قال: «إنه لم يعدنا إلا خداعا.» قال ذلك ومد يده فأخرج أنبوبة من الرصاص فتناولها علي ومشى إلى مصباح مضيء عند باب الدار، ونظر فرأى فيها صحيفة من جلد أخرجها وقرأ، فإذا كتاب من عثمان إلى عامله بمصر يأمره فيها بجلد زعماء المصريين الذين قدموا المدينة لمطالبته، وحبسهم وحلق لحاهم وصلب بعضهم، فبغت علي لذلك وتأمل الصحيفة فإذا في ذيلها خاتم عثمان وكان يختم كتبه بهذه العبارة: «لتصبرن أو لتندمن.» فتحقق أنه خاتمه فقال: «وما الذي أظفركم بهذا الكتاب؟»
قال: «برحنا المدينة أمس على ما وعدنا هذا الرجل من الإصلاح وصدعنا بأمرك، فلم نكد نخرج حتى لقينا غلام عثمان على بعير من إبل الصدقة، ففتشنا متاعه فوجدنا فيه هذه الأنبوبة وفيها هذه الصحيفة.»
فقال علي: «إنا لله وإنا إليه راجعون! ما بالنا لا نكاد نرتق فتقا حتى نرى غيره؟! ما الذي غير عثمان وحمله على هذا العمل؟!»
فقال محمد بن أبي بكر: «إنها فعال مروان بن الحكم ابن عمه، فقد كان غائبا في الشام ولم يأت المدينة إلا في غروب هذا اليوم، ونظنه هو الذي أغرى عثمان بذلك.»
فتأفف علي وقال: «تبا لهذا الشاب! إنه لا يدل إلا على الشر.»
فلما سمعت أسماء ذكر مروان عرفت أنه هو طالبها ورفيق سفرتها، فازدادت كرها له وقالت في نفسها: «قبحه الله! إنه لا يزال عثرة في طريقنا»، وأيقنت أن ذلك سيكون سببا في عدول علي عن المسير معها فخاطبت محمدا في الأمر، فقال: «لا تخف يا صاح، إننا منجدوك.» وخاطب عليا في ذلك فقال له: «إني أخاف إذا برحت المدينة في هذا الليل أن يقع ما نندم عليه. سر يا محمد مع هذا النزيل وافعل ما تراه وقم عني في كل خير يرجونه، ثم عد إلي بالخبر.»
فلم تعد تتجرأ أسماء على الإلحاح فقنعت بما وقع مخافة أن يقع ما هو شر منه، فالتفتت إلى فرسها فإذا بالغلام يقوده وراءها فتهيأت للركوب، وبعث محمد فاستقدم فرسه. وركب الاثنان ومحمد ينظر إليها وهي تركب لعله يرى بعض ثيابها تحت العباءة في أثناء الركوب، فلمح من ثوبها شيئا أحمر اللون يشبه ثياب النساء، ولكنه ما زال مستبعدا مثل هذه الجرأة من امرأة.
وسار الاثنان يلتمسان قباء لا يكلم أحدهما الآخر، ولكن محمدا كان شديد الميل إلى معرفة حقيقة رفيقه بعدما اشتبه فيه من أمره، فخرجا من المدينة والظلام حالك. وبعد هنيهة أشرفا على قباء، فلما أطلت أسماء على خيمة أمها عرفتها من النار المضيئة خارجها، فخفق قلبها مخافة أن يكون قد وقع في أثناء غيابها ما يوجب حزنا، فهمزت الجواد فطار بها حتى سبق جواد محمد بثباتها على متنه. ولم يدركا الخيمة حتى خرجت امرأة خادم الجامع لاستقبالهما، فترجلت أسماء عند باب الخيمة وترجل محمد، ثم دخلت وهي تحل عقالها وتنزع العباءة عن كتفيها ودنت من سرير أمها، فإذا هي قد أفاقت وفتحت عينيها ونظرت إلى أسماء بلهفة وعيناها تنظران إلى باب الخيمة كأنها كانت تتوقع دخول أحد، وقالت: «أين علي؟»
فخافت أسماء إذا أخبرتها الحقيقة أن تحدث لها حدثا فيزيد مرضها، فقالت لها: «إنه آت يا أماه.» واغرورقت عيناها بالدموع.
وذهب محمد في أثر أسماء يتفرس فيها على نور المصباح فلما نزعت عقالها رأى شعرها من الوراء طويلا مسترسلا، ثم نزعت العباءة فبان رداؤها الأرجواني اللامع وهو عبارة عن قفطان من الديباج عليه منطقة من جلد عريضة تعودت لبسها في السفر فتحقق أنها فتاة، فشعر بإعجاب غريب. ولم يبق بعد ذلك إلا أن ينظر إلى وجهها، فأسرع في أثرها حتى دنا من السرير فاعترضه منظر والدتها، وحالما وقع نظره عليها هاله نحولها وفرط سقمها وامتقاع لونها وشخوص عينيها، ولكنه التفت إلى أسماء فإذا فيها فضلا عن الجمال هيبة وجلال كأنما هي ملكة وجبار معا، فلم يتمالك عن الإعجاب بها والانعطاف إليها وأحس بإحساس غريب نحوها. •••
ناپیژندل شوی مخ