليمن وأذواؤها. وخلصت الطريق لنا إلى صنعاء، فدخلناها ظافرين ولم نلق كيدا. ولم نستقر في صنعاء حتى وجهنا الجند إلى تلك المدينة الشهيدة فنبلغها بعد أيام ونرى من آثارها وأطلالها ما يمزق الأفئدة ويذيب النفوس.
فما أسرع ما يعمل الجند! وما أسرع ما يسخر اليهود! وما أسرع ما تقام المدينة! وما أسرع ما تقام فيها البيع والكنائس! وما أسرع ما ينادي في الناس أن مدينة المسيح قد ردت إليه وأن أهلها الذين فرقهم الخوف آمنون! وما أسرع ما حمل كثيرون من أهل اليمن على النصرانية حملا! وما أسرع ما دخل كثير من أهل اليمن في النصرانية راغبين أو راهبين! ونعود إلى صنعاء وقد ثأرنا للدين، وأقمنا نجران على خير ما كان ينبغي أن تقام عليه مدينة من المدن.
وأخذت بعد ذلك أفكر فيما ستشحن به السفن من التجارة والعروض وجعلت أتهيأ لذلك وأهيئ له. وتحدثت فيه إلى قائد الجيش فلم يمانعني ولم يأب علي، بل تقدم في ذلك بخير ما أحب. ولكنه طلب إلي ألا أعود بالسفن كلها إلى مصر؛ فقد تطرأ الطوارئ وتعرض الأحداث ويحتاج جند اليمن إلى العبور إلى بلادهم، أو يحتاج أهل الحبشة إلى العبور إلى إقليمهم الجديد؛ فلا بد لهم من سفن وإن تكن قليلة يستعينون بها على مثل هذه الشئون. فدع لنا بعض أسطولك ونحن نعوضك عنه بما شئت من المال والعروض.
وكذلك تم الاتفاق بينه وبيني على أن أنزل له عن ثلث الأسطول وأعود بثلثيه وقد حملتها ما استطاعت حمله من تجارة تلكم الأقطار. ويتم كل شيء، وتقلع سفن الأسطول كلها إلا سفينة القائد العظيم؛ فإنها تنتظر أن أصل إليها لتأخذ طريقها إلى مصر. ولكن حدثا يحدث فيغير كل شيء، ويقطع بيني وبين الأسطول كل سبب، ويصرفني عن التجارة كارها أعواما طوالا. ماذا أقول! بل يصرفني عن نفسي أعواما طوالا. فقد كان قادة الجند منذ استقر لهم الأمر في هذا الإقليم الجديد يختلفون بينهم اختلافا شديدا: أيكتفون بهذا الفتح الذي وفقوا له، وهذا الثأر الذي ظفروا به، فقد أرضوا الملك حين بسطوا سلطانه من وراء البحر، وأرضوا الله حين انتقموا لعباده الشهداء، أم يحملون الناس على دين الملك حملا، ويمحون اليهودية والوثنية من هذه الأرض محوا؟ فأما قائد الجيش أرياط، فقد كان صاحب سياسة وكيد، وكان يرى الرأي الأول، وينظر إلى هذا الإقليم على أنه مستعمرة قد ضمت إلى أملاك النجاشي، فيجب أن تستغل أرضها وأن يستذل أهلها، ويسخروا لخدمة سادتهم الفاتحين. وأما غيره من زعماء الجيش، ولا سيما عظيمهم أبرهة، فقد كانوا أصحاب نسك وطاعة ودين، وكانوا يضعون النصرانية في المكان الأول، ولا يكادون يحفلون بالسياسة واستعمار الأرض. وكانوا يريدون أن يفرضوا النصرانية على اليمن فرضا، وتقدموا في ذلك إلى قائدهم أرياط، فأعرض عنهم وأبى عليهم. وما هي إلا أن ينقضوا عليه الجيش، وما هي إلا أن ينظر الرجل فإذا هو مضطر إلى أن يضرب بعض الحبشة ببعض. ويعجبني أنا ما أرى، فأبقى لأشهد عاقبة هذا الخلاف. ولست أدري كيف استحالت مسيحيتي الدقيقة إلى إيمان قوي متين. والحق أني سألت نفسي فأطلت السؤال عن مصدر هذا التبديل الذي أخذت أحسه منذ وطئت قدماي أرض اليمن. وأكبر الظن أن منظر تلكم المدينة البائسة التعسة، وما كان قد أصابها من الخراب والدمار؛ لأن أهلها ثبتوا على دينهم، ثم ما نالها في وقت قصير من التجديد والعمران؛ لأن قوما آخرين قد أرادوا أن يثأروا لدينهم، أكبر الظن أن هذا كله قد أثار في ضميري على غير شعور مني إعجابا بقوة هذا الإيمان الغريب الذي يحمل ألوفا من الناس أن يستقبلوا الموت ويتهافتوا في النار فرحين مبتهجين كأنهم الفراش، والذي يمحوا مدينة من الأرض محوا، ثم يقيمها رفيعة العماد، شاهقة البنيان، معمورة بالناس. كأن الدهر لم ينلها بمكروه. فانصرفت نفسي شيئا فشيئا عن هذه الحياة التي كنت أكبرها والتي أصغرها هؤلاء المؤمنون. ومهما يكن من شيء فقد أخذت أحس حبا لهذه الأرض الجديدة، وميلا إلى البقاء فيها، عطفا على هؤلاء الذين كانوا يريدون أن يعلوا كلمة الحق، ويأخذوا الناس بدين المسيح راضين أو كارهين.
وإني لفي هذا كله وقد اشتد الأمر بين الجيشين المختصمين، وإذا رسول أبرهة يقبل على أرياط ليبلغه أن صاحبه يكره أن يقتتل الجيشان وأن تسفك دماء الأبرياء. ويقترح عليه المبارزة، فأيهما ظفر بصاحبه كان الأمر إليه. فيرى أرياط في هذا الاقتراح قصدا ورفقا وإنصافا، فيقبله ويجيب إليه. ويزداد في نفسي الحرص على البقاء لأشهد عاقبة الأمر. وقد شهدتها فأكبرتها: التقى الخصمان وبطش أرياط بعدوه، ولكن الحربة لم تقتله وإنما شقت جبهته وأنفه وشفته. ويسرع عبد لأبرهة فيضرب أرياط فيرديه. وتجتمع الحبشة على هذا الزعيم الذي كان يريد أن يكسب أهل اليمن لدين المسيح.
ناپیژندل شوی مخ