125

قریشو نجلۍ

عذراء قريش

ژانرونه

قال: «ربما سمعت بمقتل الخليفة عثمان في يثرب، فإن بعض رجال حاكمنا معاوية جاء بقميصه الملطخ بالدم وأصابع امرأته التي قطعت وهي تدفع بيدها عنه، ووضعوها على المنبر الذي يخطبون فوقه. وكلما اجتمعوا للصلاة وذكروا مقتل الخليفة صاح الناس رجالا ونساء، شيوخا وأطفالا، يبكون ويولولون حتى تكاد تتفتت القلوب. وكان أبونا القسيس في أثناء ذلك مريضا مرض الشيخوخة فزاده ذلك الحال ضعفا، فأشار عليه طبيبه أن يسافر إلى القدس يقيم بها حتى تتغير الحال، فسار ونحن في انتظاره وقد بلغنا أنه ما زال مريضا.»

فعادت تسأله: «ألا تدري متى يعود؟»

قال: «لا، ولكن إذا كنت تريدين خدمة فإننا نؤديها بالنيابة عنه.»

قالت: «إنما أمري منوط به وحده.» وفكرت فيما تصنع هل تقيم هناك ريثما يعود أم تخرج إلى الخان، وفيما هي صامتة تفكر ابتدرها الشماس قائلا: «إذا شئت أن تقيمي ضيفة في هذه الدار حتى يعود أبونا القسيس فعلى الرحب والسعة، فإن عندنا نساء يقمن بخدمتك.»

ثم صفق فجاء الخادم فأمره أن يدل أسماء على غرفة القسيسة، فصعد بها إلى قاعة علوية فيها امرأة طاعنة في السن بلباس أسود وعليها هيئة الكمال والوقار، فنهضت لها واستقبلتها وأجلستها إلى نافذة تطل على بعض أبنية دمشق، وأمرت لها بما تحتاج إليه من طعام فاعتذرت من تناول الطعام.

وجلست أسماء وقد استأنست بتلك المرأة ولكنها ما زالت منقبضة النفس من عرقلة مساعيها لغياب القسيس وتصورت أن نحس طالعها قد عرقل أمورها، وخيل لها أن القسيس مرقس سيموت في القدس لضعفه وشيخوخته فيضيع السر وتذهب آمالها أدراج الرياح، فخطر لها أن تذهب إليه وتستطلع السر، وكانت تفكر في ذلك والقسيسة تبالغ في ملاطفتها وتدعوها إلى نزع العباءة والكوفية وهي تمتنع. •••

ودنا وقت الظهر فخرجت القسيسة للصلاة كالعادة، وظلت أسماء منفردة فأطلت من النافذة فوقع نظرها على صحن الكنيسة كله وفيه القسم الذي جعله المسلمون مسجدا، فرأت في أرضه الأبسطة والطنافس وقد تعلقت بسقفه المصابيح، وشاهدت على جدرانه رسوما مسيحية في جملتها صور صلبان وقديسين ما زالت كما كانت قبل الفتح. وفيما هي تتأمل في جدران المسجد ومفروشاته سمعت المؤذن يدعو الناس إلى صلاة الظهر، وما كاد يفرغ من أذانه حتى رأت الناس يتقاطرون إلى صحن المسجد زرافات ووحدانا وفيهم الرجال والنساء شيوخا وشبانا وأطفالا فشغلت بالنظر إليهم، وفيهم جماعة عرفت أنهم من الجيران الذين كانوا يزورون أباها.

ثم رأت الناس يموجون موج البحر يتقهقر بعضهم شمالا والبعض الآخر يمينا، حتى فتحوا طريقا واسعا فأدركت أن أحد الكبراء داخل فصبرت، وإذا برجل جميل الخلقة أبيض البشرة ذي هيبة ووقار عليه ثياب سود موشاة تتألق كبير العمامة، فعرفت أنه معاوية بن أبي سفيان والي الشام، ورأت إلى جانبه رجلا قصير القامة وافر الهامة أدعج أبلج عيناه تكادان تتقدان حدة، فمشيا وهما ينظران إلى الجمع والناس سكوت إجلالا لهما، فلم تعرف أسماء رفيق معاوية ولكنها سمعت واحدا من الحضور يقول بصوت عال: «أنت لها يا ابن العاص، أنت نصير الخليفة المظلوم.» فعلمت أنه عمرو بن العاص.

فوقفت تنتظر ما يبدو منهما، فرأت معاوية ظل سائرا حتى بلغ دكة عليها قميص ملطخ بالدم، وعلمت أن الدكة هي المنبر وأن القميص قميص عثمان، فتذكرت مقتل ذلك الخليفة على مشهد منها وتذكرت نائلة المسكينة وقالت في نفسها: «أين هي الآن يا ترى؟» وكانت تفكر في ذلك وهي تنظر إلى معاوية فرأته صلى ركعتين وصعد المنبر فسكت الناس وأصغوا، فوقف وحمد الله وأثنى عليه وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر. ثم سكت لحظة وهو يجيل أصابعه في لحيته وعيناه تنتقلان في الناس واحدا بعد واحد، ثم تناول من المنبر هنات كانت معلقة بالقميص جعل يقلبها بين يديه وينظر إلى الناس ويقول: «أتعلمون ما بين يدي؟ إنها أصابع نائلة زوج الخليفة المظلوم، قطعت بسيوف القتلة وهي تدافع عنه.» فتأملت أسماء في الأصابع فإذا هي إصبعان وشيء من الكف وإصبعان مقطوعتان من أصلهما ونصف الإبهام. ثم أمسك معاوية القميص بيده وقال: «أتعلمون قميص من هذا؟ إنه قميص الخليفة المظلوم! إنه قميص عثمان المقتول ظلما!»

ولم يكد يتم كلامه حتى ضج الناس من جوانب المسجد بصوت واحد: «قتل عثمان مظلوما! قتل مظلوما!» وسمعت بعضهم يقول بصوت عال: «أقسم بالله ورسوله وخليفته ألا يمسني ماء إلا للغسل من الجنابة، وألا أنام على الفراش حتى أقتل قتلة عثمان ومن قام دونهم!» وما أتم الرجل حديثه حتى ضج النساء والأطفال بالبكاء والعويل، وتهافتوا على المنبر ليبكوا على القميص والأصابع، فزجرهم معاوية فعادوا إلى أماكنهم، وعاد هو إلى كلامه وأسماء تتميز غيظا لما سمعته من التعريض بعلي ومحمد وما آنسته من التهديد، فثارت الحمية في رأسها ولكنها صبرت لعلمها أن موقفها خطر، فسمعت معاوية عاد إلى كلامه بين تحريض وتعريض حتى سمعته يقول: «إن عليا قتل عثمان وآوى قتلته.» فلما سمعت ذلك لم تعد تستطيع صبرا فتحولت من النافذة بأسرع من لمح البصر وهرولت إلى باب الجامع بعباءتها وكوفيتها.

ناپیژندل شوی مخ