وظلت أسماء سائرة تلتمس دار البطريرك لعلها ترى القسيس هناك، فوصلت إلى بناء شاهق يدخلون إليه من باب عظيم قائم على أعمدة من الرخام، عتبته العليا من الجرانيت الأحمر الجميل وعليها نقوش باليونانية لم تستطع قراءتها، فأطلت من ذلك الباب إلى فناء واسع رصف بالفسيفساء ينتهي إلى سلم عريض يصعدون منه إلى دار رحبة، رأت فيها جماعة من القسيسين والشمامسة وغيرهم يخطرون في مشيهم، وكل اثنين أو ثلاثة منهم في شاغل بالحديث، فقالت في نفسها: «أأدخل؟ ولكن إذا كان القسيس ليس هنا فما الذي يدخلني؟» ثم سألت بعض الوقوف عند الباب عن القسيس مرقس فقال: «لا أعرفه». فتذكرت أنه قادم على سفينة البطريرك الأورشليمي وأنهما يصلان معا، فسألت عن البطريرك فقالوا: «إنه لم يصل بعد، ولا يعلم زمن وصوله لأن السفر في البحر رهين بحالة الجو والريح. وقد يصل بعد يومين أو بعد أسابيع.» وما علمت أسماء ذلك حتى قالت: «لا بد لي إذن من التربص حتى تصل السفينة»، وأمرت الخادم أن يسير بها إلى خان تقيم به. •••
قضت أسماء في الخان أياما وهي على مثل الجمر تصعد أحيانا إلى الجبل للنظر منه إلى البحر لعلها ترى السفينة قادمة، ولكن بعد البحر من أنطاكية كان كثيرا ما يحول دون رؤيتها شيئا، فإذا ملت الاصطبار أرسلت خادمها إلى البطريركية يسأل عن القادمين، حتى لم يبق لها صبر على البقاء هناك، وشكت سوء طالعها وقالت في نفسها: «لا يبعد أن تكون السفينة قد غرقت بمن فيها لشقائي!»
وكانت غرفتها تشرف على الطريق الأعظم، فاستيقظت ذات يوم على ضجيج الغوغاء وجلبتهم، فأطلت من النافذة فرأت جماعات من العرب بالعدة والسلاح سائرين على غير نظام يحمل بعضهم الأعلام وفيهم الفرسان والمشاة، تتقدمهم بعض النساء بالدفوف بين مربع ومستدير يضربن عليها وينشدن الأشعار الحماسية يحرضن بها الرجال وينهضن هممهم. فعلمت أسماء أنهم من جند أنطاكية ولكنها لم تفهم معنى جلبتهم، فنادت الخادم فلم يجبها لأنه كان قد انخرط في سلك المارة يحادثهم ويستفهم عما هم فيه. وبعد قليل عاد مسرعا والبغتة بادية على وجهه ، فقالت: «ما وراءك؟ من هؤلاء؟»
قال: «جماعة من جند أنطاكية سائرون لنجدة جند الشام في صفين.»
فقالت: «على من؟» قال: «على جند أمير المؤمنين علي بن أبي طالب.»
فقالت بلهفة: «وهل هم في حرب هناك؟!»
قال: «نعم يا سيدتي، إنهم هناك من زمن بعيد، وبعض الذين حدثتهم يزعم أنه شهد معركة حامية هناك انكسر فيها جيش الإمام.»
ولم يتم كلامه حتى اقشعر بدن أسماء وصعد الدم إلى وجنتيها غيرة وحمية، وقالت: «أين هي صفين؟»
قال: «على بضع مراحل من هذا المكان شرقا.»
فلبثت في حيرة بين أن تظل في أنطاكية حتى يصل القسيس، وبين أن تسير إلى صفين وترى ما وقع لجند الإمام، فظلت صامتة برهة فتركها الخادم وخرج، أما هي فقالت في نفسها: «إن انتظاري سفينة قادمة في هذا البحر قد يطول كثيرا لأن سفر البحر لا حدود له، وقد ينتهي انتظاري بالفشل إما بغرق المركب وإما بموت القسيس قبل وصوله.» قالت ذلك وتناثر الدمع من عينيها حزنا على حالها وغيظا مما أحدق بها من سوء الطالع فبكت، ثم عادت إلى تفكيرها فقالت: «وأما الحرب في صفين فإن عليها تتوقف سعادة المسلمين أو شقاؤهم، وما أنا خير من أحدهم ولا بد لي من الإسراع إلى هناك عسى أن أؤدي خدمة لعلي، أو أقتل في ساحة الوغى فأنجو من البلاء.» ثم نادت الخادم وقالت: «أسرع إلى دار البطريرك واسأل عن القسيس مرقس، فإن علمت أنه لم يأت فعد حالا وأسرج الجوادين وأعد معدات السفر.»
ناپیژندل شوی مخ