هناك نزل الجيشان العظيمان يقودهما أعظم رجال الإسلام ونخبة المهاجرين والأنصار، وفي ذلك السهل الواسع جرت وقعة صفين المشهورة التي قتل فيها عشرات الألوف من الرجال، وقد نال فيها علي بن أبي طالب ما ناله في وقعة الجمل من النصر والغلبة. ولكن هل انتظم له الأمر بعدها؟ كلا، فإنها كانت خاتمة انتصاراته على مناظريه في الخلافة وبداية دسائسهم عليه، ولم يكن ذلك لضعف عزيمته ولكنها حيلة دبرها عمرو بن العاص فنفذت فيه، وفشل رجاله وانقسموا فيما بينهم. •••
لبثت أسماء أياما وأسابيع عند القسيسة تنتظر عودة القسيس من بيت المقدس فلم يرجع، فحسبت لإبطائه ألف حساب واضطرب بالها ولم تر خيرا من أن تسير هي إليه بنفسها، واستشارت القسيسة في الأمر فاستغربت هذه قلقها وتعجلها رؤية القسيس فقالت لها: «هل تحتاجين إلى القسيس في أمر يدعو إلى كل هذا؟»
فتأوهت الفتاة وسكتت وبدت كأنها تريد مكاشفتها بما في ضميرها لعلها تفرج كربتها.
فقالت لها القسيسة: «قولي يا ابنتي ما الذي أوجب تنهدك عسى أن أنفعك»
قالت: «إني أحتاج إلى القسيس في سر عنده عن أمي لا يعرفه أحد سواه، وقد كانت تعرفه وحدها وباحت به للقسيس، وأما الآن فلم يبق غيره عارفا به.»
فأدركت القسيسة أن أمها ماتت فلم تشأ أن تذكرها بها، ولكنها أحبت أن تعرف ما هو موضوع ذلك السر فقالت: «هل يجوز أن أعرف موضوع ذلك السر؟»
قالت: «أعترف لك يا سيدتي أني ربيت في دمشق في حجر أمي ورجل كنت أحسبه أبي، فأخبرتني أمي ذات يوم أن الرجل ليس أبي فسألتها عن أبي الصحيح فوعدتني بإطلاعي عليه في فرصة أخرى.» وقصت عليها أسماء قصتها من أولها إلى آخرها. وكانت تتكلم والقسيسة تنظر إليها وتتأمل في ملامحها، فلما فرغت من كلامها تبسمت القسيسة وهشت لها وضمتها وقالت: «لعلك ابنة مريم؟»
قالت: «نعم يا سيدتي.» واستأنست بحنوها ومعرفتها اسم أمها فقالت: «وهل تعرفينها؟»
قالت: «مسكينة أمك! إني أعرفها جيدا قبل أن تتزوج، وكانت كثيرا ما تأتي الكنيسة للصلاة، وكنت أنا يومئذ شابة وهي صبية، وكنت أحبها كثيرا فلا يمضي عيد من أعيادنا الكبرى كالفصح والشعانين والميلاد وغيرها إلا دعيت أنا والقسيس إلى مائدة جديك رحمهما الله! وأذكر أنه كان لأمك أخ جميل الصورة حاد الذهن، كان يأتي معها وأبويهما للصلاة. وظللنا على ذلك حتى جاءنا العرب منذ بضع وعشرين سنة ففتحوا المدينة واستولوا عليها فتفرق شملنا، وكانت أمك قد أصبحت شابة، وهي في مثل حالك جمالا وذكاء، ولم أعد أرى جديك، ولكنني سمعت أنهما قتلا. أما أمك فأخذوها سبية ولم أعد أراها، إلى أن جاءت في العام الماضي إلى القسيس، وأذكر أني رأيتها وهي داخلة فمكثت عنده برهة وأنا أحسبني أعرفها، ولما خرجت سألت القسيس عنها وقلت: «أليست هذه مريم بنت قسطنطين - وهو اسم جدك؟» قال: «بلى». ولكنني رأيت على وجهه بعد خروجها من عنده أثر الانقباض ورأيت الدمع في آماقه، فاضطربت ولم أسأله عن السبب مخافة أن يكون سؤالي تطفلا لعلمي أن القسيس مستودع أسرار كثيرين، وقلت في نفسي: «لو كان خبر مريم مما يجوز ذكره لما تأخر عن ذكره.» أما هو فكأنه أدرك قلقي وتشوقي لمعرفة خبر أمك لما يعلمه من رابطة المودة بيننا، فلما جلسنا على المائدة في المساء أخبرني عن قصتها وسبب غيابها عنه كل هذه المدة، وفهمت من خلال كلامه أن الرجل الذي كان معها يومئذ ليس أباك وأن أباك رجل آخر.»
فقالت أسماء بلهفة: «ألم تعرفي اسم أبي؟»
ناپیژندل شوی مخ