صاحب الحان
1
أنكر شباب قريش من صاحب الحان إعراضه عنهم، وما ظهر من انقباض وجهه وتقطب جبينه، وما أحسوا وراء ذلك من فتور النفس، وجمود القلب، وشرود الخاطر، واشتغال البال.
وكان هؤلاء الفتيان المترفون من شباب قريش قد تعودوا من صديقهم هذا الرومي نشاطا للشراب إذا نشطوا له، وإقبالا على اللهو إذا أقبلوا عليه، ومشاركة في اللذة إذا أخذوا فيها، قد محيت بينهم وبينه الفروق، ورفعت بينهم وبينه الحجب، وأصبحت الأمور بينهم وبينه ميسرة هينة، تجري على المودة والإلف، وعلى السذاجة والإسماح، كما تجري بينهم وبين أنفسهم، أو خيرا مما تجري بينهم وبين أنفسهم. يقبلون عليه مصبحين، ويقبلون عليه ممسين، ويقبلون عليه في أي ساعة من ساعات النهار والليل، فلا يرون منه إلا نشاطا وانبساطا، وإلا إقبالا عليهم وإيناسا لهم. فإذا أخذوا في شرابهم، وأقبلوا على لذاتهم، واستمعوا لأولئك المغنيات الروميات اللاتي كن يفتنهم بالصوت واللحظ، وبغير الصوت واللحظ من أسباب الفتنة وألوان الإغراء، أقبل الخمار الرومي معهم على هذا كله، لا إقبال التاجر الذي يغري بتجارته ويرغب فيها، بل إقبال المخلص في حب اللهو، المسرف في إيثار اللذة، المتهالك على أن يأخذ نصيبه من الدنيا قبل أن يدفعه الموت إلى تلك الطريق التي يعرف أولها ثم يجهل من أمرها بعد ذلك كل شيء.
وكانت الكلفة قد ارتفعت بين هذا الرومي وبين زواره من فتيان قريش هؤلاء، فكانوا يشربون ويطربون، ويؤدون إليه ثمن لذاتهم إن حضرهم المال، فإذا لم يحضرهم لم يجدوا بذلك بأسا، ولم يمنعهم ضيق ذات أيديهم أن يمضوا فيما يحبون من عبث ولهو. ولم يظهر لهم صديقهم الرومي تجهما ولا تلكؤا، ولم يبطئ عليهم في شيء مما كانوا يريدون، لا لأنه كان واثقا بأن حقوقه ستؤدى إليه كاملة فحسب، بل لأنه كان قد أحب هؤلاء الفتيان وأنس إليهم. ولولا بقية من أصله الرومي كانت تضبط أموره وترده إلى الصواب والحزم، لاندفع مع هذا الحب إلى غير حد، ولألغى بينه وبين هؤلاء الفتيان من أشراف قريش كل حساب.
فلما أقبلوا عليه من ليلتهم تلك لم ينشط لما كانوا ينشطون له، ولم يلقهم بما تعودوا أن يلقاهم به من البشر وطلاقة الوجه، وإنما استقبلهم في شيء من الفتور لم يلبثوا أن أحسوه وشعروا به، ولكنهم لم يظهروا مما أحسوا شيئا. وخلى الرومي بينهم وبين ما أحبوا من شراب ولذة، ومن مجون وعبث، واندفعت المغنيات الثلاث يرددن عليهم أصواتهن الغريبة العذبة، ويوقعن لهم ألحانهن الشجية الحلوة. وجعلوا يسمعون ويعجبون، ويفتنون ولا يفهمون، وجعلوا يستعينون على هذا كله بالإغراق في الشراب، والاستباق إلى الإكثار منه، مسرفين في المزاح، متهالكين على الدعابة، يقول بعضهم لبعض: لن يتأخر قدوم العير بما تقدم إليها الخمار في أن تحمل إليه من نبيذ الشام وفلسطين، فلا ينبغي أن ننصرف عنه الليلة حتى نستنفد ما عنده من نبيذ قديم. وكانوا يلمحون له بدعابتهم، ويلحون عليه بمزاحهم، ويحرضونه على مشاركتهم، فلا يجدون منه إصغاء إليهم ولا انتباها لهم، فيمضون في أمرهم متكلفين أن يلقوا إعراضا بإعراض، وجفاء بجفاء. ولكنهم لا يلبثون أن يحسوا كأن شيئا ينقصهم، وكأن اللهو لا يستقيم لهم، وكأن نفوسهم لا تستجيب لهذه اللذات التي تدعوها فتلح في الدعاء. ولا يشكون في أن انقباض هذا الرجل الرومي عما ينبسطون له هو مصدر ما يجدون من حرج وضيق، ومبعث هذا الفتور الذي أخذ يسعى إليهم شيئا فشيئا، فيلهيهم عن الألحان وأصوات الغناء، ويكاد يصرفهم عما بين أيديهم من هذه الأقداح التي لم تتعود الانتظار.
هنالك يقبلون على صديقهم الرومي لائمين أول الأمر، ثم ملحين في اللوم. فإذا لم يجدوا منه عناية بهم أو استماعا لهم رقوا له ورفقوا به، وتحولوا إليه عن شرابهم وغنائهم، وجعلوا يسألونه سؤال الصديق عما عرض له من أمر، وما نزل به من خطب، وما ألم به من مكره. ويبلغ رفقهم هذا الحلو قلب الرومي فيتأثر به ويلين له، ويتصل بين هؤلاء الفتيان من أشراف قريش وسادتها وبين هذا الخمار الرومي حديث غريب لا ينقضي إلا وقد كاد الليل ينجلي عما كان قد غمر من الأودية والبطاح.
2
قال الخمار الرومي لأصدقائه من شباب قريش: «عزيز علي أن ألقاكم بما لقيتكم به من الفتور، وقد عودتكم أن أكون لكم مكرما، وبكم حفيا. وعزيز علي أن أقصر عما تقدمون عليه من هذه اللذات التي كنت أسابقكم إليها فأسبقكم، وأنازعكم الاستمتاع بها فأكون أوفركم منه حظا وأعظمكم منه نصيبا. وعزيز علي أن يعديكم هذا الفتور ويبلغكم هذا القصور، فتصدون عما تحبون، وتصرفون عما تألفون. ولكن ثقوا أني لم أقدم على ذلك راغبا فيه، وإنما دفعت إليه مكرها عليه.»
قال صفوان بن أمية: «فإنا ما نشك في أنك لم تلقنا بهذا الإعراض والفتور إلا وقد عرض لك من الأمر ما اضطرك إلى ذلك. وقد عودناك أن نفضي إليك بأسرارنا وجلية أمورنا، لا نخفي عليك منها شيئا. فأفض إلينا بدخيلة نفسك وجلية أمرك! فلعلنا أن نكون عند ما تحب من المعونة لك والترفيه عليك.»
ناپیژندل شوی مخ