قال الرجل: بلى، وأنا يونس نفسه يا سيدتي، فهل بك من حاجة إلي؟
قالت: نعم يا بني، فهل لي أن أطلب عندك شرابا دافئا ... ومأوى؟
ماذا تقول هذه المرأة ليونس؟ «يا بني!» إنها لتبدو أصغر سنا مما تظن بنفسها ويظن، ولعلها لم تبلغ الأربعين بعد، وإن كانت في ثياب العجائز وشحوب الموتى!
هكذا قال يونس لنفسه وهو يستمع إليها.
تريد شرابا دافئا ومأوى! أين؟! أما الشراب الدافئ فإن عنده الماء والنار والحطب، ولكن لا مأوى عنده!
ترى ماذا جاء بهذه المرأة تحت الليل إلى خان يونس، وما لها على هذا الطريق تجارة ولا سفارة؟! من أين جاءت؟ وما شأنها؟ إن في وجهها من أمارات الجهد والنصب ما ينبئ أنها قطعت إليه طريقا شاقة بعيدة، وفي عينيها من فتور الإعياء والسهر ما يكشف عن بعض ما في نفسها من الهم والضنى!
وأشفق يونس الرومي على المرأة ولم يعلم بعد من حالها غير ما حدثته به عيناها، وما قرأ في جبينها من سطور الكآبة والألم، فكيف لو عرف جملة خبرها ... هذه الأيم الحزينة الثكلى، لم تزل على سفر منذ إحدى عشرة سنة تتقاذفها البلاد، تلتمس مطلوبا عزيزا لقاؤه.
وقادها يونس إلى الغرفة التي هيأها لنفسه، وأعد لها طعاما وشرابا، وتخلى لها عن فراشه ليقضي ليلته على أريكة في بهو الخان، ليس له ما يستدفئ به إلا ثيابه!
ثم أشرق الصبح، فجلست المرأة إلى يونس الرومي تحدثه بقصتها وتستعينه على أمرها: رعاك الله يا سيدي وأضعف لك الأجر على إحسانك، إنني امرأة من أرض الغور في بلاد الكرج، اسمي نوركلدي، كان لي زوج هو كل أسرتي وأهلي، فمضى إلى حيث لا أدري وخلفني، ولطف الله بي في وحدتي وأحزاني، فوهب لي طفلا كان هو كل عزائي من أبيه الذي مضى. وكبر الطفل فصار غلاما يخطو إلى الشباب، فلما صار ملء عيني ونفسي، فقدته كما فقدت أباه من قبله، خطفه نخاس من خوارزم وذهب به، ومضيت في أثره منذ ذلك اليوم، أجوب المدائن، وأطأ بلادا لم تطأها أقدام أحد من أهلي، حتى قادني الرائد إلى خانك ... إنني على الطريق إليك منذ إحدى عشرة سنة؛ لتدلني على الطريق إلى أبي الريحان الخوارزمي فأعرف منه أين ولدي! إنك تعرف أبا الريحان يا يونس؛ لأنه من نزلاء خانك غاديا على بلاد المشرق، أو رائحا إلى الشام ومصر، فبالله عليك يا سيدي إلا ما دللتني عليه!
قال يونس في صوت خافت كأنما يناجي نفسه في خلوته: أبو الريحان الخوارزمي! ويل لذلك الفظ الغليظ القلب! نخاس! لم تخب فيه فراستي منذ عرفته!
ناپیژندل شوی مخ