أنا نشأت فقيرا معدما، فلاحا قرويا من عائلة كأمثال حسن محفوظ ومحمد عبد النبي، فقدر الله لي الدخول في الأزهر، فتعلمت ما جعلني مرموقا من رفقائي، ولا أنسى أني طالما أمضيت الأيام أنحت الخشب من الجوع، ثم رفعني الله إلى الهيئة الاجتماعية فبهرتني رؤيتها، وقليلا قليلا اشتهر اسمي بين أبناء بلادي، فساعدوني المساعدات الجمة، فصرت ألبس الحرير بعد الخيش، وآكل «العيش الفينو» بعد «الحندويل»، وكل ذلك بعناية مواطنين وثقتهم بوطنيتي وحبي لبلادي، انظروا يا حضرات القضاة إلى موقفي الآن، وخذوا بذلك مثالا ، انظروا كيف قبلت هذا الموقف بسرور، ومرقت بسهولة عن وطنيتي، واحتقرت مبدئي، وصرت نارا حامية على بلادي أطلب لأبنائها الإعدام والسحق، فكيف حكمكم على شعب أنا واحد منه؟ أتحترمونه بعد أن سمعتم قصتي، وعرفتم مقدار شعوري وإحساسي نحو هذه البلاد التعيسة! وبدون طويل دفاع: أطلب من المحكمة سحق بلدة دنشواي بأجمعها، والحكم بإعدام جميع المتهمين ذوي الرائحة الكريهة.
ثم ختم مرافعته بتمجيد المحتلين، والمدح والإطراء الشديد في الضباط، ووصفهم بما لا يصف الإنسان الملائكة، ثم قعد مزودا بنظرات التذمر والاشمئزاز.
وبعد دقيقة، قام محمد بك يوسف المحامي عن بعض المتهمين وقال: المصري يفتخر يا حضرات القضاة بأن يكون قواصا أو مستخدما عند إنجليزي، فما بال القوم تجاسروا وضربوا الإنجليز، وقتلوا واحدا من أشهر ضباطه؟! المسألة عظيمة وكبيرة، ولا أرى لموقفي لزوما غير أني مجبر على طلب البراءة لهم أجمعين، والأمر مفوض، أفندم.
ثم قعد وقام بعده أحمد لطفي بك السيد وهز كتفيه مرتين وقال: إن هذه الحادثة لا تعتبر يا حضرات القضاة جريمة قتل بعمد أو ضربا أفضى إلى الموت، بل اعتبروها سرقة بإكراه، وطبقوها على مواد القانون لينالوا جزاء ما جنت أيديهم، ثم قعد بعد أن فوض الأمر للمحكمة! فقال أحد القضاة متهكما: لقد نسي حضرة المحامي أنه في موقف الدفاع عن المتهمين ففكرنا بعقوبة غابت عنا، ولم يتذكرها المدعي العمومي، ثم التفت إليه وقال له: ميرسي.
وبعد ذلك وقف إسماعيل بك عاصم، ورفع يديه وقال بصوته الجهوري الجميل: بول! بول! رحمة الله عليك يا مستر بول، وعوض الله الأمة الإنجليزية فيك خيرا، يا مستر بول عليك الرحمة والرضوان، فإلى الجنة، إلى الجنة يا خير الضباط أجمعين، اللهم يا ذا المن ولا يمن عليه، يا ذا الجلال والإكرام، يا ذا الطول والإنعام، أدخل عبدك وابن عبدك الخواجة بول ابن آدم وحواء في جنات خلدك، إنك على كل شيء قدير.
ثم التفت إلى المحكمة وطلب براءة المتهمين!
فغطى أحد القضاة وجهه بمنديله، وأخذ يضحك من هذا الدفاع ... وانتهى الدفاع بمثل ما قدمنا.
ثم جلس حضرته، وبعد ذلك أخذ الرئيس يسأل كل متهم عن تهمته حتى أتم سؤال جميع المتهمين في مدة نصف ساعة كانت في أسئلة ومدافعة.
وبعد ذلك دخلوا في غرفة المداولة.
ولما استووا هناك على كراسيهم، وضع أحدهم صورة الحكم وأنواع العقاب، وأعطاها للرئيس فأخذها ثم عرضها على الباقين، وبدون أدنى مناقشة وافقوا عليها ...
ناپیژندل شوی مخ