ولكن لله في عباده أمرا هو بالغه، وإرادة هو ممضيها، وحكمة هو حاملهم عليها. لقد كان المسلمون لا يدعون هذا الرجل إلا زيد بن محمد، ولا ينظرون إليه إلا على أنه ابن نبيهم، ومن أقرب الناس إليه وألصقهم به وآثرهم عنده، وكان النبي نفسه يقول ذلك ويجهر به. ولكن الله يريد أن يلغي نظام التبني هذا، وأن يرد الناس إلى أنسابهم وأن يدعوا الأبناء لآبائهم، وإذا هو يمتحن في ذلك نبيه، ويمتحن في ذلك زيدا، ويمتحن في ذلك المؤمنين الصادقين جميعا. يلقي في قلب النبي حب زينب زوج زيد، ويلقي في قلب زيد الانصراف عن زينب والنفور منها.
وهذه نفس محمد مضطربة أشد الاضطراب، ممتنعة أشد الامتناع، واجمة أشد الوجوم، ترفض هذا الحب رفضا وتزور عنه ازورارا، وإذا هي تنكره حتى على نفسها. ولكن الله يبدي ما تخفي، ويعرف الناس ما تنكره، وإذا زيد يريد أن يطلق امرأته والنبي ينهاه ويزجره ويحذره. ولكن الله بالغ أمره وممض إرادته ومتم حكمته، وإذا زيد يطلق امرأته، وإذا النبي يتزوج زينب، ويقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض في ذلك ما يقولون. ولكن الحب الخالص بين زيد ومحمد يخرج من هذه المحنة العنيفة ظافرا منتصرا كأنقى وأصفى ما يكون، وإذا الله ينزل في هذه المحنة قرآنا ويسمي فيه زيدا فيقول:
وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك واتق الله وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرا وكان أمر الله مفعولا . ثم يقول:
ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين وكان الله بكل شيء عليما .
وقد تلقى المؤمنون الصادقون هذه المحنة كما كانوا يتلقون أمر الله كله راضين به مخلصين في الرضا، قد اطمأنت إليه قلوبهم، وصفت له نفوسهم، وصحت على إمضائه عزائمهم. وثقوا بأن الله قد اختار لهم فاختاروا لأنفسهم ما اختار لهم الله. وقد مضى زيد مع نبيه وصاحبه كما كان يمضي مع أبيه، وفيا أمينا مخلصا، مجاهدا في سبيل الحق مضحيا في ذات الله. وإذا رسول الله يزوجه حاضنته أم أيمن الحبشية، ويعده الجنة، فتنجب له أسامة بن زيد.
ثم تقبل المحنة الأخيرة. فهذا النبي يجهز لغزوة مؤتة. فإذا أتم جهازه اختار الأمراء؛ فقدم زيدا وقال: «فإن أصيب فجعفر بن أبي طالب، فإن أصيب فعبد الله بن رواحة.» قال المحدثون: فوثب جعفر بن أبي طالب فقال: «يا رسول الله، ما كنت أرغب أن تستعمل علي زيدا.»
فقال رسول الله: «امضه فإنك لا تدري أي ذلك خير.»
4
ومضى المسلمون إلى مؤتة يقودهم زيد. حتى إذا كانت الموقعة، قاتل المسلمون على صفوفهم وقاتل الأمراء مترجلين، فقتل زيد رحمه الله طعنا بالرماح. وقال النبي حين بلغه ذلك: «إنه دخل الجنة يسعى.» وصعد النبي المنبر فأنبأ المسلمين بمصرع الأمراء الثلاثة، وقال: «اللهم اغفر لزيد، اللهم اغفر لزيد، اللهم اغفر لزيد، اللهم اغفر لجعفر ولعبد الله بن رواحة» يستغفر لزيد ثلاث مرات، ويجمع بين ابن عمه جعفر وعبد الله بن رواحة في استغفار واحد.
تحدث ابن سعد عن الواقدي في إسناده، قال: لما أصيب زيد بن حارثة، أتاهم النبي
ناپیژندل شوی مخ