هكذا اضطررت إلى الانضمام إلى القافلة وقلبي يتمزق، وما زال يتمزق حتى الساعة. وما زال الشك ينخر في إيماني رغم قول مولاي الحكيم، فأحيانا أصلي للإله وأحيانا أضرب عن الصلاة. ولما بلغني نبأ وفاته تجددت أحزاني، وبكيت حتى صفيت ماء عيني. وقد حدثني قلبي بأنه لم يمت، ولكنهم قتلوه بالسحر أو بوسيلة غادرة. وها أنا أعيش بلا هدف أو سرور في انتظار الموت مثل مدينتي الرائعة الواقعة تحت رحمة الكهنة والزمن.
تادوخيبا
هي في الأصل ابنة توشراتا ملك ميتاني أصدق صديق للعرش المصري. تزوج منها أمنحتب الثالث في أيامه الأخيرة، وهو في الستين وهي في الخامسة عشرة، ثم ورثها إخناتون ضمن حريم أبيه عند اعتلائه العرش. وهي تعيش اليوم في قصر بشمال طيبة مع ثلاثمائة من العبيد. وقد استقبلتني بناء على توصية من حور محب. في الحلقة الرابعة ذات جمال مثير وكبرياء وعظمة، ولقيتها في حجرة فاخرة وهي تجلس على كرسي من الأبنوس المطعم بالذهب. شجعتني بابتسامة وراحت تروي قصتها قائلة: عاشرت الملك أمنحتب الثالث فترة قصيرة، في جو مشحون بالغيرة والحقد. وعجبت للملكة العظمى تيى، كيف تبوأت مركزها الرفيع، على حين يوجد عشرات مثلها ممن يقمن بالخدمة في حريم أبي الملك العظيم توشراتا. وعجبت أكثر لمنظر ولي العهد الذي كنت أراه في الحديقة، أي مخلوق هزيل قبيح يثير الاحتقار أكثر مما يثير العطف. وساءت صحة الملك الأب، فاتهمني الحاقدون بأنني المسئولة عن ذلك، والحق أني قرأت النهاية القريبة في صفحة وجهه المتغضن منذ الليلة الأولى، ورحت أفكر؛ هل يرثني قريبا ذاك الصبي الحقير؟! وقلت لنفسي إن الحياة مع أبيه العجوز أفضل؛ فهو عظيم ومرح وذو حيوية تناقض سنه وصحته. وكثيرا ما كان الحديث يدور حول ولي العهد في الحريم، فنتندر بولعه بالفنون النسائية كالرسم والغناء، وعدم لياقته الواضحة للعرش، وزهده المريب في النساء. ووافتنا أخباره عن هوسه الديني وما يحدثه ذلك من متاعب لوالديه، وما أثاره بين الكهنة من قلق ومخاوف. وكانت الأخبار تطوف بنا دون أن تنغرز في وجداننا؛ فهموم النساء اليومية تغطي على شئون الدولة، إلا موت الملك الذي هز الأعماق، وفرض علينا طقوسا لا طاقة لنا بها. واعتلى المخلوق الحقير العرش هو ونفرتيتي التي تزوجها في حياة أبيه، وآل إليه حريم أبيه. وأسبغ علينا رعايته كأننا حيوانات مستأنسة، ولكنه لم يقترب منا حتى شاع بين النساء الآتيات من شتى الأمم الانحلال والشذوذ. وتساءلت امرأة: لماذا لا يهتم بنا ويكف عن معاركه الدينية الوبيلة؟
فأجابتها أخرى: لو كان يستطيع ما شغل نفسه بذاك الهراء ...
ومع ذلك فقد دبت الغيرة في قلب نفرتيتي، فقررت أن تزور الحريم للتحية والتعارف. وخمنت كل امرأة الباعث الحقيقي وراء الزيارة، وهو أن تراني أنا عن قرب؛ وذلك لما ذاع في القصر عن جمالي وشبابي. كنت الوحيدة التي تماثلها في العمر، وتنافسها في الجمال، وتتفوق عليها في الأصل؛ إذ إنني كريمة ملك على حين أنها ابنة رجل من الشعب يدعى آي، كان أول من أعلن إيمانه بالدين الجديد أمام الملك، وأول من بادر إلى الانضمام إلى أعدائه عندما آذنت شمسه بالغروب. جاءتنا الملكة الجديدة بين صفين من الجواري، وحيتنا امرأة امرأة تبعا لأقدميتنا في الحريم، وعندما جاء دوري - وكان الأخير - ثقبتني بنظرة مستطلعة، فمثلت أمامها في أدب وتحد معا، حتى تجلى الركود في ماء وجهها؛ من أجل ذلك حنقت على الملكة الوالدة تيى عندما نبهت ابنها الملك الهزيل إلى «واجبه» نحو حريمه، وخاصة تادوخيبا ابنة الملك الصديق توشراتا.
لم تغفر لها تدخلها، واشتعلت غضبا حينما أذعن الملك لإرادة أمه المحبوبة فقرر زيارتي. وكما تقضي التقاليد انتظرته في حجرتي فوق سريري المطعم بالذهب، عارية تماما، غير مخفية حسنا من محاسني. وأقبل شبه عار إلا من وزرة قصيرة تطوق وسطه، فجلس على طرف السرير باسما في رقة مجللا بهدوء غير طبيعي، وهمس متسائلا: أيسعدك أن تنجبي لي وليدا؟
فقلت وأنا أغالب تقززي: إنه الواجب يا مولاي!
فحارت في عينيه نظرة بائسة وهمس: إني أبحث عن الحب؛ فهو واجبي الأول والأخير.
فسألته بجرأة: وهل ترغب في عن حب يا مولاي؟
فربت ظهر يدي بعطف وقال: لا عليك!
ناپیژندل شوی مخ