كون ريك أوفر فريقا من أفضل المهندسين الذين استطاع العثور عليهم، سواء أكانوا مهندسين من سلاح البحرية أم مهندسين مدنيين. وكان يقرأ التقارير الحربية بصفة شخصية، ويفحص كل سفينة أصيبت أثناء المعارك متى كان يستطيع معاينتها، ليقيم بنفسه أداء المعدات الكهربائية في المعارك. وبهذه الطريقة، استطاع الكشف عن العديد من أوجه القصور، مثل القواطع الكهربائية التي كانت تنفتح عند إطلاق المدافع على متن السفن الحربية، والكابلات التي كان يحدث بها تسرب وتنتقل المياه منها إلى لوحات التحكم، وصناديق الوصلات الكهربية التي كانت تنبعث منها غازات سامة داخل الغواصات عند حدوث حريق بفعل ماس كهربائي.
حدد ريك أوفر بمعاونة فريقه التغييرات التي كان يجب إجراؤها. ولم يكتف أعضاء الفريق بتصميم أنواع جديدة من المعدات، بل أجروا أبحاثا أيضا، مقدمين بيانات أساسية حول موضوعات مثل مقاومة الصدمات. واختار ريك أوفر الشركات المتعاقدة التي ستبني المعدات الجديدة، والتي ستعمل بالتنسيق الحثيث مع فريق عمله، وتأكد من أن منتجاتهم ستصبح جاهزة في الوقت المحدد وستلتزم بالمواصفات الصعبة التي وضعها. اتبع ريك أوفر الأسلوب نفسه عندما عين رئيسا لبرنامج البحرية النووي.
في عام 1946، لم يكن ثمة برنامج كهذا بالطبع، ولم تكن توجد أية هيئة داخل البحرية على استعداد لتطوير المفاعلات النووية المطلوبة، ولم يكن أحد في أي مكان قد بنى بعد محطة طاقة نووية. وكان مشروع مانهاتن في وقت الحرب قد بنى منشآت نووية، بيد أن هذه المفاعلات كانت نظما ضخمة، منخفضة الحرارة، تستخدم في إنتاج البلوتونيوم. وبالطبع، فإن الأمر مختلف تماما بالنسبة إلى مفاعل ذري ذي قدرة مرتفعة، قادر على تزويد سفينة بالوقود وقيادتها، ولم تكن المعرفة الهندسية اللازمة متوافرة بعد؛ ومن ثم، كان ريك أوفر آنذاك بصدد مهمة ثلاثية الأجزاء، وهي تأسيس مكتب يتمتع بالصلاحيات اللازمة، وتحصيل المعرفة الفنية اللازمة التي تتيح الإمكانية لبناء المفاعلات، وتسريع وتيرة العمل أكثر مما كان يظن رؤساؤه أنه ممكن. وكان عليه أن يقوم بهذا بينما لم تكن رتبته تزيد على رتبة عقيد.
ساعده في تحقيق هذه الأهداف الدعم القوي الذي كان يتلقاه ريك أوفر من رئيس مكتب السفن؛ الأميرال إيرل ميلز. وفي أغسطس 1948 أسس ميلز فرعا جديدا للطاقة النووية في مكتب السفن، الذي صار الكيان الرئيسي في مؤسسة ريك أوفر. ولكن، لم يكن هذا المكتب التابع للبحرية يستطيع تنفيذ الكثير وحده؛ إذ كان قانون الطاقة الذرية قد أسند المسئولية الأساسية عن جميع أشكال التكنولوجيا النووية إلى وكالة مدنية، وهي هيئة الطاقة الذرية؛ ومن ثم، كان على هيئة الطاقة الذرية تأسيس مكتب مواز لتولي أمور الدفع في الغواصات. وفي أوائل عام 1949، بدأ فرع المفاعلات النووية نشاطه أيضا، وكان ريك أوفر يديره أيضا؛ وبذلك كان ريك أوفر يقوم بدورين، أحدهما بحري والآخر مدني.
ربما أفضت هذه الترتيبات إلى تقليص صلاحيات ريك أوفر، لكنه حولها إلى مصدر قوة. وإذا صادف عقبة في البحرية، كان يضع قبعة هيئة الطاقة الذرية ويحاول مجددا من خلال عمله في إطار الهيئة. وسرعان ما اكتشف ريك أوفر أن هيئة الطاقة الذرية تمنحه حرية كبيرة عندما كان يعمل معها بصفته منتسبا إلى سلاح البحرية، بينما كانت البحرية تمنحه حرية مماثلة عندما كان يمثل هيئة الطاقة الذرية. بل كان يكتب خطابات طالبا مساعدات من البحرية يوقع عليها رئيسه في هيئة الطاقة الذرية، ثم يكتب خطابات بالموافقة يوقع عليها ميلز.
حاول ريك أوفر أيضا - من خلال منصبه المزدوج هذا - إضعاف الفروق القائمة على الرتبة أو الحالة المدنية، وكان يعلم كيف كان أي ضابط بحري يستطيع تحقيق ما يريد من خلال الاعتماد على رتبته، وكان يريد أن تعتمد جميع القرارات على الكفاءة الفنية. ومن هذا المنطلق، رعى ريك أوفر برنامجا فعالا بالتنسيق مع معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا لتعليم فريقه من خلال تقديم دورات حول التكنولوجيا النووية، مع تقديم دورات مماثلة في أوك ريدج. كما شجع أعضاء فريقه على مناقشة المسائل الفنية بحسم وقوة أثناء اللقاءات، وعلى ألا يشعر أي منهم بالحرج لتوجيه أي شكل من أشكال النقد . وفي الحقيقة، لم تكن مسائل الرتبة والمستوى الوظيفي بالأمور التي يتهم بها العاملون في فريق ريك أوفر؛ فقد كانت معرفة المرء واضطلاعه بمسئوليته على أكمل وجه هي الأهم.
من البداية، كان على ريك أوفر تحقيق توازن بين جماعتين، وكان يعرف الجماعة الأولى منذ أيام الحرب، ومن ثم كان مهما عدم التسليم بأن الشركات الصناعية المتعاقدة تمتلك القدرة الفنية الكاملة. أما الخطر الثاني، فإنه كان يتعلق بالرابطة النووية التي كانت تعج بفيزيائيين باحثين من العيار الثقيل، بيد أن بحوثهم لم تكن تتعامل مع التطورات الهندسية اللازمة لبناء مفاعل بحري؛ لذا، بينما كانت العقود الكبرى ترسى على الشركات الكبيرة من أمثال «جنرال إلكتريك» و«وستينجهاوس»، حرص ريك أوفر على بذل جهد كثير في جمع بيانات توضع في كتيبات هندسية، وهو ما سيشكل أساسا لتكنولوجيا المفاعلات. وعلى وجه التحديد، كانت محطات القوى التي بناها تعتمد على مواد نادرة مثل الزركونيوم والهفنيوم والصوديوم السائل والبريليوم. وكان يحرص على توافر المعرفة الفنية اللازمة، فضلا عن منشآت الإنتاج.
في ظل الإجراءات المعتادة، كان يمكن أن يجعل ريك أوفر هيئة الطاقة الذرية تبني سلسلة من المفاعلات التجريبية، وهو ما كان سيؤدي إلى استخدامها في سفن تجريبية. وربما كانت البحرية ستحاول بعد ذلك بوقت كاف تدوين مجموعة من المواصفات لبناء سفن حربية مقاتلة تعمل بالطاقة النووية، لكن ريك أوفر أصر - بدلا من ذلك - على بناء مفاعل تجريبي واحد، وهو «مارك 1»؛ لذا كان من المنتظر أن يكون المفاعل مشابها قدر الإمكان للمفاعل «مارك 2»، الموضوع على سطح السفينة. وعلى حد تعبيره: «مارك 1 يساوي مارك 2». وكان هذا المفاعل سيختصر سنوات من زمن البرنامج، ومن خلال بناء هيئة الطاقة الذرية «مارك 2»، سيصبح موقف البحرية محرجا للغاية إذا قدمت نموذج مفاعلها في موقع بناء المفاعلات ولم تجد أي سفينة تستقبل نموذجها. واستطاع ريك أوفر من خلال دوره المزدوج إرغام البحرية على تنفيذ ما يريد؛ إذ كان يتعين بناء هذه السفينة وتمويلها تحت مظلة برنامج بناء السفن الرسمي.
كان من المتوقع أن تحمل السفينة اسم «نوتلس» التابعة للبحرية الأمريكية، وأصر ريك أوفر على أن تكون غواصة مقاتلة حقيقية، بكامل عدتها من الطوربيدات. بالإضافة إلى ذلك، كان ريك أوفر في حاجة إلى الحصول على موافقة من جهات عليا لتنفيذ جدوله الزمني خلال ربيع 1950، وساهمت الأحداث في دفع مشروع الغواصة؛ إذ فجر السوفييت قنبلتهم الذرية الأولى في أغسطس 1949. واستجاب ترومان إلى ذلك من خلال طرح مبادرات جديدة في مجال الأسلحة النووية، بما في ذلك تعهد ببناء قنبلة هيدروجينية. ومع ذلك، كانت هذه الجهود تصب في صالح القوات الجوية، التي كانت تمتلك القوة الضاربة للبلاد. وفرت غواصة ريك أوفر فرصة للبحرية لاستخدام سفن تعمل بالطاقة النووية. وفي أبريل 1950، قرر مجلس البحرية العام، الذي كان مسئولا عن خطط بناء السفن، أن يمضي العمل في «نوتلس» مثلما كان يرغب ريك أوفر.
في يونيو 1952، ذهب ترومان في زيارة إلى حوض بناء السفن في شركة «إلكتريك بوت» في جروتون، كونيكتيكت؛ وكان يرقد إلى جانبه لوح فولاذي ضخم، ذو لون أصفر فاقع، صار جزءا من عارضة الغواصة السفلية. ألقى ترومان خطابا، ثم حملت رافعة اللوح ووضعته أمامه. تقدم ترومان إلى الأمام وكتب الأحرف الأولى لاسمه بالطباشير على اللوح، ثم جاء لحام لاحقا وحفر الأحرف الأولى على معدن اللوح، وبعدها بعامين ونصف، كانت الغواصة جاهزة لإجراء أولى تجاربها البحرية. وفي 17 يناير 1955، قاد ربانها، يوجين ولكنسن - وهو مهندس متخصص كان يفضل الخدمة في البحر - الغواصة من نهر التايمز إلى لونج آيلاند ساوند، وأرسل مسئول إشارة رسالة إلى السفينة المصاحبة للغواصة نصها: «آتون باستخدام الوقود النووي.»
ناپیژندل شوی مخ