219

عد تنازلي

عد تنازلي: تاريخ رحلات الفضاء

ژانرونه

تميز التكلفة المرتفعة أيضا الرحلات الفضائية المأهولة، وربما كانت خاصيتها الأساسية. لتقليل مستوى الخطورة، لا يمكن تنفيذ جداول الإطلاق الزمنية الروتينية المتكررة التي كان مؤيدو المكوك الفضائي قد بشروا بها في عام 1972. بدلا من ذلك، تتعامل ناسا حاليا مع المكوك الفضائي بوصفه سلعة نادرة وقيمة؛ حيث تفصل عملياته عن عالم التطبيقات الفضائية والفرص التجارية الحالي. يتبدى هذا الأسلوب اليوم في الجدول الزمني لإطلاق المكوك الفضائي، الذي يقتضي تخصيص ما يصل إلى ثلثي رحلات المكوك الفضائي لخدمة المحطة الفضائية.

يضمن هذا على الأقل أنه في حال فشل عملية إطلاق أخرى للمكوك الفضائي، ستظل الآثار محصورة إلى حد كبير في نطاق البعثات المأهولة وحده؛ بيد أن هذا بدوره يؤكد على فكرة أن الرحلات المأهولة صارت مشروعا في حد ذاتها، ينطوي على قيمة سياسية ودلالة رمزية قوية، دون أن تكون له فائدة حقيقية. يشير هذا بدوره إلى أن المشروع ربما يزول تدريجيا بمرور الوقت ليصير جزءا من تاريخ ماض؛ حيث إن الوسائل التكنولوجية الناجحة لا تبقى فقط كأنصاب تذكارية تمولها الحكومات. فهذه المشروعات تخدم قطاعات المستخدمين، بما في ذلك العامة.

تتكون لدى المرء رؤية أعمق من خلال وضع الرحلات المأهولة في سياق ما نراه بصفة عامة تقدما علميا. من الأمثلة النموذجية على ذلك التحول في مجال النقل البحري من الشراع إلى البخار، ومن القاطرات البخارية إلى الديزل، ومن الطائرات ذات المحركات المكبسية إلى الطائرات النفاثة، ومن الإلكترونيات ذات الأنابيب المفرغة إلى الإلكترونيات ذات الدوائر المتكاملة، ومن البواخر العابرة للمحيطات إلى الطائرات التجارية؛ الفرق أن التقنيات التي صارت متقادمة - في كل هذه الأمثلة - كانت ملائمة تماما لعملها.

لم توصف السفن الشراعية التي زخرت بها البحار على مدى قرون بأي عيوب جوهرية. في الواقع، حتى عندما ظهرت السفن البخارية وصارت تمثل تحديا لها، أثبتت فعاليتها لدرجة أن التحول من السفن الشراعية إلى البخارية استغرق مائة عام حتى يأخذ مجراه الطبيعي. ساعدت الطائرات ذات المحركات المكبسية في تحقيق الانتصار في الحرب العالمية الثانية، وساهمت في ظهور الطائرات الكبرى؛ حيث ثبت ببساطة أنها أقل قدرة من الطائرات النفاثة. ظلت القاطرات البخارية تنقل البضائع والمسافرين على مدى قرن من الزمان.

قدمت الأنابيب المفرغة أساسا ملائما تماما لأجهزة الراديو والرادار والتليفزيون وللخدمات الهاتفية للمسافات البعيدة، كما أنها قدمت بداية جيدة في مجال أجهزة الكمبيوتر. في حقيقة الأمر، ظلت هذه الأنابيب ودوائرها تقدم جوانب جديدة من القوة والقدرة حتى بعد ظهور الترانزستور. كانت السفن العابرة للمحيطات مثل «نورماندي» محبوبة كثيرا؛ حيث أسف كثيرون على خروجها من المشهد.

كانت السفن الشراعية، والمركبات البخارية، والطائرات ذات المحركات المكبسية، والأنابيب المفرغة، والسفن العابرة للمحيطات جميعا على درجة كبيرة من الفاعلية، ومستخدمة على نطاق واسع؛ لكن، أدت ضغوط السوق التي لا هوادة فيها، والسعي دائما نحو بدائل أفضل، إلى الإطاحة بها جميعا بعيدا وإحالتها إلى المتاحف. من المفيد النظر إلى المحطات الفضائية من منظور مماثل، مع أخذ جانب مهم في الاعتبار، وهو أنه نظرا لارتفاع تكاليف المحطة الفضائية على نحو أساسي، فإنها لم تحصل قط على فرصة لتقديم خدماتها المرتقبة.

إذا كان تطوير إلكترونيات دقيقة جيدة قد تأخر طويلا، فربما تحقق بذلك سيناريو «كوليرز»؛ ربما كانت المحطة الفضائية ستبرز بوصفها الأسلوب الأولي لتحقيق فوائد مثل الاستطلاع العسكري، والأرصاد الجوية، والخدمات الهاتفية العابرة للمحيطات. صار الانتشار اللاحق للإلكترونيات الدقيقة، الذي جاء بعد ذلك بعقود، بمنزلة المنافس الأكثر تطورا أمام المحطة الفضائية، مثلما كانت المحركات النفاثة بالنسبة إلى المحركات المكبسية، أو مركبات الديزل بالنسبة إلى القاطرات البخارية. في حقيقة الأمر، أدى الدخول السريع للإلكترونيات المتطورة إلى تقادم المحطة الفضائية قبل بنائها، من خلال التشجيع على تطوير المركبات الفضائية غير المأهولة. على حد تعبير الكاتب المسرحي ناجيل نيل، صار نموذج المحطة الفضائية «متقادما تقريبا قبل أن يبرز ما ينافسه أو يتفوق عليه».

من هنا، يستطيع المرء من خلال استعراضه لنظرة مستقبلية على عالم الفضاء أن يرى فرصا شديدة التباين في مجال الملاحة الفضائية بجانبيها المأهول وغير المأهول . سيواصل برنامج الرحلات الفضائية غير المأهولة بلورة مستقبله من خلال أعداد محدودة من المركبات الفضائية ذات القدرات العالية، التي سيظل نطاق استخداماتها في ازدياد. تشمل استخداماتها حاليا شبكة الإنترنت العالمية، التي تعتمد عادة على اتصالات الأقمار الصناعية. وفي المستقبل، ستظهر استخدامات كبرى لنظام تحديد المواقع العالمي، وكذلك للأقمار الصناعية ذات الخدمات الملاحية، في مجال مراقبة الملاحة الجوية.

ستظل عمليات إطلاق هذه المركبات أحداثا قوية الوقع ومثيرة للاهتمام؛ فقد أطلقت ناسا صواريخ «دلتا» بالمئات، بيد أن كل رحلة منها تظل حدثا لا ينسى بالنسبة إلى الأشخاص الذين يشاهدونها للمرة الأولى. لكن، نادرا ما تعرض عمليات الإطلاق هذه على شاشات التليفزيون؛ فقد فتر اهتمام العامة بها ولم يعودوا يولونها اهتماما منذ زمن طويل. يتعامل الناس أيضا مع خدمات المركبات غير المأهولة على أنها أمور بديهية مسلم بها؛ ومن ثم، وعلى الرغم من أهمية هذه الخدمات، فإن البرنامج غير المأهول صار فعليا غير ملحوظ؛ وهذا أمر يشهد بنجاحه؛ حيث إن التقنيات المفيدة تنزوي في حقيقة الأمر وتتراجع إلى خلفية المشهد، ولا تقتحم علينا وعينا أثناء استخدامنا إياها.

على الجانب الآخر، تختلف النظرة المستقبلية المتعلقة بالرحلات المأهولة. عجزت خبرة ثلاثة عقود عن أن تفضي إلى مقترحات جدية تصبح هذه الرحلات بموجبها مفيدة، ومع ذلك، ظلت الرحلات المأهولة مصدر إبهار وإعجاب بالنسبة إلى العامة. ونظرا لكونها معدومة الجدوى ومرئية، فإنها تظهر تباينا مزدوجا مع عدم جدوى البرنامج غير المأهول وكونه غير ملحوظ تقريبا. يقدم هذا الإعجاب أيضا للبرنامج المأهول أفضل فرصه وإنجازاته المرتقبة.

ناپیژندل شوی مخ