وكان بيت آمنة في هذا الوقت قد امتلأ بنساء بني هاشم وبني زهرة، أقبلن عليها يعزينها ويسلينها ويعاونها على احتمال هذا الحزن الجديد. ولكنها لقيتهن كما تعودت أن تلقاهن من قبل: باسمة في حزن، نشيطة في هدوء ولم تعنهن على أن يطلن الحديث في الوداع والرحيل، وفي القافلة وما يتصل بها من الأمر، فأخذن فيما كن يأخذن فيه من أحاديثهن المألوفة في كل يوم.
وكان عبد المطلب قد ذهب إلى مجلسه من المسجد كدأبه في كل يوم، فتلقاه أبناؤه بالتحية وتلقاهم هو بالدعاء، وجلس وجلسوا من حوله يتحدثون عن القافلة كما كانوا يتحدثون عنها من قبل. وكان الشيخ يسمع لهم ويرد عليهم، ولكنه كان يجد في نفسه حزنا عميقا لاذعا لم يكن تعود أن يجده حين كان يرحل أبناؤه غير عبد الله مع القوافل إلى اليمن أو إلى الشام، ولا حين كان يرحل هو تاركا أبناءه وأهله.
وكان الشيخ يحس كأن له شخصين مختلفين: أحدهما حاضر بمكة يأخذ مع أبنائه وغيرهم من قريش بأطراف الحديث، والآخر غائب عن مكة قد فصل مع العير، وأخذ قصد الشام يصاحب هذا الفتى الذي ارتحل ولم يكن من الحق أن يرتحل لو أن عبد المطلب طاوع نفسه واستمع لصوت الضمير. وكان هذا الشخص الغائب يرسل إلى الشيخ صورا قوية متلاحقة تمثل الطريق التي تسلكها العير، والأحياء التي تمر بها، واستقبال هذه الأحياء للعير، واحتفاءها بها ومتابعتها لها. وتمثل له ابنه آخذا في الحديث مع رفاقه كاتما ما يجد من حزن لفراق أهله وإخوته وبلده، وكثيرا ما كان هذا الشخص الغائب يسبق العير في طريقها إلى الشام، ويعود إلى عبد المطلب يصور هذه الطريق، فيثير في نفسه ذكرى، ويثير في نفسه أملا، ويثير في نفسه إشفاقا؛ لأنه كان يستحضر ما كان يلقى في سفره إلى الشام من خير وشر، ومن راحة وجهد. وكان يرى أن ابنه سيلقى مثل ما لقي، وسيحس مثل ما أحس، فيبتهج حينا ويبتئس حينا آخر.
وكان على هذا كله لا يستطيع أن يدافع خاطرا يلم به من حين إلى حين، فيصور له يوم الفداء، ويصور له هذا الصراع العنيف الذي كان بينه وبين الموت في ذلك اليوم، والذي كان موضوعه هذا الفتى الذي ترقل به مطيته الآن نحو بلاد الروم. وكان كلما فكر في ذلك أحس خوفا مرا تظهر آثاره على وجهه المشرق الموقور، كأنما كان يسأل نفسه: أفي الحق أن قد انتهى هذا الصراع بيني وبين الموت؟ أفي الحق أني قد استخلصت هذا الفتى ووهبته للحياة المتصلة والبقاء الطويل؟ إن الدهر لكثير الغدر مشغوف بالخداع، وإن من حولنا لقوى خفية إن يكن منها الخير المسعف فإن منها الشرير الخاتل. وإن هذه القوى الشريرة لتجد لذة سيئة في تضليلنا والعبث بنا ودفعنا إلى الشيء كأنه الخير كل الخير، حتى إذا اندفعنا إليه وتورطنا فيه، انصرفت عنا ساخرة منا، وتكشفت لنا الأحداث عن الشر والنكر والبلاء، ومن يدري! لعل قوة خفية من هذه القوى الخاتلة قد خدعتني ومكرت بي، وخيلت إلي أن في حمل هذا الفتى على الرحلة مع شباب قومه وكهولهم نفعا له وإصلاحا، على حين لم تكن تريد به إلا الشر، ولم تكن تريد به إلا النكر، ولعلها أن تكون قد أرصدت له في الطريق رصدا وكادت له في السفر كيدا. وكان الشيخ إذا ألم به الخاطر وانتهى به التفكير إلى هذه الصورة امتلأ قلبه بهم شاغل عنيف، يكاد يقطع عليه حديثه مع من كان حوله من قومه، ويكاد ينهضه قائما ويسعى به إلى حيث يركب أسرع نجائبه ليلحق بابنه ويرده إلى مكة، فكان الوقار وحده يكفه عن ذلك، ويرده إلى أن يأخذ نفسه بالصبر والاحتمال، ويحتفظ بما في قلبه من الهم سرا مكتوما لا يظهر عليه أحد غيره، ولا يناجي به إلا ضميره.
وكذلك اتصلت حياة الشيخ منذ ارتحل ابنه مضاعفة؛ يحيا مع أهل مكة ويضطرب فيما يضطربون فيه، ويمضي مع القافلة ويشاركها فيما تجد من مشقة الرحيل وراحة المقام، وربما شاركها في أحاديثها وآمالها، وربما شاركها في خوفها وثقتها. ثم ربما فكر في آمنة فأطال التفكير. وماله لا يفكر فيها وقد كانت في حجر عمها وهيب، فلما زفت إلى عبد الله أصبحت في كنفه هو، ولا سيما بعد أن سافر زوجها وبقيت هي وحيدة محزونة ليس لها مسل عن الوحدة ولا معين على الحزن! لذلك كان الشيخ شديد العطف على هذه الفتاة، يزورها فيكثر زيارتها ويطيل المقام عندها، ويلح على هالة في أن تفعل فعله فتزور آمنة وتستزيرها، ولا تخلي بينها وبين الوحدة ما وجدت إلى ذلك سبيلا.
وفي الحق أن الأسابيع الأولى التي تبعت رحلة عبد الله قد مرت على آمنة مرا سريعا يسيرا. فما أكثر ما كان يزورها نساء بني هاشم ويستزرنها! وما أكثر ما كانت تجد عزاء وراحة فيما كان ينالها من بر الشيخ وأزواجه، ومن ود سمراء خاصة؛ على أن حياتها كانت كحياة عبد المطلب مقسمة بين مكة وبين الطريق التي كانت تسلكها القافلة. فكانت تحيا حياة النساء من حولها في قليل من العمل وشيء من الحديث وكثير من الصمت، وكانت تتبع عبد الله في طريق تتخيلها ولا تحققها. وأنى يكون لها تحقيق الطريق وهي لم ترتحل ولم تجب أقطار الأرض! إنما كانت تسمع أحاديث الناس عما يجدونه في طريقهم إلى الشام وإلى اليمن، فتصوره لنفسها كما استطاعت، وترى زوجها في أطوار المسافرين
1
فتبتهج لذلك قليلا وتشقى به كثيرا.
وأصبحت آمنة ذات يوم تجد في نفسها شعورا غريبا لا تدري أألم هو أم لذة؟ أحزن هو أم سرور؟ رأت فيما يرى النائم كأن آتيا قد جاءها فوقف منها غير بعيد، وحاولت أن تتبين شخصه فلم تستطع، وحاولت أن تحقق صوته فلم تستطع. وما كانت تدري أكان رجلا أم امرأة، وما كانت تدري أكان شيخا أم شابا، وإنما كانت تعلم أنه كان شبحا مؤنسا عذب الصوت. دنا منها حتى إذا كاد يمسها تحدث إليها في رفق كأنه يناجيها ويسر إليها سرا، فقال: أتعلمين أنك ستصبحين أما؟ قالت: ماذا تقول؟ لم أفهم عنك. قال: أتعلمين أنك حامل؟ قالت لا! قال: فاعلمي إذا أنك ستكونين أما لخير من حملت الأرض من الناس. ثم نظرت فلم تر شيئا. ثم استيقظت ونظرت من حولها فإذا الصبح قد يشرق ويضيء كل شيء. هنالك فكرت آمنة فيما رأت وفيما سمعت، وأنكرت آمنة ما رأت وما سمعت. وسألت نفسها، فإذا هي لا تعلم أنها قد أنكرت من أمرها شيئا، إنما هو اضطراب يسير كان يلم بها من حين إلى حين قبل العرس، فلا غرابة في أن يلم بها بعده. وما كانت تقدر أن الحمل يسير إلى هذا الحد، لا تشعر المرأة به ولا تجد له عرضا من الأعراض غير مألوف. على أنها لم تصدق ما سمعت، ولم تستطع مع ذلك أن تكذبه، فظلت منه في شك مريب، واستشعرت له خوفا مقلقا وأملا لذيذا. وظلت في حيرتها هذه الحلوة المرة حتى ارتفع الضحى. وأقبلت إليها نساء بني هاشم وفيهن سمراء وفاطمة بنت عمرو وهالة بنت وهيب. فقصت عليهن في استحياء ما رأت وما سمعت؛ وسألنها عن بعض الشيء، ثم رجحن لها صدق الرؤيا. ووصفت لها سمراء تمائم تقدمت إليها في أن تحملها لترد عنها الشر، وتذود عنها مزعجات الأحلام.
من ذلك اليوم ازدادت نفس آمنة رضا واطمئنانا، واحتملت بعد زوجها عنها في شجاعة لا مرارة فيها ولا حرمان. وأخذت تفكر في زوجها مبتسمة له، وتنتظر عودته القريبة في شيء من الغبطة والسرور عظيم، وأخذت تقدر ابتهاجه حين يعود فيعلم من أمرها ما لو علمه الآن لهون عليه السفر ومشقة النوى. وعلقت آمنة ما وصف لها من تمائم، ولكنها لاحظت أنها ما كانت تفيق من نوم إلا وجدت تمائمها وقد انقطعت أسبابها وسقطت عنها. فلما تكرر ذلك أعرضت عن التمائم ولم تحفل بها. وأخذت تنتظر أعراض الحمل، وتهيئ نفسها لمثل ما احتملت هالة من ألم حين كانت تنتظر حمزة. ولكنها انتظرت وأطالت الانتظار، فلم تجد شيئا ولم تشك ألما ولم تضق بالحياة، ولم ترغب عما كان يتاح لها من لذاتها اليسيرة.
ناپیژندل شوی مخ