قال الأعرابي وقد تهيأ للانصراف: قد يكون ذلك لو أن السلاطين لم يضربوا الذلة على هذا الشعب حتى ماتت فضائله وغلبه اليأس، فليس يشق عليه أن تكون الدائرة عليه وعلى أعدائه في وقت معا!
وتواترت الأنباء باقتراب العدو، ولا يزال الأمراء مختلفين قد فرقت بينهم المطامع، ولا يزال المماليك غاضبين يريدون أن يضاعف السلطان لهم الرزق، والسلطان الشاب يحمل وحده عبء التدبير ويرسم خطة الدفاع.
ودنا جيش السلطان سليم من بلبيس، وهم أن يخرج السلطان للقائه فثبطه أمراؤه، وأمر أن تحفر الخنادق في طريقه عند الخانكاه فلم يجد من يطيع أمره، وأشار بأن تحرق مخازن المؤن في شمال المطرية قبل أن يستولي عليها العدو، فلم يسمع مشورته أحد ...
وصار جيش الروم على مسيرة أيام من القاهرة وسبقه غباره، فقال السلطان طومان باي لأمراء جنده: هذه آخرتي وآخرتكم قد حانت، فإما خرجتم للدفاع عن أعراضكم وذراريكم وأموالكم، وإما خرجت وحدي للقاء العدو!
ثم لبس لأمته ورفع لواءه وبرز للناس في عدة حربه، فأثار نخوة الأمراء وحمية الجند وحماسة المصريين، فنسلوا إليه من كل حدب، ورفع الأمراء راياتهم وكتبوا كتائبهم، وكأنما لم يدركوا واجبهم إلا حين أحسوا ريح الموت ، فخرجوا دفاعا عن أنفسهم لا عن العرش ولا عن الوطن!
واحتشد الجند أفواجا أفواجا وكتيبة إثر كتيبة، وكانوا مستطيعين أن يحتشدوا كذلك منذ أسابيع، وأخرجت المكاحل والمدافع واصطف رماة البندق، واستكمل الجيش عدته وعدده في اللحظة الأخيرة وقبل أن يفوت الأوان، وارتجت القاهرة لعظم ما رأت من وسائل الدفاع وكثرة ما شهدت من الجند والعتاد، وتجاوبت الزغاريد من طاق إلى طاق ...
وعسكر الجيش في الريدانية شمال القاهرة متأهبا للقاء العدو، وشق موكب السلطان المدينة من جنوبها إلى الشمال، فاجتاز باب زويلة، ومر على قبة الغوري، واخترق سوق مرجوش، وكان في شرفة وراء الستارة في بيت من البيوت عينان ترقبان موكب السلطان، ولكنهما لم تريا شيئا مما غام عليهما من الدمع، ومضى ركب السلطان في طريقه.
وخرجت على إثر الموكب عجوز من دارها مهرولة تريد أن تدرك موكب السلطان وهي تهتف بصوت عميق النبر: «ولدي! ولدي!» وتدافعها زحام الطريق فردها على وجهها قبل أن ترى السلطان أو تسمعه نداءها، وحملتها الأكف مغميا عليها إلى دارها في سوق مرجوش، ولم تزل شفتاها تتحركان في همس خافت: «ولدي! ولدي!»
وقال لها أرقم وقد ثابت إليها نفسها: صبرا يا نوركلدي، فسترينه ويراك يوم يعود مظفرا من هذه الحرب، إن طومان باي لذو همة وعزم، وسترين ما سيكون من بلائه في حرب الروم حتى يردهم على أعقابهم منهزمين، ويومئذ تلقينه على العرش فتسعدين به وتقر عينك.
قالت وهي تغالب انفعالها: يا ليت يا سيدي يا ليت! ويومئذ أنبئه أول ما أنبئه بما لقيت من كرم صحبة أرقم الرمال!
ناپیژندل شوی مخ