أما جند مصر فلم تأتهم نجدة لتقاعد العراق عما دعاهم إليه علي، ولكنهم حاربوا حربا شديدة دافعوا فيها دفاع الأبطال، ونزل كنانة عن فرسه وما زال يقاتل حتى قتل. •••
سارت أسماء من الكوفة وكانت كلما تقدمت نحو مصر ازداد قلقها على محمد، وكانت قادمة وحدها على جوادها فاضطرها ذلك إلى المسير بجوار المدن استئناسا بالناس ومخافة العطش، فسارت على ضفاف الفرات ثم تحولت إلى الشام حتى وصلت إلى دمشق، فسمعت هناك بمسير حملة عمرو فسألت عما حدث بعد ذلك، فعلمت أنه بعث يستنجد معاوية وأن جيش مصر غالب فسرت، ولم تمكث في دمشق إلا ريثما استراحت وركبت تطوي الصحراء إلى مصر. ولما دنت من العريش وقيل لها إنها على حدود مصر، تذكرت ما قاله رئيس دير البصرة عن أمها وأنها ولدتها في مصر حيث عرفت يزيد هناك، فهاجت أحزانها ولكن تفكيرها في محمد شغلها عن كل ذلك.
ولما دخلت مصر مرت أولا بالفرما، وهي مدينة كانت فيما يجاور بورسعيد الآن، وما كادت تصل إليها حتى أخذت تسأل عن أمر الحرب بين محمد وعمرو، فأخبروها أن ابن العاص جاءته النجدة بعد أن كاد يفشل. ولحظت من خلال حديث القوم أنهم على دعوة عمرو وأنهم ميالون إلى معاوية، فانقبضت نفسها وخرجت من الفرما لا تلوي على شيء، وبحثت عن مكان القتال فقالوا إنه في ضواحي الفسطاط فجدت في السير. وكانت في كل سفرها لا تنام في الليل إلا قليلا حتى وصلت إلى بلبيس، فرأت أهلها في هرج ورأت جماعة من الناس يدخلونها وفيهم من ربط يده أو شد زنده أو عصب رأسه، فعلمت أنهم عائدون من القتال فاضطربت وسألت في ذلك فقالوا: «إن جنود الشام تكاثروا بمن انضم إليهم من أهل مصر الذين هم على دعوة عثمان وقد بايعوا معاوية وهو بعيد، وإن كنانة بن بشر قتل وتشتت جند مصر.» فسألت عن محمد فلم ينبئها بخبره مخبر، فاختلج قلبها في صدرها وقالت: «ومتى كان ذلك؟!» قالوا: «كانت الوقعة أول من أمس، وقد دخل عمرو الفسطاط.»
وكانت الشمس قد مالت إلى المغيب فلم تستطع صبرا، فركبت وقصدت إلى مكان الوقعة وعيناها تحدقان فيما أمامها لا تبالي ما يهددها من الخطر.
وسدل الليل نقابه فلم تعد تستطيع النظر إلى بعيد، وخافت أن تضل الطريق ففكرت في الأمر وهي سائرة الهوينى وقد تهيأت للدفاع بسلاحها إذا اعترضها عدو، فلما لبثت أن رأت القمر قد بزغ فتلقته بالترحيب وأحست عند رؤيته بانفراج الأزمة، ولكنها رأت بعضه ناقصا وهو قبيل ربعه الأخير، فخيل إليها لفرط انشغالها بأمر الحرب أنه خارج من المعمعة وقد شطب وجهه بالسيف.
ولما طلع القمر استنارت وجدت في السير تلتمس الفسطاط، وكانت لما خرجت من بلبيس ترى بعض المارة قادمين إليها أفرادا وأزواجا، ولكنها لم تكد تبعد عنها حتى خلت الطريق من الناس، فظنت نفسها سائرة في طريق لا تؤدي إلى الفسطاط، فوقفت وتبينت الجهات جيدا فرأت أنها أخطأت الجهة والتفتت فلم تر أمامها إلا صحراء قاحلة، فرجعت يمينا حتى أصبحت في أرض زراعية وسارت نحو الجنوب، والقمر إلى يسارها يعلو رويدا رويدا حتى أصبح يريها الأشباح عن بعد، ووادي النيل أرض منبسطة لا جبال فيها ولا أودية.
ومضى معظم الليل وهي جادة في سيرها حتى تعبت وجاعت وأحست بالبرد يقرسها، وهو شديد في مصر بعد منتصف الليل حتى في إبان الصيف. فترجلت ومشت لتدفأ، وقادت جوادها والجو هادئ والأرض خالية من الناس لا تسمع غير وقع حوافر جوادها وصهيله.
وبينما هي ماشية تفكر في شأنها إذ سمعت جوادها يصهل وقد أجفل، فالتفتت إلى ما أجفله فرأت شبحا منطرحا أرضا وشمت رائحة منتنة، فدنت من الشبح فإذا هو جثة قتيل جائفة فخفق قلبها وعلمت أنها على مقربة من مكان الوقعة، فتجلدت وقد شعرت منذ رأت تلك الجثة بارتعاش نسبته إلى البرد، وما هو في الحقيقة إلا نتيجة ما طرق ذهنها من التصورات المرعبة عن محمد.
ومشت والجواد وراءها والروائح تتعاظم، ثم رأت جوادها أجفل ثانية إجفالا عظيما من جيفة جواد وراءها جيف كثيرة تطايرت عنها الكواسر، وقد حلقت في الجو وصفقت في طيرانها تصفيقا زاد الفرس إجفالا، فارتبكت في أمرها. وهي تود البحث بين الجيف مخافة أن يكون محمد بينها والجواد يمنعها بإجفاله وصهيله، فعمدت إلى شجرة ربطته إليها وعادت وقلبها يخفق وركبتاها ترتعدان وعيناها تحدقان في تلك الساحة وفيها الجثث مبعثرة هنا وهناك، وبين القتلى من استلقى على ظهره وبسط ذراعيه كأنه يستقبل شيئا يستغيث به وقد جعله البلى جلدا على عظم وأكلت بعضه النسور، ومنهم من انبطح على بطنه وقد قبض بإحدى يديه على رمح وبالأخرى على التراب، ورأت هناك رءوسا مدحرجة وجثثا بلا رءوس تراكم بعضها فوق بعض.
وواصلت سيرها وهي تجر نفسها جرا بين تلك الجيف، وتحاذر أن تدوس على يد أو رجل أو رأس وقلبها يخفق خفقانا شديدا تكاد تسمعه، ولو تأتى لها أن تنظر إلى وجهها في مرآة لرأته أشد امتقاعا من تلك الجثث. وتعبت من التفرس في الوجوه والثياب وأثرت تلك الرائحة الكريهة في رأسها مع ما كانت فيه من التعب والجوع، فأصابها دوار وخافت أن تسقط فوق القتلى فتداركت نفسها وتنحت إلى الشجرة التي ربطت جوادها إليها، وجلست هناك وأسندت رأسها إلى جذعها تلتمس الراحة، ولكن أفكارها ظلت تائهة ولم تبرح صورة محمد مخيلتها. ولم تكد تلقي رأسها حتى غلب عليها النعاس فأغمضت جفنيها، فتمثل لها محمد مقتولا فارتعدت فرائصها ونهضت مذعورة. وبينما هي تنهض رأت الفرس يمد رأسه إلى الأرض فالتفتت فرأته لفظ شيئا مضغه بين أسنانه، فسمعت له صوتا كصوت القصبة إذا كسرت بين الأضراس، ثم ما لبثت أن رأت الفرس يلفظ تلك الهناة فلمحت فيها شيئا أبيض، فتناولته فإذا هو قصبة فيها رق فتبينته فإذا هو كتابها إلى محمد ما زال في قصبته كما أرسلته إليه. فهاجت شجونها وتحققت أن محمدا كان في الوقعة والقصبة معه فسقطت من ثيابه في أثناء القتال، وساءلت نفسها: «أين هو؟!» وكانت قد يئست من وجوده هناك، وفي ذلك اليأس فرج لأنها تحققت نجاته من تلك الوقعة، فلما وجدت كتابها خافت أن يكون محمد قد قتل هناك فعادت إلى الجثث تبحث فيها.
ناپیژندل شوی مخ