190

په سرحدي کي د سيرت په اړه

على هامش السيرة

ژانرونه

وقد طال إطراق الأمير وصمته، وطال وقوف الشيخ وحيرته. ثم تحول الشيخ عن موقفه فجأة، وسلم على الأمير سلام المنصرف. فرفع الأمير إليه وجها عابسا وهو يقول: «إلى أين يا حنظلة؟» قال الشيخ: «إلى حيث يلقاني الناس بغير ما لقيتني به أيها الأمير.» قال الأمير: «لا بأس عليك؛ اجلس فإن لي معك شأنا.» قال الشيخ: «لقد علمت أن لك معي شأنا، ولكني علمت أيضا أن مثلي لا يلقى بمثل ما لقيتني به. فإن كنت قد دعوتني لخصومة أو ملامة، فقد كنت حريا أن تقدم بين يدي خصومتك أو ملامتك خيرا مما قدمت، أو تكلف قاضيك أن يدعوني كما يدعى المتهم المليم.»

قال الأمير: «اجلس فليس عليك من بأس! إني لم أدعك لخصومة ولا لملامة، وإنما دعوتك لبعض الأمر. ولعل ما نجم بينك وبيني لا يعدو العتب عليك والنصح لك.» قال الشيخ: «وما ذاك؟» قال الأمير: «فخذ مكانك! فإنا سنتحدث عما قليل.»

وسعى الشيخ هادئا مطمئنا حتى جلس وهو لا يكاد يخفي ما يظهر على وجهه وفي عينيه من آيات الغيظ. وأحس جلساء الأمير أن الأمير يريد الخلوة إلى حنظلة فجعلوا ينصرفون متتابعين، حتى لم يبق في مجلس الأمير أحد إلا هذا الشيخ. هنالك نظر الأمير إلى حنظلة نظرة طويلة فيها حب ورفق، وفيها حزم وعزم أيضا، ثم قال وهو يبتسم متكلفا: «إن لبيت مال المسلمين عندك لثأرا ما أظنه يستطيع أن يدركه منك مهما تضخم ثروتك ومهما تغل هذه الأرض التي تملكها، ومهما يكسب لك هذا العدد العظيم من الرقيق الذين تصرفهم في هذه الصناعات المختلفة المربحة.»

قال حنظلة: «أبن عما تريد أيها الأمير؛ فإني لا أفهم عنك منذ اليوم.» قال الأمير: «فإنك قد رزأت بيت المال رزءا ما أظن ثروتك تستطيع أن تنهض به.» قال حنظلة: «فإنك لم تولني عملا من أعمالك، ولم تأتمني على ما تحتوي خزائنك من مال، وما أعرف أن بيني وبين السلطان سببا من أسباب التجارة أو الالتزام، فكيف رزأت بيت المال وبم رزأته؟»

قال الأمير: «ما هذا الحديث الذي بلغني عنك؟ ألم ترتفع إلي الأنباء بأنك قد زرت قرية عامرة من قرى الريف تريد أن تتعهد فيها بعض أرضك، فلم تنصرف عنها حتى أسلم أهلها جميعا، ولم يبق منهم معاهد يؤدي إلى بيت المال درهما أو دينارا! أفتظن أنك لم ترزأ بذلك بيت مال المسلمين! فإذا مضيت على سيرتك هذه، وإذا تأثرك جماعة أمثالك، فجعلوا كلما زاروا قرية من قرى الريف حملوا أهلها على الإسلام وصرفوا عن بيت المال موردا من موارده، فإلام نحن صائرون؟ ومن أين ننفق على هذه المرافق؟! ومن أين نرزق أهل الديوان، ونوفر على الجند أعطياتهم؟ وكيف نحمل إلى دمشق ما تريد أن يحمل إليها من المال؟» فلم يستطع الشيخ أن يملك نفسه ولا أن يحتفظ بما ينبغي من الوقار لنفسه أولا ولمجلس الأمير بعد ذلك، ولكنه اندفع في ضحك حر مطلق لا تحفظ فيه ولا اتزان. وجعل الأمير ينظر إليه دهشا لا يدري أيغضب أم يرضى. فلما سكت الضحك عن الشيخ قال في صوت مضطرب بعض الشيء: «أصلحك الله أيها الأمير وغفر لك! ما كنت أظن أن الله قد بعثنا جباة للمال نملأ به خزائنك ونحمله إلى دمشق، وإنما علمت أن الله قد بعثنا دعاة إليه، وهداة إلى الحق، ومبشرين برحمة الله، ومخوفين من نقمته، ما يعنينا بعد ذلك أن تمتلئ خزائنكم بالمال أو تصفر منه.»

قال الأمير وهو يبتسم ويكظم غيظا يريد أن ينفجر: «حسبك يا حنظلة! هذا كلام كان يقال منذ أذاعه عمر بن عبد العزيز رحمه الله في الناس وكتبه إلى الولاة والعمال، وقد قبلته أنت ونفر من أمثالك، ومضيتم في إنفاذه جادين. ولكن عمر رحمه الله قضى ولم يطل به العهد، وعادت أمور الناس إلى من تعلم من الخلفاء والأمراء، وعادت سياسة الناس سيرتها الأولى. فلا بد من أن ننفق على المرافق، ولا بد من أن نرزق الجند، ولا بد من أن نحمل إلى بني مروان في كل عام ما ينهض بأعبائهم، وإنها لأعباء ثقال!»

قال حنظلة: «فإن أمر هذا كله لا يعنيني، وإنما يعني أمير المؤمنين وولاته وعماله والمديرين لأمواله، فأما أنا فرجل من المسلمين أتيح له أن يدعو الناس إلى الحق، فاستجابوا له وهداهم الله به إلى دينه، فلا علي أن يصرف عن بيت المال موارده. وإن كان لك أيها الأمير أو لأمير المؤمنين أرب فيما أملك من ثروة فما أستطيع أن أدفعكما عنه، وما أريد أن أفعل، فخذا منه ما تشاءان، وخذاه كله إن أحببتما؛ فإن المال يغدو ويروح. وما أكره أن أشتري هدى هؤلاء الناس بمال مهما يكثر، وما أكره أن أعين بيت المال على بعض أعبائه بثروة مهما تضخم، فإني أرى ذلك صدقة، وأعلم أن الله لا يضيع أجر المتصدقين.»

قال الأمير وقد عاد إليه هدءوه واطمأن في مجلسه وأشرقت في وجهه ابتسامة حلوة عرفها حنظلة، فنظر إلى الأمير نظرة الصديق قد لقي صديقه بعد طول الغيبة، قال الأمير: «ليس عليك ولا على مالك بأس! ولكني أريد أن تقتصد في هذا الجهد وترفق في هذه الدعوة.»

قال حنظلة: «فإني لم أبذل جهدا ولم اشتد في دعوة. ولوددت لو أستطيع أن أبذل في ذلك الجهد وأن أبلغ من هداية الناس إلى الحق ما أريد! فما أعرف أن شيئا يؤذي نفسي كما يؤذيها منظر هؤلاء المعاهدين وهم يؤدون الجزية عن يد وهم صاغرون. وإني لأرى في دعوتهم إلى الإسلام وهدايتهم إليه إنقاذا لمروءتهم وإمتاعا لهم بهذه الحرية التي نتمتع بها وهم مبعدون عنها مصروفون عما تكفل لأصحابها من الشرف والكرامة وكمال الرجولة. ألم تضع نفسك قط أيها الأمير موضع واحد من هؤلاء الناس الذين يشترون أمنهم على أنفسهم ودينهم بالمال يؤدونه إلينا صاغرين؟»

قال الأمير: «وفيم تريد أن أضع نفسي موضع هؤلاء الناس، وقد من الله علينا بالعروبة والإسلام فجنبنا هذا الصغار؟»

ناپیژندل شوی مخ