قال ميسرة وقد أطرق مستحييا كأنه يجمع آراءه ويستحضر خواطره، ثم رفع رأسه فأظهر لمولاته وجها يبعث الضحك والإشفاق معا! لكثرة ما يظهر عليه من إجهاد النفس وتعنية الضمير: «الآن قد عرفت!» ثم أخذ يتحدث إلى مولاته في بطء كأنه يرى حقائق ما يقص على سيدته من الأنباء، قال ميسرة: «كان بدء ذلك يا مولاتي في أول ليلة قضيناها بعد أن فصلت العير من مكة. فقد استقبلنا الليل فرحين مبتهجين، لم يفارقنا النشاط، ولم تدن منا شياطين السأم والملل. ولعلنا لم نكن نحب هذا الليل الذي وقفنا تقدمه عن السير، واضطرنا إلى النزول لنأخذ بحظ من راحة وهجوع. ولعلنا كنا نتعجل انقضاءه، ونتمنى أن يسفر لنا الصبح لنستأنف الرحيل. وقد كنا نقول لأنفسنا وكان بعضنا يقول لبعض: لننتفع بهذا النشاط الذي نجده في أول الرحلة، فلن نمضي أياما قليلة ولن نمعن في السفر حتى يسعى إلينا الملال، ويأخذ فينا الكلال، وحتى نتلفت إلى وراء أكثر مما ننظر إلى أمام. ولكنا أذعنا لحكم الليل، ونزلنا عن رواحلنا، وجعل كل منا يهيئ لنفسه مضجعا يأوي إليه. وما هي إلا ساعة حتى هدأ القوم، وخفت الصوت، وسكن كل شيء، وما كنا نرى إلا ضوء القمر هذا الذي كان يغمرنا رفيقا رقيقا. وما كنا نسمع إلا أطيط الإبل، وأزيز هذه الحشرات المنبثة على سفوح الجبال من حولنا.
وأسهر أنا على محمد كما أوصيتني، فأهيئ له مضجعه، وأسعى إليه مرة ومرة، لأدعوه إلى الراحة وأحرضه على النوم، ولكني أراه جالسا مكانه لا يريم ولا يتحول، وقد رفع وجهه إلى السماء، وأغرق في صمت متصل كأنما كان يفكر في أمر عظيم، أو يدبر في نفسه شئونا ذات بال. وكنت كلما دنوت منه ورأيته على هذه الحال لم أجرؤ على أن أحدثه أو أقطع عليه صمته وتفكيره. فلما طال به مجلسه، وتكرر مني السعي إليه، لم أجد بدا من أن أتكلف شيئا من الجهد فأسأله: أليس في حاجة إلى أن يستريح؟! ولكنه يجيبني في رفق أنه سيلتمس الراحة متى أحس الحاجة إليها، وأني أستطيع أن أشغل بنفسي عنه الآن! فأنصرف عنه وأحاول النوم دون أن تطمئن نفسي إلى الإغراق في النوم.»
ثم يسكت ميسرة لحظة، ثم يستأنف الحديث وقد ظهرت على وجهه آيات العجب والحيرة والإشفاق أن تظن به مولاته الظنون، فيقول: «ويخيل إلي يا مولاتي أني قد أخذت أسعى إلى النوم أو أخذ النوم يسعى إلي. وإني لفي هذه الحال الحلوة الغريبة التي لا يعرف صاحبها أنائم هو أم يقظان، وإذا أنا أرى كأني أسمع حوارا غريبا ما سمعت مثله قط، وما قدرت قط أني سأسمع مثله، وما كان ينبغي لي ولا أحد غيري أن يقدر ذلك أو يفكر فيه أو يخطره لنفسه على بال! فقد كان الحوار بين هذا القمر المضيء وهذه الأرض المظلمة الساكنة.»
ثم ينظر إلى مولاته فإذا هي تصغي إليه معنية بحديثه أشد العناية، لا يظهر على وجهها إنكار ولا سخرية. فيبتهج العبد بما يرى، ويجد في إصغاء مولاته إليه وعنايتها به مشجعا على الحديث، فيقول: «هذه أول مرة أقص فيها هذا النبأ فلا أسمع ضحكا ولا استهزاء، ولا أرى آيات السخرية وعلامات الإعراض. سمعت إذا هذا الحوار الغريب القصير يا مولاتي، فاستويت جالسا، ولم أذق النوم من ليلتي! لأن نفسي قد امتلأت عجبا لما سمعت، وإكبارا لهذا الحلم الشاذ.»
قالت خديجة: «وما ذاك؟ ماذا سمعت؟»
قال: «سمعت كأن القمر يقول للأرض: وددت لو استطعت أن أمهد له من أشعتي هذه المشرقة اللينة الرطبة وطاء وثيرا؛ فإني أخشى عليه أديمك الصلب ومسك الغليظ. وسمعت الأرض تجيب القمر قائلة: إن يكن أديمي صلبا ومسي غليظا، فإني أعرف كيف ألين له وأرفق به، وهو سيد من مشى علي منذ كنت. ولكن قل لأختك الشمس ترفق به إذا كانت الظهيرة ورمت أشعتها باللهيب. وأسمع صوتا ثالثا يقول: لا عليكما! فإن الذي آثره بالكرامة، وفضله على الخلق كله، خليق أن يحميه من كل شيء، ويعصمه من كل ضر، ويرد عنه الأذى مهما يكن مصدره.
وأستوي يا مولاتي جالسا، قد امتلأ قلبي رعبا وعجبا لما رأيت وما سمعت. ومن الحق أني لم أسمع ذكر محمد، ولكني لم أشك في أنه كان المعني بهذا الحوار. وإني - كما تعلمين - رجل ساذج جاهل ، لم أقرأ الكتب، ولم أسمع للعلماء! ولكني على ذلك أنكرت ما رأيت وما سمعت، وقدرت أن أمرك لي وإلحاحك علي في أن أعنى بابن عمك، وأن أهون عليه مشقة السفر، وأرد عنه عواديه وأذاته ما استطعت إلى ذلك سبيلا، هما اللذان شغلاني به، ووقفا تفكيري عليه.
فأقبلت على النوم وإني لأشفق عليه برد الليل وحر النهار في هذه الصحراء، ولم أحدث أحدا بما رأيت وما سمعت. وفيم أحدث الناس به وقد عرفت أصله ورددته إلى مصدره؟! ولكني أقوم الليل كله غير بعيد من ابن عمك هذا الذي لا يبرح مجلسه ولا يتحول عنه، ولا يذوق من النوم إلا إغفاءة لا تطول. فلما أسفر الصبح استأنفنا الرحيل، وإذا ابن عمك أعظمنا قوة، وأشدنا نشاطا، لا يظهر عليه جهد السفر، ولا مشقة هذا السهر المتصل.
ونمضي في طريقنا تندفع بنا الإبل هادئة سريعة، ونشغل أنفسنا بالحديث عما تركنا وراءنا، وعما نحن مقبلون عليه، وقد ارتفع الضحى، وزالت الشمس، وكانت الهاجرة، واشتد الحر، وخمدت له النفوس، وخفتت له الأصوات، وسكن له من حولنا كل شيء، وأنا مشفق على ابن عمك من هذه الهاجرة، أفكر في أن أسعى إليه وفي أن أحتال، لعلي أظله فأقيه بعض هذا الحر، فأحث بعيري حتى أدنو منه، ولا أكاد أنظر إليه حتى يكاد يصعقني العجب لروعة ما رأيت! فقد رأيت ابن عمك يسعى به بعيره، وإن عن يمينه وشماله لشخصين ما أتبينهما وما أحقق صورتهما، ولكنهما يظللان عليه وهو باسم الثغر، مشرق الوجه، وضاء الجبين، لا يظهر عليه جهد ولا تبدو عليه آية ملال أو كلال، إنما هو هادئ مطمئن مغرق في الصمت والتفكير.
وما قضيت العجب يا سيدتي مما رأيت، ولكني جعلت أنظر وأنظر، ثم أسأل من حولي من الناس: ألا ترون محمدا؟ فيقولون: بلى! إنا لنراه وما نرى بأسا. فأقول: أما ترون حوله شيئا؟ فيقولون: كلا! ما نرى حوله شيئا. فأقول: أما ترون إليه لا يظهر عليه جهد ولا أين؟ فيقولون: حديث عهد بالرحلة، مكتمل القوة ، موفور النشاط، وسيبلغ منه الجهد والأين بعد حين، ولكني أدنو منه فأسأله: ألا يجد جهدا؟ ألا يحس مشقة؟ ألا يحتاج إلى شيء؟ ولكنه يجيبني في هدوء ورفق بأنه على خير ما يحب. وما أزال أنظر إليه وإلى هذين الشخصين يظللان عليه، وما أشك في أني أراهما وحدي، ولا يراهما أحد غيري. وما أدري أكان محمد يحس مكانهما منه وعنايتهما به، أم كان عن ذلك منصرفا مشغولا. حتى إذا خفت حرارة الشمس وأقبل نسيم الأصيل، نظرت إلى محمد فإذا هو يسعى به بعيره كغيره من الناس لا يحف به هذا الشخصان اللذان كنت أراهما منذ حين، وهو كعهدي به باسم الثغر، مشرق الوجه، مطمئن، مغرق في الصمت والتفكير.
ناپیژندل شوی مخ