على كرسيه الخشبي كان يستفسر ممن عليه الدور لمقابلة المدير العام عن سبب مجيئه، ويخشى الكثيرون ألا يستجيبوا لتطفله، وهو يناقش ويقيم ويقترح ويوصي ويؤنب ويشجع، وفي أحيان كان يعرض على البعض أن يتوسط هو لدى المدير العام فيستجيب لمطلبه أو ينال العفو. وفي المناسبات الهامة كحركة الترقيات أو التنقلات أو صرف الحوافز كان يعد المرجع الجامع الصادق للأخبار، وهو لا يكل أبدا في تأكيد دوره الهام في كل القرارات المصيرية التي أصدرتها المصلحة!
كان يتصنع البرود والترفع عن الصغائر، ويسير بخيلاء لا يبخسه إلا قامته القصيرة وجسده النحيف. إنه يظن أنه يستمد مكانته العالية من منصبه الرفيع، فكان أحرص عليه من نفسه ويخشى عليه من أي منافس، مما جعله يؤدي عمله بكل إتقان، وكانت تؤرقه حقيقة يأبى التسليم بصحتها، وهي أن الملايين غيره يمكنهم القيام بنفس عمله وربما بكفاءة أعلى. لا يدري أو يتجاهل أنه لا يستمد مكانته من عمله بل من سيده، وهو لا يملك من الصفات السامية التي لسيده شيئا، إنه يبغي الرفعة والتعالي وهما فعليا ينسحقان تحت أقدام المدير العام، فلا يتبقى له شيء إلا التباهي بحذاء سيده.
يسهب في الحديث عن عبقرية المدير العام، أي مدير عام، وجوده وكرمه ومحتده ونسبه، وكمال زوجته وجمال بناته وبطولة أولاده، ومنزله الفخم وسيارته الأعجوبة وأمواله الطائلة التي ورثها عن أجداده العظماء، فإن شكك أحد فيما ادعى هاج واشتعل غضبا واستل سيفه. وكل المديرين عنده أعلى مرتبة ممن سواهم من المخلوقات، فهم دائما أولاد ناس لا يسلمون أبدا من ألسنة أولاد الكلب.
تبرع له الزملاء ببعض المال ليعينوه على كربه، فأخذ المبلغ بإيماءة شكر بسيطة وكأنه حق مكتسب له. نصحه أقاربه وجيرانه بأن يمسك يده فلا يسرف في الإنفاق على مظاهر لا نفع فيها ولا يأمر الدين بها، وألا يجمع بين مكروهين؛ الموت وخراب الديار، لكن عم فهمي أصر على إقامة سرادق عزاء كبير؛ لأنه: «لا غنى عنه لاستقبال المدير العام وكبار الموظفين، وكذلك الشخصيات العامة التي تعرفت عليها أثناء ترددها المتكرر على مكتب رئيس المصلحة.»
واقتنع الأقارب وقليل من الجيران بمبرراته فأعانوه على ما انتوى، يخفون في داخلهم شوقا لمجالسة هؤلاء الكبار، وحقدا على المنزلة التي بلغها صاحبهم.
انهمك عمال الفراشة في إقامة سرادق كبير بعرض الشارع كله، وبينما هم يعملون أتى مسئولو المرافق وحرروا محضرا بالمخالفة، وبعد تدخل أهل الحي، ولقدسية الموت ولأجل خاطر المرحومة فقط، تغاضوا عن المحضر وأوصوا بتضييق عرض السرادق بما يسمح للسيارات والمارة بعبور الشارع. توقف العمال عن فعل شيء قبل مراجعة صاحب الشأن الذي أتى مسرعا مبديا لامبالاته وترفعه، ومصدرا أوامره الحازمة بإقامة السرادق وفق ما تم الاتفاق عليه من قبل. وسريعا أخرج هاتفه المحمول وكله ثقة وافتخار بأن ولي نعمته سيتدخل فورا لإنهاء هذا الإشكال البسيط، وجاءه الرد سريعا من سكرتير المدير العام الذي وبخه ونبه عليه بألا يحاول أن يشغل الرجل المهم بمثل هذه التفاهات. لم يصدم عم فهمي، فأكبر الظن عنده أن الباشا ليس في مكتبه، وأن الكسالى الحاقدين من الموظفين لا يبغون له خيرا، واعتزم إبلاغ الكبير عند حضوره. واكتمل السرادق، وحرر رجال المرافق محضرهم.
مر المغرب، وترقب عم فهمي حضور الكبار لسرادق العزاء بعد صلاة العشاء، فهم مشغولون دائما وهذا هو الوقت الأنسب للحضور. انتهى المقرئ من الربع الأول بعد العشاء وبدا السرادق مهجورا إلا من قليل من المقربين، ولم يتبق سوى الربع الأخير كاتفاقه مع المقرئ، والوقت شتاء والجو بارد، كما أنه إن طلب ربعا ثالثا من القارئ فسيطلب في المقابل مبلغا كبيرا، وهو قد وجد عنتا في إقناعه بالحضور وكلفه ذلك الكثير، وحتى إن وافق الشيخ مبدئيا فهل يقبل على نفسه وهو المقرئ الذائع الصيت أن يتلو القرآن ولا أحد يستمع إليه، هكذا كان عم فهمي يمعن التفكير ويتدبر أمره، وقد بدأت أحلامه الباهرة تخبو.
تذكر عم فهمي فجأة أن زوجته قد ماتت اليوم! فقد شغلته الطقوس عن السبب الذي أقيمت من أجله، عن زوجته طيبة القلب أم الأولاد، لقد أخطأ في حقها واهتم بمظاهر لا تقدم ولا تؤخر، عليها رحمة الله. شغلته حواراته الداخلية لثوان أفاق بعدها من غفوته، وهرع إلى القارئ يستجديه أن يطيل قراءة الربع الأخير!
أطفئت الأنوار واسود قلب الرجل ووجهه. لم يأت الكبار من المؤسسة أو من خارجها لتقديم واجب العزاء، وكان همه الأكبر وغمه أن المدير العام لم يحضر. ارتمى عم فهمي على أحد المقاعد موجها نظره نحو العمال وكأنه يتابعهم وهم يفككون السرادق ويحملون أجزاءه إلى العربة، لم يكن يراهم، لكنه أراد أن يظن الناس هذا كي يتجنب عناء الرد على تساؤلاتهم، ويتغابى عن فهم تلميحاتهم، ويتعامى عن رؤية الشماتة في أعينهم. «بالفعل كان مأتما.» هكذا تفوه عم فهمي بالعبارة والدموع تكاد تطفر من عينيه.
صاح أحد عمال الفراشة موبخا سائق عربة اندفعت صوب المكان، التفت عم فهمي، كانت سيارة سعادة المدير العام. وكأنه غريق مست قدماه اليابسة، انبسطت أسارير وجهه، واندفع منحنيا يكاد يجثو عند قدميه مهللا ومرحبا بالزائر العظيم. صافحه الرجل وتكرم ففتح فمه مرة أو مرتين، واستدار وركب سيارته وانصرف.
ناپیژندل شوی مخ