وأتهم نفسي بشيء من اضطراب العقل وذهاب اللب، فأكتم أمري، ولا أظهر أحدا عليه. حتى إذا كان الغد لاحظت محمدا كما لاحظته أمس، فإذا هو كعهدي به أعظمنا قوة، وأشدنا نشاطا، لا يظهر عليه جهد ولا أين. وأنتظر مقدم الهاجرة وارتفاع الظهيرة، فما نكاد نعود إلى مثل ما كنا فيه من الإذعان الأليم لهذا القيظ المحرق، حتى أرى ابن عمك كما رأيته أمس يسعى به بعيره بين هذين الشخصين اللذين كانا يظللان عليه. وما أطيق لهذا الأمر احتمالا، وما أستطيع عليه صبرا، فأتحدث به إلى من حولي وألفتهم إلى ابن عمك، فينظرون إليه، ثم يضحكون مني، ثم يقولون: لقد عبثت بك شياطين الصحراء، ومع ذلك فليس هذا أول عهدك بالطريق. فإذا لفتهم إلى نشاط محمد وإشراق وجهه، وهدوء نفسه وجسمه، وإلى ثغره الباسم وجبينه الواضح، نظروا إليه فملئوا عيونهم منه، ثم قالوا: إنه الأمين، وإن أمر الأمين ليدعو إلى العجب، ويملأ القلوب له إعظاما وإكبارا. وأغرب الأمر يا مولاتي أني كنت أرى ذلك ولا أستطيع أن أسأل محمدا عنه أو أتحدث إليه فيه. وكثيرا ما هممت بذلك فحثثت مطيتي حتى دنوت منه، ولكني أحس لساني ينعقد كلما حاولت أن ألقي عليه سؤالا، أو أسوق إليه حديثا.
ولم يكن هذا شأني وحدي، وإنما كان شأن الذين رافقونا في هذه الرحلة؛ فقد كانوا يسمعون لي ويعرضون عني ضاحكين حينا، باسمين حينا آخر. ويتحدث به بعضهم إلى بعض يسخرون مني، ولم يخطر لواحد منهم، أو لم يستطع واحد منهم أن يسعى ببعض هذا الحديث إلى محمد فيسأله عنه أو يحاوره فيه. وما أقل ما كنا نتحدث إلى محمد في أي شيء من الأشياء! فقد كانت قلوبنا تمتلئ هيبة له حتى ما ترتفع إليه أبصارنا وما ترقى إليه أصواتنا، إلا أن يبدأنا هو بالنظر والحديث فنجيبه، وإن أصواتنا وأبصارنا لتمتلئ حبا له وعطفا عليه.
وكذلك أنفقنا أيام الرحلة إلى الشام، ما ارتفعت الظهيرة قط إلا رأيت هذين الشخصين الغريبين يسايران ابن عمك في الهواء حافين به، مظللين عليه، حتى إذا بلغنا بصرى أو أردنا أن نعرض تجارتنا في سوقها، سألت محمدا أن يأذن لي في أن أزور راهبا تقوم صومعته غير بعيدة من السوق. وكنت قد تعودت ألا آتى بصرى إلا ألممت به قبل أن أعرض تجارتي! لأني أجد من قلبي إليه ميلا، وأنتظر من زيارته بركة وخيرا، وأنا رجل نصراني كما تعلمين يا سيدتي، أحب الرهبان، وأكبر الأحبار. فيأذن لي محمد في أن ألم بصومعة صاحبي، وينتظرني في ظل شجرة قريبة من الصومعة. وما أخفي عليك يا مولاتي أني كنت أريد أن أسأل «نسطور» الحبر عما رأيت من أمر محمد هذا! فقد كنت أخشى على نفسي الجنون، وأخاف أن يكون قد مستها طائف من الشيطان. وكنت أريد أن أستعين ببركة هذا الشيخ على البراءة من هذه العلة الطارئة والمحنة العارضة. ولكني لا ألبث أن أستبشر ويمتلئ قلبي غبطة وحبورا. فما أكاد ألقى «نسطور» وأبدؤه بالتحية حتى يسألني عن صاحبي هذا الذي جلس في ظل تلك الشجرة: من هو؟ فما أكاد أذكر اسمه حتى يسألني: أفي عينيه حمرة لا تفارقها؟ فما أكاد أجيبه أن نعم، حتى ينظر إلي مشرق الوجه ويقول لي مبتهجا لا يكاد يملك نفسه من الفرح: إنه لنبي هذه الأمة؛ فما جلس قط تحت هذه الشجرة إلا نبي.
ومهما أكن ساذجا، ومهما أكن قليل العلم، فإن حديث «نسطور» لم يملك علي نفسي ولم يقنعني! فأنا أسأله ضاحكا: ما علمك بذلك؟ شجرة قائمة منذ عهد قريب أو بعيد قد امتدت غصونها، فأظلت جانبا من الأرض. فما أكثر الذين يأوون إليها، ويستظلون بها إذا اشتدت حرارة الشمس!
قال «نسطور» باسما وقد وضع يده على كتفي: «أتذكر أنك رأيت هذه الشجرة عام أول؟»
قلت: «ما أدري، وما أكثر ما رأيت من الشجر، وما أنا بقادر على أن أحصي منها كل ما رأيت.»
قال «نسطور»: «أتذكر أنك رأيتها حين أقبلت على بصرى مع الصباح؟»
قلت: «ما أدري! ولكني رأيتها حين أوى إليها سيدي.»
قال «نسطور»: «فإذا انطلقت مع سيدك إلى السوق لتعرضا تجارتكما، فتخلف عنه وعد إلى مكان هذه الشجرة؛ فإن رأيتها حيث تراها الآن فاعلم أني لم أصدقك الحديث، وإن لم ترها فهذا تأويل ما قلت لك.»
ثم اتسعت ابتسامة «نسطور» على ثغره، وقال: «ومع ذلك فما لك لا تسأل رفاقك من أصحاب العير على هذه الشجرة! فما رآها منهم أحد، وما يراها الآن منهم أحد.»
ناپیژندل شوی مخ