الفصل الثاني
ليلة أنس في قصر الملك
كان الشارع الملوكي المتقدم ذكره عبارة عن طريق طويل مستقيم مرصف الجانبين بأحسن تنظيم، منحصر بين خطين متوازيين من الشجر المعرش العظيم، وكانت في نهايته سلسلتان من تماثيل أبي الهول البديعة النحت والتصوير، كلها مكب على الساعدين فوق سرير، من حجر واحد كبير، وهي متقابلة متناقصة الأحجام تدريجيا، فأولها كبير كبير، وآخرها صغير صغير ، ثم يعترض باب عظيم عال، ناهض بالعظم والجلال، يمسكه عمودان من العمد العراض الطوال، وخلف هذا الباب فضاء عجب، وسوح ورحب، ثم يلوح بستان، تأخذه العينان، وما بهما يدان، وهو يموج بالحيوانات المقدسة، والطيور المعبودة المستأنسة، سوارب هنالك سوارح تأوي الظل وتجيء الماء، وتهنأ مهجاتها النعيم والنعماء، ووسط هذا البستان قصر رفيع العمدان، مشيد البنيان، له دوران، كلاهما في الوضع سيان، وله مداخل توصل إليه من كل مكان، وكان ظهره إلى النيل التصاقا.
وكان القصر في تلك الليلة هالة تتوقد، بكل فرقد، من المصابيح عند فرقد، وكان الدور الأسفل على الأخس آنس المقاصير، مزدحم الغرف بالجماهير، والملك في حجرته الخاصة يدعو إليها من يشاء من ضيفانه، فيحادثه ما شاء ثم ينطلق لشأنه، أما الحجرة فكانت غاية في الجلال والجمال، مفروشة ببساط واحد غال، من جلد النمر النادر المثال، العزيز المنال، ومغشاة جدرانه من الفضة الممهدة الصقيلة، المتخذة مرآة واحدة عريضة طويلة، وفي الصدر عرش عال مصنوع من العاج النقي البياض، وكان للملك، وكان جالسا عليه، ثم تشاهد أسرة منثورة ها هنا وهنا بين كبير وصغير، ومستطيل وقصير، ومربع ومستدير، بعضها من الخشب المطعم بالعاج المصحف بالذهب والفضة، والبعض من الحجر المجوف المنقوش، ومنها ما هو للجلوس، وبعضها لحمل ثريات التنوير، وباقات الأزهار، وأواني الفاكهة، والمرطبات، وقوارير الماء والمباخر.
وكان بين يدي الملك ساعتئذ في الحجرة والد «آرا» كبير الحرس القائد «ندور»، وكان في عمر «رمسيس» تقريبا بين الخمسين والستين، وكان أشبه الناس به في الخلقة والحركات، والنطق والإشارات، حتى لولا الشعر القصير الذي على رأس الملك والثعبان الذهبي، الذي على جبهته واختلاف الزيين في الزخرف والزينة، لتشابها وتشاكل الأمر، وكان بجنب «ندور» وعن يمين الملك الكاهن الأعظم للديار، ومعه ابنه الشاب «هوتر»، وكان من أجمل فتيان المملكة، بل ممالك ذلك العصر جمعاء، وقد جعله الملك على خزينته الخاصة لشهرته بالمهارة في الأشغال المالية، ثم ثلاثة من أمراء العائلة، وكانوا عن يسار الملك، فما زال الحديث يجر بعضه بعضا بين «رمسيس » وجلسائه حتى تناول أحوال المعابد وشئون العبادة في البلاد، فسأل الملك الكاهن الأعظم: هل ما يزال الشعب على مألوف عادته، من التمسك بديانته، والاجتهاد في عبادته؟ قال: إنه يا مولاي على حالة ترضيك من التمسك بالدين الذي هو رأس الأخلاق. قال: في الحقيقة وإني لا أجد أمتي بلغت ما بلغت إلا بالأخلاق (البسيط):
وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت
فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا
قال: ولكني يا مولاي أبصر بأمور تجري وأخشى من عواقبها. قال: وماذا عسى يجري الآن مما لا أعلم؟ قال: إنني أشم يا مولاي من أشعار «بنتؤر» وكتاباته وخطبه ودروسه العامة، رائحة الميل إلى تجريد العبادة من صفتها المادية القائمة بها الآن والذهاب بها في مذهب روحاني محض لم يألفه الشعب من قبل، حتى أصبحنا نخشى أن تتأثر الأفكار بمبادئه الجديدة، فينشأ عن ذلك تمزيق الحجاب بيننا وبين العامة، وجلالتكم سيد العارفين بأن الدين في مصر كالملك لا حياة له بدون الحجاب، وإننا معاشر الكهنة دعائم سلطتكم في البلاد، والساهرون على حفظ المهابة لكم في نفوس العباد، فمن تهجم علينا فقد تهجم عليكم، ومن أساء إلينا أساء في آن واحد إليكم.
قال الملك: وعلام كل هذا الاشتكاء يا إمامنا العزيز وأنت تعلم أن القوانين عندي تعلو ولا يعلى عليها؟ وأن لا مسيء إلا آيل يوما إليها، ولو أنه ابني «آشيم»، فإن كان فيما يقوله «بنتؤر» ويكتبه شيء يؤذي النظام، أو يخالف الأحكام، فاطلبوا محاكمته، فإن للقانون لا لنا الانتقام. قال: وكيف يا مولاي وإني لأجده أبعد منالا من لصوص منفيس، الذين يسرقون سلاسل الحق الذهبية من صدور القضاة، وهم على كراسي هيبتهم يحكمون؟ قال: إذن فهو بذمة من القانون وأمان، وليس لأحد عليه سلطان، فدخل عندئذ كبير الحرس في الحديث غير مندفع. فقال يخاطب الملك: لعل رئيس الديانة يا مولاي يقصد بما أبدى، أن تكون النصيحة من جلالتك مباشرة ل «بنتؤر» بأن لا يهيم، وأن يرجع إلى هداه القديم، وإلا فإن رئيس الديانة أكبر أدبا، وأرفع أخلاقا، من أن يبغي الضرر والفضحة لقرين صبا الملك وشاعره اللهج بمفاخره بين أبناء الزمان، المتفنن بمحاسن أيامه في كل أين وآن. قال: حسنا يا «ندور»، وإني فاعل ذلك. قال: ولكني أشتهي على مكارمك يا مولاي أن لا تبالغ ل «بنتؤر» في الزجر، وأن تقول له قولا كريما كما أني أخطر على فكرك السامي، التماس حكومة اليونان إلى جلالتك أن يسير إليها حكيم من رعاياك لينوب عن حكومتك السنية في مؤتمر الفلسفة والآداب الذي ينعقد في هذا العام بتلك البلاد، وإذ كان «بنتؤر» رجل هاته المهمة الوحيد الذي لا أحسب اختيار الملك واقعا إلا عليه، فمن العدل إذن أن لا يزجر، ولا يهان، بل من المروءة أن لا يخاطب قبل سفره في مثل هذا الشأن. قال: صدقت يا «ندور»، وقد أحسنت بتذكيري التماس اليونان.
ثم إن الملك خف خارجا إلى جمهور ضيفانه، وخف جلساؤه على أثره، فمشى «ندور» بجانب رئيس الديانة يقول له همسا: كيف ترى حيلة أخيك؟ قال: نعمت الحيلة! ونعم المحتالون أنتم يا أصحاب الملوك! وإنه لسفر بعيد وغياب مديد، يكفياننا شر ذلك المهوس إلى أجل، كما ستكفينا المحكمة الكبرى بعد أيام بأس الملعون «رادريس»، فنصبح وقد خلا لنا الجو واتسع فضاء العمل، ثم لنا بعد ذلك ولعذراء الهند شأن.
ناپیژندل شوی مخ