قال الرومي: «فإنه لا يتصل بحياتكم حين تأوون إلى بيوتكم، أو تهرعون إلى هذا الحانوت أو تضطربون في الأرض، وإنما يتصل بآلهتكم.»
ولم يكد هؤلاء الفتيان من قريش يسمعون هذه الجملة حتى اندفعوا إلى ضحك غليظ متصل، ثم سكت عنهم الضحك بعد حين، فجعل بعضهم ينظر إلى بعض نظر المنكر لما سمع، الساخر منه، في شيء غريب من الفرح والمرح، وفي إشارة إلى الغلام أن يملأ لهم أقداحهم. ثم نظر صفوان إلى صديقه الرومي نظرة لا تخلو من استهزاء يشوبه الإشفاق وقال: «قد كنا نحسب أن التفكير في الآلهة والحديث عنهم أمر مقصور على نفر من قريش تقدمت بهم السن وتقلبت عليهم الحياة، وفرغوا لهذا العبث، فجعلوا يخوضون فيما ليس للناس أن يخوضوا فيه. ولكن الأمر قد تجاوز هؤلاء الشيوخ من قريش إلى جيراننا من الروم. أومستك العدوى إذا؟ أوجعلت تصبو إلى ما يصبو إليه هؤلاء النفر من شيوخنا، وتحرص على أن تمتاز بما يمتازون به من التحرج والتكلف، وإنفاق الجهد فيما لا ينبغي أن ينفق فيه الجهد؟! لقد جفت حلوقنا يا غلام، فأسرع إلى هذه الأقداح فاملأها، وأسرع إلى مولاك بشيء من شراب، فما نرى إلا أن نفسه قد ظمئت، وما نرى إلا أن ظمأ نفسه قد اضطرها إلى هذا الحديث.»
قال الرومي: «أما إنك قد قلت الحق وأنت لا تدري! فإن نفسي لظمئة، وإن ظمأها لأشد مما تظن.»
قال صفوان: «تظمأ وعندك أكرم ما جادت به بيسان من نبيذ!»
قال الرومي: «ما صدفت نفسي قط عن الخمر كما تصدف عنها الآن. إني لشديد الظمأ ولكن إلى شيء آخر ما أرى أنكم تفقهونه أو تفطنون له.»
قال صفوان وهو مغرق في الضحك: «إنك لظمئ إلى ما كانت تظمأ إليه نفس زيد بن عمرو! فقد طلبته جاهدة فلم تظفر به، ولم ترو ظمأها باليقين، وإنما روته بهذا الدم الزكي الذي لم نثأر له بعد، والذي لا بد من الثأر له. وإنك لظمئ إلى ما كانت تظمأ له نفس ورقة بن نوفل وعثمان بن الحويرث! فإن ورقة بن نوفل ليقيم منك غير بعيد فتحول إليه واستمع له! فقد يروي نفسك بما وعى من علم النصارى، وما حفظ من سخف الروم. ولكن لا تنس أن تخلي بيننا وبين ما بقي لك من خمر، وأن تحكمنا فيما ستقدم عليك به العير بعد أيام.» ثم تضاحك القوم ورفعوا الأقداح إلى أفواههم، ثم ردوها ولم يذروا فيها شيئا.
قال الرومي: «فأما وأنتم تفقهون أمر هؤلاء النفر من قريش، فما أشك في أنكم ستفهمون عني إن حدثتكم بما يضطرب في نفسي من الأمر. ولقد أسأت بكم الظن، فمعذرة إليكم. لقد رأيتكم لا تحفلون إلا بما يحفل به أترابكم من اللهو، ولا تقبلون إلا على ما يقبل عليه لداتكم من اللذة والنعيم.»
قال صفوان: «فإن لنا على ذلك عقولا تستطيع أن ترقى إلى حكمتك العليا. ولكن ما رأيك في أنها زاهدة في هذه الحكمة، راغبة عنها! فإنا لم نأتك لتتحدث إلينا عن الآلهة، وما ينبغي لغير قريش أن يتحدث عن آلهة قريش. ولقد أطلت فينا المقام، فكنت خليقا أن تعرف من أمرنا أكثر مما عرفت. وما نظنك إلا أدركت شيئا مما لقي زيد بن عمرو، وقد كان أوسطنا نسبا، وأرفعنا حسبا! فخذ في حديث آخر غير حديث الآلهة. فما كنا لنكره ذلك من شيخ قرشي ثم نرضاه من رومي غريب أقبل علينا ليسقينا الخمر ويسمعنا الغناء.»
قال الرومي وقد ظهر عليه بعض الحزن: «ألم أقل لكم إني كنت مشفقا أن يسوءكم حديثي، وإني كنت راغبا عن أن أوذيكم!»
قال فتى من القوم: «فإنك لم تؤذنا وإن حديثك لم يسؤنا، وإنك لم تظهرنا بعد على هذا الحديث. ولكن في صفوان حدة وسرعة إلى الغضب ولا سيما حين يثقل عليه الشراب، فامض في حديثك راشدا، وأشركنا في هذا الهم الذي غير سيرتك منذ الليلة.»
ناپیژندل شوی مخ