149

عبر طومان باي النيل إلى الجيزة، وأنفذ الرسل إلى أصحابه يؤذنهم بمكانه، فلم يلبث أن انضم إليه جيش جديد من المصريين والأعراب وفلول المماليك، فأقام في مضارب هوارة بالصعيد يعد عدته لغزو القاهرة واسترداد عرشه وحرية وطنه، وتلبث زمانا والمتطوعون ينسلون إليه من كل حدب، وكان قايت الرجبي كبير أمناء الغوري لم يزل حبيسا في برج الإسكندرية، فحطم أغلاله وخف لنصرته في الصعيد، وفك الظاهر قنصوه أغلاله كذلك وهم أن يلحق به، لولا أن مملوكا من أتباع خاير بك قد اغتاله قبل أن يبلغ حيث أراد ...

واجتمع لطومان باي في الصعيد جيش من المتطوعة كلهم صاحب عزم وقوة، قد تحالفوا على الموت أو يطردوا العدو من أرض الوطن ويردوا الأشرف طومان باي إلى عرشه.

وترادفت الأنباء على القاهرة بما تهيأ له من أسباب الحرب، وبما اجتمع له من العتاد والجند، وكان في القاهرة يومئذ بضعة نفر يشغلهم من أمر طومان باي أكثر مما يشغله من أمر نفسه، أولئك نوركلدي وأرقم الرمال، وزوجته الشابة شهددار بنت أقبردي، ثم مصرباي الجركسية وخاير بن ملباي!

خمسة قد ذهب الفكر بهم مذاهبه، أما أمه وأبوه فجالسان ينتظران، لا يشكان أنه سيعود إلى القاهرة يوما، فيطرد العدو إلى البادية أو إلى البحر، ويسترد عرشه وحرية وطنه، ويلقاهما كما لقي يوسف أبويه على العرش!

وأما شهددار بنت أقبردي فكانت فخورا بما تسمع من أنبائه، لا تشك أنه سيحارب حتى ينتصر أو يموت، وحسبها من السعادة أن تستيقن أن زوجها لن يرضى الدنية فيخلع لأمته أو يضع سيفه دون أن يبلغ إحدى الحسنيين، وأي عجب في أن يكون ذلك هو كل ما تفكر فيه شهددار، وهي بنت أقبردي الذي قضى حياته مكافحا حتى مات وسيفه في يده!

على أن لحظات ثقيلة كانت تمر بها حين تنظر في عيني طفلتها الظريفة نوركلدي، وحين تسمع هتافها باسم أبيها الذي لم تره منذ بعيد، فتأسى ويجثم على صدرها الهم، ثم لا تلبث أن تذكر ماضيها وماضي طومان، وما اعترض سبيلهما من عقبات قبل أن يلتقيا، فتردها الذكرى إلى الأمل في لقياه.

وأما مصرباي وخاير بك فآه مما كان يحيك في صدريهما!

إن مصرباي اليوم لأرملة قد مات زوجها الظاهر قنصوه بعد سبعة عشر عاما في الأسر، وإنها لتطمع أن تعود إلى العرش سلطانة، وأن يصعد خاير بك إلى العرش سلطانا في ظل راية ابن عثمان ... فهل تظل راية ابن عثمان مرفوعة على قلعة الجبل تلقي ظلها على القاهرة، أو ينتزعها من ساريتها طومان باي ليرفع الراية المصرية؟!

وأما القاهرة كلها فكانت على يقين واحد بأن طومان باي سيعود، وسيصعد ثانية إلى العرش الذي لم يصعد إليه سلطان أحب إلى الشعب منه، أفتصبر القاهرة على عسف السلاطين هذه السنين المتطاولة، حتى إذا جاءها السلطان الذي تحبه وتفتديه وتأمل الخير على يديه، لم يتهيأ له أن يجلس على العرش إلا بضعة أشهر ثم تفقده مصر؟! إن المقادير لا يمكن أن تبلغ من القسوة هذه الغاية، فلا بد أن ينتصر طومان باي، وأن يعود إلى عرشه، وأن يرتد هؤلاء الروم على أعقابهم منهزمين، كما ارتد المغول والتتر والصليبيون، وكما ارتد بايزيد العثماني - أبو السلطان سليم نفسه - أمام جيوش الأشرف قايتباي!

قال السلطان سليم لوزرائه: إني والله لأخشى عاقبة هذه الحرب، فقد انقطع ما بيني وبين بلادي، ولا يزال صاحب هذه البلاد يعد العدة ويثير الناس لحربنا في الجنوب والشمال، وإنه لذو حول وحيلة، والرأي عندي أن نهادنه فنعود إلى بلادنا قبل أن تدهمها خيل الصفوية!

ناپیژندل شوی مخ