هل كان فون براون يستطيع تحقيق ذلك؟ لم يكن ثمة سبيل قط إلى تحقيق ذلك؛ فمشروع قمره الصناعي كان محكوما عليه أن يحمل مرجعية عسكرية خاصة بالجيش في جميع جوانبه؛ فالمركز الذي كان سيصمم فيه المشروع هو «ردستون آرسنال»، وهو مصنع الكيماويات الحربي الذي صار مصنعا للصواريخ العسكرية بعد ذلك. والصاروخ المعزز، «ردستون»، الذي كان سيستعين به هو سلاح قائم بذاته، قادر على حمل القنبلة الذرية. وإزاء هذه الخلفية العسكرية الصرفة، لم تكن «آي جي واي» ستمثل إلا ساترا رقيقا، وكان العالم سينظر إلى قمر فون براون باعتباره ليس إلا مقدمة لغزو الفضاء بالقوة العسكرية.
لكن، كان مقترح ميلتون روزن أمرا مختلفا تماما؛ فتصميم الصاروخ المعزز كان مستمدا من الصاروخين «فايكنج» و«إيروبي»، اللذين صارا يعرفان باعتبارهما صواريخ أبحاث يجري إطلاقهما لأغراض علمية. ولم يكن مختبر البحوث البحرية - وهو المركز الذي ينتظر أن يجري فيه تنفيذ مشروع «روزن» - يمتلك السمعة القوية التي يتمتع بها «ردستون آرسنال»، وكان المختبر معروفا باعتباره مركز بحوث بالمعنى الصريح للكلمة؛ حيث يضم علماء ذوي سمعة مرموقة قدموا إسهامات مهمة في مجالاتهم.
لذا، بالنسبة إلى دون كوارلز، لم يكن الخيار يحتاج إلى تفكير عميق، لكنه لم يكن يستطيع الإعلان عن اختياره فحسب؛ إذ كان الأمر سيصبح مثارا للقيل والقال. وكانت إثارة استياء الجيش آخر ما يريده كوارلز؛ إذ كان في مقدور الموالين للجيش إثارة الأمور ضده في الكونجرس. لم يستطع كوارلز أيضا الإفصاح عن السبب؛ إذ كان يتعين إبقاء أمر «دبليو إس-117إل» طي الكتمان؛ ومع ذلك، استطاع كوارلز بسهولة ممارسة اللعبة القديمة في تشكيل لجنة استشارية، وصارت مهمته أكثر سهولة في أواخر شهر مايو؛ حيث صدق مجلس الأمن القومي على قمر «آي جي واي» الصناعي، شريطة التشديد بوجه خاص على الأغراض السلمية للمشروع، وهو ما أسهم في إقناع لجنة كوارلز، التي اتفق أعضاؤها على أن مقترح روزن أكثر سلمية من مقترح فون براون. ومما استحسنه أعضاء اللجنة أيضا أن روزن كان يقدم مقترح قمر صناعي كامل التجهيز بمعنى الكلمة، فضلا عن اشتماله على وسائل تعقب. وبناء على نسبة التصويت التي بلغت سبعة أصوات إلى صوتين، وقع الاختيار على هؤلاء المستشارين للانضمام إلى البحرية.
كانت ثمة مشكلة واحدة، ألا وهي أن الجيش كان يمتلك الوسائل التي من شأنها أن تجعل الولايات المتحدة الأولى في ريادة الفضاء، بينما لم تكن البحرية تملك هذه الوسائل.
درس مساعدو كوارلز مقترح «آي جي واي» من وجهة نظر عسكرية، مشيرين في أحد التقارير أنه «يعتقد أن مجموعة من أهم العلماء الروس يعملون على برنامج إطلاق قمر صناعي». وأضاف أحد المعاونين الرئاسيين، نيلسون روكفلر، ملاحظات تشدد على أهمية أن يكون للولايات المتحدة الدور الريادي في هذا الأمر؛ حيث قال: «إنني متأثر جدا بالآثار المكلفة المترتبة على السماح للمبادرة الروسية بالتفوق على مبادرتنا، من خلال إنجاز سيراه الناس في كل مكان رمزا للتقدم العلمي والتكنولوجي. وأمام المراهنة على هذه المكانة، فإنني أراه سباقا لا نستطيع تحمل آثار الهزيمة فيه.» لم يتأثر مجلس الأمن القومي؛ حيث أصدر وثيقة السياسات «إن إس سي-5520» التي تضمنت قسما سريا أكد بشدة على أهمية الحفاظ على سرية مشروع «دبليو إس-117إل».
بالإضافة إلى ذلك، حاول فون براون اللحاق بالركب من خلال تقديم مقترح بإطلاق جهاز إرسال لاسلكي بدلا من منطاد يدور في مدار فضائي، ولكن وزن الجهاز كان خمسة أرطال فقط، وهو ما لم يكن كافيا. وفي أغسطس، عندما جاء تصويت اللجنة الاستشارية في صالح البحرية، عبر اللواء لزلي سايمون من إدارة التسليح في الجيش عن غضبه، ومن خلال تركيب صواريخ وقود صلب تضاف من خلالها مراحل أعلى إلى صاروخ «ردستون»، وعد سايمون بإطلاق قمر كامل التجهيزات يبلغ وزنه ثمانية عشر رطلا، وصرح قائلا: «من الممكن إطلاق أول رحلة مدارية في يناير 1957 إذا منحت موافقة فورية.» واستجابت الشركات المتعاقدة مع البحرية - «جنرال إلكتريك»، و«مارتن»، و«إيروجت جنرال»، و«ثيوكول كيميكال» - من خلال تأكيداتها على اتخاذ إجراءات سريعة، ولم يلتفت إلى طلب سايمون.
ذهب رئيس اللجنة الاستشارية، هومر ستيوارت، من مختبر الدفع النفاث إلى هانتسفيل، وأخبر فون براون بأن يجهز الصاروخ «ردستون»، في حال استجدت أي أمور، وسرعان ما أضاف فون براون صواريخ المراحل العليا، التي لم يكن المقصود منها إطلاق قمر صناعي، بل إطلاق النماذج التجريبية من المقدمات المخروطية، وقرر أن يبدأ بعملية إطلاق تجريبية لإثبات أن صاروخه المتعدد المراحل، باسم «جوبيتر-سي»، سينجح في الانطلاق.
نصب فون براون الصاروخ «جوبيتر-سي» على منصة الإطلاق في 20 سبتمبر 1956، استعدادا لإطلاقه. وبدا مشابها تماما للصاروخ الذي حمل أول قمر صناعي أمريكي، «إكسبلورار 1»، بعد ذلك بستة عشر شهرا. ثم دق جرس الهاتف وسمع فون براون صوت رئيسه، اللواء جون مداريس، الذي حدثه قائلا: «فيرنر، يجب أن أوجه إليك أمرا مباشرا وبصفة شخصية لفحص صاروخ المرحلة الرابعة لضمان عدم إطلاقه بصورة فعلية.»
على الرغم من عدم بلوغ الصاروخ مداره، فاقت المرحلة الأخيرة من عملية الإطلاق جميع مقاييس الأداء الموضوعة؛ حيث حلق الصاروخ لمسافة 3355 ميلا بعيدا عن مكان الإطلاق، ووصل إلى ارتفاع 682 ميلا. ومع ذلك، لم يحدث حتى هذا الأمر أي فرق؛ مثلما عقب المؤرخ والتر ماكدوجال قائلا:
لو كان تحقيق الريادة هو الاعتبار الأول في سياسة الولايات المتحدة لإطلاق قمر صناعي أمريكي، لكان من الممكن أن تتخطى وزارة الدفاع لجنتها الاستشارية. ولكن السرعة وتحقيق السبق «لم» يكونا اعتبارا أوليا؛ فالمطلب الأهم، في النهاية، هو ضمان إضفاء أقوى صبغة مدنية على المشروع. وكان قد أشير على الإدارة الأمريكية بأهمية الدعاية في تحقيق الريادة للولايات المتحدة في الوصول إلى الفضاء. ولكن، حاز هذا المطلب السياسي على أقل مستوى من الأولوية بين جميع المطالب السياسية الحيوية الأخرى؛ فقد كانت ثمة وسيلتان لإيجاد مسار قانوني لإطلاق أقمار الاستطلاع الصناعية، وكانت إحداها هي أن تتمكن الولايات المتحدة من تفادي رصد القمر الصناعي الصغير الذي سيجري إطلاقه أولا، وألا يثير إطلاقه أي اعتراض. وكانت الأخرى أن يطلق السوفييت قمر استطلاع أولا.
ناپیژندل شوی مخ