وكان القمر قد تكبد السماء وصفا الجو وظهر ما أمامها جليا واضحا كأنها تنظر إليه في رابعة النهار، وكانت لا تحتاج في بحثها عن محمد إلى إمعان نظر، فلو لمحت طرف ثوبه أو بعض عمامته عن بعد لعرفته لأن صورته نصب عينيها، ولكن الأثواب والعمائم تتشابه فلا تسل عن خفقان قلبها كلما رأت شبحا يشبهه. •••
وما زالت على تلك الحال حتى لاح الفجر وتبينت الوجوه فدارت بين القتلى تجدد البحث، فطلع الفجر وهي تجول وتتفرس فلم تر أثرا لمحمد فتحققت أنه لم يقتل في تلك المعركة. فلما سكن روعها أحست بالتعب والنعاس والجوع فالتفتت إلى ما حولها، فرأت بيوتا تكاد تتوارى لبعدها فعلمت أنها منازل أهل القرى، فاتجهت إليها تلتمس طعاما وعلفا لجوادها فوصلت إلى أحدها وحيت أهله. فرأت امرأة معها صبيان عراة يحومون حولها وهي تحلب لهم لبنا من نعجة، فلما رأى الصبيان أسماء قادمة على فرسها صاحوا بأمهم ففزعت وفزعوا جميعا، فتركوا النعجة ودخلوا الكوخ فنادتهم أسماء وطيبت خاطرهم فعادوا، فقالت لهم: «عندكم علف لهذا الجواد؟» قالوا «نعم» واعتذروا من خوفهم بأنهم قاسوا أهوالا كثيرة من المحاربين.
وأكرموا وفادة أسماء وجاءوها باللبن وللجواد بالعلف، والتمست حصيرا تتكئ عليه فنهض صاحب الدار فأخذ الفرس وشده إلى وتد، وجاء بحصير كان قد خبأه تحت فراشه أعواما حرصا عليه، فاتكأت أسماء على ذلك الحصير في ظل الكوخ ونامت نوما عميقا لم تفق منه إلا قبيل الغروب.
ولم تفتح عينيها حتى رأت رسولها الذي أنفذته بكتابها إلى محمد واقفا عند رأسها، فصاحت فيه: «أين كنت؟! وأين هو محمد؟!»
فعض على شفته وأشار بعينيه أن تسكت مخافة أن يسمعها أحد من أهل البيت، فنهضت ونفحت أهل الكوخ بما تيسر لها وسلمت الفرس إلى الرجل ومشت إلى جانبه، وسألته عما يعلمه عن محمد ومكانه وما الذي جاء به إلى ذلك المكان.
فقال: «أبشري يا مولاتي إن محمدا قد نجا من هذه الوقعة.»
فقالت: «وأين هو؟! وماذا تم له؟! أخبرني!»
قال: «إني فارقت محمدا منذ جئته بكتابك، وقد آنست فيه عطفا علي لا أدري سببه، وحيثما توجه سرت في ركابه إما راجلا أو راكبا. ولما كانت الوقعة منذ يومين في هذا السهل وقتل كنانة بن بشر قائد مقدمته، تفرق رجاله حتى أصبح وحيدا فألححت عليه أن يخرج من المعمعة خيرا من أن يقتل.»
فلما وصل الرسول إلى هذا الحد امتقع لون أسماء وشخصت ببصرها لسماع تتمة الحديث، فقال: «وأما هو فعزم على البقاء في ساحة القتال إلى الموت، ولكني ألححت عليه في الخروج فأطاعني، فمشينا حتى انتهينا إلى خربة جنب الطريق بالقرب من هذا الجبل (وأشار إلى المقطم) فأوينا إليها وقضينا يومين بلا طعام ولا ماء، فلما رأيت ظمأ سيدي استأذنته في الخروج لآتيه ببعض الماء والطعام، فأوصاني بأن أبحث عن كتابك فقد كان معه في أثناء المعركة وفقد منه.»
فقالت: «أما الكتاب فقد وجدته بل وجده هذا الجواد. وأين محمد الآن؟ هلم بنا إليه ومعنا الماء.»
ناپیژندل شوی مخ