تابع جولدن تنفيذ اتفاقية عام 1992 مع موسكو بالمضي قدما في خطط لإرسال رواد فضاء على متن المكوك الفضائي، مع إرسال رواد فضاء لإجراء بحوث على متن المحطة الفضائية «مير». بالإضافة إلى ذلك، كان كلينتون قد صرح لجولدن بالسعي للحصول على دعم من روسيا في بناء محطة ناسا. كانت روسيا قد وضعت خططا لبناء «مير» ثانية، بيد أن الخطط كانت متوقفة، وسط ضغوط خاصة بالميزانية فاقت ضغوط ميزانية ناسا بكثير. لكن في منتصف مارس 1993، كتب جولدن خطابا إلى نظرائه الروس، مقترحا بناء محطة فضائية مشتركة تدمج «مير 2» مع تصميم ناسا. في الوقت نفسه، توجه وفد من ناسا إلى موسكو ودعا شركة «إن بي أوه إنرجيا»، التي تولت تصميم «ساليوت» و«مير »، للمشاركة في آخر عملية إعادة تصميم للمحطة الأمريكية.
بعد هذا، توالت الأحداث بسرعة. في غضون أسابيع، بارك الرئيس بوريس يلتسن الجهد المشترك، وفي آخر شهر يونيو، عقدت ناسا ووكالة الفضاء الروسية اتفاقا رسميا، يفسح المجال أمام تعاون واسع النطاق. توجه رئيس شركة «إن بي أوه إنرجيا»، يوري سيمينوف، لزيارة واشنطن على رأس مجموعة معه لتقديم عرض لناسا والشركات المتعاقدة معها حول إسهامات روسيا المرتقبة. شاركت المجموعة أيضا في مناقشات عقدت في كريستال سيتي، قرب واشنطن؛ حيث كان فريق من ناسا يواصل فحص تصميمات المحطة الفضائية.
في أواخر شهر أغسطس، سافر رئيس الوزراء فيكتور تشيرنوميردين إلى واشنطن والتقى نائب الرئيس ألبرت جور، ووقعا اتفاقية جديدة حولت المحطة الفضائية إلى مشروع مشترك حقيقي، مطالبة بأقوى تعاون بين الدولتين في تاريخ استكشاف الفضاء. وافقت الولايات المتحدة على إنقاذ برنامج الفضاء المأهول الروسي بدفع 400 مليون دولار أمريكي على أربع دفعات سنوية. في واشنطن، كان هذا المبلغ لا يفي بتغطية تكلفة رحلة مكوك فضائي واحدة، لكنه في موسكو يمكن أن يحقق الكثير؛ ففي تلك الدولة قد يستطيع المرء شراء خدمات مركز بحوث مزود بطاقم عمل مدرب جيدا نظير تكلفة لا تزيد عن 100 ألف دولار أمريكي سنويا.
كانت دفعات السداد موجهة في المقام الأول نحو دعم «مير»، بإحياء نموذجي «سبكتر» «وبريرودا» وتمويل إطلاقهما إلى الفضاء. كان التركيز على «مير» بدوره جزءا من البرنامج المشترك للرحلات المأهولة الذي وضع تصوره في اتفاق بوش-يلتسن لعام 1992. أجريت أول رحلة من هذا النوع في فبراير 1994، حيث أطلقت «ديسكفري» بعثة مدتها ثمانية أيام كان من بين أفراد طاقمها رائد الفضاء سيرجي كريكالف، وبعدها بعام حمل المكوك الفضائي نفسه فلاديمير تيتوف، وهو رائد فضاء مخضرم قضى في الفضاء عاما كاملا، في بعثة مشابهة. التقى المكوك الفضائي ب «مير»، لكنه لم يلتحم بها. كانت هذه العملية الدقيقة ستنتظر حتى الرحلة القادمة.
في تلك الأثناء، كانت روسيا بصدد إعداد سبكتر. كانت سبكتر مخصصة في الأساس للدراسات البيئية باستخدام كاميرات متعددة الأطياف، بيد أنها غيرت هذه البعثة بسبب القاعدة القائلة بأن من يملك الذهب يسود. كانت ناسا تمتلك الذهب؛ إذ كانت قد أنفقت جزءا من ميزانيتها البالغة 400 مليون دولار أمريكي لصالح مجموعة جديدة من الأدوات بغرض استخدامها في دراسات طبية بيولوجية. كان من المقرر أن يستخدم رائد الفضاء نورمان ثاجارد تلك الأدوات خلال إقامة مخطط لها على متن «مير»؛ حيث كان من المتوقع أن يتمكن من خلال المساعدة الروسية من تحطيم الرقم القياسي الأمريكي البالغ 84 يوما على متن «سكايلاب».
انطلق ثاجارد إلى «مير» على متن «سويوز»، في مارس 1995. لسوء الحظ، كانت «سبكتر» لا تزال على الأرض. واجه الأمريكيون تأجيلات في شحن معداتهم، ثم واجهوا مزيدا من التأجيلات في موسكو، عندما احتجز مسئولو الجمارك بعض الأدوات نظرا لعدم دفع الرسوم الواجبة. انطلقت «سبكتر» أخيرا من تيوراتام في مايو واتصلت بالمركبة «مير»، وهو ما منح ثاجارد قرابة شهر استطاع استخدامها خلاله. ثم وصل المكوك الفضائي «أطلنطس»، في أواخر شهر يونيو، وكان يحمل رائدي فضاء إلى «مير» وأعاد رائدي فضاء آخرين إلى الأرض، فضلا عن ثاجارد. قضى ثاجارد 115 يوما في مدار فضائي.
أثناء مناورة «أطلنطس» قرب «مير»، راقب رائدا الفضاء العائدان الفضاء من «سويوز» والتقطا صورا. لم يكن هذا فيلم «2001: ملحمة الفضاء»، الذي يصور التحام مركبة فضائية - هي «بان أمريكان» - بمحطة تشبه عجلة دوارة ضخمة. كان الأمر لا يزال مبهرا: مركبة مدارية مكوكية في مثل حجم طائرة خطية طراز «دي سي-9»، قريبة من مجموعة ممتدة من الأسطوانات السميكة والألواح الشمسية العريضة بزنة إجمالية 130 طنا. وفي بعثة مشتركة مشابهة خلال عام 1996، سجلت رائدة الفضاء شانون لوسيد رقمها القياسي بالمكوث في الفضاء لمدة 188 يوما.
بالإضافة إلى ذلك، كان مهندسون من الدولتين لديهم تصميم للمحطة الدولية يمكنه أن يحل محل «مير». كانت شركة خرونتشيف ستبني مركزها، المسمى قاعدة البضائع الوظيفية (يشار إليه بالاختصار «إف جي بي» بالروسية)، وكان من المقرر إطلاق هذه القاعدة أعلى الصاروخ «بروتون»، الذي كانت موسكو ستوفره كمركبة نقل ثقيل، مكملة المكوك الفضائي. وعدت روسيا أيضا ببناء أقسام رئيسية أخرى، وكان من المقرر أيضا أن تبيع إلى ناسا عددا من النظم المستخدمة في عمليات الالتقاء والالتحام الآلية.
كانت الخطة الكلية كافية أن تأسر الألباب. بالإضافة إلى الولايات المتحدة وروسيا، شاركت أيضا كندا واليابان ووكالة الفضاء الأوروبية. تقرر بدء البناء في نوفمبر 1997 بإطلاق «إف جي بي» وسيتواصل حتى يونيو 2002. شهدت تلك السنوات الخمس ثلاثا وسبعين رحلة إلى مدار فضائي، ثلاثة أخماسها روسية. كانت أبعاد المحطة الكاملة 290 قدما طولا، و361 قدما عرضا، وكان وزنها البالغ 443 طنا يضاهي وزن طائرة «بوينج 747». وكان من المقرر أن تحمل طاقما من ستة أفراد، فضلا عن ألواح شمسية ضخمة توفر 110 كيلو وات من الكهرباء، وهو ما يكفي لإضاءة عشرين منزل مكون كل منها من أسرة واحدة. كان متوقعا أن تبلغ تكلفتها 94 مليار دولار أمريكي على مدى ثلاثين عاما.
كانت هذه الخطة تتضمن ما هو أكثر من الطموح؛ إذ كانت تهدف إلى بناء إمبراطورية على نطاق قلما أمكنت رؤيته. وإذا كانت الخطة بعيدة المدى، فقد أتاحت على الأقل مجالا كافيا للتقليص ومد الفترة الزمنية للبرنامج. لم يكن ينقص الخطة أيضا التفاؤل المبهج، مثلما انعكس في الجدول الزمني لعمليات السير في الفضاء خلال مرحلة التجميع. تغير موقف ناسا تماما التي كانت تنظر إلى هذه الأمور عادة باعتبارها خطرة. تطلب النموذج النهائي من تصميم المحطة الفضائية «فريدوم»، قبل عام 1993، تنفيذ عمليات سير في الفضاء أثناء التجميع لمدة 365 ساعة، وهو ما رآه جولدن إفراطا. بدءا من مارس 1994، تطلبت الخطة الجديدة عمليات سير في الفضاء لمدة 434 ساعة. بعدها بعام، مع توافر فهم أفضل لمتطلبات المشروع، ارتفعت مدة هذه العمليات إلى 648 ساعة. أشارت المحللة السياسية مارشيا سميث إلى «تغيير مفاجئ في سياسة ناسا حيال المخاطر المتضمنة في عمليات السير في الفضاء. لم تعد ناسا تنظر إلى عمليات السير في الفضاء على أنها ملجأ أخير، بل إنها صارت الآن «فرصة».» كانت الوكالة تؤكد روح الإصرار والنجاح الموجودة لديها، بيد أنها كانت تبحث أيضا عما قد يكون فرصة حقا للمجازفة.
ناپیژندل شوی مخ