قال حنظلة: «فإن الله قد أمرنا أن نسوي بين الناس وبين أنفسنا، وأن ندعوهم إلى الإسلام لنرفع عنهم هذا الإصر، ولنردهم إلى مشاركتنا في هذه النعمة التي أنعم الله بها علينا.»
قال الأمير: «ألم تنبئني أنك لم تبذل فيما صنعت جهدا، ولم تحتمل فيه مشقة ولا عنفا؟»
قال حنظلة: «بلى! ولو قد علمت كيف كان اهتداء هؤلاء الناس إلى الحق واستجابتهم لدعوة الله لراعك من ذلك ما راعني، ولأعجبك من ذلك ما أعجبني، فإني لا أقضي العجب من هذه القصة التي أجرى الله بها الخير على يدي. وما رأيت أعجب من أمر محمد
صلى الله عليه وسلم
فيما رأيت وما علمت من أمور الأنبياء. رجل كان يطالبه خصومه وأعداؤه بالمعجزات، فيبرأ منها ويعلن إليهم أنه بشر مثلهم، وأنه لم يرسل ليبهر العقول بالأحداث العظام، وإنما أرسل ليتلو على الناس قرآنا يتحدث إلى عقولهم فيملؤها هدى، ويتحدث إلى قلوبهم فيشعرها رحمة وبرا، ثم لا يخلو أمره من هذه المعجزات التي تبهر العقول وتسحر الألباب، دون أن تحدث في طبيعة الأشياء حدثا أو تتجاوز بعادات الناس الجارية طريقها المألوف! إنما هي معجزات ممتازات يراها الناس مألوفة يسيرة، ويراها المفكرون نادرة باهرة ومقنعة مفحمة للمكابرين. لقد كان محمد رجلا لا كالرجال. ولقد كان بشرا، ولكنه امتاز بين الناس بخصال أحسها وأحققها في قلبي وفي عقلي، ولكني لا أجد إلى تصويرها سبيلا.»
قال الأمير: «فأفصح عما تريد واقصص علي قصتك؛ فإنك قد أثرت في نفسي عجبا من العجب.»
قال الشيخ: «فإن قصتي يسيرة كبيرة ككل ما يتصل بهذا الرجل الكريم الرحيم. إنك لتعلم أني ذهبت إلى تلك القرية أتعهد بعض أعمالي، فما أبلغها وما أستقر فيها حتى أعرف أن عظيما من عظمائها النصارى قد رزئ في صبي له، فأرى من الخير والبر أن أسعى إليه مواسيا ومعزيا فأفعل. ويلقاني الرجل حفيا بي وقد ملك الجزع كل أمره وأخرجه عن طوره، ولقد كنت أعرفه جلدا صبورا وقورا، ولكن هذا الصبي قد كان وحيده، وقد كان قرة عين له حين تولى عنه الشباب وأدركته الشيخوخة. فلما نزل به الخطب لم يثبت له ولم يستطع عليه صبرا، وقد عجز من كان يحيط به من القسيسين والرهبان عن تعزيته وتسليته. ويأخذني الرفق به والإشفاق عليه، فأتحدث إليه في لغته القبطية مواسيا مسليا، وأقول له فيما أقول: لو عرفت أن أحاديث نبينا تعزيك أو تسليك لقصصت عليك منها طرفا. فقد رزئ نبينا في صبي وحيد له، كما رزئت في صبيك هذا الوحيد. فتلقى الرزء كريما يملأ قلوبنا نحن المسلمين إكبارا له وإعجابا به ورحمة للصبية من أبنائنا، في احتفاظ بالرجولة، وثبات على المروءة، واصطناع للوقار، واعتراف بحق الله فيما يمن به علينا من المال والولد، وإنما يأخذه كما أعطاه دون أن يكون لنا أن نضيق بذلك أو نثور عليه، هي نعمة أهديت إلينا ثم أخذت منا، وقد ابتلينا بإهدائها إلينا كما ابتلينا بأخذها منا، ونحن بعد ذلك مثابون إن ثبتنا للمحنة وصبرنا على الابتلاء.»
قال الرجل: «فحدثني بحديثك؛ فإن ما تقوله يبعث في نفسي شيئا من راحة وأمن ودعة.» قلت: فإن نبينا قد رزق في آخر أيامه صبيا ابتهج لمولده ابتهاجا عظيما وسر به سرورا لا يقدر. ولكن نبينا كان يحسن لقاء النعمة كما كان يحسن لقاء المحنة، كان لا يخرجه الابتهاج عن طوره، وكان البطر والأشر أبعد الأشياء عنه. وكان إذا رضي لم يستأثر بلذة الرضا، وإنما يشرك فيها الناس. فلم يكد يرزق هذا الصبي حتى أعلن ذلك إلى الناس مغتبطا، ثم تصدق على الفقراء، ووسع على من ضيقت عليهم الحياة. وكان رفيقا بابنه هذا، يسعى إليه عند مرضعه إذا قال الناس، فيأخذه ويقبله ويقول له ما شاء الله أن يقول من هذه الألفاظ الحلوة التي تصور أجمل تصوير حنان الآباء ورحمتهم لأبنائهم. وقد كانت نعمة الله على نبينا لا تحصى، وكان منها امتحان الله له في أحب الأشياء إليه وآثر الناس عنده فما يبلغ ابنه ستة عشر أو ثمانية عشر شهرا حتى تسعى إليه العلة. ويمضي النبي مع صفي من أصفيائه يقال له عبد الرحمن بن عوف ليعوده فيبلغه وهو يجود بنفسه، وينظر الأب إلى صبيه الوحيد الذي جاءه حين تولى عنه الشباب، وحين أقبلت عليه الشيخوخة، وحين استيأس من الولد، ينظر الأب إلى ابنه هذا أسفا محزونا، ولكنه ينظر إليه مع ذلك راضيا مطمئنا مذعنا لقضاء الله. وهذه عينه تدمع، وهذا صفيه ينكر منه ذلك ويقول له: «أتبكي وقد نهيت الناس عن البكاء؟» فيجيبه: «إنما هذا رحم، وإن من لا يرحم لا يرحم، إنما ننهي الناس عن النياحة وأن يندب الرجل بما ليس فيه.» ثم قال: «لولا أنه وعد جامع، وسبيل مئتاء، وأن آخرنا لاحق بأولنا، لوجدنا عليه وجدا غير هذا! وإنا عليه لمحزونون! تدمع العين ويحزن القلب، ولا نقول ما يسخط الرب، وفضل رضاعه في الجنة.»
1
وهنا تنحدر من عيني الرجل دموع غزار، وتأخذه عبرة شديدة يهتز لها جسمه كله اهتزازا عنيفا. فإذا انجلت عنه قال: «أعد علي حديثك هذا؛ فإني أجد له عذوبة ما وجدتها لحديث قط.» فأعيد عليه الحديث، فيسمعه مصغيا إليه أشد الإصغاء ولا تنهمر عبرته ولا تأخذه الرعدة هذه المرة، وإنما يقول في صوت هادئ: «امض في حديثك.» فأقول: لقد بلغت آخره أو كدت أبلغه. فهذا الأب يحمل ابنه إلى القبر، ويجلس لينظر والناس يوارونه في التراب. ويرى فرجة قد تركت في اللحد، فيأخذ حجرا ويناوله من قام على تسوية القبر ويقول: «إنها لا تضر ولا تنفع ولكنها تقر عين الحي.»
ناپیژندل شوی مخ