136

قریشو نجلۍ

عذراء قريش

ژانرونه

قالت: «كلا، لأني لم أسأله.»

فاستأنست أسماء بالقسيسة وازدادت ميلا إليها، فقالت لها: «بماذا تشيرين علي الآن؟ أأنتظر رجوع القسيس أم أسير إلى القدس فأستطلعه السر؟»

فصمتت القسيسة كأنها تفكر في أمر، ثم تغير لونها بغتة وانقبض وجهها ونظرت إلى أسماء والدمع يتلألأ في عينيها وقالت: «أرى أن تذهبي إلى بيت المقدس لأن القسيس أصبح شيخا هرما.» قالت ذلك وغصت بريقها.

فأدركت أسماء أنها تخاف انقضاء أجله عاجلا، فتجاهلت ما بدا من عواطفها وقالت: «ها أنا ذا ذاهبة، والاتكال على الله.» ونهضت فودعت القسيسة وخرجت تلتمس الخان وفيه خادمها والجوادان فأمرت الخادم بالاستعداد، وفي صباح اليوم التالي ركبت وسارت قاصدة إلى بيت المقدس. •••

وكان القسيس مرقس يعرف جدي أسماء وأسرتها قبل الفتح ويعطف عليها بالتخصيص، فلما تسلم السر من أمها شاركها مصابها وازداد عطفا عليها وود لو استطاع أن يفرج كربتها. فلما جاءته في المرة الأخيرة قبل سفرها إلى المدينة وأخبرته أنها عازمة على كشف أمرها لذوي الشأن هناك، سره هذا ولكنه رآها ضئيلة مريضة فتشاءم وتوقع قرب انقضاء أجلها، فأوصاها بأن تبعث إليه بما يحدث لها، وهو إنما يريد بذلك أن يتحقق من وصولها إلى مأمنها حية. فلما انقضى العام ولم يأته منها نبأ قلق عليها، وكان كلما سمع اسم يثرب (المدينة) يتجدد بلباله ويود لو يرى أسماء ليطلعها على اسم أبيها، ولكنه لم يكن يعرف مقرها. فلبث وهذا شأنه حتى جاء الأمويون بقميص عثمان وأصابع نائلة، وكان ما كان من بكائهم وعويلهم، وعلم ما حدث من الفتنة في المدينة فازداد قلقه وأثر ذلك في صحته، فاضطر مع كبره وضعفه إلى أن يبرح دمشق إلى مكان يستقر فيه ريثما تهدأ الأحوال. فخطر له الذهاب إلى بيت المقدس لأن له فيها أهلا يرتاح إلى مجاورتهم، فركب إليها قبل وصول أسماء إلى دمشق، ومكث هناك مدة وهو يزداد ضعفا، ولم يجده ترحيب أهله واحتفاؤهم به نفعا، وأحس بقرب الأجل.

فخطر له الشخوص إلى أنطاكية حيث الكرسي البطريركي الذي سيم فيه قسيسا، فيرى البطريرك الأنطاكي ويتزود بالأسرار المقدسة على يده قبل الوفاة. واتفق أن سفينة إمبراطورية كانت راسية في مياه عسقلان أنفذها الإمبراطور قونسطانس الثاني ليحمل البطريرك الأورشليمي إلى أنطاكية للبحث مع بطريركها في بعض الشئون الدينية التي كان الخلاف قائما عليها في تلك الأيام، وكأن البطريرك الأورشليمي قد علم بعزم القسيس على الذهاب إلى أنطاكية، فدعاه ليسافر معه بحرا لأن الفصل صيف ولا خوف من الأنواء، والطريق في البر شاق لما يقتضيه من ركوب الدواب وقطع الجبال والأودية، فسر القسيس بتلك الدعوة وسار في حاشية البطريرك إلى عسقلان، على أن يسيرا منها إلى أنطاكية في السفينة الإمبراطورية.

واتفق وصول أسماء إلى القدس بعد خروج القسيس منها ببضعة أيام، ولما أخبروها أنه قصد أنطاكية استعاذت بالله مما ابتلاها به من النحس في أسفارها، وباتت ليلة وصولها مسهدة حزينة لم يجف دمعها لفرط ما تولاها من القنوط، فأصبحت شديدة الاعتقاد بسوء طالعها.

على أنها أصبحت في اليوم التالي وقد هدأ روعها وعادت إليها رباطة جأشها، فقالت في نفسها: «لأذهبن إلى أنطاكية على عجل قبل أن يخرج القسيس منها. والاتكال على الله.» فركبت جوادها وسارت والخادم في رفقتها يقوم لها بما تحتاج إليه من الخدمة في السفر، وكانت حيثما توجهت تتنكر بلباس الرجال مخافة أن يعلم مروان بها، ولا ينجيها منه شيء إلا القتل. وكان المسافر من القدس إلى أنطاكية يغلب أن يمر بدمشق، ولكنها جعلت طريقها لبنان. وبعد مسيرة أيام وليال أشرفت على أنطاكية.

وكان وصولها قبل طلوع الشمس، والشمس لا تطلع على أنطاكية إلا متأخرة لاحتجابها بجبلها الشرقي. وأشرفت أسماء على تلك المدينة العظيمة أم مدن الشام ومقر بطاركتها، بل هي ثالثة مدائن تلك الأيام (رومية والإسكندرية وأنطاكية)، فأطلت عليها من مرتفع مشرف فإذا هي مستطيلة الشكل على ضفة نهر «العاصي» الجنوبية، وتحدق بها البساتين الغناء وفيها الثمار والفاكهة من كل الأنواع. فدهشت أسماء لعظمة تلك المدينة وما فيها من الأبنية الشاهقة، وأكثرها من الكنائس فوقها القباب المزخرفة وفيها الطرق التي لا تكاد تشرق الشمس حتى تغص بالناس. وأذهلها بنوع خاص سورها العظيم وما عليه من الأبراج التي يبلغ عددها 360، وله خمسة أبواب. وتتبعت ذلك السور الواسع بنظرها لعلها تحيط بسعة المدينة فرأت أنها تحاول عبثا، لأن السور يصعد مع الجبل إلى أعلاه ثم ينزل من الجهة الأخرى بحيث يحيط بالمدينة ومزارعها جميعا، بما تزيد مساحته على بضعة عشر ميلا مربعا، فبهتت أسماء لتلك المناظر الفخمة. وكان بحر الروم يتراءى لها عن بعد في الأفق كأنه هلال مستطيل.

وبعد أن وقفت هناك برهة تتأمل عظمة هذه المدينة تحولت إلى باب من أبواب السور في الشرق، واتصلت منه بالطريق الأعظم الذي يقطع المدينة في طولها من الشرق إلى الغرب، وطوله أربعة أميال وعليه من الجانبين أربعة صفوف من الأعمدة الرخامية تعلوها أقواس جميلة، وفي الوسط طريق واسع مكشوف مرصف بالجرانيت، تحده من الجانبين مقاعد من الرخام المنقوش، وهو كله على استقامة واحدة تتفرع منه طرق صغرى من الجانبين، فذهلت أسماء لما شاهدته من العظمة والبذخ في أنطاكية مما لم تر مثله قبلا. ومما زاد ذهولها ودهشتها أنها رأت تيجان الأعمدة في ذلك الطريق الطويل محلاة بالذهب الخالص، مما يندر مثله في أعظم مدائن الأرض. على أن ذلك المنظر الجميل كان ممزوجا بما يدعو إلى الأسف الشديد، لما توالى على هذه المدينة من الزلازل التي دكت معظم أبنيتها فشوهت وجهها وغيرت مجرى نهرها، على أن العظمة مع ذلك ما زالت تتجلى فيها.

ناپیژندل شوی مخ